محمد أسليم: «كتابي الأول» بين زمنين / إعداد: حسن الوزاني

1٬224 views مشاهدة
minou
قضايا وملفاتمقالات
محمد أسليم: «كتابي الأول» بين زمنين / إعداد: حسن الوزاني

«حديث الجثة» هو «كتابي الأول»، وهو مجموعة نصوص سردية كانت قد صدرت جميعا في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي أيام كان النشر في هذا المنبر يكاد يشكل امتيازا صعب المنال؛ كانت الصعوبة متأتية من اعتبارات تتصدرها حكاية المصفاة الأدبية أساسا.
جاءت فكرة إعادة نشر تلك النصوص في كتاب منفرد لمنحها حياة أخرى ولتمكين قرائها الفعليين والمفترضين من الحصول عليها مُجتمعة بين دفتي كتاب بدل أنْ يبحثوا عنها في الملاحق الثقافية، فطبعتها. لم يتجاوز عدد النسخ المسحوبة 1000 نسخة، وهو عدد كاف بالنظر لمحدودية مجال التوزيع ولطبيعة تلك النصوص التي تتناول موضوعة لا يحبها الناس جميعا كما أنها ليست في متناول عموم القراء، وهي موضوعة «الموت»، ناهيك عن طرقها باعتبارها وجها ثانيا للحياة، بمعنى أننا كل ما نفعله هنا والآن هو أننا نعيشُ موتنا ونَمُوتُ حياتنا. وقد يكون ذلك النشر شكَّل شبه بعث من الرماد لتلك النصوص، حيث حظيت بأكثر من قراءة ولقاء هنا وهناك، إما في الواقع أو في منابر للنشر الورقي، تجمَّعَ منها ما أمكنَ نشره في كتاب مستقل تحت عنوان: «الكتابة والموت. دراسات في حديث الجثة».
هكذا اعتبرني البعضُ «كاتبا»، أي شخصا لا يقوى على التعبير عما قد يمتلكه الناس جميعا دون أن يمتلكوا أداة التعبير عنه فحسب، بل وكذلك يغرِّدُ خارج سرب الكتاب على نحو ما يفعل كل كاتب أو يُخيَّلُ إليه… لا يحصل المرءُ على الوضع الاعتباري للـ «كاتب» ما لم يُبِنْ عن فرادة تميزه عن حشد الكتاب ويعترف له بها جمهور القراء وحلقات النقاد. وحيث يتعذر على أي كانَ أن يحصل على إجماع مطلق في «جمهورية الأدب»، كان طبيعيا أن اعتبرني آخرون «شبه كاتب»، فيما شهر آخرون في وجهي بطاقة حمراء: «لماذا قصدتَ مجلس الأدباء بدل مجلس الفلاسفة؟»…
ثمَّ اكتشفتُ شبكة الأنترنت سنة 1997، أي بعد عام واحد عن صدور كتابي الأول، فتعاملتُ معها تعاملا براغماتيا لا غير. لكن لم يحتج الأمر لأكثر من ثلاثة أعوام لأجد نفسي مدمنا هذا القادم الجديد الذي اتضح بمرور الوقت أنه يتجاوز مجرد تقنية أو وسيط إلى كونه طوفانا حقيقيا بصدد جرف الأخضر واليابس، ومعه ليس كتابي الأول فحسب (ولو أنَ الشبكة منحت الكتابَ قوة وهشاشة غير مسبوقتين على امتداد تاريخه الذي يعود إلى ق II ق.م)، بل وكذلك مفاهيم «الكتاب» و«الكتابة» و«الكاتب» و«القراءة» و«القارئ» و«النشر»، وسائر مكونات المؤسسة الأدبية بما ينبئ بأننا قد شرعنا سلفا في المشي فوق أنقاض ما استغرق بناؤه عشرات آلاف السنين، ليس في قطاع الإنتاج الفكري والفني فحسب، بل وكذلك في سائر مناحي العالمين الاجتماعي والطبيعي… هل لفائدة موت وتلاش معممين على نحو ما يحذر البعض؟ سؤالٌ المستقبل وحده يحتفظ بالجواب عنه. لكن في الانتظار يمكن تأكيد شيء واحد: حلقة جديدة في مسيرة أنسنة الإنسان وتحضره قد انطلقتْ وأننا بصدد الخروج من حضارة الكتاب.
من مميزات الحلقة الجديدة، على صعيد الكتابة والكتاب، أن صارَ بإمكان أي كان أن يكتبَ «كتابه» خارج المؤسسات الأدبية الرسمية التي ستُنعتُ من الآن فصاعدا بـ «التقليدية»، وينشرَه في الأرجاء الأربع للمعمور، دون أن يحتاج إلى جواز سفر أو ينتظر تأشيرة مرور، ما جعل البعض يقول إنَّ الخطابَ قد دخل مرحلة النزيف. وإذا كان بوسع النزيف أن يؤدي إلى الموت (ولنتذكر بهذا الصدد مقولة «موت المؤلف» التي نادى بها فوكو وبارث في نهاية ستينيات القرن الماضي)، فإنه يمنح في الآن نفسه الشعور بأن الكتابة والكتاب، ومعهما الكاتب بالقوة الكامن في كل إنسان، قد دخلا أخيرا جنَّة عدن.
«كتابي الأول» موجود الآن هناك: في «جنة عدنه» التي هي في الآن نفسه موجة تسونامي تحمله، أكتفى بالنظر إليه من بعيد، من حين لآخر… دون أن أنشغل بما إذا كان لازال كتابا فعلا ولا بما إذا كان يقرأ أم لا… إذا كانت موضوعته المركزية هي «الموت»، فأمنيتي أن تمتد بي «الحياة» حتى أشاهد كيف ستتحول تلك «الجنة» إلى «جهنَّم» وأرى ما ستفعله موجة التسونامي ليس بي و«بكتابي» فحسب، بل وكذلك بملايير الكتب المودعة في الشبكة والقادمة إليها على السواء…

———

(ملف الكتاب الأول، إنجاز حسن الوزاني، وصدر عن وزارة الثقافة المغربية في كتاب سنة 2012)

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 26-08-2012 05:50 صباحا

الاخبار العاجلة