محمد أسليم: مقدمات للعصر الرقمي

2٬887 views مشاهدة
minou
أدب رقمي وثقافة رقمية
محمد أسليم: مقدمات للعصر الرقمي

(نشر في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، سنة 2001)

1. ثـورة وشهـود
يشكل وقتنا الحالي، بالنسبة للمستقبل، لحظة مرجعية لإحدى أكبر الثورات التي عرفتها البشرية. سيقال: «ظهرت الثورة المعلوماتية في أواخر القرن العشرين». نحن شهود عيان لحدث تاريخي اجتماعي عظيم. نعم، كان معاصرو الثورتين الصناعية والزراعية بدورهم شهودا على حدثين عظيمين، ولكن الفرق بين البشر والوقائع أعظم: لقد أدخل الحدثان السابقان تغييرات جذرية على أنماط التفكير والتنظيم الاجتماعي والعادات الاستهلاكية، لكن دون المساس بالعديد من المؤسسات والقيم السحيقة. بخلاف ذلك، يبدو أن الثورة المعلوماتية بصدد إدخال تحولات أعمق إذا لم يكن بوسع المرء أن يتكهن بمآلها «النهائي»، فالمحقق أنها في الطريق ستعصف بالعديد من القيم والمؤسسات والتنظيمات التي تعتبر ميراثا بشريا ينحدر من أعماق التاريخ، مدخلة إياها إلى متحف التطور، فاسحة المجال ربما لظهور ما يمكن تسميته بـ«الإنسان الافتراضي».
في غضون عشر سنوات سيكون الفرد، مثلا، خاضعا لرقابة مشددة بحيث يستحيل عليه أن يرتكب أدنى جريمة أو مخالفة دون الإفلات من وجود شهود على جنحته. وشهود الغد ستكون هي هذه الكائنات الذكية العجيبة التي تسمى «الحواسيب»، التي ستكون حاضرة في سائر الأمكنة، داخل البيت وخارجه، ملازمة أجساد الناس والأشياء المحيطة بهم… ولنا أن نتصور شكل المؤسسات العقابية وحجمها آنذاك: أعداد رجال الأمن والقضاة والمحامين والسجون المحاكم التي سيحتاج إليها المجتمع…
في نقطة زمنية مستقبلية موغلة في المستقبل بهذا القدر أو ذاك، ستنعم الغابات براحة أبدية، ويدخل أحد وجوه استغلالها إلى حيز الوقائع التاريخية للجنس البشري، فيقول المؤرخون: «خضعت الغابات لتخريب منهجي من قبل الإنسان السابق للإنسان الافتراضي (هل سينعت بالواقعي؟)، لأنه كان يدون المعلومات في شيء اسمه الورق، والورق هو كذا، وكان يصنع من الخشب…». في الحقبة نفسها، سيقول المؤرخون عنا: «وكان الإنسان نفسه، يخضع المدينة لتنظيم هندسي معقد يستجيب للحركات الكثيرة التي كان يقتضيها قضاء مآربه. وهكذا فلشراء حذاء كان يضطر للتوجه إلى محل مخصص لهذا الغرض، وكم كانت كثيرة أعداد هذه المحلات في كل مدينة، ولسحب النقود أو شراء تذكرة سفر أو كراء محل، الخ. كان يضطر إلى التوجه إلى مؤسسات متخصصة في هذه الأغراض، تسمى وكالات بنكية، الخ. وكم كان كبيرا عدد هذه المحلات في كل مدينة، الخ.»… ولنا أن نقوم بجولة خيالية في المدينة التي سيعيش فيها هذا المؤرخ…
نحن على عتبة عصر لا يشبه سائر العصور التي عاشها الإنسان، ونعني به عصر ولادة «الإنسان الافتراضي»؛ سيتم سحب البعد الواقعي للإنسان، الذي يحصره في الزمان والمكان، إلى بعد آخر، هو البعد الافتراضي الذي يغرِّبُ هاتين المقولتين. هذا الكائن سيكون مقيما في الآلة، في الآلة العاقلة، في العالم، سينزل في الأداة المفكرة منزلة الروح، سيقيم بداخلها، بخلاف الإنسان الحالي الذي لازال يعاملها باعتبارها جسما خارجا عنه، لازال برانيا عنها بقدر ما هي برانية عنه.
الإنسان الافتراضي هو الجواب عن العجز الذي يلاقيه الإنسان الحالي في مواكبة انفجار المعارف والعلوم من حوله، بسبب ارتباطه بالعالم المادي، وحصر نفسه في الزمن والمكان، إنه إنسانٌ من صنع العلم نفسه الذي يمضي الآن منجزا حركتين متوازيتين – متلازمتين: التضاعف بحيث يستحيل على الإنسان الحالي مواكبته، ثم التغيير الجذري للإنسان الحالي (في إطار ما أسميناه بـ «الإنسان الافتراضي») كي يواكب ذلك التقدم والانفجار. لكن هذا الكائن نفسه قد يكون ثمرة لما تم التخطيط له غداة الحرب العالمية الثانية بابتكار علم السيبرنطيقا الذي يسعى – ضمن ما يرمي إليه – إلى فرض رقابة كبرى على الأفراد ومحو الحدود بين الإنسان والآلة.
الإنسان الافتراضي كائن يتخطى في الوجود الزمانَ والمكانَ، قد يكون الروح في تصور السحرة القدماء – أو هذه الكائنات التي تُسمى Les rods التي تُدرج حاليا ضمن «الأجسام الطائرة غير معروفة الهوية»(1) – عندما كانوا يقولون: تقوى الأرواح على اختراق الجدران وقطع المسافات في أقل من لمح البصر، بحيث يكون الجني هنا ولا تمضي لحظات حتى يكون في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية.
في الواقع تأتي الثورة الرقمية لتنضاف إلى ثلاثة أكبر أحداث (لا يتردد البعض في تسميتها إهانات) عرفها الإنسان: كوبرنيك (إثبات كروية الأرض، ودورانها)، داروين (الإنسان الحالي لا يشكل سوى حلقة في تطور)، فرويد (تحكم اللاشعور في العديد من سلوكات الفرد)، كما تقترن الثورة نفسها بثالث اختراع عرفته البشرية بعد الثوريتين الزراعية والصناعية، ونعني به الكهرباء.
إذا كان لا بد من الحديث عن «إهانة»، فإنها تتمثل، في حالة الثورة الراهنة، في تقويض كل ما قضى الإنسان في تشييده آلاف السنين من تمثلات للوجود، وتقطيعات للفضاء والزمن، وإعادة صياغة المجتمع، وربما حتى القضاء على الاختلاف بين الجنسين.
وكما هو الشأن في كل عصر للتغييرات الكبرى، حيث يسبق إيقاع التطور عقليات الناس الذين يتولون زمام قيادة هذا التطور أنفسهم، فإن الإنسان الحالي يمتلكه الخوف، من جهة، ويعبر عن هذا الخوف بالتشبث بقيم الماضي وأعرافه ومؤسساته وإسقاطها على الحاضر بل وحتى على المستقبل، من جهة أخرى. في هذا الصدد يمكن افتراض أن للعلم منطقا داخليا يتجاوز العلماء أنفسهم، ومن ثمة فما لم تحل كارثة كونية بالأجهزة والنظم المعلوماتية، من خارج كوكب الأرض أو على يد سكانه، فإن لا شيء يبدو بمقدوره الوقوف أمام الطوفان الرقمي.

2. أولوية الافتراضي على الواقعي
ثمة من لا يتردد في اعتبار أن عملية إحلال الشأن الافتراضي محل نظيره الواقعي تشكل جوهر التحولات التي تطبع بداية الألفية الثالثة، وأنها – بصرف النظر عن أي حكم للقيمة – تتقدم باعتبارها حركة «صيرورة» تحول الإنسان الحالي إلى إنسان «آخر». هذه الأولوية للافتراضي تتجاوز حقل الإعلاميات والتواصل إلى جسد الإنسان نفسه واشتغال الاقتصاد والمؤسسات والمقاولات…، بما فسح المجال لأسئلة من نوع: هل يجب التخوف من سحب كلي للواقع؟ هل نحن أمام نوع من التلاشي الكوني، كما يوحي به بودريار؟ هل نحن تحت تهديد تلاش تام للثقافة؟ هل نحن أمام ابتلاع رهيب للزمن- المكان، كما أعلن عن ذلك بول فيريليو منذ سنوات عديدة؟(2).
تشكل وسائل الاتصال، وعلى رأسها، شبكة الأنترنيت، أداة ومسرحا لهذه الهجرة المكثفة لقطاعات الواقع إلى عالم الافتراض؛ فمع الهاتف والتلفزة وأبناك الدم وزرع الأعضاء وعمليات التلقيح وتحولات النظم الغذائية… يشهد الجسد البشري وحواسه دخولا في شبكة من التواصلات والتنقلات صار من المتعذر معها تحديد هذا الجسد باعتباره وحدة مادية محصورة في الزمان والمكان، إذ ثمة من يقول اليوم بضرورة الحديث عن «الجسد المتشعب»، على غرار ما يتم الحديث، في حقل الإعلاميات، عن «النص المتشعب» (أو التشعبي) (l’hypertexte). مثل النص المتشعب الذي هو نص غير خطي أو مجموعة من العقد المرتبطة فيما بينها عبر تداعيات بارتباطات مرئية، تتيح السفر من معلومة إلى أخرى، صار الجسد المفرد، بما يُزرع فيه من أعضاء أجساد أخرى، ليست بشرية بالضرورة، وينقل إليه من دم محفوظ في أبناك تقع في نقط متباينة من الكرة الأرضية، الخ.، صار مجرد عقدة في نسيج، أو فقرة في نص أكبر هو» الجسد المتشعب» (أو التشعبي)(3)… ومع شبكة الأنترنيت، تحررت المقاولات والمؤسسات التجارية والشركات من قيدي المكان والزمان لصالح وجود وتنظيم افتراضيين يتيحان للعمل أن يتم عبر نقط جغرافية متباعدة، داخل البلد الواحد أو داخل بلدان عديدة، حيث كل موظف يؤدي عمله من داخل بيته…
الأنترنيت، بأبسط تعريف، هي أكبر شبكة في العالم من الحواسيب المرتبطة فيما بينها بلغة تفهمها جميع هذه الآلات. وأصالة هذه الشبكة تتمثل في نقطتين: جميع الآلات تعتبر متساوية فيما بينها، ثم الشبكة نفسها ليست في ملكية أي أحد؛ لا تخضع لأي قانون كما لا تخضع – نظريا – لتحكم أي فرد أو مقاولة. وبذلك فهي تتيح لأي فرد، من أي نقطة في الكرة الأرضية، أن ينقل أي نوع من المعلومات أو المعطيات بمنتهى السرعة.
ومع أن الشبكة، في الوقت الراهن لا زالت في بدايتها، فإننا إذا تأملنا ما تم تخزينه بداخلها في هذه المدة الوجيزة من معلومات وبناؤه بداخلها من مواقع للخدمات المتنوعة، أخذنا الدوار لا محالة؛ مثلا، لقد تمكنت شركة أمريكية http://archive.org تخصصت منذ بداية الويب، حوالي عام 1993، في الأرشفة الإلكترونية، تمكنت في نهاية عام 1999 من جمع سلسلة من الأوراق ارتفعت إلى ما يعادل 1000 قرص صلب من سعة 15 جيغا بايت. وهو حشدٌ توَاصَل في الارتفاع إلى أكثر من 100 جيغا بايت من المعطيات في اليوم، مع أننا لا زلنا في بداية الأنترنيت(4). في الواقع، إن كل ما ظل إلى الوقت الراهن حبيس المكتبات هو الآن بصدد هجرة مكثفة نحو الفضاء الإلكتروني. فمثلا، رقمنت الخزانة الوطنية الفرنسية (نقلت من الورق إلى الإلكترونيك) 950000 ألف وثيقة ووضعتها كلها على الخط رهن إشارة التصفح والتنزيل المجانيين(5)…
سيتضاعف هذا الدوار، دون شك، إذا استحضرنا ما سيصير إليه العنكبوت الأسطوري في غضون السنوات القادمة، عندما ستزداد السعة التخزينية للأقراص، ويتضاعف عدد المواقع، بحيث يصير لكل مقاولة موقعها، لكل كاتب موقعه، لكل فرد علبته البريدية الإلكترونية، لكل مدينة موقعها، لكل مقاطعة حضرية موقعها، لكل مكتب للحالة المدنية موقعه، الخ. آنذاك، سيكفي الدخول إلى موقع ما، وإذا بالروابط التشعبية تتضاعف، وتتكاثر وكلما ولجت نافذة أفضت بك إلى نوافذ؛ تدخل موقعا لإحدى الزوايا، فيحيلك على المدن التي سافر إليها الشيخ، تدخل إلى إحداها تفضي بك – ضمن ما تفضي – إلى فنان موسيقي عالمي زارها، تتقفى أثر الفنان، يفضي بك – ضمن ما يفضي – إلى المعهد الذي تعلم فيه الموسيقى، فإذا بك بالمدينة، فإذا بك في متحف، فإذا بك بحلبة لسباق السيارات، الخ… سينتقل العالم الواقعي حرفيا إلى عالم افتراضي، وهو ما لم يعدم الإحساس به الآن: فثمة من يقول بأنه، في غضون عشرين سنة المقبلة، ستظهر شاشات كمبيوتر كبيرة تسع لعرض بحر المعلومات التي ستكون مودعة في الشبكة، بما ييسر على المرء الإبحار فيها بسهولة للحصول على المعلومات المطلوبة. قد تأخذ هذه الشاشات شكل حائط يعرض خريطة للكرة الأرضية، وبذلك يكفي اختيار نقطة جغرافية محددة، مدينة ما أو دولة ما، فتتدفق المعلومات الخاصة بالنقطة المختارة(6). ومن جهة أخرى، اختارت بعض المواقع حاليا لنفسها أسماء تعكس الفكرة ذاتها: تسمى موقع عربي ثقافي باسم «مرايا»، وتسمى موقع فرنسي باسم «متاهة» Labyrinthe.
يمكن القول بإمكان الأنترنيت في مدى لاحق أن يحول العالم إلى ثقوب، يكفي المبحر أن يلج أحدها، فإذا به، عبر الارتباطات التشعبية العديدة، يجد نفسه في العالم أجمع، على شاكلة ما يقع – وإن في مستوى صغير جدا – في الموسوعات التي تسطر على كلمات (تحيل القارئ عليها)، داخل نص، فما يغادر القارئ النص الأول إلى النص الخاص بالكلمة / النافدة [في النص الأول]، ويشرع في قراءة النص الثاني حتى يجده لا يخلو أيضا من كلمات مسطرة، تحيله على مقالات أخرى، وهكذا.
باختصار شديد، نحن إزاء إزاحة منهجية عن كل مركز، لفائدة وجود استعاري لا تفي بالتعبير عنه سوى الكلمات الثلاث المتداولة بشدة في حقل الأنترنيت وهي: «الملاحة» «المتاهة» و«السرف» (التزلج على الأمواج)(7).

3. المعرفة في عصر المعلوميـات
ربما ستحرر الثورة المعلوماتية المعرفة، لأول مرة في التاريخ البشري، من عدد من القيود التي ظلت تحول دون إنتاجها بشكل كبير ومكثف، منها:
أ‌) الكلفة المادية الباهضة التي تتطلبها عملية طباعة المنتوجات الفكرية والإبداعية ورواجها على مستوى القطر الواحد كما على بين الأقطار؛ بفضل تحرير هذه الأعمال من السند المادي الورقي صار من السهل نشرها واستنساخها ورواجها في سائر أقطار المعمور بكلفة زهيدة جدا لا يمكن مقارنتها مع نظيرتها في حالة النشر الورقي.
ب) الارتباط بأفراد بعينهم، هم العلماء أو الأشخاص الذين مروا عموما من المؤسسة الجامعية؛
ج) التأثر بالعوامل العرقية واللغوية والسياسية، وحتى الدينية، والأحوال الاقتصادية والعائلية للعلماء. يؤشر المنعطف الذي نحن بصدده إلى أن الأشياء ستمضي بحيث يصير العلم مثل بئر أو وعاء، بإمكان «الجميع» أن يأتي ليغرف منه، ويصب فيه إسهامه الشخصي. أبرز معلمة بهذا الصدد في الوقت الراهن هي موسوعة ويكيبيديا «العالمية التعاونية والحرة التي يغذيها ملايين المبحرين (مدرسون، كتاب، اختصاصيون، أمهات منازل، متقاعدون، علماء ميداليات ومسكوكات، بيولوجيون… أو كل من له تخصص في موضوع معين. محررة بسبع وثلاين لغة، تشتمل ويكيبيديا على أزيد من مليون ومائتي تعريفا (…) مقابل خمس وسبعين ألفا بالنسبة للموسوعة البريطانية (…) لقد خصصت المجلة البريطانية Nature وصحيفة لوموند في سنة 2006 مقالا هاما للظاهرة مؤكدتين أن ويكيبيديا تشتمل على عدد أقل من الأخطاء بالمقارنة مع بعض الموسوعات الكبرى المؤدى عنها»(8).
د) ذواب العلم في العلماء على عكس الوضع الحالي الذي صار فيه العلماء يذوبون في العلم؛ عدد هائل من الابتكارات والمنتوجات الصناعية يخرج إلى الوجود اليوم دون أن يَقترن هذا الجهاز أو ذاك باسم عالم بعينه؛
هـ) سيتم إنتاج المعرفة بشكل جماعي ومكثف أكثر من أي وقت مضى (وهذا ما بدأ فعلا، إذ تنتج البشرية حاليا في بضعة عقود من المعلومات والمعارف ما كان يستغرق إنتاجه قرونا)، بحيث يمكن للعالم الصيني أن يعمل بجوار زميله الفرنسي وزميله الموريتاني. ستكون دار العلم مشرعة على كل الرواد، كريمة مع الجميع. وهذا كله رهين طبعا برفع العوائق الحالية (السياسية، العرقية، الدينية، الخ.) التي ستبدد لا محالة في أمد متوسط أو بعيد.
سيصير بإمكان أي امرئ الاطلاع على قسم هائل من المعلومات، في سائر الحقول المعرفية، بمنتهى السهولة والبساطة. يكفيه أن يبحر في الشبكة، ويلج الموقع (أو المواقع) الخاصة بموضوع اهتمامه، ثم ها هو يغرف، ربما على قدم المساواة، كأي طالب من طلاب الحقل المعرفي المبتغى، وكأي متخصص من متخصصيه. أكثر من ذلك، يمكنه أن يتعلم في أكثر من حقل. توجد اليوم مواقع لتعليم الإخراج المسرحي والسينمائي، وأخرى لكتابة السيناريوهات، وتعلم اللغات الأجنبية، والفنون التشكيلية، والفوتوغرافيا الإلكترونية، ومواقع لتعلم الشعر، وأخرى لكتابة الرواية، الخ. ولنا أن نتصور، على المدى البعيد، جدوى بقاء المؤسسات التعليمية بشكلها الحالي من مدارس وثانويات ومعاهد وجامعات مادية…
هل ستصير المعرفة بضاعة كسائر البضائع الاستهلاكية، بحيث لا يتطلب البحث عن دراسة فلسفية أو نقدية أو نص إبداعي، مثلا، جهدا أكبر مما يقتضيه مجهود الحصول على علبة عود ثقاب من دكان؟ ذلك ما بدأت مؤشراته تلوح حاليا؛ فآلاف الكتب، المنتمية إلى المجال العمومي بالخصوص، تم وضعها سلفا على الخط، بحيث يمكن لكل معني بأي عنوان منها أن يطلع على ما يريد أو ينسخه أو يستنسخه إلكترونيا بالمجان، بل إن عدد الكتب والندوات والأطروحات الجامعية والدوريات والمجلات والمقالات الإلكترونية الموضوع مجانا رهن إشارة المبحرين، للنشر أو النسخ، يتزايد باستمرار(9). وأطرف ما يمكن الوقوف عليه في هذا الباب العبارات الموجودة أسفل موقع جيل دولوز، المتضمن لدراسات هامة عن السينما والصورة لم يسبق نشرها من قبل فضلا عن بعض كتبه، والتي تدعو الزائرين بما مفاده: «هذه النصوص لكم، فاستنسخوها إلكترونيا، انسخوها، قرصنوها، فبتاريخ كذا سنرحل من هذا الموقع»(10)… وباختصار، فإن المواقع بصدد التهجير الحرفي لما هو كائن في العالم المادي إلى الفضاء الافتراضي، وبذلك يجد الجميع عمليا فرصة، مكانا، في الشبكة لعرض ما شاء وقول «ما شاء» وأخذ ما شاء…
هل نحن على أبواب دمقرطة للمعرفة؟ يرى الكثيرون، وفي مقدمتهم دعاة الأنترنت الحر والبرامج مفتوحة المصدر والهكرز، أننا بعيدون كل البعد في الوقت الراهن عن ذلك، والهكرز يناضلون بطرقهم الخاصة التي تمضي حد «التخريب» لإقرار هذه القيمة(11)… ومع ذلك، فقد يكون ما سبق وحده مبشرا بدمقرطة مثلى للمعرفة، لم يحلم بها أي مفكر أو مبدع أو قارئ على مدار التاريخ. فعدد العلماء والباحثين الذين يحيلون على مواقعهم في تزايد مستمر، والإحالة، داخل نصوص الدراسات الإلكترونية، على المواقع والوثائق الإلكترونية في تزايد مستمر، مما يتيح للقارئ المبحر أن يتحقق من نص الإحالة دون بذل أدنى مجهود، إذ يكفي النقر على نص الإحالة – الرابط، فيملأ المصدر أو المرجع المبحوث عنه واجهة شاشة الحاسوب.
يبدو أننا نجتاز مرحلة انتقالية أخذ ينشأ فيها نوع من الغرابة بين شكلين للمعرفة والتعلم: فمن جهة، ثمة مقالات وكتب، بل ومواقع بكاملها، تحلل الكتب الورقية وتحيل إليها، أو تعرضها للبيع، مكتفية بتقديم الصفحة الرئيسية للكتاب أو محتويات عدد المجلة..، وهنا تبدو المادة المحللة عالما غريبا على القارئ الذي يحس كأنه يحال على عالم غيبي، مما يجعله يطرح السؤال: إذا كنتُ أمام هذا الحشد من المعلومات التحليلية لكتاب، فما منع أن يُدرج النص الكامل على الخط كي أعود إليه الآن، وأستشير الفقرات والفصول المحال إليها؟ ومن جهة أخرى، ثمة مادة معرفية تقدم نفسها كاملة مدشنة شبه قطيعة مع الكتاب المادي، فيجد المبحر مجلات وكتبا، فيها ما هو ذو مستوى أكاديمي رفيع، ينشرها أصحابها لأول مرة على الويب، دون أن تكون لهم نية – فيما يبدو – لإحالتها على المطبعة. من ذلك، مثلا، بعض أعمال شعبة الوسائط التشعبية بجامعة باريس الثامنة(12)…
عندما يضع أستاذ ما درسا على الخط، ويضع رهن اختصاصي هذا الحقل المعرفي أو ذاك مؤلفا ما رهن إشارة كل مبحر، فإنه يكون قد عرض بضاعة في السوق العالمية، حيث ستستقطب المهتمين والمختصين في العالم أجمع. ستثير المادة المعروضة لا محالة ملاحظات عديدة أو تساؤلات لن يتردد أصحابها في توجيهها إلى كاتب الدراسة أو صاحب الدرس الذي سيستفيد منها في حدود قد تصل إلى إعادة تحرير بعض من فصول كتابه، الخ… ونتيجة ذلك في جميع الأحوال هو أن موضوع المعرفة سيغتني، والبقاء سيكون للأشد تماسكا وإقناعا، والفناء للأضعف. نحن أمام مؤشر لنهاية المعرفة باعتبارها إنتاجا فرديا.
لا ننسى أن قيم الواقع ستنتقل إلى الافتراض أيضا. سيسعى المهرجون إلى البقاء، والسعي لحجب الأصوات الأقوى، عن طريق حسن اختيار المواقع أو تيسير سبل ولوجها من لدن مبحري الشبكة، بفتح أبواب واسعة وتعليق لافتات تجذب البصر من بعيد، مما يجعل مسألة المصفاة تطرح بحدة غير مسبوقة في التاريخ على نحو ما سنعرضه في إحدى دراسات هذا الكتاب.
——————
هوامــش
(1) هي أجسام شفافة يترواح طولها بين 10 سنتمترات إلى 10 أمتار، ولها قدرة على اختراق الأجسام الصلبة والطيران بسرعة 10000 كلم في الساعة، ينظر في هذا الصدد جوعة من الأشرطة الوثائقية انطلاقا من مكتبة منتديات ميدوزا، قسم الأشرطة الثقافية والوثائقية:
http://www.midouza.net/vb/forumdisplay.php?f=145
وبالخصوص شريط:
Ovni rods, vos nouveaux amis:
http://www.midouza.net/vb/showthread.php?t=6406
(2) Pierre Lévy, Les chemiens du virtuel:
http://hypermedia.univ-paris8.fr/pierre/virtuel/virt0.htm
(3) نفسـه.
(4) – Christian Vandendorpe, «La Lecture de l’hypertexte», 2000:
http://www.arts.uottawa.ca/astrolabe/articles/art0006.htm/Lecture.htm
(5) قابلة للتصفح والتحميل من مكتبة «Gallica»، بموقع الخزانة الوطنية الفرنسية: www.bnf.fr.
ويذكر أن المكتبة الرقمية للخزانة الفرنسية التي أنشأت منذ 1996، تتضمن حاليا 300000 كتابا رقميا يستشار في عين المكان عبر ما يسمى بـ «القراءة المدعومة بالحاسوب». انظر، على التوالي:
– Alain Vuillemin, «L’Avenir de la lecture interactive»:
http://www.uottawa.ca/academic/arts/astrolabe/articles/art0027.htm
– Roger, Chartier, «Du Codex à l’Ecran: Les trajectoires de l’écrit» :
http://biblio- fr.info.unicaen.fr/bnum/jelec/Solaris/d01/1chartier.html
(6) «كيف ستكون الشاشات في عام 2020 أو 2050؟ ربما سيكون آنذاك بالإمكان وضع عمودين من الزجاج الصافي السائل بالسهولة التي توضع بها المرايا، وبالتالي تركيب شاشات تغطي موائد أو جدرانا بكاملها. آنذاك، يمكن اختيار استبدال استعارة المكتب (…) باستعارة الخريطة لمساعدة المستخدمين على التجول في العالم الافتراضي وتحديد مواقع المعطيات فيه. يكفي النقر على نقطة في هذه الخريطة للعالم وهاهي كنوز اللوفر تعرض هنا، وهناك [تعرض] قاعة حفلة موسيقية بأوريون الجديدة أو سكالا ميلانو، وحي الأعمال بنيويورك…». يُنظر:
Christian Vandendorpe, «La Lecture de l’hypertexte», op. cit.
(7) Joël DE ROSNAY, 2020: Les Scénarios du futur. Comprendre lemonde qui vient, Des Idées & des Hommes, Paris, avril 2007, p. 94.
يمكن تنزيل النسخة الكاملة للكتاب انطلاقا من الموقع:
http://www.scenarios2020.com/livre/
(8) نفسـه.
(9) يمكن الوقوف على حشد من روابط مواقع الموارد الوثائقية المجانية في صفحات «مواقع مفضلة»، ومكتبات الموقع»، و«كتب مجانية» بموقعنا، على التوالي:
http//aslimnet.free.fr/bibliotheques.htm
http://aslimnet.free.fr/liens_favoris.htm
http://aslimnet.free.fr/services/services/livgrat.htm
(10) اختفت العبارة من الموقع الجديد للفيلسوف الفرنسي، والكائن حاليا بالعنوان:
http://www.webdeleuze.com
(11) في هذا الصدد، يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى موقع:
http://biblioweb.samizdat.net
(12) http://hypermedia.univ- paris8.fr

الاخبار العاجلة