م. أسليـم: أي وضعية للكتاب بالمغرب؟

1٬299 views مشاهدة
م. أسليـم: أي وضعية للكتاب بالمغرب؟

لن تتناول هذه الورقة وضعية الكتاب بالمغرب من حيث الإنتاج والانتشار والتلقي. في المقابل ستحاول مساءلة مستقبله في ضوء التغييرات العميقة التي تحدثها الثورة الرقمية في كافة مناحي الحياة الراهنة، وضمنها وسائط الكتابة والقراءة.

أوَّل عناصر هذا التأمل يستدعي الأخذ بعين الاعتبار لواقع أن الكتاب صار منذ مستهل عام 2000 كتابين: ورقي وإلكتروني، حيث صار الثاني يُعرض جنبا إلى جنب في كبريات المعارض الدولية[1]، كما ظهرت منه أجيالٌ سعيا للوصول إلى نموذج معياري له. ومع الانتشار المتزايد لجهاز الحاسوب اللوحي مؤخرا (أيباد) وتبنيه من لدن بعض الدول بديلا للكتاب المدرسي الورقي يُمكن افتراض أنَّه ربما تمَّ العثور أخيرا على النموذج المبحوث عنه. يُضاف إلى هذا أنه منذ بضعة أسابيع أعلنت شركة أبل أنها على أبواب إحداث ثورة في قطاع التربية والتعليم، حيث «الحقائب المدرسية الثقيلة والمليئة بالكتب الدراسية غالية الثمن ستصبح شيئا من الماضي»[2]، وذلك على إثر تصنيع الشركة حاسوبا لوحيا لا يتعدى سعره 15 دولارا يُخزِّنُ رقميا مجموع مقررات دروس فصل دراسي ما[3].
وحيث نعيش اليوم في عالم متداخل بات إصلاح التعليم فيه هاجسا لكافة البلدان، وضمنها المغرب طبعا، وبما أنَّ المدرسة هي المكان الأول الذي يتعلم فيه المرء القراءة والكتابة فإنه لا مناص من طرح سؤال ما إذا كان الكتاب بصفة عامة سيشكل مقروء الأجيال المقبلة التي ستتلقى تعليمها في ألواح حاسوبية أو حقائب إلكترونية.

***

شكَّل الكتابُ مفتاح تقدم الشعوب التي ولجت عصرَه، منذ وقت مبكر جدا، مع اختراع المطبعة في عام 1468م. ولا يُعرف ما إذا كان من مكر التاريخ أو من صُدفه أن طبع أوَّل كتاب بلغة الضاد قد تمَّ في تلك الفترة بالذات[4]، ومع ذلك لزم انتظار ثلاثة قرون لكي يتحقق الدخول الرسمي للمطبعة إلى العالم العربي. والآن بعد مرور ثلاثة قرون عن هذا الدخول لم يُعادل عدد القراء والكتاب في العالم العربي نظيرهما في عصر الأنوار الأوروبي (القرن 18) بعدُ.
لا يتسع المقام لشرح كيف أنَّ اختراع المطبعة الذي أدى إلى توسيع دائرة القراء والكتاب في أوروبا عصر النهضة[5] إنما كان في الوقت نتيجة لوجود نهم شديد للقراءة انطلق منذ العصور الوسطى. ناهيكم عنْ أنَّ ما يُصطلح عليه بالنهضة الأوروبية هو ظاهرة عامة انتشرت في كافة أنحاء أوروبا في وقت شبه متزامن وغطت كافة الميادين (الاقتصاد، الهندسة المعمارية، الفن التشكيلي، العلوم، الخ.)، ما قد يجعل أي تفسير للتقدم الذي حصل هناك باختراع المطبعة وما تلاه من انتشار واسع للكتاب وحده قد يُجازف بالوقوع في الاختزال. وقد يكون مما يُشبه الجري وراء السَّراب محاولة إعادة التجربة الغربية على صعيدي المطبعة والكتاب. فالتاريخ لا يُعيد نفسه بقدر ما لا توجد نماذج للاحتذاء في عصر بات يُشدَّدُ فيه على فكرة غياب النموذج وعلى ضرورة أن يبتكر كلُّ بلد نموذجه الفريد للتقدم في عالم تسوده المنافسة واللايقين ولا يكف عن التركيب (من تركيبية: complexité).
إنَّ الإيقاع الذي يسير به العالم اليوم، من حيث التطور التكنولوجي ومواصلة الدول المتقدمة سيرها بناء على ركام منجزاتها الذي استغرق الخمسة قرون الماضية، يجعل معضلة تعميم الكتابة والقراءة في المغرب – كما في العالم العربي عامة – أكبر من أن تُحلَّ من خلال المرور من الطريق نفسه الذي مر منه الغرب: لا نملك وقتا كافيا لاستدراك ما فاتنا، كما لن نُمهَل فرصة قرنين أو ثلاثة قرون لبلوغ ما بلغه الغرب اليومَ. لن يتوقف العالم ويدخل في عطلة أو يأخذ استراحة كي نلحق به. وحدها القطيعة قد تكون مفتاحا للحاق بالعصر ومواكبته.

***

يعتبر التعليم اليوم الضمانة الوحيدة للتقدم، واليقين الوحيد الذي يمكن الاطمئنان إليه، في ظل الانتقال الجاري حاليا، من عصر الحداثة إلى ما بعدها، ومن المجتمعات الصناعية إلى مجتمعات الإعلام والمعرفة. وربما كان من الإيجابيات الكبرى الثورة الرقمية أنها لا تفرض على من ينضم إلى ركبها وصفة جاهزة ولا نموذجا موحَّدا، ما قد يتيح للجميع أن يُبدع فيها. وهو ما يبدو أنه بصدد التحقق مع البلدان التي تُنعتُ اليوم بـ «الصاعدة» أو «الناشئة».
ففي عام 1997، أي بوقت قريب جدا من موعد انطلاق إصلاح المنظومة التعليمية بالمغرب، بدأت سنغفورة إصلاح نظامها التعليمي. وإذا كانت الحصيلة هنا دونَ المتوقَّع، فإن النجاح في البلد الصغير بلغ حدا، في المواد العلمية بالخصوص، بحيث بات مضرب مثل وقدوة حتى للدول العظمى، فصارَ يقال: «تدريس الفيزياء على الطريقة السنغفورية»، «تدريس الرياضيات على الطريقة السنغفورية»[6]، وكان أحد أسباب نجاح تلك التجربة اعتماد الرسوم المتحركة وتوظيف وسائط الإعلام والاتصال في التعليم بدل الاقتصار على الكتاب.
في السياق نفسه، ألغت كوريا الجنوبية الكتاب المدرسي الورقي لفائدة الكتاب الإلكتروني[7]، وأطلقت تركيا مؤخرا مشروع «فاتح» للفصول الدراسية الذكية، رصدت له مبلغ 7 ملايير دولار، لاقتناء 15 مليون لوح حاسوبي I-Pad توزع على 15 مليون طالب ومليون مدرس وتجهيز 260 ألف حجرة دراسية بسبورات ذكية[8]، كما قررت أمريكا أن تتجه تدريجيا نحو إلغاء الكتاب المدرسي الورقي لفائدة الكتاب الإلكتروني التفاعلي، وذلك ابتداء من عام 2015، حيث ستكون حصة الكتاب الرقمي 5% لترتفع إلى 50% في عام 2020[9].
ولنا أن نتصور ما سيحصل للكتاب الورقي مع الأجيال المقبلة التي ستتعلم القراءة والكتابة في مدرسة يختفي فيها كليا هذا الوسيط. في حالة المغرب، يمكن توقع أنَّ اعتماد الكتاب الإلكتروني في التدريس يبقى مسألة وقت لا غير؛ فبموازاة مع الغياب الحالي للحديث عن الكتاب الرقمي في البرامج والمقررات الدراسية قيد المراجعة والإعداد اليوم لدى وزارة التربية الوطنية بالمغرب ثمة انشغال بإدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصال في التعليم، حيث تمَّ خصّ الموضوع ببوابة مُنفردة[10].

***

في ما وراء كل التقرير القاتمة التي تصدر بشأن وضعية القراءة، وبالتالي إنتاج الكتاب ورواجه في العالم العربي، وضمنه المغرب، هناك حقيقتان، يتم تجاهلهما، عن قصد أو عن سهو، وهما:
الأولى: الرواج الكبير للكتاب العربي المرقمن قانونيا والمقرصَن منه على السواء في شبكة الأنترنت؛ فإزاء غياب مشاريع حكومية كُبرى لرقمنة الأعمال الإبداعية والفكرية والثقافية ونشرها إلكترونيا، استغلت أكثر من جهة هذا الفراغ، مما جعل المشهد في الوقت الراهن هو وجود كم لا بأس به من الأعمال المرقمنة الموضوعة سلفا على الخط، ضمن خريطة متنافرة تتألف مما يلي:
– مواقع مبادرات فردية يؤسسها أفراد، من منظور حب الثقافة العربية والغيرة عليها، لا يعلنون عن هويتهم غالبا، مثل مواقع الوراق[11]، الموسوعة العالمية للشعر العربي[12] ومكتبة المصطفى الإلكترونية[13].
– مواقع تجمعات تحركها القضية الدينية إيجابا أو سلبا، مثل منتديات ملتقى أهل الحديث[14] والمكتبة الشاملة[15]، وشبكة اللادينيين العرب[16]. علما بأن الجهات المسؤولة عن مثل هذه المواقع لا تكشف أبدا عن هويتها؛
– مواقع هيئات غير حكومية، مثل اتحاد الكتاب العرب[17]؛
– مواقع لرفع الملفات، مثل الأرشيف[18] والفور شريد[19]، وتتضمن آلاف العناوين، من الكتب العربية التراثية والمعاصرة، المؤلفة والمُترجَمَة على السواء، يرقمنها جيش جرار من المتطوعين العرب المجهولين ويضعها رهن التنزيل والقراءة المجانيين. هذا أمر لا تحتسبه التقارير القاتمة حول وضعية القراءة في العالم العربي، علما بأن اعتبار إحصائيات عدَّادات تنزيل هذا النوع من الكتب من شأنه أن يقلب المعطيات في هذا الباب رأسا على عقب؛
– منتديات بدأت عملية نشر أعمال أعضائها ووضعها رهن التنزيل والقراءة المجانيين بصيغة PDF، مثل منتديي مطر مطر[20] ومن الخليج إلى المحيط[21] وغيرهما، وهي ظاهرة ستشهد انتشارا بالتأكيد في غضون السنوات المقبلة بالنظر لاستفحال عدوى التقليد بين المنتديات؛
وفي سائر المواقع السالفة ثمة حضور للكتاب المغربي…
أما الحقيقة الثانية، فهي أنَّ تراجع القراءة اليومَ يشكِّلُ ظاهرة عالمية تشتكي منها الدول ذات الرصيد الهائل من القراء نفسها، ونعني بها البلدان المتقدمة التي بنت صروح تقدمها على لبنتي عصري النهضة والأنوار. بتعبير آخر، إذا كان خط المُنحَنى قد بلغ ذروته اليوم فثمة أكثر من مؤشر يدل على بداية العد العكسي لتراجعه، أي لتراجع القراءة وربما حتى الكتابة في وقت لاحق[22]؛

***

أخيرا، باتت الوسائط الحديثة والأجهزة الإلكترونية تشكل مدخل الطفل إلى العالم اليومَ وتلعب دورا هاما في تنشئته الاجتماعية، بحيث صار الحديث يجري عن جيل الياء la génération Y، وهم الأطفال الذين ما أن يفتحوا أعينهم حتى يجدوا أنفسهم ممسكين بالفأرة (أو الماوز) جالسين أمام جهاز الكمبيوتر. في المقابل، عندما يصل الطفل نفسه إلى المدرسة يُحرمُ من تلك الأجهزة ويُجبَر على التعامل مع الوسيط الورقي…
إذا أضفنا إلى هذا تأكيدَ عدد من المتخصصين في الكتابة والقراءة والأدب الرقمي ونقده بأننا بصدد مغادرة زمن جتنبرغ اليوم[23]، بعد إقامة فيه استغرقت القرون الخمسة الماضية، فإنَّ أي حرص على الكتاب يجبُ أن ينتقل بالأحرى إلى التفكير في القراءة، على صعيدين:
الأول: كيف نقرأ في عصر يشهد فيه الخطاب نزيفا[24]، جراء الكم الهائل للوثائق المنشورة في شبكة الأنترنت، الخاضع منه لمصافي النشر التقليدي والمتجاوز له على السواء، وغزت فيه الوسائط الحديثة، لاسيما المتعددة منها، الساحة العمومية ممَّا جعل مدرسة اليوم مدعوة لإعادة النظر في تعليمها للقراءة[25]؟؛
الثاني: ثم كيف نوسع مفهوم الكتابة بحيث لا تظل مُختزلة في بُعدها الخطي الكاليغفرافي بل تصير تشمل أيضا تجلياتها الأوسع التي لا يتردد البعضُ في اعتبار أنَّ ظهور الكتابة بمعناها الاصطلاحي شكل ردة عن الكتابة الأولى (الأوسع) وألحق حيفا وغبنا بالجماعات التي توصف بالمجتمعات الشفهية مع أنها ظلت تواصل كتابتها بالأساطير وحركات الجسد والطقوس والملابس، الخ خارج «بدعة» الكتابة[26]؟

محمد أسليـم

(ورقة ألقيت ضمن اشغال ندوة الكتاب والثقافة الرقمية في المغرب، تنظيم وحدة التكوين والبحث بمركز الدكتوراه – الكتاب في العالم المعاصر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط، 23 أبريل 2012)

———-
هوامـش
[1] Jean Clément, L’Adieu à Gutenberg :
http://manuscritdepot.com/edition/documents-pdf/adieugutenberg-jclement.pdf
[2] « آبل تطلق ثورة بتقديم الكتب المدرسية على آي بـاد»، صحيفة المدينة، 21/01/2012:
http://www.al-madina.com/node/353025
[3] نفسـه.
[4] يتعلق الأمر بكتاب:
“Voyage et Pélerinage d’Outre-mer au Saint Sépulcre de la Cité Sainte de Jérusalem fait et composé en latin par Bernard de Breydenbach”.
مصدر المعلومة:
http://www.typographie.org/gutenberg/orient/orient_0.html
[5] لم يتردد البعض في تأكيد أن من نتائج الاختراع الجديد ظهور ما يسمى بسعار القراءة في بلدان مثل ألمانيا زمن جوته. انظر:
– Roger Chartier, «Du Codex à l’Écran : les trajectoires de l’écrit», In Solaris, nº 1, Presses Universitaires de Rennes, 1994 :
http://biblio-fr.info.unicaen.fr/bnum/jelec/Solaris/d01/1chartier.html
[6] يُنظر، مثلا، توماس فريدمان، «تعلموا تدريس الرياضيات من سنغافورة»، 17 شتنبر 2005:
تعلموا-تدريسhttp://www..voltairenet.org/
– «مدارس أطفال أميركية تلجأ لبرنامج سنغافوري لتعليم الرياضيات»، صحيفة الشرق الأوسط، 3 اكتوبر 2010:
http://www.aawsat.com/details.asp?issueno=11700&article=589324
[7] – كوريا الجنوبية لاتريد كتباً في مدارسها، 4 يوليو 2011:
http://www.teedoz.com/2011/
– كوريا الجنوبية تتخلى عن الكتب المدرسية الورقية، 4 يوليو 2011:
http://walhaseb.com/2011/
(لصعوبة نسخ العنوانين كاملين من المتصفح، اكتفينا بإيراد العنوان الرئيسي لموقعي نشرهما. علما بأنه يمكن الوصول إلى المقالين الإخباريين عبر محرك غوغل بكتابة عنوانهما في خانة البحث).
[8] ظهر الخبر لأول مرة في موقع أنباؤنا، ثم تناقلته مواقع عديدة، منها:
http://dafatirhorra.com/showthread.php?t=8734
[9] عبد الإله مجيد، الكتب المدرسية الرقمية من أبل.. ثورة مرتقبة، 20 يناير 2012:
http://www.elaph.com/Web/technology/2012/1/710677.html
– الكتب المدرسية الرقمية من أبل.. ثورة مرتقبة:
http://www.esgmarkets.com/forum/archive/index.php/t-139839.html
[10] http://www.portailtice.ma/ />[11] http://www.alwaraq.net/ />[12] http://www.adab.com/ />[13] http://www.al-mostafa.com/ />[14] http://www.ahlalhdeeth.com/vb/index.php />[15] http://shamela.ws/ />[16] http://www.ladeeni.net/ />[17] http://awu-dam.net/ />[18] http://archive.org/ />[19] http://www.4shared.com/ />[20] http://matarmatar.net/ />[21] http://www.menalmuheetlelkaleej.com/ />[22] Dan Sperber, «L’avenir de l’écriture», Colloque virtuel, 2002, ““text-e” :

Dan Sperber (2002) L’avenir de l’écriture. Colloque virtuel “text-e”


[23] Jean Clément, L’Adieu à Gutenberg , op. cit.
[24] يُنظر في هذا الصدد:
– Fabio Caprio Leite de Castro, «Le postmoderne ou l’hémorragie du discours» :
http://www.sens-public.org/spip.php?article480
[25] Michel Melot, «Nous sommes tous des illettrés ou l’avenir de la lecture»
http://bbf.enssib.fr/consulter/bbf-1989-02-0203-016
[26] GAGNEPAIN Jean, Huit Leçons d’Introduction à la Théorie de la Médiation, Institut Jean Gagnepain, Matecoulon-Montpeyroux, 1994-2010 (édition numérique) :
http://www.institut-jean-gagnepain.fr/téléchargement/

الكاتب:محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 05-09-2012 07:06 صباحا

الاخبار العاجلة