المبدعون والانتحار

1٬251 views مشاهدة
minou
قضايا وملفاتمقالات
المبدعون والانتحار

(ملف من إعداد منى وفيق وعبد الله المتقي، منشور في منتديات طلبلة الجامعية العربية المفتوحة)
محمد أسليم (المغرب)
كيف يمكن أن تكون الكتابة ملاذا ناجحا ضد الموت لدى البعض وغير ناجح لدى البعض الآخر؟ معروف أن الكتابة تعتبر واحدة من الأدوات العلاجية الفعالة ضد مجموعة من الصعوبات النفسية، من هذا المنظور، يعتبرها التحليل النفسي أحد الأشكال الناجحة في تدبير العُصاب، وثمة أكثر من كاتب يؤكد بأنه إنما “يكتب لكي لا يموت”، لكن معروف أن الكتابة ليست وصفة جاهزة؛ بل هي مختبر مفتوح لكل التجارب، ومن “قرر” أو “كتب له” دخول المختبر لا يجد من شيء مشترك بينه وبين كافة الداخلين قبله، ومعه، بل وربما بعده، سوى أداة تجربة وإنجاز، في آن واحد، هي اللغة. لا وجود في حقل الكتابة لمعادلات على نحو ما يوجد في الفيزياء أو الكيمياء. من هذا المنظور، يمكن لتجربة الإبداع الكتابي أن تتحول إلى ملاعبة ناجحة للموت، إلى مداراة له، أو تفاوض دائم معه. منتصرا يكون الكاتب طالما بقي على قيد الحياة. كما يمكن أن تتحول الكتابة ذاتها إلى تعميق لشروخ الذات وجروحها، ومزيد من حفر للهوة الفاصلة بين الكاتب والمجتمع إلى أن تصير مقبرة.
الكلام السابق، وإن بدا مقنعا نظريا، يحتاج إلى ورشة كاملة للبحث تنكب على إبراز آليات اشتغال تجربة الكتابة في الاتجاهين: هل شكلت الكتابة ملاذا آمنا من الموت لمجموعة من الكتاب كانوا منذورين للانتحار؟ كيف حصل ذلك؟ هل شكلت الكتابة خطرا على كتاب اتصفوا بهشاشة أصلية، فقادتهم إلى الانتحار؟ كيف تم ذلك؟
يرى البعض أن الفيلسوف الألماني الشاب Otto Weinenger الذي صوب طلقة مسدس إلى قلبه كان يمكن أن يعيش سعيدا، وتمتد به الحياة إلى أرذل العمر لو ظل إنسانا عاديا، دون الطموح الذي قاده إلى الفلسفة وما جره عليه كتابه “الجنس والطبع” من كشف فريد قاده التمسك به، أمام هجومات العلماء، إلى قتل النفس.
يمكننا قول ما شئنا عن الانتحار ومنحه ما شئنا من تفاسير، ولكن ذلك كله يظل شأنا لنا، نحن الأحياء، ولا يهمنا إلا نحن. أما المنتحر، فبإقدامه على محو نفسه، إنما يرسي قطيعة جذرية مع الحياة نفسها، بما في ذلك الإحساس والتفكير وإسباغ معاني على الأشياء والأفعال؛ ينتقل إلى الضفة الأخرى التي نجهل عنها كل شيء رغم وجودها بيننا. ربما بهذا المعنى وصف ألبير كامو الانتحار بأنه “السؤال الفلسفي الجدي الوحيد” .
نعم، شخصيا، حصل أن مرت بذهني فكرة الانتحار، لكن مرورا عاديا، وهو ما لا أظنه لم يخطر ببال أحد؛ فعندما نسمع بانتحار هذا الشخص أو ذاك، من معارفنا أو أقاربنا أو الأسماء البارزة التي تتداولها وسائل الإعلام، نعيش قلقا وأسى ليس إشفاقا عليه، فحسب، بل وكذلك – وربما بطريقة لا شعورية – إشفاقا على ذواتنا التي كان يمكن أن تكون هي المنسحبة لا الشخص الذي تلقينا صوت نعيه.
بهذا المعنى، يكون الملغز في حدث الانتحار (انتحار الغير) هو ذهابه بجزء من ذواتنا، ولو في الاستيهام والمتخيل. وبذلك، خلافا لما هو شائع من أن الانتحار مسألة فردية تهم المنتحر وحده، يكون محو الذات مسألة تهم المجموعة الاجتماعية بكاملها. ربما بهذا المعنى اعتبر جاك روسو يعتبر الانتحار نهبا يتعرض له الجنس البشري، ولهذا السبب مضت أوروبا الوسيطية إلى حد محاكمة جثة الشخص المنتحر، وأمر نابليون بمصادرة ممتلكات الأشخاص المتسببين في انتحار فرد ما
عندما يمضي من كان بيننا قبل قليل إلى الضفة الأخرى، فإنه يشركُ الجماعة بكاملها في تجربته، لكن يشرك أيضا الأفراد المكونين لهذه الجماعة، فيعيش كل واحد منهم تجربة الموت باعتبار الآخر هو موضوعها، لكن أيضا باعتبار الذات هي موضوعها؛ يقول الفرد: ماذا لو كنتُ أنا الذي انتحرتُ لا الآخر؟ ولكم أن تتصوروا الإجابة.
وفي إطار التجربة الشخصية دائما، إن كنتُ أخذت الفكرة مأخذ جد، في يوم من الأيام، لما كنتُ الآن أكتب هذه السطور. لماذا لم أخذها مأخذ جد؟ لماذا أخذها الذين عبروا إلى الضفة الأخرى مأخذ جد؟ ذاك أحد ألغاز الانتحار الذي يحيل كل حديث عنه إلى ضرب من الهذيان. معناه أنني لا يمكن أن أتحدث عن نفسي إلا باعتباري حيا، أما لو كنتُ أخذت القرار لكنتُ مضيت إلى الفعل، ولتركتُ أمر التفسير، دون أن أكون معنيا به إطلاقا، للذين سيتخلفون من بعدي، ولكانوا هم المعنيون بالكلام لا أنا. أما هذه الأنا فستكون دخلت دورة حياتية أخرى: دورة الذرة والغبار والنبات والمعدن والسديم.
منتديات طلاب الجامعة العربية المفتوحة، 3 يونيو 2005:
http://www.aoua.com/vb/showthread.php?t=18854

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 23-08-2012 02:56 صباحا

الاخبار العاجلة