أبحاث في السحر: 03 – كاترين باكيس-كليمـون: الموضوع الـرديء

1٬245 views مشاهدة
minou
أبحاث في السحرمترجمـات
أبحاث في السحر: 03 – كاترين باكيس-كليمـون: الموضوع الـرديء

I – [نظـرية جديدة في الشأن الاجتمـاعـي]
من دوركهايم إلى مارسيل موس، ومن موس إلى ليفي ستراوس يكتمل تكوين نظـرية جديدة في الاجتماعي. فميرلوبونتي كان آنفا يقـرأ موس: «استعاديا من منظور الأنثروبولوجيا الاجتماعية»[1]. وليفي ستراوس أتم بعمله مسيرة قادته إلى تطبيق نظرية موس في «الظاهرة الاجتماعية الكلية». فبالتحليل البنيوي للمتن الأسطوري أنتجت روايات الميثولوجيات[2] المتعاقبة ترابطات الشفرات المتوالية التي تحقق الربط بين مختلف مستويات الكل الاجتماعي. بيد أنه إذا أمكن القول بأن دروس (الـ) بحث في الهبة[3] قد تم استخلاصها، وأن مفاهيم (الـ) تبادل قد تم وضعها في شبكات نظرية قوية (تبادل النساء في القرابة، وتبادل الممتلكات في أشكال الاقتصاد البدائية، وتبادل العلامات في الأساطير)، فإن الأمر على خلاف ذلك فيما يخص (الـ) نظرية (الـ) عامة في السحـر[4].

ترجمة: محمد أسليم

فلربما حان وقت الرجوع إليها و – أكثر من ذلك – إلى قراءة ليفي ستراوس لها، إذ يمكن أن نستخلص منها متتالية بكاملها: يلتقي كل من تاريـخ الجنون[5] الذي أخرجه ميشال فوكو من مكان آخر مع مختلف المنشورات التي يصدرها حاليا الطب العقلي المضاد بأشكاله المختلفة (كوبر Cooper، لاين Laing، هوشمان، جنتيس Gentis ) مع منعطف الفكر الفرويدي في امتداداته اللاكانية (مانوني Mannoni ) بشكل جلي حيث تتضح أيضا الظاهرة النظرية التي ترتسم عند موس وليفي ستراوس، ألا وهي مكانة الإقصاء في الظاهـرة الاجتماعية.
لقد سعى موس في (الـ)نظـرية( الـ) عامـة في السحـر كما في (الـ) بحث في الهبة إلى عزل العنصر الذي يربط ويفرق – في الظاهرة الاجتماعية الكلية – بين الأفـراد والمقولات والأشياء، وبذلك قال عن الـ (مانـا)[6]:
«ليس مفهوم المانا في نهاية التحليل، شأنه شأن مفهوم المقدس، سوى جنس مقولة الفكر الجماعي الذي يؤسس هذه الأحكام، الذي يفرض تصنيفا للأشياء، فيعزل هذه ويجمع تلك، يقيم خطوط تأثير أو حدود عـزل» (موس، 1968: 115).
كما قال أيضا في معرض تعقيبه على مداخلة لليفي برول (Lévy-Bruhl) في موضوع «العقلية البدائية»: «ليست «المشاركة» مجرد غموض، بل هي تفترض مجهودا في المزج ومجهودا في إقامة التشابه. فمنذ الأصل توجد إرادة في الربط» (م.س: 130، والتشديد منا). وقد وجد موس أساس هذا البحث عن العامل الميكانيكي الرابط – المختص بكل ثقافة – في قيمة اللغة المتمثلة في (الـ) مانا، في الوثاق اللغوي. وليفي ستراوس يردد المشكل. فهو، من جهة، يواصل نقد البدائي أو ماقبل المنطقي وأنتج «الفكر المتوحش»، هذا الأخير عنده معاصر للفكر «غير المتوحش» )هل يعني به المتمدن؟(، له منطقه الخاص، له تسلسلاته وتعقيداته، يفصل ويوحد وينفي. لكنه، من جهة أخرى، جعل هذا المفهوم ينتقل. فليفي ستراوس في الوقت نفسه الذي يصف فيه الفكر المتوحش يبين أيضا التمركز العرقي الذي يطرح هذا الفكر كضرب من «الماقبل»، كأصل تاريخي للفكر المثقف. لقد كان هذا التمركز العرقي حاضرا عند موس ومتجاوزا في آن. فلولا موس لما أمكن تحقيق هذه الإزاحة عن المركز. فهو، مثـلا، قادر على التفكير في التشابه الموجود بين السحر والهستيريا، ومن ثم في ديمومة ضرب واحد من وسم الجسد في كل مجتمع. كما استطاع أن يبين ما ينحدر من السحري في سلطتنا القضائية:
«هكذا … فالاستدلال الذي يقوم به قاضي التحقيق اليوم استدلال منطقي، لكن القاعدة التي تريد، مثلا، أن يقود كل موت عنيف إلى إجراء تحقيق هي قاعدة تنتمي حتى في مجتمعاتنا إلى صعيد آخر من الفكر غير الصعيد المنطقي» (م.س).
والحالة هذه، إن نقد نزعة التمركز العرقي التي دحضها ميشال ليريس (M. Leiris) وليفي ستـراوس، هذا النقد الحاضر بشكـل متكتم عند موس يلتقي مع حقل آخر من النقد ينصب على ضابط أو معيار (Norme) الصحة العقلية كما أنه يشتغل باشتراك مع نظرية في تكوين الجنـون.
وحتى نستوعب الحقل الجديد الذي يرتسم أمامنا سنستخدم إجرائين متصلين: إجراء ليفي ستراوس الذي استعمله في المقدمة التي كتبها لأبحاث موس المجموعة في كتاب السوسيولوجيـا والأنثروبولوجيا، ثم إجراء النظرية التحليلية النفسية. يلتقي النقد الإثنولوجي والنقد التحليلي في كون كلاهما يحول ميدان السوية، يبين طبيعته الثقافية ويستخلص منه النتائـج النظريـة والأخلاقيـة. غيـر أننا، مع ذلك، نسجل غياب هذه النقطة المركزية: إذا كانت النظريتان معا قد دفعتا نقد الضابط إلى حدوده القصوى، فإن فكرهما فيما يخص تغيير هذا الضابط يبقى عديم الفعالية. فكيف يمكن تعديل هذا الضرب من التصنيف الذي يقسم الأفراد المجمعين إلى أسوياء ومـرضى، إلى عقلاء ومجانين، إلى متمدنين ومتوحشين، إلى راشدين وأطفال؟ ما هو محرك إواليات الانشطار (Mécanisme de clivage) هذه التي تحرك كل ثقافة من الثقافات؟ إن هذا الغياب الملحوظ الذي من شأنه أن يغرينا بالتسرع إلى ربطه بغياب ظاهري آخر مترابط معه – هو غياب نظرية في التاريخ – يبدو على الأصح منحدرا من تبسيط لدور العامل الاقتصادي، ودور المحددات المادية، والدور الحاسم الذي تلعبه علاقات الإنتاج. إن العامل الاقتصادي حاضر في نظريتي الثقافة هاتين – الإثنولوجية والتحلينفسية – إلا أنه غالبا ما يتم تصورهما باعتبارهما سببية مبسطة، باعتبارهما فاعلا غير مرئي وأخير في السيرورة التي تصفانها، فضلا عن ذلك، بإسهاب. إنه عندهما علة، لكنها علة بعيدة. ولاريب في أن ما تهدف إليه هذه الأنثروبولوجيا هو إقامة تصور جديد للسببية التي لا زالت لا مفكرا فيها، تصور يتيح – وفي آن واحد – تحليل سيرورة من السيرورات، وأفضل من ذلك تفسير اختفائها.

II – حكايات مجانيـــن
«… إن ما ندعوه سليم الفكر بالمعنى الدقيق هو من يصاب بالجنـون بقدر ما يقبل الوجود في عالم لا يحدد إلا بعلاقة الأنا والغير. فكما تفرض صحة العقل الفردي المشاركة في الحياة الاجتماعية يطابق رفض هذه المشاركة (لكن أيضا بالكيفيات التي يفرضها) ظهور اضطرابات عقلية (ليفي ستراوس، 1950: 20).
بهذه الكلمات يفسر ليفي ستراوس المقارنة التي كثيرا ما يتم عقدها بين الشامانية[7] والعصاب. وإذن فضابط الصحة العقلية ينحدر من المشاركة الناجحة في المجموع الاجتماعي كما ينحدر ضابط الجنون من المشاركة المحبطة في المجموع نفسه. والتعريف الذي يعطيه ليفي ستراوس للثقافة يتيح لنا أن نفهم ما يلعبه الرمزي من دور مبنين: «يمكن اعتبار كل ثقافة بمثابة مجموعة من الأنظمة الرمزية تأتي في مقدمتها اللغة والقواعد الزاوجية، والعلاقات الاقتصادية، والفن، والعلم، والدين». وهذا التمفصل المعقد الخاص بالثقافة هو الذي يفسر ما يتصف به من نقص. فماضي الثقافات وتداخلاتها يقيمان قطيعات وصدوعا من ضرب أن:
«المجتمع لا يكون دائما مجتمعا رمزيا بشكل كامل وشامل، أو أنه بالأحرى يفشل دائما في منح جميع أفراده، دفعة واحدة، وسيلة لينصرفوا كليا إلى تشييد بنية رمزية خارج صعيد الحياة الاجتماعية»
من ثمة، فالمجنون يوجد خارج اللعبة الاجتماعية، وهو مطالب – يضيف ليفي ستراوس – بتجسيد «تسوية يتعذر تحقيقها على الصعيد الاجتماعي…، يطالب بتجسيد تحولات متخيلة وتوليفات متنافرة. «فمجنون الملك، ومجنون الحب، والأحمق الذي يجب تقييده [بالسلاسل]، والمجنون الخطير، كل هؤلاء يمثلون في نظر الجماعة المشدودة إلى نفسها بالبنية الرمزية انفصالا مستحيلا. وبتعبير أفض إنهم يمثلون المستحيل، يمثلون التفكك.
وتعلمنا «حكايات المجانين» أيضا الكثير حول طبيعتهم الخاصة. وسنتذكر العناية التي أولاها فرويد للنكتة وحكايات المجانين واليهود متى استبدلنا المجنون باليهودي باعتبار أن هذا الأخيـر نظيـر للأول في الإقصاء. فالضحك يسم علامة انفصال الجماعة عن نفسهـا تجاه هذا التفكك الآني وغير الدائم. تدافع الجماعة عن وحدتها المخترقة. لقد تبنى جاك لاكان فرويد في هذه النقطة فأطلق إسم «التعاقد الدال» (Convention signifiante) على الميدان الاجتماعي الذي يدور فيه يومي اللغة، وهو ميدان يفلت منه خطاب الجنون أو خطاب اليهودي المضحك.
«ليس ذلك المكان بشئ آخر غير مكان التعاقد الدال كما يظهر في كوميدي هذه الشكوى الأليمة التي يبثها اليهودي إلى شريكه المتواطئ: «لماذا، عندما تكون ذاهبا فعلا إلى كراكوفيا، تقول لي إنك ذاهب إلى كراكوفيا لتجعلني أتوهم أنك متجه إلى لمبرغ؟».» (جاك لاكان، 1966: 225)
إنها حكاية مأسورة بشكل مزدوج في الشبكة التعاقدية: مأسورة في تعاقد الجماعة الكبرى وفي تعاقد فرعي يقع داخل هذه الأخيرة، وهو مجموعة التعاقد «اليهودي». والتعاقدان الدالان معا، بتفاوتهما وتقاطعهما، يثيران الضحك من – والدفاع ضد – حقيقة لا تطاق، حقيقة الإقصاء. يتمثل التعاقد القاعدي في قول الصدق، في عدم الكذب. أما التعاقد «اليهودي» في الحكاية السابقة فهو على العكس يقوم على الكذب دائما. فاليهودي الشريك المتواطئ في الحكاية عندما يقول الصدق ولا يكذب بخصوص وجهة سفره، فإنه يخرق تعاقده الخاص أو يخرق على الأقل التعاقد الذي يعطى له، لكنه يستعيد أيضا التعاقد الذي يهمشه ويقصيه. أن يكون المرء «يهوديا» هو أن يزعم أنه مسافر إلى لمبرغ عندما يكون ذاهبـا إلى كراكوفيا. والشئ نفسه يصدق على الجنون. فأن يكون المرء «مجنونا» هو أن يجد نفسه دائما خارج التعاقد الدال لجماعة مقصية.
لكن المجنون واليهودي يلتقيان، لهذا السبب، في خط انشطار أوسع من ذلك الخط الذي لا يفرق سوى بين المجنون وذي العقل السليم. ويمكن القول، تبعا لفكر ليفي ستراوس، بوجود نظامين مختلفين: الأول نظام التعاقد الدال، وهو «مكان ثالث، ليس هو كلمتي وما هو بكلمة محادثي» (م. س)، فيه يدور كل خطاب مؤسساتي ومجموع الخطاب الاجتماعي اليومي. إنه المكان الذي يعرف فيه «مقصود الكلام»، المكان الذي ينتقل فيه الخبر بلا غموض وتتلقى فيه الأوامر وتعطى. أما النظام الثاني المختلف الذي كثيرا ما يقال إنه يقوم على «نظام مضاد» فهو نظام جميع الخطابات التي تنتهك بطرق متنوعة ذلك التعاقد الدال المحدد لثقافتها. ومن ذلك النكت، والمغالطات، وقلب العبارات، وكافة الملح التي تكشف عن الوجه الآخر للعقل. فكل ذلك يشكل جزءا من خطاب يسخر غموضه للهزء بقاعدته الخاصة. ومن ذلك أيضا خطاب كل جماعة مهمشة داخل أمة من الأمم عبرما يطلق عليها [أي الجماعة] من أسماء خارجية كاليهود، والغجر، والبوهيميين، وكافة أشكال التائهين، وكلها تسميات عنصريـة.
لنتابـع آخر عناصر هذه المتتالية. يقول موس عن الساحر:
«الساحر هو بشر اعتقد أنه لا نظير له وجعل من نفسه كذلك في الآن عينه الذي تم تصديقه وجعله لانظير له … ونحن نتردد في القول بأن له روح زائدة. فهـو لا يملكها إلا في بعض الأحيـان، بشكل جزئي وفي بعض المجتمعات فقط. والثابت هو أن للساحر دائما حياة وقدرة روحية جديدة تماما. فهو صار آخر، ويظل آخر، كما أنه مضطر لأن يبقى كذلك». (مارسيل موس، 1968: 368).
أن تنطبق القولة نفسها على المجنون كما يحدده مجتمعنا، فذلك مفهوم جيدا. ويبقى من الضروري تبرير دخول المحللين النفسانيين في فئة «الموضوعات الرديئة». إن كل مفعول للاشعور يولد خرقا ما للاصطلاح الدال. فالحلم، وزلات اللسان، والفعل المحبط كلها «نكت». وحتى يجري العلاج التحليلي في ميدان لا تتدخل فيه ضوابط اللغة ارتأى فرويد ضرورة إرساء «قاعدة جوهرية» في مستهل العلاقة بين المحلل (L’analyste) والمحلل (L’analysé) بموجبها يتعين على هذا الأخير أن يقول كل شئ فلا يكتم أي شئ من تداعياته ولا يقع في أسر أي تعاقد أو اصطلاح. بهذه الوسيلة يتم «إحياء الدال» في التحليل (حسب جاك لا كان)، وهو إحياء يمر بالعديد من الانتهاكات المتعاقبة: النقل، والتكثيف، وقلب كلمة من الكلمات إلى ضدها، وتفكيك مفردات اللغة وإعادة تركيبها بلغة أخـرى، تجاه الشئ الواحد. بهذا المعنى يمكن أن نفهم – بالعودة إلى نـص ليفي ستـراوس – كيف تجسد الموضوعات الرديئة التي جردنا قائمتها قبل قليل «الدال العائم» (Signifiant flottant). هذا الأخير الذي سبق أن اكتشفه موس في إسم «مانـا» أو «فاكان»[8] أو أوريندة[9] وليفي ستراوس في إسم شئ ما (Truc) أو كذا (Machin)، والذي هو [أي الدال العائم] قيمة رمزية صفر، درجة صفر للتدليل (Signifiance)، قابـل لأن يحمل بأي مضمون رمزي، يمكنه أيضا أن يكون مجنونا، أويهوديا أو عموما علامة التعـرض للإقصاء من طرف الجماعة». ونظرا لكونه عائما فهو ينفر من الجماعة وقدره يبدأ بمعارضتهـا.

III – عـلاجــات
غير أن الخطابات الرائجة خارج التعاقد الدال تكون خطابات مسخرة لأداء وظائف محددة يأتي في مقدمتها ما يحدد هذه الخطابات نفسها، أي الانتهاك وتجسيد المستحيل في لحظة من لحظات تطور ثقافة من الثقافات. وبالارتكاز على حالة السحر والشامانية والتحليل النفسي يمكن إضافة أن وظيفة المقصي هي الإشفاء. فقد برهن ليفي ستراوس في مؤلفه الأنثروبولوجيا البنيوية على القدرات العلاجية لما يسميه «الفعالية الرمزية»، أي استعمال اللغة استعمالا يولد تأثيرات في الواقع. وبالطريقة نفسها يضمن المحلل النفساني، من خلال تسخيره التحويل للتأثير في الزمنية، تولد التأثيرات المشوشة والشفائية من اللغة التي يستعملها الْمُحَلِّلُ (Analyste) في عملية العلاج. إن لمضاد نظام الخطاب الرائج خارج التعاقد الدال وظيفة تتمثل في علاج آثار الخلل الناتج عن هذا التعاقد نفسه. والاختلال هو الذي يضطلع – وبشكل مفارق – بوظيفة إعادة الإدماج في النظام مع أنه نقيض لهذا الأخير. لقد كتب موس في معرض حديثه عن قدرة الساحر السحـرية (‘المانا) مايلي:
«استمد الساحر المانا من عالم القوى الفوطبيعية، من عالم المانا نفسه. لكن تلك الأرواح والقدرات لاوجود لها خارج التوافق الاجتماعي وخارج الرأي العام للعشيرة. فالساحر يتبع ذلك الرأي، إنه مستغل له وعبد له في آن واحد» (مارسيل موس، المرجـع السـابق).
ويمكن أن نأخذ هنا تمييزا آخر أقامه ليفي ستراوس للتفريق بين نوعين من المجتمعات: مجتمعات أنثروبوفاجية[10] وأخرى أنثروبويمية (Anthropoémiques). فالمجتمعات الأنثروبوفاجية هي تلك التي «ترى في ابتلاع بعض الأفراد الذين بحوزتهم قـوى رهيبة الوسيلة الوحيدة لتحييد تلك القوى، بـل وحتى الاستفادة منها» (ليفي ستراوس، 1955: 418). وفي هذا النوع من المجتمعات يسخر الأفراد لأداء وظائف «ذات نزعات» علاجية سحرية دينية أو سياسية. وهؤلاء الأفراد هم ضمانة مجتمع منتج للشذوذات ووثاقه الرمزي. وبذلك يمكن لأبله القرية في التقليد السلافي أن يقول كل شئ، فيتهم القيصر، مثلا، بأكل الأطفال. إنه أبله مقدس ووظيفي. وعلى العكس، فالمجتمعات الأنثروبويمية هي:
«تلك التي اختارت إزاء المشكل نفسه حلا مقلوبا يتمثل في طرد تلك الكائنات الرهيبة خارج الجسد الاجتماعي وإبقائها معزولة، بكيفية مؤقتة أو دائمة، في مؤسسات مسخرة لهذا الاستعمال» (نفسـه: 418).
وتلك المؤسسات هي سجوننا ومستشفياتنا وأمكنتنا المسخرة للحجز، وهي الحركة الإيديولوجية نفسها التي «ترى» وتساند في الوقت الراهن بقاء المعازل والسجون، وهما موضوعا رجة عنيفة. آنذاك يتيح لنا تمييز ليفي ستراوس الملائم أن نموضع السحر والتحليل النفسي بشكل أفضل. لقد اعتمد التحليـل النفسي منذ بدايـة تاريخه على هذا الانشطار (Clivage) القائم بين المجنون وذي العقل السليم. وبنقل التحليل النفسي لهذا الانشطار، فإنه يتموضع داخل نموذج ثقافي لم يعد هو نموذجنا أو ليس هو نموذجنا. إنه نموذج المجتمعات الأنثروبوفاجية التي تطلق العنان لمجانينها. وذاك هو ما تبينـه حركة مناهضة طب الأمراض العقلية. فبازاغليا يقول:
«هنا يصير الوجه الآخر للانحراف هو المرض بوصفه قيمة وأزمة طب الأمراض العقلية باعتبارها صحة. وهذا يؤكده إدماج الجنون في المجتمع بعد عزله الموغل في القدم، يؤكده في تفاقم الأضداد أو قلب الأدوار» (بازاغليـا، 1971).
ومعنى قلب الأدوار أن تناوب قيمتي جنون/عقل ومرض/صحة يثبت تكامل مظهري الضابط أو المعيار. إذا كان الموضوع الردئ والموضوع الجيد يحددان ويوضعان في الجماعة بكيفية مختلفة فإنهما يشكلان في الواقع زوجا قابلا للانعكاس. ومن ثم «يمكننا القول إن العلاقة بين السلوكات السوية والسلوكات غير العادية هي علاقة تكاملية» (ليفي ستراوس، 1950: 21). وما هذا التكامل إلا نتيجة التقاء التحليل النفسي مع الإثنولوجيا، هذا الالتقاء الذي أحياه جورج باطاي في مؤلفه دفاتـر الـعلم الآخر (Dossiers de l’hétérologie).
والحالة هذه، يقع في ميدان هذا الالتقاء ضرب من الإقصاء النوعي يشكل هو الآخر موضوع حركة إيديولوجية يعرضها مارسيل موس كالتالي:
«لنلاحظ أن جميع هؤلاء الأفراد الذين لا شأن لهم، المصابين بعاهات، والمعطوبين، والجوالين، يشكلون في الواقع أنواعا من الفئات الاجتماعية. وهم لا يستمدون خاصياتهم السحرية من طبيعتهم الجسدية الفردية وإنما من الموقف الذي يتخذه المجتمع إزاء صنفهم بكامله. والأمر نفسه ينطبق على النساء» (م. موس، 1950: 20، والتشديد منا).
لقد سبق ميشليه إلى إدراك ميلهن إلى السحر وقابليتهـن لأن يصرن ساحرات. ومجموعة الميثيمات[11] التي نسجها حول الساحرات تتألف في آن واحد من غشيان المحارم (L’inceste)، والتمرد، ونظام مضاد موجه لإلغاء نظام الأسياد ونظام الكنيسة. والساحرة، والمرأة عموما، تتوفر بالخصوص على قدرة انتهاك علاجية:
«لقد ظلت الساحرة على امتداد ألف عام الطبيب الوحيد الذي يداوي الشعب… وقد استحقت مكافأة على ذلك فنالتها. لقد لقيت جزاءها في المحرقة وكافة أشكال التعذيب» (ميشليه: 1964، 32 – 33).
يقول موس – وقد سبق فرويد إلى البرهنة على ذلك – إن الهستيرية حلت محل الساحرة. وبالإنصات إلى الهستيريات اكتشف فرويد تأثيرات اللاشعور، وسلطته على الجسد، ومنافذه وفلتاته المبهمة. ففي الحالتين معا (حالة الساحرة وحالة الهستيرية) أفضى إقصاء اجتماعي إلى تحول علمي. لقد بين ميشليه وموس جيدا كيف أنجب السحر العلم. فالطبيب هو ابن الساحرة. كما أظهر أيضا أن كل تقدم علمي إنما هو «خطيئة يقترفها الشيطان. «فقد قلب فرويد الحقل الطبي فأنتج العلم التحليلي بتفكيكه جوهر وكيان علم تصنيف أمراض الهستيريا. وليفي ستراوس لم يخطئ في ذلك لما جعل في كتابه البنيات الأولية للقرابة من المرأة قيمة تبادلية شأنها شأن العلامات اللغوية، وبذلك فالمـرأة مانا، دال عائم، دال الإقصاء، دال الدال نفسه.
لكن مع هذا المصطلح الأخير الذي أضفناه إلى متتالية الموضوعات الرديئة يرتسم جسر ذو طابع آخـر. لقد عزا أنجلس في معرض وصفه لعملية إقصاء المرأة ظاهرة الإقصاء هذه إلى مصدر تاريخي هو نشأة البورجوازية والزواج الأحادي المرتبط بها. ونظرا لأن ما يتم التركيز عليه دائما في بناء نظرية للإقصاء هو إمكانية وضع حد لهذا الأخير. فقد حاول أنجلس أن يستنتج أيضا من المصدر السابق الحوافز التي لا تقع على المستوى الذي يتـم فيـه هـذا الإقصاء. والحالة هذه، إذا كانت أمكنة المجنون والمرأة والمحلل النفساني تشير إلى نقط قطيعة وتحول في تاريخ الذهنيات فإن هذه الأمكنة توظف سلط اللغة الحاسمة والمحسوسة. ولا يهم كثيرا أن يأخذ المجنون مكانة الحكيم، ويأخذ غير السوي مكانة السوي، وتأخذ المرأة مكانة الرجل. فـ «الوجه الآخـر للانحـراف هـو أيضا انحراف»، كما يقول بازاغليـا.
ونحس هنا بالمكانة التي يصيرها تحول يتعدى كونه مجرد قلب للأدوار إلى الاتصاف بطبيعة أخرى. إن أخذ الموضوع الردئ للكلمة، فاتحة كان هذا الأخذ أو خاتمة، هو علامة ذلك التحول وليس نتيجة له. والآن وقد تمت مباشرة قلب الضوابط من كل الجهات، وبشكل مثير جدا، فإنـه يبقى من الضروري إيجاد تفسير له.

الهوامـش والمـراجــــع
– BASAGLIA, Franco.
1971, Interview dans l’Idiot international.
– FOUCAULT, Michel.
1972, Histoire de la folie à l’âge classique, Paris, Gallimard.
– LACAN, Jacques.
1966, Ecrits, Paris, Seuil.
– LEVI – STRAUSS, Claude.
1949, Les structures élémentaires de la parenté, Paris, PUF, Réédité chez Mouton ]1967[
1950, Introduction à l’Erreur ! Signet non défini.uvre de Mauss», in Marcel MAUSS, Sociologie et anthropologie, Paris, PUF.
1955, Tristes tropiques, Paris, Plon.
1958, Anthropologie structurale I, Paris, Plon.
– MAUSS, Marcel.
1950, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», in Sociologie et anthropologie, Op. Cit.
1967, Mentalité Archaîque et catégorie du pensée», in MAUSS, M., Oeuvres, Paris, Ed. de Minuit, T2.
1967, «L’origine du pouvoir magique», in Ibid.
– MERLEAU – PONTY, Maurice.
(s.d), «De Mauss à Lévi – Strauss», in Signes.
[1] – يشدد ميرلوبونتي على هذه النسابة في مقاله «de Mauss à Lévi – Strauss» الصادر بمجلة Signes.
[2] – الميثولوجيات (Mythologiques) مجموعة من المؤلفات خصصها ليفي ستراوس لدراسة الأساطير، وهي على التوالي:
-Le cru et le cuit,
– Du miel aux cendres,
– L’origine des manières de la table,
– L’homme nu.(المترجم).
[3] – بحث لمارسيل موس صادر ضمن مجموعة أعماله المتضمنة في كتاب: Sociologie et Anthropololgie, Paris, PUF (Quadrige), 1950. تحت عنوان: «Essai sur le Don. Forme et raison de l’échange dans les sociétés archaîques.»
[4] – بحث لمارسيل موس صادر ضمن مجموعة أعماله المتضمنة في المصدر السابق تحت عنوان: «Esquisse d’une théorie générale de la magie»، وقبل ذلك كان المؤلفان قد أصدراه سنة 1902 – 1903 في مجلة L’Année sociologique، العدد 7، صص. 3 – 141.(م).
[5] – تقصد المؤلفة كتاب ميشال فوكو الشهيـر:
– Histoire de la folie à l’âge classique. (م).
[6] – المانا: كلمة بولينيزية تعني سلطة فوطبيعية. وقد أشاع هذا المصطلح مؤسسو الإثنولوجيا الدينية. ويمكن للمانا أن تقطـن أجساما جامدة لكنها على العموم خاصية ينفرد بها بعض الأفراد من بني البشر، الرؤساء بصفة خاصة، والأرواح. وقد تضاءل استعمال هذا المصطلح في الأدبيات العلمية. عن معجم الإثنولوجيا السابق ذكره. (م).
[7] – الشامانية (سبق شرحها في الهامش 3، ص. 32 من الكتاب الحالي): طريقة في العلاج سحرية دينية يتولى بها شخص من رجال الديـن أو المطببين تكمن قدراته الفوطبيعية في تمكنه من تقنيتي الشطح والملك أو المس (Possession). ووسيلة تمكنه منهما هو سفـر إلى السماء خلاله يحارب هـذا الشخص الآلهة أو يفتنهم. (م. عـن المـرجع السابـق).
[8] – المانا (Mana): إسم يطلقه هنود داكوتا (هنود يقطنون غرب الميسيسيبي) على قدرة فوطبيعية غير شخصية وغريبة يمكن أن توجد في بعض المواد والأشياء غريبة الأطوار وفي بعض الشخصيات غير العادية. ويطلق هنود الداكوتا كلمة فاكان (Wakan) أو فاكوندة على الشامان أيضا. عن معجم الإثنولوجيا. (م).
[9] – الأوريندة (Orenda): كلمة يستخدمها الإيروكوا (مصطلح أطلقه موردوك، متبعا في ذلك مورغان، للدلالة على شعوب تجمع بينها خاصية أن النظام الخطي الأمومي يطبع نظام القـرابة والتنظيم الاجتماعي لديها) لتسمية قوة حيوية، بطبيعتها غير المرئية وغير الشخصية، تؤثر في البشر والحيوانات والظواهر الطبيعية. عن المرجع السابق. (م).
[10] – الأنثروبوفاجيا (Anthropophagie) أو الأدمة: أكل لحم البشر بشكل طقوسي عادة. ونادرا ما يكون ذلك الأكل متصلا بالجوع. وعلى الظاهرة نفسها يطلق أيضا إسم الآدمية (Cannibalisme). عن معجم الإثنولوجيا. (م.)
[11] – ميثيمة (Mythème): كلمة اشتقها ليفي ستراوس على غرار نموذج الوحدات اللغوية الدنيا (فونيمات مورفيمات) لتسمية الوحدات المكونة للأسطورة. (م).
– BACKéS-CLéMENT, Catherine, «Le mauvais sujet», L’ARC, N° 48, pp. 63-68

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 08:48 مساء

الاخبار العاجلة