سيــرة الكتابـة: لا أظن أنني كاتـب!

509 views مشاهدة
minou
قضايا وملفاتمقالات
سيــرة الكتابـة: لا أظن أنني كاتـب!

(نص الإجابة عن الأسئلة التي وجهها الشاعر المغربي أحمد لمسيح لمجموعة من الكتاب المغاربة، ونشر أجوبتها تباعا في جريدة الاتحاد الاشتراكي، سنة 1997، النص الحالي صدر يوم 10 مارس 1997))

لا أعتقد أنني كاتب، لأنَّ صِفة كاتب قد لا يستحقها إلا الذين يجلسون يوميا للإنصات إلى أنفسهم لنقل ما يعتمل بدواخلهم إلى الآخرين عبر ما يدعى بـ «نصوص الكتابة» – وهو ما لا أفعله – فضلا عن أن إنتاجهم يكون من الغزارة وسعة التداول بحيث يمكنهم احتراف الكتابة. وإذا كان الشرط الثاني ينتفي في جل من يكتب في المغرب حاليا، لأسباب متشعبة تتعلق بقطاع النشر، وغياب قاعدة عريضة من القراء لانتشار الأمية وغياب تقليد القراءة (لا ننس بهذا الصدد أن المغرب لازال في طور التحول من المشافهة إلى الكتابة)، فإن الشرط الأول ينتفي فيَّ شخصيا لأسباب أجهلها. قد يعود ذلك لكوني أحمل تصورا لا شعوريا عن الكتابة كما قد يرجع إلى تبعثر الانشغالات. بهذا المعنى، أكون لم أحقق التطلع السحيق في أن أكون كاتبا في يوم من الأيام، ذلك التطلع الذي يمكن اعتباره في نهاية المطاف رغبة لا شعورية في التماهي مع الوضع الاعتباري للكاتب كما رسَّخته في ذهني الكتب المدرسية والصورة المتخيلة المحمولة في الأوساط الطلابية عن الكتاب المعروفين… وعلى أي، لو اخترتُ الجلوس يوميا لكتابة نصوص إبداعية لتحوَّلَت الكتابة – في اعتقادي – إلى عمل روتيني، ولفقدت تميزها عن الرتابة التي تطبع مسار الحياة اليومية. فالكتابة إما تكون دخولا في حالة ثانية لا علاقة لها باليومي والعادي، انعتاقا وملاذا ينطق من داخل قلق وجوديٍّ بقدر ما يقاوم هذا القلق نفسه، أو لا تكون. لأجل ذلك، ربما يتعين على الكتابة أن تكون عملية دورية، متقطعة، تشبه جلسة لليوغا أو حصة للاسترخاء أو التنفس العميق، تعطل الجسد والفكر مدة زمنية قصيرة في اليوم لتمنحه بعد ذلك مباشرة طاقة وحيوية جديدين لمواجهة ليس ساعات اليوم فحسب، بل وكذلك سشاعة ما ستأتي به الأيام والأعوام من أوقات.

***

كانت الصورة المتخيلة للوضع الاعتباري للكاتب من القوة بحيث جرت المحاولات الأولى للكتابة منذ 1975، لكن أيا مما كتب في هذا التاريخ أو بعده لم ينشر لأنه بكل بساطة لا يستحق النشر. لكن أول نص حظي بنوع من الرضى الشخصي كان هو نص إشراق التبعثـر ، كتب في صيف 1985 بمدينة الرباط، ونشر في أواخر السنة نفسها. أول المطلعين عليه كانت ابنة الكاتب الأمريكي الزنجي رتشارد رايت التي أقامت معي بالمدينة نفسها لردح من الوقت، قبل أن نفترق نهائيا منذ ذلك التاريخ لتباين في الاعتقاد يتعذر اختزاله: كانت هي ماركسية إلى حد الثمالة السَّاذجة بحيث كانت ماركسيتها تتيح لها أن تضع في سلة واحدة الخميني والقذافي وماركس ولينين، وتشيد بالجميع إلى حد الهذيان، وكان يخيل إليها أن المغرب بمثابة فردوس لتحقيق حلم مجتمع المساواة المطلقة…، بنيما كنتُ شخصا فوضويا إلى درجة الجنون، يدمن قراءة كتب السِّحر وأعمال الماركيز دو سَاد ونيتشه وباطاي وباكونين وفرويد وطب الأمراض العقلية المضاد، وسماع أغاني ليو فيري وجاك بريل وإديث بياف وجورج موستاكي، وآخرين: كانت راشل تحلم بالثورة فيما كنتُ أزعم أني «أحلم بتأسيس طائفة دينية»… في هذه الأجواء كتب النص المذكور، ونال إعجابها بحيث ألحت علي بضرورة نشره، مع أنها كانت تتلقى أفكاره مترجمة إلى الفرنسية لا غير….بعد رحيل راشل صار النص بمثابة تحفة، كلما زارني صديقٌ أريته إياها، قرأت عليه مقاطع، إلى أن انتهى إلى الصديق محمد ناصر الذي وافى به الصديق محمد الأشعري، ومن ثم رأى النور ضمن أحد الملاحق الثقافية لجريدة الاتحاد الاشتراكي…

** *

في تصوري، ليست لحظة الكتابة مثل سائر اللحظات. إنها انتقال إلى حالة ثانية تقع فيها الذات على تخوم المجتمع، تنتقل إلى موقع يشبه شرفة تتيح تأمل الناس وأنشطتهم وضوابطهم من بعيد. موقع بقدر ما يتيح للذات أن تضع مسافة بينها وبين نفسها يسمح بولوج مكان يقع في قطيعة مؤقتة مع المجتمع، تتحول معه الكتابة إلى شبه مِصفاة، تصفِّي الناس والسلوكات والضوابط التي تم إقصاؤها مؤقتا، وتدخل ذلك كله في عالمها، أو عوالمها بالأحرى. وبحسب خليط من الأحاسيس والأفكار يتكون داخل النص فضاءٌ -موقفٌ يكون ساخرا عنيفا متهكما أو منكسرا حزينا سوداويا. هذا الفضاء هو الذي يحدد ما يمكن تسميته بـ «موضوع الكتابة»…
لولوج هذه الحالة الثانية – عندي – يتم الاستسعاف بفضاء هو غرفة العمل، وزمن هو الليل، ومنشطات هي القهوة السوداء والسجائر، وأصدقاء سمر هم الموسيقى والخواطر والأحاسيس مواضيع الكتابة: الغرفة المعزولة حصنٌ منيعٌ ضد ضغوط المؤسسة العائلية باعتبارها المجتمع نفسه وقد لا حقه بهيآت متنكرة: زوجة، أبناء، آباء، إلخ…باب الغرفة حدٌّ فاصلٌ بين المجتمع والغاب. هنا، داخل غرفة العمل، تبعثر، فوضى، موسيقى يتحكم في قوة ذبذباتها المزاج وألوان الخواطر، انشغالٌ بالأسئلة الكبرى أو اقتتالٌ مع أشخاص، وهناك، في الأمكنة المجاورة نظامٌ، صمتٌ، وقع خطو، حركات منخرطة في احترام الضوابط حتى الترنح. والليل بما يخيم فيه من سكون، يسهل الاختلاء بالنفس بعيدا عن الضوضاء والضجيج. وبمقدار التوغل داخل مساحة الليل الشاسعة تستحوذ عليَّ مشاعر متعارضة إزاء الآخرين: الإشفاق عليهم، لكن أيضا الإحساس بنوع من التفوق وإحراز سبق عليهم: هم الآن غارقون في النوم، يضيعون وقتهم في الشخير، بينما أنا يقظان حتى الثمالة، كأني سارق أختلس منهم خفية الزمن الذي كانوا سيصرفونه عملا لو لم يحل عجز النوم بينهم وبين ذلك.. ثم إنَّ السَّهَر يتيح استغلال الجسد، هذه الكتلة المنذورة للموت، إلى الحدود القصوى. هذا التصور وإن كان ميكانيكيا صرفا، وبالتالي فهو خاطئ تماما من وجهة نظر صحية تؤكد أنَّ الإنسان بمقدار إدمانه السَّهَر يقلص المسافة بينه وبين الموت، فإنه صحيح تماما من وجهة النظر الأخرى التي تقع على تخوم العلم والمرض، التي تهتدي إلى حقائقها ببوصلة من الإحساس المنخرط في الانتشاء الآني. بهذا المعنى يمكن اعتبار الكتابة تقتات من الجسد… أما القهوة والسجائر، فتمنحان القوة على التركيز. ترياق عظيم ضد القلق، ومناعة ضد الانفعال الذي يمكن أن يعبث بالخواطر. عملٌ متظافر بين الإثنتين لا ينقطع. رشفة من الفنجان لا تطيب ما لم تعقبها سيجارة، وسيجارة من العلبة لا تمنح نكهتها ما لم تعقبها رشفة. حلقة مفرغة. لكنها منتشية بفراغها. وفي الأفق سديم المرض والموت ينتشر. أما الموسيقى فتحول المرء إلى شبه ذرة في مهب الأحاسيس. قد تعمق الإحساس بالوداعة، وتزيح حجب الدواخل بين الموت والحياة، وتولج في مساحة الانتشاء الذهولي. كما قد تعصف ببراكين الأفكار الثاوية في الرأس، فينقلب كل شيء إلى سواد وظلام. وفي الحالتين معا، تظل وسيلة استعادة ما لا يستعاد. إليك بالوصفة: إن شئتَ استرجاع أجواء أي ذكرى، بأفكارها وأحاسيسها ومشاهدها وأشخاصها، فاسمع شريطا موسيقيا، لأول مرة، طوال ما سيصير ذكرى، واترك الزمن يمر، عاما أو عامين أو عشر سنوات. لا يهم. ثم انصت للشريط نفسه من جديد. ستجد نفسك في المشهد نفسه، بين الأشخاص أنفسهم، وبالأحاسيس نفسها..لذلك يستحوذ علي الفزع عندما أتخيل أن واحدا من الأشرطة التي أحفظ بعضها منذ 22 عاما قد يتلـف أو يضيع مني. كأن قطعة من جسدي وفكري ستضيع مني…
ضمن هذين الأفقين المتعارضين كُتِبَتْ نصوصٌ، أو انكتبت بالأحرى. قسم منها حاول استنطاق الموت والجنون، وقسم آخر نازل مؤسسات وأشخاص – كانوا مصدر قلق أو إساءة – في المتخيل والاستيهام، فسخر منهم. انكتبت لأن إيقاع كتابة كل واحد منها وزمنه لا يخضع للمشيئة. بذلك تستغرق أحيانا كتابة النص الواحد وقتا طويلا، يصل السنة أحيانا، مجزءا على شكل جلسات مبعثرة على مدار السنة. تكتب مقاطع منه ذات ليلة، ثم تنحى جانبا، وفي ليلة أخرى تبعد عن سابقتها بأسابيع أو أشهر تخرج المقاطع المكتوبة، فتنضاف إليها أخرى، أو تدخل عليها تعديلات، كي تنحى ثانية، وهكذا… فلا يُحسَمُ في أمر النشر إلا بعد أن يحصل نوع من التراضي بين كافة الحالات المزاجية والخواطر المتضاربة والرغبات والاستيهامات المتنازعة على مدار عدة جلسات. غير أن هذا التراضي ليس نهائيا. ربما هو مجرد ذريعة تبرر النشر، بدليل أن جميع نصوص حديث الجثة وكتاب الفقدان وسفر المأثورات سبق نشرها في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، لكنها خضعت لتعديلات – كانت كبيرة أحيانا بحيث خلقت تباعدا حقيقيا بين «الأصل» و«المآل» – لما أعيد نشرها على شكل كتب. وبذلك يمكن القول إن النص النهائي لا وجود له. من هذه الزاوية تكون كتابة النص ضربٌ من محاولة القبض على السراب. خيبة مريرة. لكنها تعوض بشبه مكافأة تنطوي على جانين متعارضين: جانب مبهج وخطير في الآن نفسه، والآخر ممتع ومفرح. تكمن البهجة في ما يهبه النص من ملامسات لقضايا تكون جوهرية أحيانا، كالموت والجنون، تفضي إلى نوع من الارتياح والقبول للمصير. لكن هذه البهجة تنطوي أحيانا على خطر الوقوف على عبثية الحياة والقيم بما يمنح للموت جاذبية لا تقاوم… أما الجانب الممتع فيتمثل في كون لحظة الكتابة قد تأتي بما يتعذر الحصول عليه في مكان آخر: الضحك إلى أن ترشح العينان بسيل من الدموع. وتلك كانت حالة كتابة سفر المأثورات. فأثناء المقارنة بين الأشخاص الحقيقيين والأحداث الحقيقية، كما هما في الواقع، والأشخاص والأحداث نفسيهما كما صارا في النص بعد المرور من عمليات الحجب والتضخيم والتحريف والسخرية، كنتُ أنفجر ضحكا إلى أن أوقظ بضحكي النائمين من أهلي في الغرفة المجاورة. وآنذاك أقول: ها هو إذن نصٌّ جميل…

** *

يمكن اعتبار الكتابة الإبداعية بمثابة حوض يسع كافة أنواع المعارف. لكن المعرفة فيه تأخذ شكلا آخر – لينا إن شئنا – ليونة يمكن أن تزدريها الحقول-الأم لتلك المعارف، بحيث تغدو الكتابة من هذه الزاوية بمثابة قمامة تلقى فيها نفايات الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والتحليل النفسي، إلخ. لكن من هذه الليونة بالضبط تستمد الكتابة الإبداعية قوتها بحيث تتقاطع مع التخصصات العلمية وتتجاوزها في آن. تتقاطع معها لأن الحدس والخيال والاستيهام، مثلا، أشرق على الشعراء بمعارف لم يصل إليها العلم إلا في وقت لاحق. كأن كل ما قام به لا يعدو مجرد البرهنة عليها وإثباتها بلغة الرياضيات أو المختبر. وتتخطاها لأن قيود أدوات البحث والمناهج والأطر المرجعية التي يُلزَم بها العالم تجعل معرفته دائما نسبية ولاغية حالما تظهر أدوات بحث أخرى ومناهج مغايرة ونظريات جديدة. بخلاف ذلك، من العسير جدا الحديث عن «التجاوز» أو «التقادم» أو «الإلغاء» في مجال المعرفة الأدبية، لأن الكتابة بما تتيحه من إنصات للذات، وتمنحه – في قسمها الواعي على الأقل – من حرية في نقل التقمصات والاستبطانات والحدوس، بمعزل عن كل استدلال أو برهنة، تتيح ولوج المناطق شبه القارة في الإنسان. غير أن هذا الولوج يكون شديد الخصوبة إذا تغذى من المعارف الخارجة عن حقل الكتابة وربما سعى إلى تغذيتها في الآن نفسه. ضمن هذا المنظور اشتغل مقروء الجنون والموت والإثنوغرافيا في نصوص حديث الجثة وكتاب الفقدان وسفر المأثورات.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 23-08-2012 02:51 صباحا

الاخبار العاجلة