عبد الله صالـح سفيـان، محمد أسليـم في كتاب الفقدان. أسئلـة الكينونة ومغامرات الاكتشاف

1٬275 views مشاهدة
minou
حول أعمالنامقالات
عبد الله صالـح سفيـان، محمد أسليـم في كتاب الفقدان. أسئلـة الكينونة ومغامرات الاكتشاف

يتبختر الكاتب المغربي محمد أسليم في جادات السرد العريضة كمن حاله: «.. واثق الخطوة يمشي ملكا»، حيث يحكي تارة، ويقص تارة ويشعر أو يروي كما الرواة تارة أخرى، متلفعا بخيال خصيب ورداء من الكلام جميل وإزار من اللغة شفاف وضيء، ليتقدم طارحا معالم «كتاب الفقدان» الحاوي لضرب من «مذكرات شيزوفريني»، والطاوي في جوفه لمقاصد بعيدة وبعيدة جدا أقلها – في المنظور منها – التأسيس لكتابة جديدة مسكونة بهواجس المغايرة. وربما استفاد شخصيا من الجدل المفتوح حول تداخل الأنواع الأدبية وإغناء كل منها الآخر بنهج يحتفظ لكل نوع بمقوماته ووجوده على نحو ما لدى الباحثين الأكاديميين، بينما الأمر ليس كذلك بالطبع لدى عموم القراء وخاصة المتذوقين لفنون القلم باعتبارها روح اجتهاد الإنسان الواحد الفنان.

«كتاب الفقدان» الطارح لنص «مذكرات شيزوفريني» إذن، أو الشارح لحالات إنسان يسمى طبيا بـ «الذهاني»، هو عرض حال لأحوال شخص مِنّا: روحا ولحما وعظما، زمانا ومكانا وكيانا ودما. يسطر في بداية مذكراته هاته: «أجدني في سرير بأحد مستشفيات الأمراض العقلية» (ص. 6). العلة إذن في احتمال يتوزع ضلعي ثالوث الجسد: إما الجسم أو النفس أو العقل. وربما كان التردد على الأطباء النفسانيين والفقهاء التقليديين والعرافين من صنف الدجالين والمشعوذين هو السبب الحاصر لصنافة الأعطاب العقلية والنفسية التي سكنت هذا الإنسان الذي أدرك إنسانيته الحيوانية من خلال اشتغال هيكل الأطراف وكتلة اللحم وستار الجلد الذي يكسوها، ولكنه عجز تماما عن تشغيل هذا الإنسان حينما أراد إرادة حقيقة التحقق من كيانه الأنطولوجي «الوجودي» للتجاوب مع العالم الخارجي الحافل بالناس والألفاظ والأشياء والآمال والآلام والأحلام أيضا.
هنا يقول: «جسدي ورطة حقيقية»، حقا لا علة فيه ولا نقصان ولا اعوجاج ولا عاهة، ولكن تبقى نقطة الالتباس الضاغطة في وعي هذا الإنسان لحظة الاتجاه الخارجي نحو السلوك السوي – إن كان موجودا – حتى يرفع عنه قلم الأحد الواصل للسلوك المرضي. وتتناسل الأسئلة المحتدمة في الكتاب: «أمجنون أنا أم متصوف؟ من أين كانت البداية؟ ومتى؟ وكيف؟ وإلى أين؟ أأنا المجنون أم اللغة؟…». حروب نار تحتدم، تضطرم في عقلي وروحي صباح مساء وأسئلة تتطاحن في رحى عقلي. إنها أسئلة الكينونة في جدل الهوية والوجود الواحد، المتعدد منذ الأزل وإلى الأبد تتواتر بحرارة وحيوية دافقة لتغذي الأطروحة المركزية في «كتاب الفقدان»، كناب الإنسان ذلك المجهول!!
«أطلقتُ ساقيَّ للريح باحثا عني» (ص. 11)، يسطر صاحبنا حاكيا. فبعد أن تردَّد على أهل الظاهر من عرافين وأطباء وغيرهم اتجه بوعي الكاتب إلى صحبة أهل الحال من الغواصين الماهرين في بحر الحقيقة محيط الوجود: الحلاج، نيتشه، ابن عربي… من الذين تتردد أصواتهم في تضاعيف الكتاب لتنسج شبكة من الخيال الجموح الذي يغذي الاستيهامات ويغني الأفكار ويقدح شرر الشطحات المبثوثة في المزيج المركب / المتجانس من «السردية» و«الشعرية» الآتية بإيقاعها الخاص في نثر الكتاب، ولتصادق بامتياز على كونه «كتاب الفقدان».
لنتخيل استطرادا، رجلا عارفا بما حوى جوفه. يقول: «انغرست قدماي في وحل الجنون» بسبب من التباس عام سكن أوضاع الناس والألفاظ والأشياء والنظر إليها وكذا الذوق والفكر وحق الامتلاء فالامتلاك. حق له في هذا المقام – بالمفهوم الصوفي الممتلئ – أن يقرر السبب في ورطته هي اللغة المصطلح عليها لقصورها عن حمل وبيان معاني ودلالات الأشياء ما دامت هي الوسيط الواصل بين الناس. ذلك لأن البشرية تواضعت واصطلحت على «اللغة» بإطلاق بعدما حجمتها بأحجام وقاستها بمقاييس ووضعتها في علب وقواميس لا خروج عنها ولا انفكاك منها إلا بالعودة إليها في مجتمع تعاقد على بشريته النَّاسُ. فهنا تتضاءل أو تقمع بوضوح مفارق جماع اللغات الممكنة التي من شأنها فك أسر المجنون أو الذهاني أو المفارق للسان الناس وكلام اللغة كما يراد لها أن تكون بحصر الاصطلاح.
لقد قرر جهابذة المتصوفة منذ فجر التاريخ قصور اللغة عن التعبير عند ورود الوحي أو الإلهام أو ظهور الحال بمقال فيه من التجديد أو الإبداع ما يؤشر لتقلب أيام الزمان بملكات ومخيال الإنسان الطامح لاكتشاف التماهي بين وجوده الأكبر والوجود الجامع بإطلاق.
كان صاحب المذكرات قد أوضح ما نصه «سجنتُ الأشياء والأسماءَ في كتابي [ثم بسبب من داء النسيان] تساءلتُ: ما معنى الكتاب؟» (ص. 73)، هذا الذي «أنفقتُ في تدوينه ثلث سني حياتي» (هل هي حياته السوية؟). وهنا ينعطف النسيان على الكتاب وهوية الكاتب الذي ينزلق ليقرر بصوت عالٍ: «أظل أعظم وأنبل وأذكى رجل عرفته البشرية على الإطلاق، بل أثر رجل على وجه البرية بما أملكه من ثروات فكر وأزمنة طائلة» (ص. 49 و80). ورغم انحداره منزلقا يهتف مبشرا بوعد مهدوي كالمسيح المنتظر: «عما قريب سأقدم لكم الدليل الملموس على أن شخصية مثلي إن هي إلا فلتة لم يجد به التاريخ إلا مرة واحدة… سأصوغ لكم تمثلا صحيحا للعالم يضعكم في عمق زمن قادم لا ريب فيه… حذار أن ترتكبوا مغبَّة السخرية من هذا الوحي الذي ألقيه عليكم» (ص. 81).
يستند محمد أسليم في صياغته لهذه المذكرات الحبلى بأسئلة الكينونة والوجود ومغامرات الكشف والابتكار الهادف لإحداث حضور جديد للإنسان في ذاته ومن جنس بيئته وفضاءاته، يستند على معرفة عالمة بالاجتماعيات وعلوم الإنسان ومعارف العصر التي ساهمت في إذكاء جدل المتخيل وعنف المخيال الرافد لتداخل السردية بالشعرية في متن الكتاب، وهو ما يسهل للمضمون الانسياب بهدوء وجمالية جاذبة للقارئ الباحث عن متعة القراءة بحق الحياة. ويتكئ في مساره على ما جاد به فلاسفة الاختلاف والشك والغواصين من المتصوفة والشعراء كما تشهد بذلك النزعة الخطابية الطافحة بخطاب الواحد / الفرد إلى الجماعة / الناس في محاولة منه – أي المحكي عنه – إقناع الآخرين أو تعبئتهم أو إعادة صياغتها بما يمتلك من عالمه الخاص الوارد رسمه في «كتاب الفقدان» مادام الطريق في الكتابة السردية الواردة في المتن إذ رصعها الكاتب بجملة تساؤلات استفهامية وفلسفية طالت الإنسان والكون ووجود الحياة امتداد العوالم الأخرى والممكنة الآتي بها الزمان مادام فيها سالكا كالزاهد المتبتل في دروب الدنيا المنفتحة على الآخرة كمبتدأ لحياة هي الصوت ودونها الأصداء.
وبعد، إن «كتاب الفقدان» هو كتاب الإنسان بامتياز، الإنسان الواحد / الفرد / المتجدد / الحاضر والذات والموضوع والصدر والمبدع أو المريض والمهمش أو المعتوه ببصمة طيبة أو المنبوذ بصفة اجتماعية أو المسكون / المملوك بنظرة فقهية. وأمام الغياب البين أو الفاضح – لبحث الإنسان – باعتباره ذاتا فاعلة – ف بتراثنا القديم، وهو غياب يمتد ويتمظهر في الأدبيات المعاصرة المحكومة بسلطة الواقع وواقع السلطة، أمام كل هذا لا يملك القارئ إلا أن يبادر ليمتلك نسخته من «كتاب الفقدان» حتى لا يصير الفقدان ذاتا فعالة بعد أن كان نصا مفعولا. ولا أقصد بالطبع تلك النسخة المادية الفانية من الكتاب، ولكني أحيل إلى ما افتتحت به هذا المقال الطامح إلى لفت نظر العابر ليتأمل في مذكرات إنسان منا أو هو الوجه الآخر لقطعة العملة الإنسانية عشما في العبور من زمن الأزمنة بعد السباحة في طوفان الفكر وسديم الأزمنة إلى حقيقة الذات: ذات الحقيقة. هذا إذا أحسن هذا الواحد – منا الإنصات للذات.
محمد أسليم إذن – كعود على بدء – كاتب هو راهب معتصم بحبل الكتابة على شرطه الخاص، بل وعلى حسابه الأخص، فقد ذهب في كتابه «حديث الجثة» (منشورات علامات، مكناس، 1966) إلى استنطاق الموت باعتباره وجها آخر لعملة أو بالتأمل الجواني في المفارقة / الحياة، ويعود اليوم في «كتاب الفقدان» (إصدار شخصي بالمغرب، 1997) إلى استنطاق الجنون بعد ضروب من التقمصات والاشتباكات التي غمرت تقاطع الحدس والخيال والاستيهام لتقدم كتابة جديدة تطمع في استثمار المعارف المستحدثة لتواكب رهانات الحداثة.

(ألقي هذا العرض خلال اللقاء الذي نظمته مندوبية وزارة الثقافة بمكناس، حول كتاب الفقدان، يوم 14 فبراير 1998، ثم نشر بالملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة العلم، 15 نونبر 1997، س. 28.)

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 08-09-2012 11:03 مساء

الاخبار العاجلة