محمد أسليـم: كتاب الفقدان: (1) إشـــــراق التبعثـــــر

1٬285 views مشاهدة
محمد أسليـم: كتاب الفقدان: (1) إشـــــراق التبعثـــــر

إشـــــراق التبعثـــــر

 

عندما أحسَسْتُ بأن العالم قد سكَنَنِي بكيفية بدأت تحدثُ لي تعثراتٍ جسدية واضطرابات نفسية قرَّرتُ أن أضعَ حدّا لحياتي:

مددتُ يدي بهُدوء إلى علبتي لاركاكتيل Largactil وعلبة هَالدول Haldol من المائدة الصغيرة التي كانت على مقرُبة من سريري. تناولتُ العلبتين، وأخطأتُ الثالثة. لحظتها شعرتُ بطنين يَرنّ في رأسي، ودبيبٌ يسري في جسدِي بشكل مثير للدُّوار. إلا أن المفاجأة كانتْ أكبر: فعلى العَكس مما كنتُ أتخيله بشأن الذينَ يختارُون مُغادرة الحياة من هذه الطريق، حيث كنتُ أتوهَّم أنهم يعانونَ من آلام مُمزِّقة تذهب ببعضهم إلى حدِّ الندم على اختيار الموتِ، والرغبة في العودَة ثانية إلى الحياة…، على العَكس من ذلك غمرني ذهولٌ وَنشوة عجيبان. ظللتُ في حال الدوار ذاكَ مدَّة لا أستطيعُ تقدير معادلها الزَّمني. اجتاحتني دفقةٌ أخرَى مَألوفة جدّا: رعشة الإنزال التي تتوِّجُ فعل الجماع. لكن ما فاجأني هُنا هُو: فيما كَانت الرَّعشة من قبل تنتهي بنهاية الإنزَال، فإنها دامَت هُنا مدّة طويلة جدا قد تعادلُ سنة زمنية أو أكثر. بعد ذلكَ، اكتسَحت جسدِي حرارة مهولة. كأنني أُلقِيتُ في النار حيّا على طريقة إحراق أوروبا ساحراتِها إبان فترة مُطاردة السَّاحرات وانتشار محاكِم التفتيش، أو كأنني أجتاز الطورَ الأخير من طقسٍ جنائزي هِندِي أو بَالِيّ. غير أنّ تلك الحرارة المحرقة سرعان ما تحوَّلت، دون أن ألمس صيرورة التحوّل، إلى بردٍ جليدي أعطاني إحساسا بأنني ألقِيتُ في صَحراء من جليد. في تلكَ اللحظة صرتُ أنا الذي أتحكَّم في الإحساس وأسيِّره. فحينما أريدُ الحرَارَة أصبح نارا، وعندما أريدُ البرودة أصيرُ ثلجا، وحينما أريدهما معا أتحوَّلُ إليهما معا. هل مِتُّ؟

ليس الموتُ هو أن تقطع صلتَك بالكائنات والأشياء من حولك. أن تموتَ هو أن تواصلَ صلتك بالكائناتِ والأشياء، لكن دون أن تستطيع التواصُل مَعها ولا حَولها، بمعنى أنك تدرك وجودهَا، وتعرف أنك تدرك ما أنت مدركه، ولكن كلّ ما تملك قوله لا يمكن أن يتجاوَز في أقصى الحدُود إحدَى هذه الكلمات: «أنا»، «أنا هُنا»، «الآنَ»، «الآنَ هنا»، «الله»، «الله هُنا»، «الله الآن»، لأنّ كل ما تعداها يتحوَّل إلى استحَالةٍ، إلى التّوَاصُل الذي هُوَ انتفاءٌ للموتِ الذي تَكونهُ آنذاك.

لقد ضاع فِيَّ التواصُلُ حول الأشياء عبر رسَائل كلامية وغيرها وتحوَّل إلى شبه تلاش لي في الأشياء، إلى امتدادٍ لبعضنا في البعض الآخر. إني انتقلتُ من موتٍ في حالةِ أزمةٍ إلى حياةٍ في وضع أزمة. من أزمة موتٍ إلى أزمَة حياة. أجدُني في سَرير بأحدِ مستشفيات الأمراض العَقلية. أعلمُ أن الطبيب قد «أحبط» محاولتي. لكن أي إحباطٍ؟ أنا الآن حي – ميتٌ. أحيا مَوتي بالقدر الذي أموتُ به حياتي، وما يُنطِقني اللحظة من الدّاخل سِوى الموتِ نفسه. نعم، لقد لبسَنِي الموتُ وها هُوَ يُملي عليّ الآن ما أنا كاتبه. وخلالَ قيامي، وقعودي، وجلوسِي، ومنامي، وتجوالي، لا أرى سوى ضبابٍ وغبارٍ ورائحة موتٍ…

*

*             *

من أين كانت البداية؟ لم أدر بالضَّبط أيّ شيء طَرأ على مجرَى حياتي فجرفني إلى قعر هذه البئر التي أقبع فيها الآن. لكن يسُودُني اعتقاد شبه يقيني بأن كلَّ شيء قد انطلق يوم أحَالني طبيبٌ على طبيبٍ آخر عبر طلب الفحص التالي:

طلب فحصجواب الاختصاصي
اسمحوا لي أن أحيل إليكم  هذا المريض الذي يبدو، من خلال المقابلة التي أجريتها معه، أنه يحمل أعراضا شيزوفرينية.

التوقيع.

 

 

……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………

التوقيـع

 

لم أفاجأ بكلمَة «شيزوفرينيا». فمن قبل طالما خَامرني الإحساس بأني كنتُ مصابا بهذا المرض بالضبط. لكن ما فاجَأني هُو الطّريقة التي كان يعاملني بها الطبيبُ. لماذا كان يكلمني بالكيفية التي يُكلَّم بها عادة الصبيان والأطفال؟ عفوا! لماذا زُرْتُ الطبيب؟، بل أأنا الذي زرته أم أنَّ شخصا ما هو الذي زوَّرَني إياه؟

لكي أختبرَ صحة ما قاله الطبيب بخصُوصِ «مرَضي» وأرى بنفسي أين تضعني صِنافة الأعطاب العَقلية والنفسية أمسكتُ معجما لمفردات التحليل النفسي، وأخذتُ أتفحَّصُ المصطلحات واحدا واحدا صُحبة نصوص الشروح المرافقة لها. وكلما أنهيتُ قراءة مصطلح وفهمه شرعتُ مُباشرة في البحث عما يمكن أن يقابله من وقائع في ركام أحداث حَياتي. لكن، أيّ شيء عثرتُ عليه! بل ماذا أقول؟ يا لغبني أم يا لغباوتي؟! فأنا لم أجدْ كل أسماء الأمراض والعُقد النفسية تنطبق علي فحسب، بل وَجدتُني معجما يسَع سائر مُصطلحاتِ الأمراض النفسية، ووجدتُ المعجَم «الحقيقي» مجرَّد نصّ يتضمن مفرداتٍ مُبهَمَة يتعين على كل من رَامَ شرحها أن يعود إلي كي أقصَّ عليه مجموع وَقائع حياتي!

*

*             *

لقد جعلَ الاختلافُ بيني وبين الآخرين من التَّعامل معهم صفعاتٍ ترتطمُ بخدِّي كما تصفع هُدُوء الحشاش كلمة تهوَى عليه دون استئذان ولا سَابق إعلام. لقد صَار عقلي صورة مُكسَّرة للعالم وأصبحَ الناسُ يتظاهرونَ من حولي بمظهر مُومِيات محنطة. فمَا من كلمة أفوه بهَا إلا وتثير الإحسَاس بالغرابة لدَى الآخرين. في أقصى حالات التأدُّب والمجاملة يُعيرونني آذانهم، وفي حالات دُنيا من التأدب يُعرضونَ عن الاستماع مختلقين لذلك أعذارا أو مواعيدَ يزعمون أنها في غاية الأهَمية. وفي كلتا الحالتين لا أحْظى بأي كلمة منهُم. لا تعليق، ولا نقاش، ولا استفهَام، ولا استفسار، ولا اعْتراض… كأنني أحدثهم بلغة نزلتْ من كوكب آخر، علما بأنني أطرحُ وأناقش قضايا منهم وإليهم. قضايا لصيقة بأنوفِهم وعيُونهم، وإن كانت تبدو في حَجم الكون. نعم، كثيرا ما يسخرونَ مني بطرُق بارعة في المرَاوَغات الذكية، لكنْ لي اليقين بأني أؤزمُهم بالقدر الذي يُؤزمونني به. كلانا أزمة للآخر! عُقولهم علب مغلقة وعقلي هواءٌ طلقٌ. معرفتهم محجمة بأحجام وموزونة بموازين، وأنا درجَة صفر في المعرفةِ. لذلك لم يقبلوا أن أطرح عليهمْ أسئلة كثيرة، ورفضوا التعاون معي لفكّ قضايا نظرية عسيرة… فقد أعرضَ أحدهم مختص في البصرياتِ عن مُساعدتي في صياغة «نظريةٍ في المعرفة انطلاقا من النّفادِ إلى الكون من عيني قط». كما أعرضَ آخر مختصٌّ في الفيزياء عن مساعدتي في بناء نظرية حَول «علاقة المعرفة الإنسَانية بالوَضع الفيزيائي لجسدِ الإنسَان وما يترتبُ عليه من تمثلات مخالفة لتمثلات باقي الكائنَات الأخرى»، وذلك رغم أنني صُغتُ في هذه الحالة ورقة عملٍ في غاية الدقة والوضوح، مُعزَّزة بجداول ورسوم بيانية وفرضيات ومعطيات متعددة بدءا من آدم وحوَّاء والأفعى، مُرورا بمقتل أبي مسلم الخرسَانيِّ، ووصولا إلى مشارِيع العَين الثالثة، والقَدم الثالثة، والمشي على البطن والحواس الخمس والعشرين… أعْرَضَ عن مساعدتي رغم أن مَوضوعا كهذا يفي منتهى الإغراء والتشويق لما سينتج عنه من انقلاباتٍ جذرية في تصور الإنسان للكون: فمثلا ستصيرُ علاقة الإنسان بالسّماء عَلاقة تحتية وليس فوقية كما هُو الشأن حاليا. وسيصيرُ من الخطأ قول «الصّعود إلى السَّماء» لأنَّ الصَّوَابَ سيكون هُو «النزول إلى السَّماء»، كما سيُصبح من الخطأ قول: «سقط المطر» لأن الصَّحيح سيَكون هو «صعد المطرُ». وسيصير الإنسان في وضع المُدَلَّى من الرِّجْلَينِ والحامل للكرة الأرضيةِ بصفحتي قدميه…

وبما أنّهم جميعا رفضوا مثل هذه الأفكار، رَغم أنها أكثر الخواطر سَذاجة مما يشغلني حاليا، فقد ارتأيتُ من غَير المجدي أن أبوحَ لهم بنظرياتٍ أخرى من نوع: «ماركس هوَ الوجهُ الآخرُ لسيدي عبد الرحمان المجذوب»، أو «نظرية النّشوء والارتقاء لداروين تأكيدٌ لنظرية وَحْدَة الوجود عند ابن عربي»… ولذلكَ قرَّرْتُ أن أحتفظ بها لنفسي وأن أتأملها بمفردي. لكن بما أن لا أحد يسمعني فقد قرَّرتُ أن أضع فتحة بسِعَةِ بَابٍ في رأسي كي يتمكن الآخرون من دُُّخوله والتّجول في حدائقه الخلابة التي لا أستطيع حتى وصفها، فأحرى أن أخرجَ ما فيها:

«إني ناطقٌ باسم عالمٍ مفقودٍ،

عالم لم تدخلوا إليه.

لأنك إن تدخل إلى هذا العالم

تضيع،

وتصير غير مكتمل.

كبدك،

رئتاك،

فرجُك،

كل ذاك مِلكٌ لك.

أما رأسُك،

فلا.

إن كنت مجنونا، فتعال أحتضنك بين ذراعي.» (ليو فيري Léo Ferré)

لمعرفةِ الأصل في مرضي، ونُشدان علاجي ساقني أهلي إلى ثلاثة أطباء للأمراض العقلية، وشيخ يمارسُ السحرَ والشعوذة، ثمَّ عرَّافة. أما أنا، فللوقوف على سببِ اختلافي عن الآخرين أخذتُ سبيلا آخر: أدمنتُ قراءة كتبِ التحليل النفسي والطب العقلي.

أما الطبيبان فقد اختلفا في سبب مرضي وتفسيره إلى أن أشفقتُ عليهما:

ردَّ أحدهما عِلَّة دائي لأصلٍ عُضوي، فيما أرجعَها الآخر إلى سبب  نفسِي. أن يكونَ مصدَرُ دائي عضويا، فذلك أمرٌ يشهدُ عليه، حسب الطبيب، إتلافٌ في حجم ذرَّةٍ أصابَ قسما من خلايَا دمَاغي، وخللٌ دوريٌّ يصيب القسم الآخر… وفيما كان الإثنان يتجَادلان بشأني هوى عليهما الثالث بحجَّةٍ كالصاعقة. قال: إنّ المرض العقلي لا يُوجد إلا في ذهن الطبيبِ الذي ينطق به. ثم أضَاف أن الأسوياء كلهم مرضى، وأنهم لا يعتبرونَ المرء مريضا إلا لعجزهِم عن ترجمة معايير السّواية في سلوكاتهم اليومية بالإتقان الذي يترجمُها به من يسمونه مريضا. احتدَّ النقاش بين الثلاثة. خشيتُ أن تأخذ الخصومة منعطفا خطيرا فينتهي بهم الأمر إلى الانقلاب عليَّ، ولذلك انسللتُ من العيادة في هدوء، وأطلقتُ ساقي للريح باحثا عنِّي…

ما بلَّلَ الفقيهُ قلمه بالصمغ وأخذ يخط نقط التنبؤ بالغيب وحروفه حتى استجاب رأسي لحركته بوَحْي ما ألِفتُ مثله من قبل: فقد بدا لي المقام مقام نبوة، وَوَجَدتُنِي رسولا نزل عليه وحيٌ أمِرَ بتبليغه، ورأيتُ الفقيه ومن كان يحيط به من نِسوَة وأطفَال أتباعا ينتظرون أن أتلفّظ بمواعظي ونبوءاتي… لُكْتُ أصواتا كثيرة مليا قبل إلقائها، لكنني لحظة اختيَار الكلمات المناسبة لإطلاقها ألفيتنِي محاصَرا بعيُون الحضور ونظراتِ الفقيه. كنتُ سأصرخ في وُجوه الحاضرين:

«يَا معشر المريدين! بلِّغوا عنه أنه ليسَ مريضا ولا مسحورا ولا ممسُوسا ولا مجنونا. إنما هو رسول نزل عليه وحْيٌ، لكن تعذرت عليه طَريقة تبليغه!»

إلا أن ثقل الخجل الذي كان سيهوى عليَّ – إن واجَه أولئك القَوم كلماتي بالضَّحك السَّاخر – جعلني أحتمي بالصَّمت الرهيب، فقعدتُ بجانب الفقيه، ملفوفا وسط سحابة من الغبن والخَجَل، أتأمَّل حركات يديه وأتابع هَمْهَمَاتِهِ وغَمْغَمَاتِهِ وأنا أقول في قرارة نفسي:

«ألا ما أحوَجنا جميعا إلى الشفقة! ألا مَا أحوجنا إلى الشفقة!»…

في حين زعمت العرافة أنني قد كسَّرتُ رجْلَ صَبِي من الجنِّ، وأن والدَيه قد انتقما لابنهما بحجبِ عقلي، وأنني سأستعيد عافيتي حالما يعقد أهلي صُلحا مع أب الضَّحية وأمِّه، وذلكَ بأن يعمدوا إلى تقديم قربان، وإقامة ليلة حَضرة. لكن أي شفاء ساقته إلي تلك الليلة! فما أن تحركتْ أوتار الهجهوج وتهاطلتْ دقات الصُّنوج، وتعالت أصوات الفريق مغنية حتى استحوذ عليَّ الإحساس بحنين عَميق إلى شيء لم أتوصَّل حتى اليوم إلى معرفة ماهُو، لكن يقين وجوده كانَ من القوة بحيث لم تملك عيناي أمامه إلا النّضح بسيل من الدموع. انزويتُ في جانب من حلقة الرَّقص ثم غرقتُ في ترنح حزين لا ينقطع. «على ماذا أبكي الآن؟ أيُّ شيء ضاع مني؟ متى؟ أين؟ كيف؟»، ظللت أتساءلُ بدون انقطاع، لكنْ كلما ألقيتُ سؤالي ارتدَّ إلي بهيأة إحساس الفقدان نفسِه. وأمام أحاسيس العجز والغبن والحزن لم أملك إلا الرَّقصَ. قمتُ، وانهَمكتُ في رقص قوي فرحان لا ينقطع إلى أن تسبب ذلك في عَرقلة لعمليةِ السير تكونت إثرها في الطريق صفوفٌ طويلة من الأوتوبيسَات وسَيارات الأجرة الصغيرة والدَّراجات النارية، فتعالت منبهاتُ الصَّوت بشكل جنوني. وفيما كان أصْحاب تلك المنبهات يعنون بإرسَالها: «افرغ الطرِيق كي نتمكن من مواصلة السير…» كنتُ أتوهّم المقام مقام احتفال، والسيارات والدراجات لُعَباً أو أجهزة يتوقف أداؤها على سرعتي في الرَّقص أو بطئي فيه، فواصلتُ الرَّقصَ الرَّقصَ والسَّيارات ترسل منبهاتها وترسِلُ… أنا أرقص، ومواكب الألوان والبخور والأطعِمة تتعاقب إلى أن تغيَّرَ إدراكي لجسدي فجأة، فوجدتُني إما كيسَ رملٍ عَلى وشك الانثقاب وتسريب ما بدواخله، أو كائنا زجاجيا شفّافا على وشْك الانكسار والتحوُّل إلى شظايا. لا، لستُ كيسا، ولا رملا، ولا زجاجا، ولا يحزنون! أنا الآن حيوانٌ متوحش بصدد الترويض. نعمْ، كنتُم تحاولون ترويضي. ولذلك أمسكتُ إحدى الآلات الموسِيقية وانخرطتُ في تهشيم رؤوس المتحلقين حولي إلى أن كان ما كانَ.

– ماذا كان؟

– ليس شأنكمْ.

وأما كتب التّحليل النفسي، فكانت كلها توجِّه إلي كلاما واحدا لفرط تكراره انتهيتُ إلى حفظه، ولذلك فأنا لا أجد أي صُعوبة في استظهاره كأنني حفظتُه عن ظهر قلب. كانت كلها تتوجه إلي قَائلة:

«ما أنت في نهاية المطاف سوى فرد لم يَرُقْكَ ما يحيط بك من قيم وعلاقات، يئستَ أحيانا من تغييرها، فألقيتَ أو ألقِيَ على عقلك ستارٌ حاجبا عقلك عن الأسوياء. أنت تستمر في التفكير، وتزاول باقي وظائف الجسد من أكل، ونوم، وبصق، وضحك، وبكاء، وما إلى ذلك. لكن تفكيرك يختلف عن تفكير الأسوياء. كل شيء يتم عندك كأنك تبثتَ رأسَك في موجة مختلفة تقعُ على الضفة الأخرى من موجة الأسوياء. وفعل التثبيت هذا كلمة يبدو أنك توجِّه من خلالها الكلمةَ التالية لمن يعتبرون أنفسهم أسوياء: “ما هكذا يجبُ أن يكون الإنسانُ، بل هكذا! لا يجب أن يكون الإنسان على ما أنتم عليه، بل ينبغي أن يكون ما أنا عليه!”، وبذلك فأنت تضع المجتمع بكامله في أزمة: أنت تتكلم لغة لا يفهمها الآخرون، لكنها تظل مع ذلك لغة ورغبة في التواصل إن لم تكن تواصلا بالفعل، غير أنه من “الغرابة” بحيث لا تستجيب له أذهان الآخرين إلا بالتعطل، لأنك تتكلم بلغة مستحيلة. والمعاني التي نتوصل إليها نحن، معشر المحللين النفسانيين، بعد تفكيك خطابك بشفرات خاصة تبرز الطاقة الهائلة التي تملكها لترميز عالمك وتمجيزه وتأثيثه بالمزخرف والمزركش من الاستعارات. وعليه فأنت هو الأدب وقد بلغ الكمال، لكنك لا ترتبط مع المتلقي بأي ضرب من أضرب المواثيق التي يرتبط بها الأدباء الأسوياء مع قرائهم الأسوياء. وبكلمةٍ واحدةٍ، أنت هو الكتابة بالفعل. أنت هو الرمزُ والاستعارة والمجاز وقد تحولوا إلى جسد من لحم وعظم ودم. أنتَ بين البشر حجرٌ يتألم ويتكلّم ».

عندما حاولتُ إيجاد خيط ناظم بين أقوال الأطباء، والفقيه والعرافة، وكتب التحليل النفسِي والطب العقلي، أصَابني دُوارٌ شديدٌ، سمعتُ أصوات انفجاراتٍ مهولة تدوِّي داخل رأسي، علمتُ أن الكلمة جاءت تطلبني بإلحاح:

سأحملُ مِعوَلا وأمتَهنُ حِرْفَةَ هَدَّامٍ للُّغات

سأقتلعُها واحِدَة واحِدَة

وأدَشِّنُ لغة الإشَارَات

وافتحُ صُبحَ الجنون السّعيد

ليرقصَ العالم عَلى أهَازيجي الحزينة

بلُمْ بُّمْ بُّمْ.

من الشيزوفرينيا سَأقُدُّ لي أمّا حَنُونا

مَسكونة بالأوهَام

تعيشُ بخوفِ فقداني

البارانويا حبيبة لي وزوجَة

أمَا خافَ أحدُهُم مِن خِيَانة زوجته؟!

بلُمْ بُّمْ بُّمْ.

هِي ذِي لغتي مُنذ الآن

تنفجرُ قنابلَ مسيلة للسَان والحنجرهْ

تقيؤكم مَعَاجمكم وتفرغكم عُقولكم

هُنَاكَ

في الجانبِ الآخر من الطريق

يتفيأ الغولُ ظِلال شَجَرَة وهمية

ما أحلى عينيه! واحِدَة مَفتوحَة وأخرى مُغمَضَة

واحدة شاخصة في الأرض، وأخرى في السَّماء

بْلُمْ بُّمْ بُّمْ…

لم أدر كيف انجرفتُ ولا من جَرَفَني إلى هذه الزاوية من الحياة (أو النّمط الوجودي ضمن أنماط أخرى كما يقال؟). فقد شُلَّ جَسدي وتقلَّص مَركزُ الحياة في عقلي. صار عقلي مَهبطا للوَحي. أكتبُ أشياء كَثيرة جدا، لكنني لا أبدأ ما أكتبه إلا لأرجئ إنهاءه إلى موعد غير مُحدّد استنادا إلى قاعدة خادعة لم أدْرِ مَنْ زَرَعَ فيَّ يقينها المزعوم: «سأخصص، في المستَقبل، ثلاث سنوات بكاملها لإعادة النظر في هذه النّصوص ومراجعتها ثم إرسالها للنّشر»…

تنطُّ الأفكار في ذِهني كالضفادع فيحلو لي كثيرا تأمُّلُها والإنصاتُ إليها. يغمرني يقين أن هَذه الأفكار فريدة من نوعها وأن فيها ما من شأنِه أنْ يقدم خدمة كبرى للبشرية جمعاء ويساهم في القفز بحضارتنا بَعيدا جدّا. لكن، من كبَّلَ يديَّ حتى لا أكتُبها؟

قالَ نيتشه يوما في قلق فرحان:

«لا نستطيع أن نكتب إلا جالسين. لكني سأصمد واقفا هنا. أنا عَدَمِيٌّ! والمكوث في وضع الجلوس هو الخطيئة ضد الفكر الخالص، ذلك أن الأفكار التي تأتيكم وأنتم سائرون هي وحدها التي تعتبر ذات قيمة».

كما قال:

«لستُ أكتبُ باليد فقط، قدمي تريد دائما أن تكون طرفا في الكتابة».

فهل معنى ذلك أنني صِرْتُ فيلسوفا؟ ربما، لكن ما أصل هذا التبعثر الذي يلُفُّنِي الآن؟ أأنا الذي شننتُ الحرب على النظام أم أن الفوضى هي التي شنَّت الحرب علي؟ في إحدَى الليالي استجمَعتُ كل قواي وتأهبتُ تأهبا صارما للقبض على كلِّ فكرة تعبر بذهني. كلَّفني ذلك سهر الليلة بكاملها، وتنقلا كثيرا بين المكتبِ والفراش وإيقادا وإطفاء مُستمرين لمصباح الإنارة. عندما أستلقي فوقَ السَّرير، ويسُودُ الغرفة ظلامٌ مطبقٌ، تنقطع له اليدان، تهاجمني الأفكار كوحوش ضارية، لكن مَا أجلس وأمسِك القلم بين أصابعي حتّى يتحوَّل ذهني إلى سماء صَافية، فأجدُني قابعا أتأمل بمنتهى الغباوة بيَاض الصفحة أمامي. أسخرُ من نفسي فأعُود لأستلقي على الفراش…

وقبيلَ أن يتمكن النوم مني كان كلُّ مَا كتبته لا يتعدى الصفحَة التالية:

«فلنفتح ثقوب رأسنا لمجاري الهواء، ولنشرع عقلنا لهدير الموج وحنين الريح.

مداراتُ الفكر تحتضر، وغاباتُ الأحاسيس تنتشرُ، ووهاد القلبِ تنكسرُ. قيامة من لا قيامة له، وعقل من لا عقل له.

وهادُ القلب تضطربْ،

 هذي القصيدة تنكتبْ،

أمواجُ حُزْن تنتحبْ،

تدنو منيِّ وتقتربْ،

ثم تغفو وتنسحبْ،

وتلتهبْ وتنسكبْ،

أخطاءُ قتل ترتكِبْ،

فتنقلبْ وتنعطبْ،

فلا تقول أنعطبْ،

ولا تقول أنتحبْ،

ولا تقول أنسَحِبْ،

 بُلُم بُبُمْ بُلُمْ ببُمْ،

بُلُمْ بُبُمْ لُمُمْ بُبُبْ،

مُتَفعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ،

كَفى كَفى، ثمَّ كَفى،

مُتَفْعِلُنْ مفتعِلُنْ،

طرَّقْ طَطَقْ طْرَّقْ ططَقْ.

من اعتقد أن هذا رجزٌ أو رملٌ أوسعته لكما وركلا. فما هذه الأصواتُ إلا وقع كاعب العاهرة التي أقعدتني قبل قليل كي أدوِّنَ هذا الوحي. أدوِّنه بمعنى أجعله دُون ما هو في الحقيقة، يُدنى منه دون أن يُدنى عليه ولا تحته أو فوقه. تفضلي يا سِتّ فكرة. مرحبا بك. افسحوا لي الطريق فنحن مارٌّ. أما استحييتِ؟! أحسبتني فقدتُ عقلي؟ كلا! استقبلتك سابقا ودوَّنتك في الكتاب. فانصرفي. إلى اللقاء يا سيدتي الفكرة. إلى اللقاء».

ما أنهيتُ قراءة الصفحة في الصَّباح حتى انتابتني رغبة القيءٍ لفرط تفاهتِها. ولذلك مزقتها دون أدنى تردد. لكنْ في اليوم الموالي، اعتراني ندمٌ كبير خشية أن يكون ما أتلفتُهُ يتضمَّنُ وحيا يهمُّ مَصيرَ البشرية جمعاءَ، وبالتالي أتسبَّبَ في كارثة عظمى، خاصَّة وأني قبل أن أكتب ما كتبته كنت استقبلت كائناتٍ سماوية نزلت خصيصا للتفاوض معِي في شأن جَدوى وجود الإنسان الحالي وما إذا كان من الضَّروري أن يبقى أمْ لا ضمن لائحَة هذه المخلوقات والموجودات التي تتفنَّنُ في أداء عروض مسرحية ما يسمى بالحياة، فقضينا سَاعات طويلة في نقاشات عَسيرة لتقييم حصيلة ما فَعَلَهُ هذا المخلوق مُنذ ظهُوره إلى اليَوم، وانتهينا إلى أنَّ صَلاحيتُه قد انتهت مُنذُ مُدَّة، فصَارَ مُؤذيا ضَارا وسَامّا، وكنا على وشك إطلاق رَجاءً مِمَّنْ يَتوفَّر عَلَيه أنْ يُعجِّلَ فَورا بالتَّخلّص مِنْهُ لولا اختلافنا حول بعض مفردات ذلك النداء، فاكتفينا بالاتفاق على ضرورة تشطيبه نهائيا حفاظا على نقاء الأنواعِ ونظافة الأرضِ؟؟؟. وذلك لسببين:

الأولُ:كونُ هذا الإنسان أغمضَ عينيه أمَامَ الأسئلة الكُبرى التي كانتْ تلح عليه مُنذ البداية: أسئلة الموتِ، والمرض، والجنون، والجنس، وجدْوى الحياة، ومعناها…، متصرفا كأن الأمر يتعلق بقضايا محسُومة، ثمَّ انْهَمَكَ في العيش ضمن نمطٍ وُجودي لم يتفق عليه الجميع، وراحَ يعبث في الأرض، فاقتصَّ من الغابة الكبرى – التي كانت الأرضُ إياها – مِساحات، أقصى منها إخواننا الأوائل: الفيلة، وبنات عرسٍ، والثعابين، والأسُود، والنمور، والذئاب، وبنات آوى، والتماسيح، وما إلى ذلك.، ثم أسماهَا مُدُنا، فتحصَّن بداخلها ورَاحَ يتناكحُ فيها، ويتوالد، ويقتتلُ حاسبا أنه مركز الكون.

والثاني: كونُ هذا الإنسان نفسه، خلافا لما يُوهِمُ به من أنه قد خطا خَطوات عملاقة في مجال التحضُّر والبناء والاختراع، لم يبلغ – في الحقيقة – إلى الوقت الرَّاهن حتى مقدار عُشُر عُشُر عُشُرٍ مما كان بوُسعه أن يصلَ إليه داخل هذا النمط الوجودي نفسه لو لم يصرف الأزمنةَ في النوم العميق. نعم، كلكم نُوَمٌ. وحدي اليقظان بينكم. مرَضي هُو ثمن يقظتي. والدليل على نومكم كونكم لم تخرجُوا من النظام الشمْسي بعد، ولم تتحَققوا بعد مما إذا كانت هذه الحياة هي الوَحيدة أم أن هناك حَيَوَاتٍ أخرى في مجرَّاتٍ أخرى، ولم تتغلبوا بعد على لائحة طويلة من الأمراض الفتّاكة التي تتربصُ بكم، وما إلى ذلك. وباختصار، إن ما قام به الإنسانُ وإن كانَ يبدو مسيرة عملاقة، فإنه في الحقيقة لا يعدُو مجرد حركاتٍ وأفعال بَسيطة لا يتطلبُ إنجازها أكثر من رُبع ثانية من منظور آخر وإحساس آخر بالزَّمن، وبالتالي فبدلا من إبْداء مشاعر الإعجاب والتقدير إزاء الإنسان الحالي، يجبُ معاملته معاملةَ الأسْتاذ القاسي للتلميذ الكسُول، يجب أن يُجْذَبَ بقوةٍ من الأذنين ويُصْفَعَ وهو يُعَنَّفُ بالقول: «أهذا كل ما وصلتَ إليه؟! أهذا كل ما اخترعتَه منذ عشرات آلاف السنين؟! ألم تتجاوز العصر الحديدي بعد؟». وأخبِرُكُم منذ الآن أنّ ذلك ما ستفعله بكم الحيوانات. إن أسراب اليمام، ومواكب السِّبَاع والضِّبَاع، والفيلة، والقردة، وبنات عرس وآوى لا مَحَالَة آتية. زاحفة على مدنكم. لقد أرسَلَتْنِي إليكم في مُهمَّة استطلاعية. وَفَوْرَ انتصارها عليكم ستقلدني الحكم، وأصير مَلِكاً أو أَمِيرا. لذا، فعليكم من الآن فَصَادِعا (لا صاعدا أو نازلا، فقد فقدتُ الإحساس بالجهات الأربع) أن تكفوا عَن مناداتي ب «أحمد» أو «محمد» أو «يوسُف» أو «عيسى»، أو «يعقوب». نادوني ب «مولانا الملك» أو «مولانا الأمير». لكن، أيَليق بي أن أصيرَ جَاسوسا للحيوانات؟ بلْ أجاسوس أنا أم قنبلة على وشك الانفجار؟

فتحتُ نقاشا في الموْضوع، ولكن في اللحظة الحاسمة التي كنتُ سأعرفُ فيها اسم الشّخص الذي أوقعني في فخّ ليلة البارحة أيقظني صراخ أمي وإخوتي من حولي. كانوا كلهم محيطينَ بي وهم يبكون لأنّهم سمعوني أتشاجرُ وحدي وكأنني صرتُ شخصين ولم أعُدْ واحدا.

عندما نفضتُ يدي من تلك الحيلة غمرني يقينٌ أتاني من عمق الزّمن القادم بأن البشرية جمعاء لم تخرج من طور الفطريات بعدُ مَادامتْ لم تفلح في تسْوية هذا المشكل ضمْنَ مشاكل أخرى عديدة. لماذا لم يفكر العلماء في اختراع جهاز يتولى التقَاط الأفكار من ذهن المرءِ وتسْجيلها فنستغني بذلك عن حرب الكتابة هذه؟ لقد تخيَّلتُ شكل هذا الجهاز وفكَّرْتُ في اقتراحه ضمن نص لم أكمل كتابته بعد. وفيما يلِي التصوّر الذي وضعته للآلة المذكورة:

«الشكل: جهاز بشكل قبعة، في حجم نصف كرة قدم، يوضع على الرأس. في الحد الأسفل من الجانب الأيمن للجهاز توجد شبه علبة توضع فيها أشرطة التسجيل التي حالما يفكر المرء تشرَعُ في التقاط الأفكار دون حاجة إلى الضغط على زر أو التزود ببطاريات لأن الجهاز يستمد طاقة اشتغاله من حرارة جسم الإنسان نفسه. وطولُ شريط التسجيل الواحد كبيرٌ جدا بحيث غالبا ما يموتُ الفردُ دون أن يستنفذ شريطين.

طريقة الاستعمال أو استعادة الأفكار المسجلة: يُنْزَعُ الشريط المسجل (وعند نزع هذا الأخير يواصل الشريط الثاني مهمة التسجيل لكي لا تتوقف عملية الرصد والتسجيل أبدا)، ثم يوضع في جهاز خاص مثل حاسوبٍ، ويضغط على الزر المخصص لموضوع الأفكار المراد استعادتها لتظهر مكتوبة على الشاشة.

وفي مرحلة متطورة من تاريخ هذا الجهاز سيصير من الممكن تشخيص الأفكار على شكل شريط سينمائي. هكذا، فإذا فكرتِ، مثلا، في قتل شخصٍ ما فعملية القتل ستظهر كما تمنيتِها، كما لو كانت حصلت فعلا. ستظهر صورتك على الشاشة وأنتِ تَقْتُلِينَ غريمك…

محاسن الجهاز: كثيرة جدا وعلى رأسها تخليص الإنسان من حرب الكتابة.

مساوئ الجهاز: ستعمد حكومات كثيرة إلى إلزام جميع مواطنيها بحمله، حيث ستلتزم بتحمل مصاريف الإنتاج والتوزيع المجانيَّيْنِ. وستصاغ فصولٌ شبيهة بقوانين حمو رابي، تقول، مثلا:

«إن يفكر شخص في كذا أو يعتقد كذا؛

ولو خطأ، يُعَاقَب بكذا طبقا لكذا؛

إن يغتصب شخص امرأة في الخيال، دون رغبتها أو استئذانها يعاقب بكذا طبقا لكذا»…

أنا الآن موقنٌ بأنَّ الأصل في مرضي لا يعود إلى عطبٍ في الدماغ، ولا إلى جِنٍّ أو سِحْر أو وَحْيٍ، وإنما يرجع إلى غياب هذا الجهاز. لو كان الإنسان قد اهتدى إليه من قبل لما مَرِضْتُ، بل ولكان المسؤُولون عَن مرضي قد وُضِعُوا ورَاءَ القضبان منذ سنين طويلة، لأنهم بمجرَّد ما كانوا سيفكرُونَ في تمريضي كان سَيُفْطَنُ إليهم ويُعمَدُ إلى إحباط مخطَّطَاتهم بتقديمهم إلى العدَالة. ألا ترون الأمر كذلك؟

بيد أن ما من أحدٍ اقترحتُ عليه هذه الفكرة إلا ونظرَ إليَّ بازدراء ممزوج بالشفقة. أمّا الطبيب، فكانَ جَوابُه بعد الإنصات:

«ولماذا لا تصنعهَا أنت؟! مَاذا تنتظر؟!»، ثمَّ مَلأ وصفة الدَّواء بلائحةٍ أطول من المعتاد…

الاخبار العاجلة