أسليـم: مفهوم الكاتب الرقمي

1٬415 views مشاهدة
أسليـم: مفهوم الكاتب الرقمي

1. 1. الرقمية و«دَمقرطة» ممارسة الكتابة:

مع الانتشار الواسع للحواسيب الشخصية ابتداء من سبعينيات القرن الماضي ثم ظهور شبكة الأنترنت في مستهل تسعينيات القرن نفسه عرفت الكتابة الأدبية منعطفا يتميز أساسا بنقطتين:
الأولى: إقحام الآلة نفسها في عمليتي الكتابة والقراءة الأدبيين، بما جعل بالإمكان الحديث عن «آلات للقراءة وآلات للكتابة»(1). ليس هذا بالأمر الجديد؛ فالمحاولات الأولى في هذا الباب انطلقت متزامنة، ومنذ حوالي نصف قرن، من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية(2)، ولكن الرقمية تمد الآن هذا القطاع الأدبي بجميع وسائل التطور بما يجعل هذا النوع من النصوص يخرج من دائرة حفنة من المتخصصين والمجربين إلى الجمهور الواسع من الأدباء.
الثانية: تخلص جميع الكتاب الفعليين والافتراضيين من المصافي التقليدية للنشر متمثلة في هيآت التحرير ولجان القراءة في الصحف والمجلات ودور النشر، مما فتح الباب عمليا أمام الجميع، كتابا مكرسين ومبتدئين، أدباء ومتأدبين، واسعا لنشر إنتاجاتهم الأدبية في شبة الأنترنت.
مع الرقمية، بات يكفي المرء اليوم أن يمتلك جهاز حاسوب متصل بالشبكة ومساحة لوضع نصوصه على الخط، بل وحتى نصوص غيره، إن شاء، ويلم بالأبجدية الأولى لإنشاء صفحات ويب التي صار العديد من شركات الاستضافة المجانية يُعفي منها المستخدمين عبر المدونات أو الصفحات الجاهزة للاستعمال، فيصير مالكا لما يُعادل ليس مطبعة ورقية فحسب، بل وكذلك دار نشر قادرة على توزيع منتوجاتها في أرجاء الكوكب الأربعة، على مدار الساعة، وبدون حكاية نفاد الطبعات.
كان طبيعيا أن يلتحق بهذه القارة الافتراضية الجديدة حشود ممن يعتبرون أنفسهم كتابا ويغرقونها بما يُقدَّم باعتباره شعرا أو سردا سواء فرارا من مصافي النشر الورقي التي أقصتهم – عدلا أو ظلما – أو حتى دون المرور من هذه المؤسسات أصلا مفضلين الحصول على الوضع الاعتباري لـ «كاتب» في عالم الرقم دون الورق.
وحيث إن كل حقبة للتغييرات الكبرى تولد أشكالا جديدة للجهل والتهميش، كان طبيعيا أن يتخلف عن اللحاق بالقارة الافتراضية – عن إرادة وإصرار أو عن عجز وضعف – عدد كبير، بل الغالبية العظمى من الكتاب المكرسين في عالم النشر الورقي فيهم من يتقلد مهام كبرى في هيآت للكتاب واتحادات لهم، بل ومن هؤلاء من يشن حربا شعواء في الظاهر أو الباطن على الشبكة العنكبوتية ذاتها.
مثل هذا الموقف متوقع بالنظر إلى أن الرقمية بصدد العصف بالوضع الاعتباري التقليدي للكاتب، حيث كان المبدع يحظى بسلطة رمزية قوية داخل المجتمع، لكن أيضا بالنظر لوضوح المعايير التقليدية لولوج الوضع الاعتباري للكاتب متمثلة في المصافي وهيآت قبول ترشيحات الانضمام لهيآت الأدباء والكتاب.
والمسألة هنا لا تهم العالم العربي وحده ولا الأدب دون سائر الحقول المعرفية الأخرى: فقد لقد خصها أمبرتو إيكو، في أحد حواراته، بإشارة لا تخلو من تشاؤم حيث قال: «إن الاتجاه ماض نحو حضارة لكل فرد فيها نسقه الخاص لتصفية المعلومات، أي أن كل فرد يصنع موسوعته الخاصة. واليوم، مجتمع متألف من 5 مليار موسوعة متنافسة، لهو مجتمع لم يعد يتواصل إطلاقا»(3).
لكنه عاد ليمتنع عن إبداء أي حكم قاطع في المسألة تاركا الباب مفتوحا لجميع التكهنات ومجتهدا في صياغة تخمين متفائل:
«قد تكون ثورة في الذوق لسنا قادرين على تبين نتائجها. فمن وجهة نظر تقليدنا الثقافي، قد يكون شيئا في منتهى الخطورة. ولكن يمكننا التفكير فيه بطريقة أخرى: مصافي الذوق في الأدب كانت تهم 0,5% من السكان. إذا كان اليوم 70 % من السكان المبحرين في الشبكة يفضلون شعرا أو محكيا وجدوه صدفة، يمكننا القول إن هؤلاء الناس الذي ظلوا إلى الآن مقصيين من تذوق الإنتاج الأدبي قد استطاعوا أخيرا الدخول في اتصال مع هذا الشكل أو ذاك من أشكال التعبير الأدبية. وسيكون الأمر كذلك ثورة. ثورة ممكنة التطويع مادام الفرد الذي يربي نفسه صدفة في النت ويلتهم أي شيء، سيجد نفسه عندما سيلتحق بالجامعة أو يشرع في العمل، قد عثر بأعجوبة على مقاييس وسيطور جموحه السابق؛ ولكن هذا كله لا يعدو مجرد تكهن خالص»(4).
ليس معنى هذا أن كل ما يُنشر في الشبكة ينجح في استقطاب حشود القراء؛ فللأنترنت مصافيه الضمنية التي تكشف عنها عدادات زوار المواقع ودرجة تفاعل القراء مع النصوص المنشورة، ولكن الجديد هو أن الإنتاج يكون عموما في متناول فئات عديدة من القراء لا تمر كلها بالضرورة من الجامعات، ومن ثمة يحصل أن تحقق كتابة في منتهى الابتذال، من وجهة نظر النقد الأدبي الرصين، نجاحا منقطع النظير على نحو ما نجد في العديد من المنتديات التي تنشر فيها نصوص قصصية وروائية ليس لها من هذين الجنسين إلا الاسم.

2. 1. الرقمية وإشكالية تعريف «الكاتب»:
يبدو أن الشبكة قد أمدت الآن مقولة «موت المؤلف» التي تنبأ بها ميشال فوكو منذ سنة 1967 بكل وسائل التحقق، إذ باتت الحدود بين القراءة والكتابة تتقلص إلى حد أتيح معه ابتكار مصطلحي «القرا- كتابة» والمؤلف – القارئ»، على التوالي: «l’écrilecture» و«l’aucteur».
فهل يجوز الحديث عن «كاتب رقمي»؟ إذا كان الأمر كذلك فكيف؟ بل إذا كان تاريخ الكتابة الإبداعية الطويل يعلمنا أن للإبداع الأدبي اقترانا وثيقا بالسلطة وكانت الأنترنت تثبت يوما عن يوم أنها فضاء لاختفاء هذه السلطة، فلماذا وكيف وبأي صفة نمارسها عبر ادعاء امتلاك تسمية هذا الفرد بأنه «كاتب» وذاك بأنه «ليس بكاتب»؟
لدى البحث في الشبكة عن مصطلح «الكاتب الرقمي»، في المجالين الفرنكوفوني والإسباني على الأقل، لا نجد أثرا لهذه الصفة(5). في المقابل نجد مفهوما ذا صلة، لكن بحضور خافت جدا هو مفهوم «الكاتب الشبكي » le cyber- écrivain، ويتسمى به عدد من الكتاب الذين لا يزاولون فعل الكتابة إطلاقا خارج الحاسوب والشبكة. التجمع الوحيد لهذا النوع من الكتاب هو ما يوجد في موقع e- critures.org الذي تشكل قائمته البريدية فضاء لأكبر تجمع فرنسي من المبدعين والنقاد الرقميين، بيد أن الهم الأول لهذا الاحتشاد هو إبداعي نقدي أكثر منه مؤسساتي.
بالموازاة مع ذلك، يتردد في العالم العربي حديث عن: «الكتاب الورقيين»، و«الكتاب الرقميين» و«كتاب الأنترنت» الذين لهم هيأة بالتسمية ذاتها. فهل نمارس نوعا من السباحة ضد التيار أم أننا نأتي بنوع من البدعة؟ ما المقصود بهذه الأسامي؟ هل الحدود بينها واضحة بما يجعل عملية تصنيف هذا الكتاب أو ذاك ضمن فئته المقابلة أمرا ممكنا؟ كيف نعرف هذا الفاعل الثقافي الجديد الذي نطلق عليه اسم «الكاتب الرقمي»؟ أمن منظور أن له وجودا «واقعيا»، أي ثمة محددات مشتركة موجودة بين فئة من ممارسي الكتابة الرقمية، فما يبقى علينا سوى جرد هذه السمات الثابتة، حيث متى توفرت في هذا الفرد أو ذاك انطبقت عليه صفة «كاتب رقمي» دون أن يحتاج إلى أن يمنحه إياها شخص أو هيأة؟ أم نعرفه من منظور مراعاة الغياب التام لحواجز المصفاة في الشبكة، ومن ثمة احتمال، بل واقع، أن يكون العالم الافتراضي غارقا حرفيا في طوفان من النصوص والكتابات التي لا تستحق بالضرورة هذه التسمية، مما يستدعي ضرورة تحديد معايير لإطلاق صفة كاتب على هذا المرء أو ذاك وتجريد آخر منها، بمعنى أنه لا يكفي المرء أن ينال صفة «كاتب» حتى ولو أول ما كان ظهورُه كان في النت، ثم لازمه ليلا ونهارا؟
عندما يجري الحديث عن «الكاتب الرقمي»، ربما يكون بديهيا أن المقصود بهذه التسمية هو هذا الكاتب الذي يقف على طرف نقيض من مقابله «الكاتب الورقي». هذا التقابل الذي يحضر أوتوماتيكيا في الذهن يُبدي الأمر وكأنه في منتهى الوضوح:
– فمن جهة، هناك كاتب يلازم قلعة الورق كتابة وقراءة ولا يتردد إطلاقا على العالم الافتراضي بكتاباته ومشاهده الثقافية، بمعنى أنه غائب غيابا تاما عنه.
– ومن جهة ثانية، هناك كاتب قد لا يتعامل إطلاقا مع عالم النشر الورقي، دائم الاتصال بالشبكة والحضور فيها أساسا لنشر أعماله، والتواصل مع قرائه وأنداده من الكتاب، الخ.
مع أن هذا التمييز يبدو واضحا على صعيد التصور، فإنه غير صائب في الواقع كليا مادام من الكتاب الورقيين من تصل أعمالهم إلى الشبكة ولو أنهم لا يتعاملون إطلاقا مع الحاسوب ولا الأنترنت، وتفد أعمالهم إلى الويب عبر المواقع الإلكترونية ذات الإصدار المزدوج الورقي والرقمي، كمجلات «نزوى» و«الكرمل» و«فكر ونقد» و«أوان» ومجلات ودوريات موقع اتحاد الكتاب العرب، الخ. أو صحف مثل الزمان والقدس العربي والأهرام والشرق الأوسط، الخ.
أكثر من ذلك، من الكتاب والنقاد الأدبيين من يتوفر على موقع إلكتروني شخصي، بل ويكتب في قضايا الأدب الرقمي، ومع ذلك لا يكفي هذا لنعته بالكاتب أو الناقد الرقمي، لأن هذه المواقع تكون بمثابة ما يدخل في باب «مجاراة الوقت» والعمل بما يعمل به الآخرون لا غير، وسعي لإثبات حضور في الشبكة من أجل التعريف بالنفس وبالإنتاج دون الحياة داخل العالم الافتراضي. إنها «مواقع واجهات» sites vitrines كما يسميها البعض(6). من ذلك، مثلا، أن بعضهم يتحدث في موقعه عن شخصه بضمير الغائب، تماما كما تتحدث كتب تاريخ الأدب وأعلامه عن «عَلم ميت أو عن شخص حي، لكن يصعبُ جدا الاتصال به»، ومن ذلك أيضا أن بعضهم يوكل بناء موقعه إلى الغير وهو لا يعلم ما في هذا الموقع، وإذا سألته في أمور التحيين أو التواصل عبر صفحته الشخصية أجابك: «لا أعرف.. فلان هو الذي أنشأ الموقع». والحال أن الفرق شاسع جدا بين الحضور من أجل الحضور وإطلاق موقع نادرا ما يُحيَّن، أو لا يُحيَّن بالمرة، وبين أن يصير التردد على الشبكة ممارسة يومية، لأجل المطالعة والتواصل والنقاش، وربط شبكة واسعة من العلاقات مع الأنداد من الكتاب والباحثين بل وحتى القراء.
إضافة إلى ما سبق، يوجد اليوم من الكتاب في العالم العربي من شكل النت فضاء لولادته الأدبية باعتباره «مبدعا»، ثم نال فيه شهرة واسعة، حتى إذا كبُر واشتد ساعده التحق بالنشر الورقي للمرة الأولى، وما كان ليحصل فيه على موطئ قدم لولا الرصيد الذي تجمَّع له في الشبكة، عبر المنتديات والمجلات الإلكترونية، وحتى الموقع الشخصي.
أخيرا، إذا كان مما يدخل في باب المسلمات اليوم أننا نعيش في ظل ثورة جارفة ستجثت كل الميراث المنحدر إلينا من العصور القديمة، وضمنها الكتاب (المتوقع اختفاؤه في غضون الثلاثين سنة المقبلة)، فمعنى ذلك أن جميع الكتاب سيصيرون رقميين. ما فائدة هذه التسمية حال اكتمال دورة التغيير؟ هل نسعى لتحديد فاعل ثقافي «جديد» يتسم وجوده بالإطلاق أم أننا إنما نميزه في فترة التحول هذه – من ثقافة الورق إلى ثقافة الرقم – حتى إذا اكتملت دورة التغيير صارت التسمية لاغية؟ لماذا هذا التمييز؟
لا يبرر صفة «الكاتب الرقمي» أو «كاتب الأنترنت» اليوم سوى هذا التعارض القائم بين قطاعين أوسلطتين: واحدة تفرض نفسها باعتبارها «مركزية» وأخرى «هامشية» أو «مهمشة» بالأحرى.
– قطاع الثقافة الورقية المكرسة منذ أمد طويل على شكل مؤسسة، تستفيد هيآتها غالبا من دعم مادي من المال العمومي (مشروع على كل حال) للدور الحيوي الذي تؤديه، أو تسعى لأدائه بالأحرى، في الحقلين الثقافي والاجتماعي، مع أن أنشطته الواقعية (محاضرات، ندوات، مهرجانات) تبقى محصورة في الزمان والمكان، ضيقة حيز الإشعاع، مرتفعة تكلفة الإنجاز، ومنشوراته محدودة عدد السحوب والطبعات، محصورة جغرافيا التوزيع…
– قطاع النشر الإلكتروني متمثلا في جيش من الكتاب والمبدعين والأدباء والمثقفين ينجز، بشكل تطوعي، أضعاف ما تقوم به المؤسسات التقليدية للأدب والثقافة وهيآتهما الراعية، حيث تنظم العديد من الندوات والملتقيات الافتراضية، وينشر كما هائلا من المواد الإبداعية والنقدية والفكرية القابلة للنشر في مجموع أنحاء المعمور، دون أن يحظى بأي دعم يُذكر على غرار ما يحظى به القطاع التقليدي ودون أن يقوم أي تنسيق بين أعضائه وبعض هيآته الموجودة (كاتحاد كتاب الأنترنت العرب والجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب، مثلا، وكبريات المنتديات مثل «نادي الفكر العربي» و«مدينة على هُدب طفل» ومنتدى «القصة العربية» و«منتدى اتحاد كتاب الأنترنت العرب» و«منتديات المركز الاستراتيجي العربي» وغيرها.
في هذا السياق، تبدو مبادرة مجموعة من الأدباء والمثقفين لتأسيس هيأة تجمع كتاب العالم الافتراضي العرب تحت اسم «اتحاد كتاب الأنترنت العرب» مبادرة هامة ووجيهة.

لن أذكِّرَ بغايات هذه المؤسسة ولا بمعايير انتقائها للأعضاء، فالوثائق المتعلقة بهذا الجانب كلها متوفر في موقع الاتحاد(7). في المقابل، أود اقتراح محاولة لتعريف «الكاتب الرقمي».

3. 1. نحو تعريف للكاتب الرقمي:
نظريا تسع تسمية الرقمي كل كاتب يستخدم، بدل الورق، تقنية الرقم في تدوين كتاباته وإخراجها للقراءة، وبذلك تنطبق هذه الصفة على من ينشر منتوجه على الأقراص المرنة أو المدمجة كما على من يخرج كتاباته للقراء عن طريق الشبكة العنكبوتية. من هنا، يكون مجموع كتاب الأنترنت «رقميين».
ولكن ما أن نتتبع سلوك هؤلاء في الشبكة حتى يصير بالإمكان التمييز داخلهم بين ثلاثة أصناف:
أولا: صنف ينشر في الأنترنت، يتواجد فيه بصفة منتظمة، لكن دون أن يعي الرهانات العميقة للعالم الافتراضي أو التماهي معها، ويمثل هؤلاء الكتاب والمبدعون الذين لم يستوعبوا بعد فكرة أن الكتاب الورقي مجرد محطة في تاريخ الكتابة الطويل آيلة إلى الزوال، وبذلك ترى ترددهم على الشبكة يتراوح بين قراءة البريد الإلكتروني وتحيين الموقع، و- في أحسن الأحوال – إرسال أخبار الأنشطة والملتقيات الثقافية ومنشورات العالم الورقي إلى منابر النشر الإلكتروني. إن نشروا كتابا كانت وجهة النشر الورقي أسبق على الرقم، بل ربما باعوا حقوق التأليف أو الترجمة كاملة للناشر وحرموا قراء النت إلى الأبد من الاطلاع على هذا الإنتاج. في أقصى الحالات، نجد ضمن هؤلاء من يعيش النشر في عالم النت بإحساس بالذنب يُعبر عنه على النحو التالي: «لو أنصفتني منابر النشر الورقية لما وطأت قدماي النت»؛ هذا الصنف لازال قادرا على الاختلاء بكتاب ورقي لبضعة أيام، قصد قراءته كاملا في الوقت الذي جعلت معه الرقمية هذا النوع من القراءات شبه مستحيل؛ يميز مارك هايير Marc Hayer في القراءة بين ثلاثة أنواع:
– القراءة على طريقة الرعي: وخلاله يلتهم القارئ، مثل الماشية في المراعي، الكتابَ سطرا بسطر، صفحة بصفحة، من البداية حتى النهاية، إلى أي يأتي على آخر حرف منه؛
– القراءة بطريقة التنقيب: وفيه يقوم القارئ مثل الحفري، بالبحث هنا، وهناك، في صفحات الكتاب وفهرسته، عما يهمه بالضبط، حتى إذا عثر عليه انكب عليه دون الاكتراث بالمحتوى الكامل للكتاب، وهذا ما يصطلح عليه بـ «القراءة العامودية»؛
– القراءة بطريقة الصيد أو القنص: وفيه يقوم القارئ، مثل القناص، بانتقاء ما يهمه داخل حشد المعلومات، ثم ينقض عليه دون الانشغال بالباقي(8). وهذا هو ما تفرضه البيئة الرقمية في ظل زخم المعلومات المتوفرة في كافة الحقول الإبداعية؛
والنت بما يقدمه من زخم من الموارد النصية والوثائقية وبطبيعته التشعبية التي تجعل بالإمكان النفاد من أي نص، بصدد القراءة، إلى نصوص أخرى، إنما يجعل النوعين الثاني والثالث هما الأنسب ومتزايدا الانتشار(9).
ثانيا: صنف يحيا داخل النت، يتردد عليه يوميا، يشكل البريد الإلكتروني والدردشة الآنية وبرامج مثل الـ skype والبالتولك وغيرهما، أداة شبه وحيدة للتواصل مع العالم الخارجي. إذا ما حرر نصا كانت وجهة نشره الأولى هي الشبكة. أفراد هذه الفئة يشاركون في مجموعات إخبارية ومنتديات إبداعية وثقافية، يستنزف منهم الإبحار في الأنترنت وقتا كبيرا يوميا، يترددون على عدد كبير من المنابر الرقمية بسائر أصنافها: صحف، مجلات، منتديات، الخ. لمعظمهم فضاءات شخصية للنشر والتواصل، تكون عبارة عن مواقع شخصية أو مدونات.. لكن مع ذلك لا تنطبق عليهم صفة «كتاب رقميين» بمعناها الدقيق.
أخيرا: فئة أضافت للصفات والسلوكات السابقة التكوينَ في مجموعة من البرامج لتسخيرها في الكتابة الإبداعية ذاتها، ومن ثمة تساهم في إنتاج ما يُسمى بـ «الأدب الرقمي» أو «الأدب المعلوماتي». هذه الفئة في العالم العربي تكاد تكون منعدمة في الوقت الراهن؛ فباستثناء الروائي محمد سناجلة الذي شق له طريقا في هذا الحقل، وبضعة أسماء أخرى لم تحقق تراكما يمكن الاطمئنان إليه، مثل الروائي أحمد خالد توفيق صاحب قصة «ربع مخيفة»(10) التفاعلية والشاعر المغربي منعم الأزرق والجماعة التي أبدعت قصيدة ميدوزا(11) والقاص المغربي محمد اشويكة بقصته التشعبية «احتمالات»(12) والعراقي معن مشتاق بقصيدته «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»(13)، باستثناء هذه الأسماء لازال هذا الحقل في الكتابة بكرا في عالمنا العربي.
وأظن الواجهة الأخيرة من القطاعات الهامة التي يجب على اتحاد كتاب الأنترنت العرب أن يركز عليها. لأجل ذلك، سيكون مفيدا دون شك إعادة النظر في المعايير التقليدية لمنح لقب «كاتب» بحيث تصير تشمل ليس الأدباء وحدهم، بل وكذلك المعلوماتيين المهرة في البرامج التفاعلية، وهم كثرٌ في المنتديات المتخصصة في المعلوميات، لتحقيق هدف التكامل بين المعلوميات والأدب باعتبار هذا التداخل هو جوهر ما يميز «الأدب الرقمي» عن غيره… ولتحقيق هذا الهدف، يمكن اتخاذ منتديات الاتحاد فضاء لعمل يُجزأ إلى ثلاث مراحل:
– في خطوة أولى: يلقن المعلوماتيون الأدباءَ المعلوميات ويدخل الأدباءُ المعلوماتيين في فضاء الأدب؛
– وفي مرحلة ثانية يُنتج الأدباء والمعلوماتيون معا نصوصا مشتركة، كل يضع فيها بصماته، على غرار التجربة اليتيمة التي تمت مع قصيدة فاطمة بوهراكة في منتديات اتحاد كتاب الأنترنت العرب؛
– وفي مرحلة أخيرة، ستتأخر دون شك، نحصل على «معلوماتيين أدباء» و«أدباء معلوماتيين»، أي على فئتين قادرتين معا على كتابة نصوص أدبية رقمية تفاعلية؛ «يُظهر موَلودو السيناريوهات الأمريكيون أو الأدب التوليدي الممثل في فرنسا من لدن جان بيير بالب حيوية هذا المسعى الذي تكون فيه الكتابة أولا (ولكن ليس هذا فحسب) هي كتابة برنامج معلوماتي»(14).
في تقديري، هذه هي المهمة الجوهرية التي يفترض في الاتحاد أن يضطلع بها، والخيط الرفيع الذي يمكن أن يميزه عن الاتحادات الورقية، بل ومعنى منحه العضوية لهذا الكاتب دون ذاك من حشود الكتاب والكتبة الذين يدخلون الآن، وعلى قدم المساواة، عبر الشبكة، إلى حقل التداول من غير أي رقيب ولا أدنى تأشيرة مرور… لاسيما أن ضعف التكوين في مجال المعلوميات هو السمة الغالبة على الكتاب العرب؛ معظمهم لا يجشم نفسه عناء امتلاك الأدوات الضرورية لإبداع نصوص رقمية (كالفلاش والسويتش والجافا سكريبت وغيرها). هذه العوائق، في رأيي يمكن التغلب عليها تدريجيا عبر مراحل:
– التحسيس بأهمية الكتابة الرقمية التفاعلية؛
– إنجاز كتابات نقدية نظرية وغيرها في هذا الحقل وترجمة هذا النوع من المقاربات الموجود في لغات أخرى؛
– دفع الراغبين في ولوج هذا المضمار إلى مراجعة مفهوم «المبدع» نفسه، بحيث يصير يتجاوز مجرد شخص يعرف القراءة الكتابة وينشئ عوالم استيهامية وتخييلية إلى فرد يجيد بهذا القدر أو ذاك استخدام مجموعة من البرامج المعلوماتية، هذا الاستخدام الذي صار مع الكتابة الرقمية شرطا ومكونا لا محيد عنهما في العملية الإبداعية. في هذا الصدد، قد يكون من الهام توسيع دائرة الانتماء إلى الاتحاد بحيث تشمل اختصاصيين في حقل المعلوميات نفسه، بغاية إنتاج نصوص رقمية يتظافر في إبداعها أدباء ومعلوماتيون.. بل ويتجاوز ذلك، إلى كتابية دراسات نقدية في هذا اللون الإبداعي الجديد، على غرار ما نجد لدى الكثيرين من كتابه في الغرب، ولدى واحد من أبرز ممثليه في العالم العربي حاليا وهو الروائي الأردني محمد سناجلة في كتابه «رواية الواقعية الرقمية. تنظير نقدي».

محمد أسليـم

يشكل هذا العرض القسم الأول من ورقة المسشاركة في الندوة الدولية الأولى للثقافة العربية الرقمية»، طرابلس، 4-6 مارس 2007

——————-
هوامـش

(1) Alain Vuillemin, «Poésie et informatique I: historique»:
http://www.arts.uottawa.ca/astrolabe/articles/art0024.htm

(2) تحت هذا العنوان أصدرت دار غاليمار الفرنسية للنشر قرصا مدمجا، يشتمل على أعمال من الإبداع التفاعلي والتركيبي، ومحترفا للكتابة:
http://www.gallimard.fr/multimedia/html/Ecrire.html
(3) Emberto Eco, »auteurs et autorités«, Un entretien avec Gloria Origgi. Traduction d’Anne- Marie Varigault, in Actes du colloque virtuel : Ecans et réseaux, vers une transformation du rapport à l’écrit?
http://www.text- e.org/conf/index.cfm?ConfText_ID=11

(4) نفســه.
(5) كم سيكون مفيدا توسيع البحث في فضاءات أخرى للنظر في كان الأمر مماثلا أو مختلفا في لغات كالروسية والصينية واليابانية والكورية والهندية والألمانية، الخ.
(6) Elodie Ressouches, Les institutions de la littérature
revisitées par Internet, Mémoire de Maîtrise de Lettres modernes effectué en 2003 / 2004 à l’Université de la Sorbonne nouvelle – Paris 3 :
http://www.elores.com/memoire/index.php
(7) عنوانه :
http://www.arab- ewriters.com/
(8) Christian Vanderdorpe, «De la lecture sur papyrus à la lecture sur codex électronique» :
http://www.banq.qc.ca/documents/extr…s/vandendo.pdf
(9) لمزيد من التوسع في هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى:
– Ollivier Dyens, «Le web et l’émergence d’une nouvelle structure de connaissances», in Actes du Colloque virtuel sur Le défi de la publication sur le web. Hyperlectures, cybertextes et méta- éditions :
http://www.interdisciplines.org/defi…nweb/papers/11
(10) يمكن تصفح نصها كاملا في الموقع :
http://www.angelfire.com/sk3/mystory/
(11) منتدى مجلة ميدوزا (الإصدار القديم):
http://www.midouza.net/vb/viewtopic.php?t=633
(12) يوجد نصها بالعنوان :
http://chouika.atspace.com
(13) منشورة في موقع النخلة بالرابط التالي:
http://www.alnakhlahwaaljeeran.com/111111-moshtak.htm
(14) Jean Clément, «Hypertextes et mondes fictionnels ou l’avenir de la narration dans le cyberespace» :
http://www.european-mediaculture.org/fileadmin/bibliothek/francais/clement_hypertextes/clement_hypertextes.pdf

الكاتب: محمد أسليـم

بتاريخ: الثلاثاء 04-09-2012 08:49

الاخبار العاجلة