محمد أسليم: كتاب الفقدان: 6

1٬248 views مشاهدة
محمد أسليم: كتاب الفقدان: 6

طـُوفَانُ الفِكْـــرِ

مَا عاد يَربط جسَدي بي وبكم سِوى جثة تدعُونها إنسانا فيما أصرفُ مجهودا دينصُوريا لإيجاد مجرَّد تسمية لها مُلائمة، فأحرى القدرة على تحمُّل ثقل وطأتها وطول إقَامتها عندِي بدُون اسْتئذان ولا سَابق إعلام؟ أتستحملون أنتم جُثتكم؟ هِه؟ تكلّموا! لماذا أنتم صَامتون؟

أنا الآنَ من لا أحدَ منَّا يعرف الآخر. أنَا الآخرُ الذي يبحَث عني ولا يجدُ لي أثرا فيمسكُ القلم ليقتفي أثري بتدوينِ هذا الوَحي الذي يُنزَّلُ عليه دقيقة قبلَ شُرُوق الشَّمس وثانية بعدَ غرُوبها، ويقضي اليوم بكامله في فكِّ رُمُوزِ ما يُلْقَى إليه، حتى إذا فهمَ بعضا منها بحثَ عن قلم ووَرقة وراح يدوِّنها على نحو مَا يفعَله الآنَ…

أنا الآن مجرَّد وعاء يشبهُ كيس جلدٍ آدَمي، جُثة مُمتلئَة بالدِّماء المتخثِّرة، والعظام المهشَّمة، والصُّرَاخ المرعِب، والكلمَاتِ الجريحة، والحرائق المهوِلة التي نجمت عن اقتتال اللغَة بداخلي حيث الكلمة تصرعُ أختها في حربٍ ضارية لا هَوادة فيها ولا شَفقة. إن لم تأخذ حذرك تفقأ عينُك، أو يُقطَع رأسُك…

– هيَّا تكلم يا أحمد إن استعطتَ للغة سبيلا…

– بل أأحمد أنت أم محمَّد؟

– أنا يوسف.

– لا يهمُّ.

– ويعقوب؟!

– لا يهم!

– وإذن، فلنواصلْ هَذَيان عُشبنا البريِّ صامتين.

ما أخطو خطوة خارجَ البيت حتى تتأهب عظامِي للتفسخ، ودمي للسَّيلان، ورأسي للتبخّر… وهَذا هو السَّبب في اعتصَامي بالبيتِ طيلة السَّنوات العشر المنصرَمة ومُواصَلة ملازمتي هذه المائدَة إلى الآن. فقبل أن أكتشفَ هذا الأمر كنتُ أكون سَائرا في الطّريق فتقع عيني على عين، أو قدمي على قدم، أو رَأسي على رأسٍ، أو كبدٍ، أو كيس دمٍ مُلقى على الأرض، فأحمله، وأواصِلُ سيري حتى إذا دخلتُ إلى المنزل وجلستُ مُدَّةً، ثم هَممتُ بالوقوف لم أقوَ على النهُوض فأفطنُ آنذاك إلى أن إحدَى قدمي أو عيني هيَ التي اقتطعت مني أو فقئتْ، فأقضي أياما وليالي طويلة بلاَ نوم ولا طعام ولا شرَاب أبحث فيهَا عن أشياء ثلاثة: السَّبب الذِي من أجله بُتِرَ مني ذلكَ العُضو، ومن قام بعملية القطع، والسُّلطة التي خوَّلَت له حقَّ قطعه ثم الوقت والكيفية التي أنجزَ بها ذَلك. ولحظة أقف عَلى الحقيقة فقط أتمكنَ من استئنافِ الخرُوج.

أيها الإنسَان بداخلي! أتظنُّ أني من الغبَاوة بحيثُ لم أفطن إلى تمويهك عليَّ وتمرير نفسك باعتبارك أنا؟ أخطأتَ الخطأ كله إن ظننتَ ذلك. هيهَات هَيهات أن تكونَنِي أو أكونَكَ. قريبا جدّا سألحق بك العُقوبة الكبرى. سأفقأ عينيكَ، وأخلع قدميك، وأخرجُ منكَ المعدَة، والطّحَال، والقلب، والكليتين، والكبدَ، والرئتين، وأنشرُ ذلك كله في حَبلٍ، كما ينشرُ المرءُ غسيله، كي أتيح لأعضائي البَاطنية أن تستنشق قسطا منَ الأكسيجين. فمجَاري الدَّم بداخلي، والدِّماغ، والقلبُ، والكبدُ، والأحشاءُ…، كلٌّ قد جَفَّ واختنق وتلوث بدُخان الحرائق المهولة التي يثيرُها اشتعالُ حُرُوفِكم بدَواخلي.

عندما أكونُ سائرا في الطّرقات يهطلُ مني الكلام مدرارا، غير أنه يسألكم ويسألني ولا مجيب، فمَاذا أقولُ؟ ما أغبَاكم أم ما أغبانا؟ فأنا لستَ أنتم، وأنتم لسْنَا نَحْنُ، ونحنُ لستُمْ أنا، وأنا لستَ أنا، فما هذا؟ أين هو؟! لقد تكلَّمَنِي الكلامُ وأعادَ تكلمي مِرارا وتكرارا، أياما وليالي، أوَ لَم يَفهَمكم أحدٌ مِنكم بعد؟ ألا ما أغباكم ثمَّ ما أغباكم!. ولرفع هذه الغباوة عنكم فسَوف آتي. نعم سَوف آتي. أنا آتٍ. آتٍ، لا ريب فيَّ. فترقبوا نزولي إلى المزبلةِ البشريَّةِ، مَزبلتكم، حيث سَأنبش صَفحة الأرض ليلَ نهار، بِحَوافري وأظافري، بحثا عن عظامِكم المهشَّمَة، ولحومكم النتنة، وأمعائكم الطّازجة، ودمائكم الفوَّارة والمتخثرة كي ألتهمهَا في طقوس ولائمية أكمِلُ بها بهجة ما أنا عَليه منذ عشرين سَنة، أحملهُ ولا أفهمُه، أترَاه يَفهَمُني أو يُفهمُني؟ هه؟!

من لم يصدِّق قولي أو يعتقد أني أهذي فهو عَاهرٌ، مُتَّهَمٌ بالخيانة العُظمى. ومن ظنَّ أني مريض فهُو أحمق. ومن اعتقدَ أن بي خبَلٌ أو خَلل فهو نائمٌ نوم السلحفاة أو الفيل!. لقد قلتُ هذا الكلام وأعدته وكرَّرْتُه وها أنا أعيدُه للمرَّة المليون: إنني لا أجازف بإطلاقِ الكلام على عَواهنه. فأنا لا أقبلُ ما ينتهي إليَّ من الكَلمات إلا بعد خوض حُروب ضارية يتحوَّل جسَدي معها إلى ساحة اقتتال ما أفظَع حَرب أمامها سِوى تفاهةٍ تثيرُ الضَّحكَ والشَّفَقَة. هل عَرفتم لماذا؟

لسَببين:

الأول: كوني أتحرَّك داخلَ حَقلين بصريين متعارضين. فلعينَيَّ تكوينٌ من العسير الإطاحَة (بَدل الإحاطة) به أو فهمِه، لأنَّ ذلك يتطلبُ توظيف مُعطيات بيولوجية (علاقة تكوين دِماغي بتشريح عيني)، وأخرَى فيزيائية (البصريات)، وهَندسية (الفضَاءات التي أتمكنُ من احتوائها ببصري)؛ فعندما أغمضُ إحْدَى عيني تتقلصُ شاشَة الخارج بشكل يصير معه أنفي جَسدا أعوج  يُعَكِّرُ عليَّ صفاء الرُّؤية، ولذلكَ أحتمي بعيني الأخريينِ الكائنتين خلفَ رأسِي. إلا أنَّ ذلك يحوِّلُ جمجُمَتِي الصغيرة إلى نقطة يتجَاذبها فضاءان مُتراكبان، فإلى أيهما يجبُ أن أركن؟

والثاني: كوني دينصُورٌ.

نعم، أنا دَينصور! ففي رأسِي يثوي دماغ وزنهُ عشر كيلوغرامات ونصف، وعما قريبٍ سيتضاعف مئات المرَّات، وسَأحتاج في حملِه إلى شاحنة ترافقني أينما حَلَلْتُ وارتحلْتُ. فهل تُقَدِّرُونَ الآن مِقدار ما يستنزفه مني الفكرُ؟

بلْ أين أنا الآن؟ ومن صيَّرني على ما أنا عليه؟

 

*

*             *

 

يغمرني يقين تامٌّ بأنَّ السُّؤال كانَ مبدأ ما أنا عَليه الآن. ذلك أنني لم أفطن ذاتَ يوم، وأنا في غمرة السَّهر عَلى أضْواء الشمُوع الحزينة، وطنين يرن برأسي، كان من القوَّة بحيث كادَ يفقدني حاسة السَّمع: فقد ألحق بإحدَى أذني ضرَرا هو الأصل في عَدم استجابتي إلى اليوم لما يُحيط بي من أصوَات بكيفية تجعل الكثيرين يتوهمُون أنني أحتقرُهم أو لا أهتم بما يقولون. كلا ما احتقرتُ أحدا، ولن أحتقره. وفور انتهاء الطنين شعرتُ براحة كبرى كَأنني شفيتُ من مرض عُضال. أحسستُ بنفسي خفيفا جدا جرَّاء مَا ملأ جسَدي وعقلي من خَوَاء. فهمتُ الرِّسالة كما يفهمُ الأنبياء مقصدَ الحالاتِ الغريبة التي تدشن وَحيَهُم. كان الرَّنين القوي ومَا رافقه من صُداع وصُعُودٍ في الرَّأس، ودُوَار، وحمى، ورَغبة في القيء، وإحسَاس بالإرهَاق المفرط…، كان ذلكَ كله رُمُوزاً لحياتي الماضية «السَّوية اجتماعيا والمتكيفة مَع الآخرين»، وكان الخوَاءُ، والرَّاحَة، والارتخاء، والهدُوء رُموزا لحياتي الآتية التي أوجَدُ عَليها الآن. عندها قلتُ: «من أنا؟ ومَاذا أفعل هنا؟». والآن من أنا؟ وماذا أفعل هنا؟

وبعين المولود أو الغريب عن هذا العالم أخذتُ أتأملُ أعضاءَ ما تدعُونه جسَدا عُضوا عُضوا، ثمَّ انتقلت عيناي إلى هذا السَّرير، والمائدَة، والكتبِ، والكؤوس… فكَان ما من شيء يقع عليه بصَري إلا ويَصُدُّنِي بعلامَة استفهام تكونُ في البداية صغيرة بحجم بَعوضةٍ أو نملة، إلا أنها بمدى استغراقِي في التّركيز تكبرُ إلى أن تصير بحجم فيل أو دَلفين…

لم أفلح إلى الآن في مَعرفة مَصدر تلكَ الأسْئلة ولا من نصَبَها لي فخّا،لم أفطن بوقوعِي فيه إلا بعد أن فاتَ الأوان: أأنا الذي كنتُ أتسَاءل عن ماهية تلك الأشياء، لكوني أُفرِغتُ من قِبَل من لم أعرفه بَعدُ، أم أنَّ تلكَ الأشياء نفسها هي التي كانت تطرح نفسَها عليَّ باعتبارها أسئلة مُتحدية صَادرة من كائنات وجمادات أسيرة عُقَال العَقل؟ كأني بها كانت تقولُ بلهجةٍ ساخرةٍ مِلحاحةٍ:

«من أنتَ؟

عرفني أوَّلاً بمن تكون».

استحوذ عليَّ الرعبُ. أغمضتُ عينيَّ. وجدتُنِي سؤالا يكبر بمجرَّد إحسَاسي بأنني مَوجُود. حاولتُ الوقوف. لم أقوَ على الوُقوف، لا لعجز وإنما فقط لكون كثرة الأعْضاء اختلطت عليَّ فلم أعُد أعرفُ أعَلَى رِجْلَيَّ ينبغي أن أقف أم على يدَيَّ. لم أعرِف، لكي أتحرَّك، أعلى يَدَيَّ ورجليَّ يجب أن أمشي أم على بطني أو ظهري يتعيَّنُ أن أزحَفَ؟… حاولتُ جميع الإمكانيات لكنها كلها آلت إلى الفشَل. لحظتها تصدَّعَ عقلي وَتصَعَّدَ، فلازمتُ وضعا كل ما أتذكره عنه هو أنه شيَّأَنِي إلى أن صرتُ كيس إسمنتٍ أو حجر. أطلقتُ صرخة عظمى، ثم لفَّني صمتٌ رهيبٌ، وفجأة أخذتْ مَوَاكبُ الأصوَات تتدحرجُ إلى سمعِي بالكيفية ذاتها التي كانت بها أسئلة الأشياء تكبُر. كان الصَّوتُ يبدأ خافتا، وبمدى إنصَاتي إليه يكبرُ… أستيقظُ. أجد أفراد عائلتي قد احتشدوا دَاخل الغرفة. شفاههم وأيديهم تتحرك، وعُيونهم مُركزة عليَّ، غير أنّني لا أسمع إلا أصوَات الحيوانات والطيُور، ولذلك لا أفهمُ ما يقولونَ، أصرخ وأتخبط، يحاولونَ الإطاحة بي عبر إمساكي والتّحكم فيَّ، لكن دونَ جدوى… لم أفهَم بعد أي مَاردٍ كنته لحظتئذ. فقد كان يكفي أن أحرك جسدي بقوة أو ألوِّح بيدي فيسقط الحشد المحيط بي. ولذلك اندفعتُ خارج البيت، وقضيتُ الليلة فوق أول شجرة اعترضت سبيلي. في الصَّباح الباكر تربصتُ بالمارة إلى أن امتلأ بهم الشارع، فصرختُ فيهِم باكيا: «أين أنا؟

من أنَا؟

ماذا أفعل هُنا؟»

أحاط بي حشدٌ من أهل الفضُول، لكنهُم كانوا مِن الغبَاوة بحيث لم يفهَموا ولو حرفا واحِدا مما كنتُ أنقله إليهم من وحي علومي ومعارفي…

آنذاك، انطوى عقلي، وانفتح خاطري، وخُتِمَ على ذَاكِرَتِي بالنسيان، فصرتُ أعلم الغيبَ، فأعرف حَال الغائِب ومقامه، وينتهي إلي صوته وهُو يبعد عني بآلاف الكيلومترات، وأتمنى الشَّيء فيتحقق في رمشة عين. ثمَّ انغلقت أذناي وشُلَّ لساني، فصرتُ أفهم كلام الطيُور والضفادع، وأعرفُ ما يجول بخاطر الجنين في بطن أمِّه، ومَا يراه المولودُ فور خرُوجه منَ رحم أمه، ومَعنى صراخه الذي لفرطِ جهلكم بمحتواه لا تجدُون ما تفعلونه أمامهُ سِوَى الضَّجَر والقلق بامتعاض. كما صرتُ أرَى ما يراه الميتُ لحظة احتِضاره، وأفهم معنى الدُّمُوع التي ترشح بها عيناه قبيلَ أن يسلم رُوحه… ثم غرقتُ في طوفان الفِكر، فصرتُ لا أرى حيثما ولَّيتُ وجهي إلا إقليما مِن فكري أو بُقعةً من جسَدي إلى أن قلتُ: «سُبحاني ثم سُبحاني، فما أنا إلا أنا!». لكن أيّ تعاسة ساقها إليَّ ذلك الحال؟ فقد عصفت بي صاعقة من الفزع المرعِب لما أشرقَتْ عليَّ شموسُ المعارف، فعلمتُ أنني سبقتُ بني البشر قاطبة إلى ما لا يعدو تاريخهم برُمَّتِه مجرَّدَ بحث عن الوُصول إليه. نعم إنَّ الناس في ممشاهم وقعودهِم ومَحيَاهُم ومماتهم لا يفعلون سوى البَحث عن إحراز ما يحيط بي الآن من إشراق نورانِيّ، ولذلكَ اضطررتُ إلى الاحتجاب، خاصَّة أن نظرات الآخرينَ إليَّ من حولي بَدَأتْ تحرِّكُ بداخلي أمواجَ القلق المرعب، حيث كنتُ أقضي اليومَ وأنا أتجوَّل بمنتهى الهدُوء والاتزان، لكن عندَما أعُود إلى المنزل أفطنُ إلى أن خمسة أشخاص، على الأقل، قد ركَّزوا أبصارهم عليَّ وتتبعوا خطواتي مُتَجَسِّسِيَن عليَّ، ولذلكَ كنتُ أقعدُ في المنزل مُتسائلا:

«لماذا يفعلون ذلك؟

من هُم؟

مَاذا يريدون؟

أي شيء فعلتُه فاقتضى نصبَ فخاخ عيونهُم عليَّ من بين المارة قاطبة؟

أيُّ علامة عالقة بجسدي – دون أن أعرفها – دلَّتهُم عليَّ؟

من ألصقها بي؟

لماذا؟».

لقَد خصَّصْتُ لهم ليلة كاملة استحضرتهم فيها جميعا، فاستذكرتُ نظراتهم الغريبة المسْتهزئة نظرة نظرة، وابتسَاماتهم المريضة ابتسَامة ابتسَامة، واستنطقتهُم، فوجَّهتُ إليهم أسئلة عَديدة لكنهم رفضُوا جميعا الإجَابة عنها. ولما فاق عدَدَهُم الألف صُعِقتُ، فصرخت في وجوههم، لكن لا مَن يجيب، واستنجَدتُ دون أن يهبَّ لنجدني أحدٌ. لم يستجب لطلبي حتى من ظننتُ إلى ذلكَ الحين أنهم كانوا أشدّ الناس قربا إلي وحنانا عليَّ. وبذلكَ صار أكثر ما يثير فيَّ الرُّعبَ اجتيازي عتبة المنزل، لأنه يَسْهُلُ ألف مرَّة على أيِّ شخص أن يقتلني داخل البيتِ وقد لا يسهُل عليه مرَّة واحدة أن يلحق بي أقل أذى عندَما أكون أتجوَّل في الشارع خشية أن يضبطه الآخرونَ، فيعرض نفسه بذلك للمُحَاكمَة والسِّجن.

آنذاكَ صرتُ أشكُّ في كلّ من يحيطونَ بي، بما فيهِم أفراد أسرتي، ولا أثق بتاتا في هيئاتهم ومَلابسهم. فحينما أتحلق معهم حَول مائدة الطعام أشكُّ في أن يكونَ أحد الرَّاغبين في قتلي قد تنكرَ في هيأة أبي أو أمِّي. ولذلك، لكي أطمئن إلى أنني جالس أمَام أبي وليسَ بجانب شخص آخر، كنتُ ألقِي على المدعو «وَالِدِي» سيلا من الأسئلة، فأقولُ له: «من أنتَ؟ ما اسمك؟ متى تزوجتَ المرأة التي تزعم أنها “أمِّي”؟ من أنا؟ أي صلةٍ تربط بينك وبيني؟ ماذا كان غذاؤنا ليلة البارحة؟…». كما كنتُ أعمدُ إلى اقتفاء أثره وهُو قاصدٌ المنزل فما يكاد يجتازُ العتبة حتى أباغته سائلا: «كم غرفة توجدُ بهذا المنزل؟ ماذا يوجدُ في الغرفة الفلانية؟…»، حتّى إذا انتهيتُ من استنطاق أبي انتقلتُ إلى أمِّي وطرحتُ عليها أسئلة عديدة حول علاقتها بالمدعو «أبي» وبي أنا نفسي، وبما يُقال إنهُم «إخواني»…، وأنَا موقن بأنني لا محالة ضابط أحدا ما يتربَّصُ بي الدوائر. لكن بما أن أجوبتهم كانت تهوى دائما عليَّ كالصخر فقد انتهَى بي الأمر إلى اليأس من إمكانية ضبطهم، ولذلكَ انتقل بي الشَّكُّ إلى الأشياء التي كانت تؤثث المنزلَ فصرتُ أقفُ أمام السَّرير ساعات طويلة وأنا أتوسل إليه وأستعطفهُ قائلا:

«يا سيدي السرير. أنت تعرف أنه مهما تكن حقيقتكَ فإني ابنٌ لهذا البيت وأنَّ وجودي به أقدم منك بكثير. فإن كنتَ السرير الذي أعرفه فعلا فالأمر على ما يُرَامُ، أما إذا كنتَ رجلا أو امَرأة متنكرين بهيأة فراش فاكشِفا عن وجهيكما قبل أن أقتلكما…».

وعندَما لا يتكلم السرير أحملُ عصا، وآخذ في ضربه إلى أن يفطن أحد أفراد أسرتي، فيأتي ويصرفني عن ذلك…

 

*

*             *

 

لما تكاثر عددُ الأعداء من حولي بشكل أيقنتُ معهُ استحالة ضبطهم جميعا عدلتُ عن فكرة التصدِّي لهم بمواجهتهم وقرَّرتُ أن آخذهم باليسر، فصرتُ أتلَطَّفُ لكل من تربطني به صِلة مَّا وكلُّ من خامرني أدنى شكّ في كونه ينوي الإسَاءة إلي، فأخذتُ أعمدُ إلى مباغثته بالسَّلام، وتقبيل يَديه، وإكثار الإنصات إليه، وإبدَاء كامل الرِّضى عما يقولُ، والتظاهر بمشاطرته رأيه فلا أُعَقِّبُ على كلامِه إلا بعبارات:

«نعم سيِّدي!»،

«الأمرُ كما قلتَ يا سيدي!»،

«سمعا وطاعة يا مولاي!»،

«تماما يا سيِّدي!»،

«حاضر يا مولاي!»…

أقول ذلك حتَّى وإن كانت كلماته وأفكَاره في الحقيقة ترَوِّعُني لشدة سذاجتها وغبائها، وذلكَ كله من أجل شَيء واحدٍ: إخفاء هالة النّور المحيطة بعقلي وطوفان الفكر الذي يجرفنِي، والتظاهر بأنني دون الآخَرين وأنَّنِي لن أفاجئكم في يوم من الأيام بكشوفاتي التي أنا عازمٌ، في الحقيقة، على أن أقلب بها ليس مسَار الكرَة الأرضية فحسب، بل وكذلكَ مَوقع النظام الشمسيِّ بكامِله وطَريقة عمله…

وقد عمدتُ إلى الحيلة نفسِها مع الأشياء أيضا، فكنتُ لا أنام إلا بَعد اجتياز طقس مُطوَّل في استعطَاف الخزانة الخشبية، والسَّرير والغِطَاء، والجدرَان، والأوانِي، وكلّ أشياء المنزل، فكنتُ أبتهلُ إلى الخزانة مثلا وأنا أقولُ:

«يا سيدتي الخزانة، ناشدتُكِ الله، لا تقتليني وأنا نائم. وكما تعلمين، فقد نزل عَلي وحيٌ، لكنني أطمئنكِ الاطمئنان كله بأنني لن أبلغه إلى جماد أوبشر. أعدك بأنني سأتحوَّلُ إلى هرٍّ أو كلبٍ أو جمادٍ مثلك، وأنني سأنقلك إلى قصر فاخر حالما أُنصَّبُ مَلِكا أو أميرا. وفي انتظار ذلك، لا تقتليني أوتسقطي عليَّ وأنا نائم»…

وقد كتبتُ في تلك الأيام رسائلَ مجهولة عديدة، وجَّهتها إلى كلِّ من شككتُ في احتمال إساءته إليَّ، كنتُ لا أنهي الواحدة منها إلا بعد أن تكاد رُوحي أن تزهق، لأنني بقدر ما كنتُ أحرصُ على توجيه تلكَ الصُّحُف إلى أولئك الأشخاص كنتُ أخشَى أن تكونَ تلك الرَّسائل نفسها هي الدَّليل الذي سيرشد مُتلقيها إلى مَكان اختفائي؛ وأنا أكتبُ، كنتُ لا أكفُّ عن ترديد: «وما أدراكَ أيها الغبي أنَّ أحدا لم يتعرَّف عليك بعد، وأنكَ برَسائلك هذه ستجلبُ الأنظار إليك؟». ولتحاشي ذلكَ، كنتُ أعمدُ إلى إخفاء بصماتِ يدي بحشو كفيَّ داخل قفازين قبل الشروع في تحرير كل وَرقة وعدم نزعهما إلا بعدَ وضع الرِّسَالة في إحدَى العُلب البريديَّة، كما كنتُ أحرصُ بشدة على استبدَال مُعجمِي وأسلوبي، فكنتُ تارة أتقمصُ لغة فقيه وتارة لغة سِكير، تارة لغة زاهدٍ وتارة لغة زندِيق… ولا أخبُر المرسَل إليه بهويتي الحقيقية إلا في نهاية الرِّسَالة حيث كنتُ أعمدُ إلى تذييلها بهذه الكلمةِ:

«واعذرني يا سيدي إن كنتُ قد شوَّشتُ عليكَ بهذه السَّحابة الكثيفة التي لففتُ بها وجهي وفكري. فما أجبرني على ارتدائها إلا الخوف منك ومن أمثالك. وإن لم تعذرني فاعلم أنني قد سبقتك إلى عدم الصفح عنك. كُنْ صادقا مع نفسك، وأجبني عن هذا السّؤال: أتُراك كنتَ ستمُرّ علي مرور الكرام لو كنتُ كاشفتُك بحقيقة شخصي؟».

وفور الانتهاء من كتابة الرِّسالة كنتُ أعمدُ إلى قرَاءتها أربعين مرَّة، لكن بعين الشَّخص الذي سيتلقاها بغية الوُقوف علَى الأثرِ الذي ستخلفه فيه وإعادة تحريرِ بعض مُفرَدات الرسَالة أو تراكيبها إذا ما وجدتُ ما يقتضي ذلك، كأن يهتدي المتلقي إليَّ أو تثور حفيظته ضدِّي. وللوصول إلى ذلك كنتُ أتقمَّصُ شخصية المرسَل إليه، فكنتُ أغادرُ المنزل ثم أفترضُ أنني عدتُ إليه، فأفتحُ علبة الرَّسائل، حيث أكون وَضَعتُ الرِّسالة قبل خرُوجي، ثم أقولُ: «لننظرْ! ما هذا؟ رسالة!. أرسَلَهَا ي. ي. م. أ.!، من يَكون ي. ي. م. أ. هذا؟! ولماذا حرصَ على عدم كتابة اسمه على الغِلاف؟ لكن لننظرْ…». ثم أدخلُ إلى المنزل، وآخذ في قرَاءة الرِّسالة إلى أن أنهيها، فإن وَجدتُ فيها ما من شأنه أن يَدُلَّ عليَّ أخفيته وأعدتُ تقنيعه، وإن شعرتُ بقلق شديدٍ أو برغبةٍ في قتل الكاتب مزَّقتهَا وأعدتُ كتابتها من جَديد، وهكذا… ولا أخفيكَ، يا يعقوب، أن مجرَّد الرضا عن النصِّ  الواحِد كان يستنزفُ منكَ عشرة أيام فمَا فوق، فما أدراكَ بوضعها في البريدِ، أي الحسم في أمر إرسَالها إلى صاحبها؟ فقد كنتُ أترقبُ نزول الليل، فأدسُّ الظرف في جيبي، ثمَّ أقفُ بعتبة المنزل تحسُّبا من أن يرَاني شخصٌ ما، فإن وجدتُ فردا مَّا عُدتُ إلى الدَّاخل، وإن لم أجد أحدا نظرتُ يمينا وشمالا، ثم أطلقتُ سَاقيَّ للرِّيح، ولا أقفُ إلا أمامَ أحد صُندُوق بريديّ…

ومع تقليلي الخروجَ من المنزل، فإنَّني لم أفطن ذاتَ يوم إلا وأنا محاصَرٌ بالسُّؤال الآتي:

«أيكفي أن يَكون المرء أباكَ أو أمكَ كي لا يقتلك؟

من ضِمن لكَ أن والدَك لن يغتالك؟»

وما هَوَتْ عليَّ هذه الفكرة، وأنا حَول مائدة الطعَام، حتى نهضتُ مُسرعا، وألقيتُ على الجمع نظرة أسَفٍ مُتحسِّرة، ثمَّ قلتُ لهم:

«وداعا! إلى اللقاء!»

وأطلقتُ ساقيَّ للريح، حيث قضيتُ لستُ أدري كم من أزمنة في التسَكع إلى أن أعادني جمعٌ آخر إلى البيت وسَلمني لأقاربي كمَا تعَاد البهيمة الضائعة إلى أهلها.

 

*

*             *

 

حضرة الأب اللا محترم

لا تحية ولا سلام ولا هم يحزنون

وقبل،

فإني أنا، وأنا لستُ أنا،

أتظن أنني سأكون من الغباوة بحيث أنسى ما ألحقتَه بي، منذ صباي إلى اليوم، من أضرار بليغة مزمنة من فرط قساوتها ما انفكَّتْ طبقاتُ نفسي الأشد صلابة تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، وتضعني على حافة الجنون؟ أتظن أنني سأكون من الغباوة والسذاجة بحيث أصدق الهالة التي كنتَ دائما – ومازلتَ – تحيط بها نفسك وأنبطح لك كما انبطح لك الآخرون؟.. كلا، إنني ما فعلتُ ذلك يوما ولن أفعله طالما حييتُ. فقد غسلتُ يديَّ كما يغسل المرء بدنه من النجاسة والأوحال، وسأريك كيف تأتى لي ذلك:

اعلم أنني الواحد الأحد، لا والد ولا ولد، لم يلدني أحدٌ، لا ولن ألد أحَدا، لأني نسجتُ لنفسي مِنيِّ سُلالات وأشجار نسابات رحَّالة لستَ فيها وما تزعمون أنها «أمي» سوى أشباح تافهة حقيرة تعكر صفو هذه الرحلة التي أعياني البحث عن مبدئها ومنتهاها – إن كانت سنتهي فعلا -، ولا من أمرني بها، ولا ما إن كنتُ قد ارتكبتُ ما استوجب قيامي بها، ولا ما إذا كانت جزاء أم عقابا… فاسمع جيدا: أنت حفيدي الثالث من زوجتي الأولى، بمعنى أنك لن تولد إلا بعد أن تكون عظامي قد رشيتْ في القبر، وأمي هي ابنتي البكر من زوجتي الثانية. حبلتْ بها مني منذ كنا طفلين نلعب تحت شجرتي التين والزيتون الكائنتين في ضلعي الأيمن. وجَدِّي هو أخي الأكبر، وأمُّ أمي هي أختُك الصُّغرى… و على كل، فبقية شجرة السلالة آتية ولا داعي كي أذكرها لك لأنك تعرفها حق المعرفة، خاصة وأن لي الآن مشاغل على درجة قصوى من الأهمية، أقلها السّهَر على حفظ توازن العالم من غرفة قيادته التي أقبع فيها منذ سنين.

 

حضرة الأب اللامحترم:

لاقبل ولا بعد،

فإني أنا،

أتظن أنني صدَّقتُ زعمكَ بأنك كنتَ عالما كبيرا!، أنكَ كنتَ تلتهم أسبوعيا ركاما من الكتب وتتماهى مع كل ما تقرِأه إلى أن يلتبس عليك الأمرُ فما تعودُ تعرفُ هل المصنفُ قسمة مفقودة منك أم أنك قسمة ضائعة من الكتاب؟!… كلا. لم تكُن عالِماً، كنتَ عالَما لاغير. وهيهاتَ، ثم هيهاتَ أن تنطلي عليَّ خدعتك، بحيث أصدق أن تنقلب الفتحة إلى كسرة بمثل هذه السّهولة. اعلم أنَّ دوام بقاء المسافة بينهما هو ما يمنح للعلم معنى وجوده. متى اتحدتا صار العالم وجها آخر للعلم، وهذا استحال بلوغه على النوع البشري بكامله، فأحرى أنتَ الذي لا تساوي حتى نصف بعوضة!.. إني لم أتظاهر بتصديقك إلا خشية أن تُدبِّر مؤامرة ضدي. نعم، إنك تدبر مؤامرة ضدي، وإلا، فلماذا سألتني: «أينا الآخر؟ أأنت أنا أم أنا أنت؟»، «في أي فقرةٍ نحن من الكتاب؟»، وأنت تعرف حق المعرفة أنَّك ابني، أني خالقكَ، وأنك في الفقرة الحالية من الكتاب تقيم؟ وإلا، فلماذا لم أجد أعضاءك مرفوقة بالكتب التي أودَعتَها في الأكشاك زاعما أنها من تأليفك؟ لماذا لم تأمر أي صحيفة من صحف العالم – على كثرتها الرهيبة – بتصدير صفحتها الأولى بالإعلان عن خبر مرضي، علما بأنني أعظم وأنبل وأذكى رجل عرفته البشرية على الإطلاق؟ ثم لماذا أمرتَ الجارة بتشغيل جهاز الموسيقى وتركِ باب منزلها نصف مشرع إلى أن توهمتُ أنني أمام صبح سعيد، فكان ما كان مما لا داعي لإعادة سرده عليكما ما دمتما تعرفانه حقَّ المعرفة؟

الآن وقد انكشفت لعبتكما الخسيسة، أخبركما أنني لم أعد أومن بمخطوط ولا بكتاب، لا عالِم ولا عالَم، لا كتابة ولا مكتوب، لا عِلم ولا عَلَم، لا طبيب ولا فقيه. لكن، هل فهمتما لماذا انفجرتُ ضحكا عندما كنتُ متحلقا حول مائدة الطعام؟ لقد أخبرتُ أحدكما بهِ في مراسلة سابقة. فليبلغ السابق منكما اللاحق بما نقلتُ إليه من وحي.

في انتظار جوابكما،  لاتحية ولا هم يحزنون ولكما مني جزيل الشكر على حسن انتباهكما والسلام.

تنبيه:

لا تنسيا أنِّي أنَا، وأنا لستُ أنا.

التوقيع:

رأسُ العالِم

ي. ي. م. أ.

 

 

*

*             *

 

من يعتقد أن قبُوعي في هذا المكان منذُ ما يزيد على عَشر سنوات يعود إلى عجزي عَن الاندماج في العالم الخارجي والتواصل مَع الآخرين أو إلى أنني أوتيتُ وحيا تعذَّرَ عليَّ تبليغه، فهو خائنٌ، وأبُوهُ عاهرٌ. فقد أدركتُ من أنتم، وماذا تريدُون، وإلى أين أنتمْ ذاهبُون حتى صَار استمرَار إقامتي بينكم أمرا مُستحيلا لأنني مهمَا أفعل أو أقل لا أجدُني إلا محاصرا بمرآة خفية لا يراها أحد سِواي، مرآة تُذَكِّرُني بأنني لا أعدُو مجرد ممثل في مسرَحية لم أكتبها، ولم يُؤخذ برأيي فيمَا إن كنتُ أقبل اللعب فيهَا أو أرفضه، فهل تقبلون أنتم بمثل هَذا الوضع؟ هه؟! تكلموا!

أنا قابعٌ هنا داخل هذه الوحدَة لأنني على مَوعد مع وحي آتٍ لا ريب فيه، وحيٌ بدأت معالمه الأولى في الاتضاح، هُو كلمة واحدة أو شِبه معادلة رياضية يكفِي أن أنجزها فينتهي كلُّ شَيء. ستصيرونَ «كَانُوا». فاجمعوا حَقائبكم وأعدُّوا عُدَّةَ الفناء. كلمَة واحدة ويزمجر مَوجُ فكري الطوفاني وتزَلزَلُ الجبال الشاهقة المقيمة بدَاخلي، التي تشدني إلى مائدَة الكتابة شدّا مانعة إيانا من السُّقوط على السَّماء…

إياكم ومغبَّة الإستهزاء بي. فلي أحَاسيس مَغناطيسيَّة تأتيني بكُل مَا يجول في خوَاطركم، وكلّ ما تتنابحون وتتهارشُون به في شَأني. وقد صنفتُ في ذلك مجلداتٍ ضخمة هَا هي تحيط بي وتشهدُني صَباح مساء على ما أنتم إياه. منزلي الآن صار مُلحقة لقسم الشرطة، ملحقة لجهَاز المخابرات المركزية. لكلِّكم عندِي ملفٌّ باسمه، وعنوانه، ولونه، ووَزنه، وطَعمِه، وَقامتِه، ومُعجمِه، وأمَاكِن تردُّده، ومَا يقوله في شأني… وعندما أقولُ «إياكم»، فإني لا أقولها خوفا مِنكم وإنما خوفا عليكم، لأنني لم أفرغ من الكتابة بعد. ولي من المداد والوَرَق ما لن تفرغه هَذه المصنفات وإن كانت ترَاكمت بحيث صرتُ من جرَّاء رؤيتها مصابا برُهَابِ الموتِ كتابة وأنا لم أولد بَعد. نَعم، إني أنا، وأنا لستُ أنا، لأني لم أولد بَعد، وهذه الجثة التي ترونها وتزعمُونَ أني إياها أو أنها إياه لم تخلق لكم. فهي محض أمانة مَودعة هنا إلى حين فنائكم ومجيء كائناتٍ أخرى كُلفتُ بالكشف لها عن عَورَاتكم وإرشادِها إلى الوجهة الصَّحيحة التي ينبغي أن يُساقَ نحوَها العالمُ… وبكلمة واحدةٍ، لولا الشفقة عليكم لخرجتُ الآن توّا. وما أدراكم ما خروجي! فقد طهَّرتُ النّوع بدَاخلي، وجعلتُهُ من النقاء والصَّفاء والقداسَة بحيث صرتُ يكفي أن أقوم بجولة في الشَّارع فأغرقكم في رُعب ما سترونَه من الجثث المتناثرة، والعَاهات التي ستتسَلط عليكم جميعا، فَلا يفطن المرءُ منكم إلا وبعقلهِ عَمىً، أو قرَعٌ، أو عرَجٌ، أو جرَبٌ أو سَيِّدَةٌ… كيف سيتأتى لي ذلك؟! لستم في مُستوى معرفته ولا أنا من الضّعف أو الشكِّ في نفسي بحيث أحتاج إلى تبرير ما أقوله أو تقديم الحجج عَلى صَوَابه. فقد صرتُ الحجَّةَ والحِجَاجَ نفسيهما.

بيني وبينَ الحياة طلاقٌ أبديٌّ، وما وجودي هُنا إلا خطأ في إنجاز معادلة حسابية لستُ أدري من ينجزها ولا مُنذ متى ولا لماذا. لكن مَا فائدة مَعرفة كل هذا، إن كنتُ سأصل إليه حقا في يوم مَّا، مادامت كتلةُ اللحم والعظم هذه التي تدعَى هيأة أو جثة ملكية خالصةً لي أتصرَّفُ بهَا وفيها وفق مشيئتي؟ عفوا! بل هَل أتصرَّف فعلا بنفسي وفي نفسِي بمحض إرادتي أم أنَّ شخصا ما هو الذي أنزلني إلى هَذه الأعماق الهادئة المرعبة؟ من فصَّلَ العقول طوابق شاهقة متراتبة مُتراكبَة وأسكَن الأسوياء الذين يعتبرون أنفسهم ملائكةً بجوار الرِّياح المتهادِيَة وأنزلني في قعر هَذه البئر العميقة الموحشة؟…

– كفَى أسئلة يا أحمد!

–  بل أأحمد أنت أم محمد؟

– هاكَ بطاقة الهوية لتتحقق ممَّن نحن…

– فسدت اللعبة! دعنا من التُّرَّهَاتِ، ولننصت إلى هذه الكلمة التي حطّت مُنذ مدَّة في مُدرَّجٍ من عقلنا، وأعياها طول الوقوف في قاعة الانتظار:

«الجبين خيال يتصبَّبُ، والقلم مثبت في الأفلاك، والرأسُ حلبة لاقتتال الكلام، وها هي الكلمات الجريحة، تكتب المصيبة. أفي الخارج أنت الآن أم في الداخل؟ كلاهما فراغ ينهار عليك. كتلة لحم ودم وظلام، تكسو عظاما مهشمة، تؤثت كلمة جريحة، رنحها الألم. وأنا أمشي، أستدعي طيفها اللاينال، وأستجلي نفسي، فإذا بها طيف لاينال، أنت هي، وهي أنت، فسبحاننا، ثم سبحاننا!…»

– مَن هي؟

– الله أعلم!

– ما هذا الهذيان؟!

– أتعتقدونَ أن وحدتي وهذياني قد أنْسَيَانِي فيكم؟ إنِّي لأستحضركم في كلِّ سَاعة: عندما أستيقظ في الصباح، وعندما أجلس للأكل. عندمَا أدخلُ إلى المرحَاض، وعندما أجلسُ للكتابة. عندمَا أتمطى في الفِراش كي أنام، وعندَما أحملُ القلم لتدوين هَذا الوَحي… لكن في أية صُورة أستحضركم؟ لقد احتفظتُ لكل واحدٍ منكم بوجهه. من شَاءَ استلامه فليُعجِّل بزيارتي.

إنني بداخل كلِّ واحدٍ منكم مُقيم. نشرتُ بينكم عيونا وآذانا مني تأتيني بخبر الضَّرطَةِ والفَسْوَةِ تُصدُرُ منكم «في حقي» ولا تفطنون إليهما. ولذا، فأنا أعلم عِلم اليقين ما يجول في خَواطركم بشأني. وحِين يجتمع لديَّ ركام الأخبار أتفحَّص أقوالكم كلمَة كلمَة حتى إذا انتهيتُ قلتُ: «مَا أحوَجكم إلى الشَّفقة أيهَا الملائكة العُقَلاء!»، ثمَّ حملتُ مكنسة ورحتُ أرتِّبُ عقلي: أكنسُكم منه، أسحَب أجسَادكم من الأرجُل جسَدا جسَدا إلى أن تتكوَّم الجثث ثم ألقِي بالجمع في هَاوية النسيان، وأقعُدُ بداخلي أتفيأُ ظلالَ الانتشاء الخاوي الفرحَان…

وقبلُ،

فإني أنا، وأنا لستُ أنا

خائنٌ هو، وأبوه عاهرٌ، من يعتقد أني مريضٌ، لأنكم بما أنا عليه الآن معنيونَ مرتين: فعندما أقع تحت طائلة رُعب الوحدة، ويفلتُ مني مِقوَدُ تصرفاتي، ويفقدُ العالم توازنه بداخِلي، فتلفني غيُوم القلق، ألعنكم، وأخطط لاغتيالِكم واحدا واحدا، ثمَّ أخرجُ إلى الشارع شاهرا مُدية حادة، وما من أحد صادفتُه إلا وفقأتُ عينيه، أو قطَّعتُ أذنيه، أو بقرتُ بطنه وأخرجتُ كيس بُرَازِه. فتفحَّصُوا أطراف أجسَادكم مليا، وافتحوا خياشيمكم جيِّدا ترونَ لأجسامكم روائح نتنة، تزكمُ الأنوف وتبعَث على القيء، لا يفطنُ إليها إلا من أدمَنَ السياقة ومعاشَرة القطط، روائح لا يمحُوها عطرٌ ولا صابون لأنها من حُرُوق لغتكم تفوحُ….

 

*

*             *

 

من يعتقد أنني أكتبُ ما أكتبه الآن لأنالَ عطفا ما، أو أنقل رسالةً ما فهو إلى الشفقة أحوج. ومَن ظنَّ أنَّ هذا الكلام أدَبٌ فهو مخطئ، لأنه فيما يعتقد أنني كاتبُ هذه الصفحاتِ يغيبُ عنه أن الكتابة هي التي تكتبني، وأنَّ معنى أن يكون الإنسانُ أديبا هُو أن يَجعَلَ – أو يُجعَلَ – على فمه كمامة، ثم يقال له: «عَقَدْنَا لِسَانَكَ. أنتَ الآنَ شِبهُ ضَرير فَتَكَلَّمْ»، فيَتكلم بكلام، يسَمَّى روَاية أو قصة أو شِعرا…، تقاسُ جودته بنوع الكمامة التي وضعها أو وُضِعَت له. أما أنا فما وضعتُ على فمي كمامة ولا مِخلاة، ولا حمَّلتُ أصابعي بأقلام، ولا آويتُ في صفحاتي نصُوصا ولا لصُوصا. أنا إنسان يتألم ويتكلم. مقامِي بَينكم لا يعدُو مجرَّد محطة في حياتي الكبرَى التي بدأت قبل أن أولد وسَتتواصلُ بعد أن أمحَى. أرسَلني إليكم مَن لم أعرفهُ بَعد كي أبلِّغكم رسَالة خلاصِكم مِن دَاء الوجُود والعقل. كائنٌ ليليٌّ أنا، لحمي ودمِي وعظمي، كلٌّ قِيسَ بالظّلام وخيطَ بالموتِ… أيها الناس! أنا الآن ميتٌ، حيثما تحرَّكت وجدت نفسي ماكثا في مكاني والطرقاتُ تَمشِينِي، والأقلام تَكتبُني، والطعَام يَأكلني، والموسِيقى تَسمَعُنِي، والوقتُ يُضيِّعُني… ومَهما فتحتُ عيني لم أرَ إلا غبارا وسَوادا. فيا صاحبَ النور، لماذا بخلتَ علينا بمصباح أو شمعة حتى نرى بعضنا بعضا ولو للحظة واحدة في غَمرة هَذه الظلمة الحالكة؟ وأنتِ يا رَحَّالُ! افرِغِي هذه القمامة منّا وأريحينا جميعا!».

إن القلم الذي يدبُّ الآن بين أصَابعي الآن ليس سِوى بديلٍ عن قدم الدينصُور الذي كنتُ سَأكون إياه، لو لم تتواطأوا ضدِّي بسرقة عقلي، بتمريضي، كي أزلزلَ الأرضَ تحتَ أقدامِكم وأنثرَ في مسَالككم حُفرا بحجم الشروخ والخرُوم التي حَفرَتهَا حُرُوق لغتكم ومَعاولها بيني وبينكم إلى أن تتناثرَ فيهَا أجسادُكم تناثر الذرَّات فلا يفطنُ المرء منكم إلا وهو قاعدٌ في قعر هذه البئر – حيث أقبع مُنذ متى؟ الله أعلم – وعقله معطّلٌ وهو يتسَاءل: «من أنا؟ ماذا أفعلُ هنا؟ من أسقَطني هنا؟». والآنَ من أنا؟ ماذا أفعل هُنا؟ من أسقطني هُنا؟ ومنذ متى؟…

إني لأحذرُكم الحذرَ كلَّه من أن تقرَأوا الوَحي الحالي جَالسين على كرسِيّ أو مستلقين على سرير أو أريكة. مَن يفعل ذلك فقرَاءته بَاطلة. فليُسارع إلى التكفير عن زلَّتِه قبل أن أنزل به عُقوبة العَدوى فلا يفطن لنفسِه إلا وهُو يسير في الطرقات عاريا حَافيا، يتكلمُ ولا يسمعه أحدٌ، ويقول «أنا الوَاحد الأحد، لا والد ولا وَلد، لم يلدني أحدٌ، لا ولن ألد أحدا»، ويتراءى للقوم ولا يَراه أحدٌ… مَن فاته العمل بهذه النصيحة وعَزم عَلى التكفير عن سوء قِراءته، وإصلاح ما ألحقه بعقلي، من جرَّائها، من أعطاب فليعُد إلى مجموع ما انتهى إليه مِن كلامِي، ثمَّ ليقف وقفة خطيبِ الجمعة، ويغمض عَينيه الأماِميتين ويَفتح عَينيه الخلفيتين إلى أن تشرقَ عليه حُشود الأشياء الصَّامتة التي كانت إلى ذَلك الحين ترَاه ولايَراها، وتكلمه ولا يسمعُها حتى يصير هُوَ هِيَ وَهِيَ هُوَ؛ يرى الحذاء فيقولُ: «سُبحاني ثم سُبحاني، ما أنا إلا حذاء!»، ويرى الأفعى فيقول: «سُبحاني، ثم سُبحاني، ما أنا إلا أفعى!»، ثم ليأخذ في القراءة بصَوتٍ مرتفع يُزَلزل بذبذباته الأرض تحتَ مُؤخرات الجيران، ويحرِّك بعُنفه اليدين إلى أن يَركبهما رأسيهما فلا تعودَان تتحكمَان فيما تفعلان، ثم ليُرغِ ويُزبد إلى أن يُغرقَه مُثلث النّور في بهائه، وينهمِر عليه طوفانُ الفكر، ويدوِّخه سَدِيم الأزمنة… آنذاكَ، ستزاحُ حجُب ما قرأه ويرَى أنني لا أكتبُ حُروقا ولا حروفا أو مُفردات وجملا، وإنما مُعادَلات رياضية لتخليصِكم من عُقال العَقلِ وإغراقكم في طوفان الأزمنة والفِكر.

الاخبار العاجلة