م. أسليم، حديث الجثة: (8) خـارج المدار البشـري

1٬384 views مشاهدة
minou
حديث الجثةمؤلفــــات
م. أسليم، حديث الجثة: (8) خـارج المدار البشـري

لْم أعْرِف ولن أعرفَ، طالما حَيِيـتُ، بهيـأة العُشْب، هذهِ التي تلُفُّني الآن، أي رغبة موحشةٍ عاتية ساقتْ إلى عقلي تلك الأفكارَ الجهنمية آنذاك، إذ لم أفطن إلاَّ وقد صعدتُ إلى سطح العمارة، وجلستُ في حاشيته بحيثُ وضعتُ مؤخرتي على السُّورِ الأفقي المؤلف للسطح ودليتُ رجليَّ على الجدار العمُوديِّ المشرفِ على السَّاحة، ثُمَّ اتكأتُ بكلتي يديَّ واستمسَكْتُ كي أُلْقِي بجثتي في الهوَاءِ.. لحظتها بدَا النَّاسُ في ساحةِ العمارة كجماعَاتِ نملٍ تائهةٍ، ككائناتٍ مجهريةٍ… بيني وبينَ بني البشرِ مسافة شاسعةً لا يحيطُ بها وصفٌ أو عدٌّ، لا يقفُ عليها المـرءُ إلا إذا اعتلى شُرْفَةَ هذا البرج الـذي أطلُّ عليكم منهُ الآنَ . لكنْ مَن دلَّنِي على الوقوف في هَذَا المكَان؟!
ما أن رآني أحدُ الجيران – وكان شيخاً مُسِنًّا وقُوراً – حتَّى تدلَّى على وجههِ قناعٌ من الحسْرة. أطلَقَ صرخةً ناهِيةً عُظْمَى. أرسل إلي كلماتٍ كثيرةً موقَّعَةٍ بإشاراتٍ وخبْطٍ علَى الرِّجلين.. لم أفهم أيَّ شيء مما وَدَّ نقله إلي لأن أذني كانتا قد أُغْلِقَتَا، وعقلي تعطَّلَ وذاكِرَتي ولجَتْ أولى عتبات النِّسْيَان. كنتُ على وشْكِ الخرُوجِ من المدَار البشَرِيِّ، ولذلك بدا لي ذلكَ الشيخُ كقرْدٍ أو ببغاء يقلد حركاتِ أو كلمات مُرَوِّضٍ قاسٍ مِلْحَاحٍ. تردَّدَ في خاطري أيُّ رابطٍ سيربطني به عندما سأتحـوَّلُ بعد قليلٍ إلى ذرَّاتٍ تتحلَّلُ فتصير غُبَارا يعترش فوقه العُشْب والشَّجَر وتجرفه ميـاهُ الأنهارِ والوديـان..
تسـَارع الناس تجاه المكان الذي كنتُ سأسْقُط فيه. وأنا جالسٌ، على وشْكِ الارتماء في الهواء، تردَّدْتُ كثيرا. غالَبَنِي النَّدَم الأكبر. هل أعدُلُ عن هذا القَرَارِ القاسي الرَّهِيب؟ فقد كُنْت أحظَى بسمعةٍ طيِّبَةٍ وتقديرٍ كبيٍر بينَ الأهلِ والجيران، ولذلك هانَ عليَّ تسليم الرُّوح ومكابدة الآلام التي ستُسبِّبُها لي بعدَ قليل كُسور عظامي وانهمارُ دمائي ولم يهُـن علي أن أتراجعَ عن مجابهةِ موتي أو تُحْبَطَ محاولتي. إنْ أفعل فسيستفزّني الأهلُ والجيرانُ بالأسئلة والإفراط في نعتي من الخلفِ بالأصابع… لذلك غالبتُ ندمِي بنشوة ممتعضةٍ. في تلك اللحظة بالضَّبْط حلَّ محـلَّ ندمي الأول ندمٌ ثانٍ: قلتُ: «يا لغباوتي! لماذا اخترتُ هذه الطريقة «المتوحِّشَة» في إخراج موتي؟» الآن فقط أُدْرِكُ أنَّ أحسن طريقةٍ يملكها المـرْءَ لصُنْع موته هي أن يتناولَ أكياسَ أقراصٍ ما تكادُ تجتاز حنجرته حتـَّى تُنِيمُه وتميتُـه فما تدعُ له وقتا حتَّى للإحساس بصيـرورَة الانتقال منْ حالةِ الوعي إلى فقدانه. لكنْ ما فائدة هذا الإدرَاكِ الآن وقدْ فاتَ الأوان؟!
لما يئس الشيخُ من استجابتي لتوسُّلاتـه اندفع وداهمَ باب العِمارة صاعداً الدرج رفقة جماعة قصد إمسَاكي. استجبتُ لمبادرة الجمعِ بإلقاء نظرةٍ ذاهلة إلى الأسفل؛ ألقيتُ بما كان في جيبي من أقْلاَم ونُقُود، ثُمَّ أتبعتُها بالقميص وزَوْجِ الحذاءين اللتين كنتُ أنتعلهما، أو بالأحرَى تركتُهُما تنسلاَّنِ من رجليَّ…
عندما افترقَ زوْجُ الحذائين عن قدمي أحسستُ بشبـه رعشةٍ وألمٍ يدب في صفحةِ حَافِري. سقط الحذاءان. تابعتهما ببصري طويلاً وهُمَا يهويان على الأرضِ. لم أفهم آنئذٍ لماذا قمتُ بذلك الفعل، ولا لماذا انصرفتُ إلى ذلك التأمُّل. لكن الآن وقدْ ارتسمتْ مسافةٌ طويلةٌ بيني وبين لحظة موتِي، يمكنُ أن أعرف السَّبَب: لقد كان الموتُ يهيِّءُ نفسَهُ للانقضَاض عليَّ. وكان فعلي، ذاكَ، هو الطقسُ الذي يدشِّنُ الموتُ، مِنْ خلاله، المجزرةَ الفظيعةَ القاسيةَ التي كنتُ علَى أبوابها. ثمَّ وأنا جارٌّ جَسَدِي إلى الهاوية، إلى فعلٍ لم يسبق له أن جرَّبَه مِنْ قبل، كنتُ أقمت هوَّةً لا تُرَمَّمُ بين الشخصين أو الجثتين اللتين صِرْتُ إياهمَا في تلك اللَّحْظَةِ:
كَانَت الجثَّةُ الأولى مصممةٌ بما لا رجعة فيـه علَى الارتماء، والثانيةُ رافضةٌ رفضاً مطلقا تنفيذ ذلك الفعلِ. كان الخاطرُ يبحث عن خلاصه في المحو. وكَانتِ الجثَّةُ هي المرْكبُ الـذي سيُوصله إلى ذلكَ المحو. لكنَّ تمام الإبحار لم يكنْ ممكناً إلا بتحطُّم المركَبِ الذي امتطيتُهُ (أو امتطاني؟!) كأنَّ الجثَّةَ الثانية – مَعَ انصياعها على مضَضٍ لأمرِ الأولى – كانت ترغب في اختبارِ الأثر الَّذي سيُخَلِّفُهُ السُّقُوط في الحذاءين قصدَ اسْتِسْهَال المهمة أو استصعابها أو كأنَّها كَانت تستأنسُ بفعل السُّقوط أو تحاول تدجينَه. كأنها كانتْ تنقله مِنْ وضع الحركَة الشاذَّة – أو النَّادرة – الحدُوثِ إلى وضع الفعْلِ العادي. كأنِّي بها كانتْ تخاطبُ نفسَها قائلةً: «لستِ أوَّل من سيُلقي بنفسِه مِن هذا المرتفَعِ. فمِنْ قبلك ارتمتِ الأحذيةُ والأقلامُ والنُّقودُ والملابسُ…»…
نزلتِ الأشياءُ التي ألقيتها بطيئةً رتيبةً كحسَانٍ مُتَهَاديات، ثمَّ حطَّتَا فَوْق صفحةِ الأرض في أمَـانٍ…
*
* *
لكنْ، الآن فقط أُدْرِكُ أيَّ غبن وغباوة كانا يلُفَّاني آنئذ. إذا كانتْ تلك هِي معاني فعل إسقاطي للأشياءِ التي ألقيتُ بها في الهواء قبيل ارتمَائي من سَطْحِ العمارة، فقد كنتُ أبني استنتاجاً على مقدِّمَات عرجاء: فقدْ جعلتُ نفسي من جنسِ الأحذية، والأقلامِ، والملابس… لَقَدْ حَذَّوْتُ نَفْسِي وَقَلَّمْتُهَا وَلَبَّسْتُهَـا، إن جاز هذا التعبير، فاعتقدتُ أن مَتَمَّ سقوطي لن يُلْحِقَ بي إلاَّ مَا يَلْحَقُ بالأحذية والأقلاَمِ والملاَبِسِ بعد رمْيِهَـا. ولعلَّ مـا يؤكد ذلـك كَوْنِي، بعد ارتمائي، نزلتُ على رِجْلَيَّ ولم أنزل على رأسي، مما يعني دون شكٍّ أنني ظللت، رغم كلِّ شيءٍ، أظنُّ أنني سأواصلُ الحياةَ بعد السُّقُوط. لكنْ، أُوَاهٍ! ثم أُوَاهٍ! فما أنْ ألقيتُ بنفسي حتى أدركتُ حقيقة أنَّني لم أكُنْ حذاءً ولا قميصاً أو قلماً، كنتُ عِجْلاً أو صخرةً أو كيـسَ إسمنتٍ، ولذلك هويتُ بأسـرع من كُلِّ ما قد يخطُرُ على بال امرئ حيٍّ. فلحظةٌ أقلُّ من رمشَةِ عين كانت كافيةً لتهشيم عظامي وتحويلِ جسدي إلى رميـمٍ…
لكن، الآن وقدْ تحوَّلْتُ إلى ذرَّاتٍ تتحلَّلُ وتتناثر، ثم تنزل إلى الأرض، فيعترشُ فوقها العشبُ والشَّجَـرُ، وتجرفُهَـا مياه الأنهَار والوديان، ما فائدةُ هذا «النَّقْدِ»؟!
إنِّي لا أطمع في عودةٍ إلى الحياة )أقصِدُ الحياةَ بهيأة البشَرِ( ولستُ بنادمٍ على شيءٍ، ولا أفكِّرُ في أي شيءٍ. لستُ حـزينا ولا مَسْرُوراً، لستُ قلقا ولا فرحاناً، لا نادماً ولا مطمئنا… فما الكلامُ الذي أفوهُ به الآنَ إلاَّ بعضٌ من طَرَاوة النَّسِيم، وندى العُشب، وألوانُ قزح، وحنين الرِّياح، وهديـرِ الموجِ، وأزيز الرَّعْدِ، وقرع الطبول، وخريـر المياه. فيا معْشَرَ الأحياء! خَسِئْتُمْ إن ظننتم أنَّ وُجُود هَذه الحياة مُتَوَقِّفٌ على وجودكُم أو أنَّكُم وحْدَكُمُ الأحياء، أو أنَّ شكلَ الحياة الوحيدَ الممكن هُوَ الحركةُ والنَّفَسُ والكلام والهيأة المجسَّدَةَ. ارهفوا آذانكَم وافتحوا أعينكم تَرَون كم يحيـط بكم من «أشكَال» الحيَوات التي لا يحيط بها عَدٌّ ولا حصرٌ. أطِلُّـوا من شُرفة مداركُم قليلاً تتحقَّقُوا من وُجودنا وتسمعوا لغاتِنَا. ومتى تحقَّقْتُم مِنْ ذلكَ وجَدْتُم أنَّنا وإياكُم لا نعدو أحَدَ اثنين: فإمَّا أنَّكُم سؤالٌ نحنُ الجواب عنه أو أنَّنا سؤال أنتم الإجابَة عنه. فكُفُّوا عن الأوهام وتعالوا نؤثث هذا الوجود بصيغةٍ أجملَ وأكْملَ، تمحو اللُّغَة، وتُعْدِمُ الفِكْـرَ، وتُبَخِّرُ الهيأةَ، وتنصِّبُ النَّشْوةَ الذاهلةَ الفرحانةَ بديلا لكلِّ إحسَـاسٍ وَوُجُـودٍ…
*
* *
ما إن لاحتْ لي صلعةُ الشيـخ من الباب المفضي إلى سطحِ العمارة حتَّى ألقيتُ بنفسي إلى أسفـل. هلْ كان ذلك الشَّخْصُ هو السبب في موتي؟ لستُ أدري! لكن كل ما أذكُرُه الآن هو أن كل شيءٍ تَمَّ وكأنَّ موتي كان سيكُون في تمكُّن الجماعة من الإمساك بي، أي كما لو كان موتي هُوَ أن تفلحَ [الجماعـة] في منعي من الارتمـاء، وكما لو كانت حياتي ستكونُ في إفلاتي من قبضةِ مُطَارِدِي. بتعبيرٍ آخر، لما أوشك القومُ على القبْض عليَّ وجدتُ نفسي مضطرّاً أن أُلقي بنفسي إلى أسفل كي أتجَّنب الموتَ/أتخلَّصَ منهم/أُوَاصِلَ الحياة. وما يؤكد ذلك هو كوْنِي، بعد ارتمائي، نزلتُ على رجليَّ ولم أهبط علَى رأسِي، مما يعني دون شكٍّ أنَّني، رغم كل شيءٍ، قد ظلَلْتُ أظن أنني كنتُ سأبقى حيّاً بعد السُّقوط. نعم! ذاك هو المنطقُ الذي فكَّرتُ به في تلك اللحظةِ. ولاَ تسْتَغْرِبُوا فقد حضرتُ في روضة الموتى مجالسَ سمعتُ فيها شهاداتٍ لو سمعتمُوها لَتمزقَّتْ أحشاؤكم سخريةً وشفقةً على هشاشة المسَالك التي تُفضِي أحيانا بالإنسَان إلى الموتِ، ثمَّ قلتم مستغربين: «أهذا هُوَ الإنسَان؟!». نعمْ، ذاك هو الإنسان. ومن شاءَ التأكد فلينتظر أن تَتَمَطَّى عليهِ ظلالُ الكائن – المعتـرشةُ بداخلهِ – لحظةَ يداهمُهُ زلزالٌ مروعٌ، أو فيضانٌ مهولٌ، أوحريقٌ مرعبٌ، ثم ليراقب تلك الحركاتِ والتَّصَرُّفات التي ستصدر عنه إزاءَ من يحيطون به مِمَّن كانَ يدْعُوهم إلى ذلك الحينِ «أهلاً»، أو «أقاربَ»، أو «أحباباً»…
اقتربَ منِّي الجمع الذي يروم إنقَاذِي. أسندتُ جثتي علَى صفحتي يدِي وِرجلاي مُدَلاَّتين في الهواء، ثمَّ استمسَكْتُ وثبتُّ يديَّ علَى السَّطح بقوة وسحبتُهما ملقياً بنفسي في الخواءِ. فعلتُ ذلك بجسَارَةٍ نادرة يلُفُّها شعـورٌ مـزودج: دقَّاتُ قلب سريعة (أهي بقيةُ الفزع الذي أثارتهُ فيَّ جماعةُ الجيران التي أوشكَتْ علَى إلقاء القبـضِ عليَّ ومنعي من الارتماءِ أم هي بداية الهلع منَ المصير الَّذي ستؤُول إليه جثتي بعد ثوان؟)، ثمَّ فرحةٌ عارمةٌ لخلاصِي من الوقوع في قبضة الرَّاغِبِين في إنقاذي. لكنْ مَا أن اجتاز جسَدي أولَ طابـق، من الطوابقِ العشـرة، في اتجاه الأسفل حتَّى غدا الأمرُ مِنَ القوَّةِ والرُّعْب بحيث اضطررتُ لإغماضِ عيني. ألفيتُنِي هاويا بسرعةٍ لا تُصدَّق. عمَّ جسدي ارتعاش مفرطٌ. اجتاح صفحـة قدمَي ذلك الإحساسُ نفسه الذي يكتسح رِجْلَيِ المرءِ قُبَيْل أن تهوي عليهما أولُ ضربةٍ من هراوة جلاَّدٍ قـاسٍ لا يعرف رحمة ولا شفقة مصمِّمٍ على تهشيم عظامِ ضحيته ضربا. لقد وضعني ارتمائي أمامَ الأمر الواقعِ؛ أمام الحقيقة القاهِرَة المتمثلة في حتمية موتي واستحالةِ إمكانية عودتي أو تراجُعِي. عاودني النَّدَم.. لكنْ هذه المرَّة ليس ندم اتخاذ قرارِ الموت، كما حصلَ في المرة الأولى، ولا ندم اختيار هذهِ الطريقة «المتوحشة» بـدل طريقةِ تناول كمية كُبرى من العقاقير القاتِلَة، وإنما فقط ندمُ كَوْني لم أمكث جالساً فوق سطح العمارة؛ ندم كوني ألقيتُ بجثتـي منَ السَّطْح لأن الحياةَ عندي اختُزِلتْ إلى وضع الجلوس الذي غادرتُهُ قبل لحظة. وأنا هاوٍ إلى أسفل، نسيتُ الشيخ، والجماعةَ، وعائلتي، وحياتي، ومنزلي، وأهلِي… غامَتِ الحياةُ في ذهنِي وتقلَّصَتْ ذكراها والرغبة فيها في مشهدِ جلوسي على حافةِ سطْح العمارة. أُجْهِدُ عيني كي تنظُرَا إلى السطح. لا أقوى على رفع رأسي لأنِّي ساقطٌ بسرْعَةٍ مفرطةٍ، أحاول الإمساك بحاشية إحدى هذهِ النوافذ والتعلُّق بها. لا أقوَى على ذلكَ. فما من واحدةٍ منها إلا وتمرُّ بمحاذاتي مرُورَ البرق أو أسرع. أتمنَّى لوْ تَنْبُت لي أجنحةٌ بالسرعة ذاتها فأطير. يعاودني السـؤالُ الذي ما انفككتُ أطرحُهُ منذ وضعتُ قدمي في هذه الحياة: «أحقّاً أنِّي وُلِدْتُ بأكملِ هيأةٍ؟ لماذا لم أُولَد بأجنحةٍ كالطيور؟ لماذا وُلِدْتُ بيدين، ورجلين، وطحالٍ، ومعدةٍ لا تكُفُّ عنْ إيجاعي، فأَبْكي على رأْسِ كُلِّ ساعة طالبا الرَّضَاعة؟». إن هيأةَ هذا الطَّائِـر الصَّغير الذي ينتهي إلى أذني الآن صفيرُهُ، والذي لم أكف طوال حياتي عن النَّظَر إليه بإشفاقٍ ممزوج بكبرياءٍ، بذريعة أنِّي أذكَـى المخلوقات وأعقلها، بذريعة أني خُلِقْت في أكْمَل هيأة… إنَّ هيأة ذلك الطائر الآن لَهِيَ طوقُ نجاتي ومفتاح بقائي الممكِنِ في هذا الوجود. لكِنْ من أينَ لي أن أطير، أنا الَّذِي سُجِنْتُ داخل هيأة أُنْزِلَتْ منزلة ذوات الأربعِ فما تستطيع التنقُّلَ إلا دبّاً أو مشيا! تتراكضُ في ذهني أماني بهيأة أسئلةٍ عديدة لكنها لا تِجدُ من جوابٍ سوى هذه الحقيقةِ المأساوية المتمثلة في إقبالِ جُثَّتِي علَى المحو بعد أن تتهشَّمَ في رمشة عينٍ وتتحول إلى رميمٍ: لماذا سُخِّرَتْ هذِه الجاذبية للحيلولة بيننا، نحنُ بني البشر، وبين القُدْرَة علَى مَشْيٍ مُزْدَوِجٍ، على الأصابعِ والحوافرِ، يُتيح لنا التحرُّكَ في الأرض والفضاء كما لَوْ كنا أسماكا؟…
جسدي الآن نازلٌ إلى قعر الهاوية، على مشارفِ الكارثة، فما أحْوَجَنِي إلى الشَّفقة، ثم ما أحْوَجَنِي إليهـا!!!
وأنا هاوٍ، تضخَّم الإحسَاسُ بداخلي وتمطَّط الزَّمن حتى أصبحتِ المدة التي استغرقها سقوطي تعـادل مجموع سني حياتي أو أكثر. أحسستُ كأنني أدبُّ أو أزحفُ نحو الأسفل وكأنَّ سقوطي سفرٌ حقيقيٌّ يعادلُ الانتقال من مجرَّة إلى أخرَى: صارتِ الطوابقُ تصعَدُ الواحِد تِلْوَ الآخر في حركةٍ مُعاكسةٍ لاتجاه جسَدي ببطءٍ رتيبٍ أنسَاني رُعْبَ اصطدامي المرتَقَبِ بصفحة الأرض إلى أن استعجلتُ تحققـه لأتخلَّصَ من الرُّعب الأول، خاصَّة وأنني بعدما تكيَّفتُ مع وضعي الوُجُودي الجديد، وركَّزتُ عينَّي في الأرض، أخذتْ هذه الأخيرة تبدُو لي هي الهاوية عليَّ؛ خُيِّل إلي أنني كنتُ كائنا يحيا في الفضاء، في وضْعٍ مقلوب بالمقارنة مع بنـي البشرِ: صارَ ما يسمونه رَأْسـاً – بالنسبة إليَّ – قدَما، وصَار ما يسمونه رِجْلاً – بالنسبة إلي – رأسا. أهي أُمْنِيَة المشي المزدوج تحقَّقَتْ أم تُرَاني بالاستيهام احتميتُ من رُعْبِ السُّقُـوط؟!

*
* *
أوَّلُ ما اصطدمَ مِنْ أعضاء جسدي بالأرض القَدَمَانِ. كَانَ الاصطدامُ من العنف، لثِقْلِ الأرض، بحيثُ ما أن لمسَتْ صفحتا قدمَيَّ الأرض حتى هَوَى فخذاي والنِّصْف الأعلى مـن جسَدي على السَّاقين. تمـزَّق جِلْدُ ركبَتَيَّ.. خرج منهما رأسا قَصَبَتَيِ السَّاقين وعظَمَا الفَخِذين بعدما انحلَّ مُلْتَقَى تَمَفْصُلهِمَا. هَشَّمَتِ الرَّضْفَتَانِ قَصَبَتَيِ الساقين. تعالى سَيْلُ الدِّمَاء الفوَّارَة. ترتَّبَ عن متمِّ انطواءِ رِجْلَيَّ والتقاء عَظْمَيِ السَّاقين بِعَظْمَيِ الفخذين اصطدامٌ عنيفٌ لِعَجُزِي وعُصْعُصَتِي وحَرْقَفَتِي بالأرض.فتهشَّمَتْ كلها عن آخرها. وخلال الضغط المترتِّبِ عن اندفاع نصْفِ جسَدِي – السُّفْلِي، الذي اصطدم بالأرض- إلى أعلى وانهيار النصف الآخر (العُلْوِيِّ) انقضَّ عليَّ الموتُ: تهشَّمت عظـامُ قَفَصِي الصَّدْرِيِّ فور انْعِجَانِ ما بينها من لحمٍ وعظمٍ وعَصَبٍ، ثم تسرَّبَت الأحشاء، والرئتان، والطِّحال، والقلب. انبعثت في المكَـان تلك الرَّائحة ذاتها التي تنبعث من البهائم لحظةَ ذبحها وسلخهـا وتفريغ أحشائهـا… تداعتْ أعضائي كما تتداعى صُرُوحُ المدُن تحت الزلازل العُظمى. أحدث ذلك رجَّةً عنيفة. واكب الـرَّجَّـةَ ألمٌ أعظمُ وأبهى. كأن ديناميتَ بداخلي يتفاعلُ، على وشْكِ الانفجار ولا ينفجرُ. للخلاص من هـذا الألم، أتمنَّى لو أن مخالبَ طويلةً حادة تنهـشُ لحمي نهشا فتحيلُه إلى أشلاء؛ لو أنَّ أسرابا من النُّسُـور والغربان تحطُّ فوق هذه الجثة/الوليمة وتلتهمها في بضع ثوانٍ…أَعْقَبَ ذلك الألم المرعب لذة اعتصرتني كما تعصرُ المـرءَ رعشـةُ الإنـزال. حدثَ ذلك في أقل مـن لمـح البصرِ، ولذلك تهاوَى الإحسَاسُ بداخلي، ثم خرجتُ عن المـدار الإنسانيِّ تاركا جسدي يرتعشُ. وخلال ذلك كلِّه كان المشهدُ بدمائه الفوارة الحمراء الملفوفة بالصَّمْت والغُبْن والعجْزِ يُذكِّرُ بذبحِ عجلٍ أو خـروف في مجزرةٍ بشعـةٍ…
*
* *
انحنى الشَّيخُ على رأسي. فتَحَ رمْشَيْ عينـيَّ باحثا عن أثرٍ للحياة فيهما. لم يجدْ داخل العينين الغائرتين في محجريهمَا إلا بياضا. أطلقَ زفرَة حسرةٍ عميقةٍ، وقـال كلاماً كثيرا لم أتبيَّن منه سوى كَلِمَتَي: «اَللَّـه! يَا لَطِيـف!» اللتين تردَّدتا كثيرا. تجمهرَ حول الجثَّة الممدَّدة حشدٌ من الجيران وأهلِ الفُضُول. بدا المشهدُ كمسرحيـةٍ بشِعَةٍ مؤلمة. ساد صمتٌ رهيبٌ. أحسستُ بالصِّغـر والغبن لكوني، من جهـةٍ، تحولتُ إلى موضوع فرجةٍ لا أملكُ فيها حتى قدرة الامتناع عن أداءِ الدَّور الذي «كُلِّفْتُ» بأدائه فأحرى إباحة مُشَاهَدَتِي أو حظرها على الآخرينَ بالنظر إلى أنني لم أعُدْ مِلكا لنفسي، ولكوني، من جهةٍ أخْرَى، تشيَّأْتُ: تحوَّلتُ إلى ما يشبه كيساً مُهْمَلا أو حجرا مُلْقى على قارعَةِ الطَّرِيقِ.
دارتْ بخاطري أفكارٌ كثيرةٌ. انفتحتْ مغالقُ اللغة بدهَاليز عقلي. أردتُ أن أنقُلَ قدْرا زهيداً ممـا أشرقَ عليَّ من المعارف والحِكَم والأسْرَار. لكنْ كلَّمـا رُمْتُ تحريكَ لساني وجدته صلبا كالحجر. أيقنتُ أنني قد غُبنتُ. أحاول أن أطلق صرخةً مُدَوِّيَةً. لا أقوى على فعل أيِّ شيءٍ عدا البقاء في وضع التَّمَدُّدِ جثةً هامدةً صامتة ملفوفةً بالصَّمت والغبن والحقد على نفسي وعَلَى من تخلَّفُوا من ورائي: على نفسِي لكوني عجَّلْتُ بوضع حدٍّ لها. لماذا لم أترُك هذه الجثة تقتاتُ، وتسيرُ، وتفرَحُ، وتَنْكِحُ، وتبكي لمدة أخرى من الزمن إلى أن يناديها صاحبُها ويمحوها من بعيد؟… وعلى الآخرين لأنَّ لا أحَد منهمُ الآن يحسُّ بعمقِ هذه المأساة التي عجَّلْتُ بإخراجها عِلْماً بأنَّهم مهمَا طالت بهمُ الأعمار فمآلهم إليها. هُمُ الآن يركضون ويملأون ظهرَ الأرض كلاماً وضجيجاً وضراطاً: أحدُهُم الآن راكبٌ فوق أنثى مستسلما لنشوة الجماع يَنْعَصِرُ؛ آخرٌ يتلذَّذُ الآن، في اللحظة نفسها، بتأمُّل مشاهد المرُوج المعْشَوْشِبَـةِ الزَّاهرة على إيقاع أصوات الطُّيور؛ آخر يتصبب الآن، في اللَّحْظة ذاتها، عرَقا من جراء تصلُّبِ عضلاته واستمسَاكِهَا المرَّة تِلْوَ الأخرى ليَهْويَ على سطح الأرض بفأسٍ أو يشقها بمحراث؛ آخرٌ يعصر دماغُه الآن، في اللحظة نفسها، لحلِّ معادلاتٍ رياضية أو إنجاز تجاربَ كيميائيةٍ. آخرٌ قاعدٌ الآن، في اللحظة نفسها، فوق طشْتٍ يفرغ بطنه وأمعاءه… وأنا الآن أنْعَصِرُ من الألم ماضيا نحو محوِي وحيدا صامتاً عاريا. لو كنتُ علمتُ أنَّ لحظة الاحتضار كانتْ ستكونُ بهذه المرَارَة لسُقْتُ معي قطيعا ضخما من الأحياء؛ لقتلتُ معي ما استطعتُ من الناس كيْ أُضَاعِفَ هذا الألم المرعب مرَّتين: مرَّة بما سيُعَانِيه رفاقي في الموتِ من آلام الاحتِضَار، ومرَّة بما سيُصِيب أقاربَ وأهلَ وأصدقاءَ كلِّ ميِّتٍّ يرافقني من غَمِّ الفُقدان. بلْ لو ملكتُ لفجَّرْتُ هذا الكوكب الأرضيَّ كله في رمشة عيٍنٍ فأضعُ بذلك حدّاً لهذه الأسْطوَانَةِ البالية التي صَدِئَتْ من التكرار… لن يُغْبَنَ أحدٌ آنذاك. مساواةٌ مطلقة سأنجزُها. الكلُّ يموت مع الكلِّ دفعة واحدة. مقبرةٌ للبشرية جمعاء. تنقرضُ الحيَاةُ بكامِلِهَا فلا عُشبَ بعد اليوم، ولا ذرَّةَ، ولا غُبارَ، ولا زهْرَ، ولا نهْرَ، ولا مَطـَرَ، ولا شَجـَرَ… لكن أنَّى لي ذلك الآن وأنا جثَّة ممددة هامدَةٌ تحتضـرُ!
تتناهى إلى أذني أصواتٌ مُلِحَّةٌ مُستفزَّة، لكنني أعجز عن تبيُّنِ حال أصحابها. أُجهدِ نفسـي في فتح عينـيَّ. أتمكَّن أخيـرا من مُشَاهَدَةِ أجسادٍ تنِطُّ فـوق الأرض كالرَّاقصة المسْدَلة الشَّعر مثل سَعَفِ النَّخِيل وهي تنِطُّ سريعة حركات الأيـدي والأرجُل: «أفَرَحاً أم حُزنا؟» ذلك ما لم أستطع معرفتَه حتَّى الآن. ألا ما أشبهَ تقاسيم وجه الإنسانِ وملامِحَهُ والحركات والأصوات التي يُصْدرُها في قمة فرحـه بتلك التي يُصْدِرُها في منتهى فزعه! ما تلك الأجسادُ الراقصة الصارخة الباكية/الفـرحانةُ إلا أجساد أهْلِي وأقاربي . أريدُ أن أكُفَّهم عن ذلك. لا أقْوَى على القيام بأيِّ شيءٍ عدا البقاء جُثَّةَ هامدة. لقد أوشكْتُ الآن على مُغَادَرة المدار الإنسانيِّ. أنا الآن بصدد التحول إلى ذرَّات عمَّا قريب ستتحلل ويعترِشُ فوقها العُشب والزَّهْر والشَّجَرُ وتجرفهـا مياهُ الأنهار والوديان…
*
* *
لما كنتُ مُلقى فوقَ الأرض جثَّة هامدة أحتضرُ، لما كانتْ عظامي مهشمة ورأسي غارقـاً في سيل الدماء المتسرِّبَة مِنَ الأذنين والأنف والفَم، كُنت أُدرك كل شيءٍ، لكنني كنتُ في منتهى العجزِ والضُّعف. أريـد الكلامَ. لا أقوى على الكَلام. أتمنَّى لو كان بمتناولي حيلة أو وسيلة تمكنني من مجرَّد نقل إحسَاسِ الغبن والعجز والضُّعف – الذي يغمرني الآن – إلى الآخرين. لكنْ ما فائدة التَّمَنِّي وأنا على مشارف المحو؟! تتبادرُ إلى ذهني أشياء كثيرة. أتمنَّى لو تعودُ إليَّ القدرة على الوقوفِ والمشـي والكلامِ ولو لحظة واحدة كيْ أقضي حوائجَ فاتَنِي قضاؤُها لما كنتُ حيا، حوائج قد تبدو في منتهى التفاهة، لكنَّها عندي ذات أهمية قصوى. لحظة وَاحِدة فقَط لمجرد تقبيل الأهْلِ والأحبَابِ والتلفُّظ بكلمة: «وداعاً. إلى اللقَـاء. فأنـا مَيِّتٌ» أو لإلقاء نظرةٍ واحدة أخيرة على هذه الحياة. لكن جميع تلكَ الأماني كانتْ تصطدمُ بحاجزِ الموت الضَّخم المنتصِبِ الآن بيني وبينَ الحيـاة… والآنَ وقد وَضَعْتُ قدمي في أوَّل عتبةٍ للتحول إلى عظامٍ وتُرَاب… الآن فقط أُدْرِك عمق المفارقة القائمة بين الحياةِ والموتِ. لكنْ ما فائدة هذا الإدراك وأنا سأمحى بعدَ حينٍ وأتحولُ إلى مجرَّد كلمةٍ، إلى محضِ ذكْرَى غائمة!…
عندما نكونُ أحياءً، تمنـحُ الحياة نفسَهَا لنا بسَخَاء يكونُ من الكثرة والإسرَاف بحيث يُبديها ذميمةً تافهةً مُمِلَّة، فنستهلكُ الأيَّام والليالي دون أن نُكَلِّف أنفسَنَا عناء حتى تـذوقُ طعمهـا المتجَدِّدِ – مع ذلك في كل صباح – متناسيـن أنَّنا في يومٍ من الأيام سنتَلَقَّى رسالةً أو أمراً لا مردَّ له يُجبرنا على إلقاءِ تحيةِ الوداع لهذه الحياة ويُجْبِرُنا على الانصراف صامتين عارينَ إلى حيثُ لا نَدْرِي حارماً إيانا إلى الأبدِ مما كُنَّا إياهُ إلى ذلِك الحين… لكِن ما أن تحين لحظةُ الاحتضار حتَّى تتمنَّع تلك الحياةُ «التافهةُ الذَّميمةُ الممِلَّةُ» نفسُها وينقلبُ سخاؤُها إلى تنكُّرٍ قاسٍ مطلقٍ، فتعاملنا كأننا لم يسبـق لنا أن عرَفْنَاها أو عرفتنا قطُّ؛ كأننا غُرَبَاء عنها وهي غريبةً عنا تماما؛ تبخلُ علينا بمجرد لحظة وكأنَّ بقاءَها بمجمله يتوقَّف على هِبَةِ تلك اللحظة؛ كأنها تخشـى أن نُلحِـق بها عدوى الموت والفنـاء…
والموتُ! عنـدما نكُونُ في غمرة الحياة يتحاشانا حتَّى إننا لنَنْهَمِك في تعاطي كُؤُوس الحياة حتَّى الثَّمَالَـة وننساه متصرِّفيـن كمَـا لو كنا فيها خالدين. يتنكَّرُ وراء كلمةٍ من الصِّغـر بحيث لا نُعِيرُ لوجودهَـا مِن حوالينا أدنى اهتمامٍ. لكن ما أن تتنكر لنا الحياةُ ونُؤْمَرُ بوضع حملهَا، ويتأهَّبُ هو للانقضاض علينَا حتَّى نُدرك أي قسوةٍ وأي فظاعة تختفيان وراء تلك الكلِمَةِ الصَّغيـرة. الموتُ كَارِثَةٌ يستحيلُ تجنبها. مأساةٌ تقلِبُ أعماراً كاملة، في رمشة عينٍ، إلى عبثٍ وتحيل قصور الأماني إلى ذرات تتناثرها ريَاحُ المطلَق الهوجَاء؛ مأساةٌ تضع مشاغِل الأحياء وأعمالَهم ومشاريعهم برُمَّتِهَـا موضِعَ استفهـام.
اسمعوا يا معشرَ الأحياء. مهما صدرَ عنكم من سُلوكات قاسية ولا أخلاقيةٍ فهو ليس بشيءٍ أمام بشاعة الموت وجُبنه وقسوته. استبدلوا كلمة «موتٍ» بكلمةٍ أبلغ، لأنَّها لا تفيدُ معنى الموْت الَّذي أنا إياه الآن…
أتُراني كنتُ سأتجنب هذه الكارثة لو لم أضعْ حدّاً لحياتي؟ بالتأكيد لا. فما أجتازُه الآن يجتازه كلُّ إنسانٍ سواءٌ داستْهُ سيارة، أو داهمَهُ قطارٌ، أو أصابته رصاصةٌ، أو غرق في بحـٍر، أو ارتمى من شرفةٍ قنطرةٍ أو من طوابـق عُليا، أو احتضر في فراشٍ بين الأهل والأقارب. يغمرني عزاءٌ فـرِحٌ نشوانٌ عندما تتألَّقُ في ذهني الحقيقةُ التَّالية: ما الحياة إلا وهْمٌ. وما الأحياء في قيامهم وقُعودهِمْ وممشاهـم وسُكونهم سوى جثتٍ ممددة تحتضرُ كما أحتضرُ الآن، ما يُفَرِّقُ بيننا سوى الشَّكل الذي تمدَّدَ به كلٌّ منا: همْ يحتضرون ماشين ومتكلِّمين وعاملين… وأنا أحتضرُ طريحاً مُهَشَّمَ الرأس والأضلُعِ. بل أليس المشيُ والوقوفُ والكلامُ والعملُ سوى وجهٍ آخـر للجثَّة الممَدَّدَة السابحـة فوق الدماء التي أنا إياها الآن؟ وعليه، يجبُ حذفُ أحد مُكَوِّنَيِ الزَّوج حيـاة/مـوت والإبقاء على واحدٍ فقط. ذلك أنَّنَـا لا ننتقل من الحياة إلى الموتِ. نحـن أسرى داخل موتٍ مطلـقٍ أو حيـاةٍ مُطْلَقَـةٍ.

الاخبار العاجلة