اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي: 04 – اللغة والهوية والثقافة الوطنية في المغرب العربي

1٬803 views مشاهدة
اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي: 04 – اللغة والهوية والثقافة الوطنية في المغرب العربي

لاشك في أن عملية هيكلة ثقافة وطنية تعتبـر واحدا من المشاكـل الأساسية التي يواجهها المجتمع المغاربي الراهن. وإذا كانت هذه المسألـة تمس مصالح سياسية هامة تتعلق على الخصوص بشرعنة سلطة الدولة، فإنها تقـوم أيضا على إواليات نوعية تمس جوانب عميقة كمفهوم الهويـة مثلا.

ولدى التطرق إلى هذه المسألة يجب تحاشي موقفين متطرفيـن: الموقـف الذي يـركز على دور العوامل السياسية باعتبارها تتدخل مباشرة في هـذا الحقـل الثقافي ويغفل القواعـد الخاصة بهذا الحقل، والموقف الذي يعتبر عالم الثقافة هذا بمثابة عالم مغلق لا تحكمه سوى ديناميته الداخليـة.

وسنحاول في الصفحات الآتية تحديد بعض المعالم في هذه المقاربة للثقافات الوطنية بالمغرب العربي. لقد انطلقنا في هذا التأمل من بحث في مشكلة التعريب وإدماجه في السياق الكلي للمغرب العربي فوجدنا أنفسنا منقادين إلى إظهار الدور المركزي الذي يجب إناطته باللغة التي لا ندرسها هنا في وظيفتها التواصلية، وإنما في علاقتها بالهوية.
تأخذ اللغة في المغرب العربي شكل واقع ثلاثي المكونات: فهناك اللغة الأم، والعربية، ثم الفرنسيـة. وبهذا يمكن اعتبارها بمثابة المحور الذي تتشكل حوله المجموعات الثقافية التي يصاغ التركيب الجاري انطلاقا منها. وإذا تفحصنا الدينامية التي تحرك هذه الثقافة لاحظنا أنها تقوم بموازاة أقطاب ثلاثة هي: قطب الإثنية، والأمة العربية، ثم القومية العصريـة. وهذه الأقطاب لا توجد دون استحضار المـرجعية اللغـوية الثلاثية التي تشكـل أيضـا معالم للهويـة.
تقتضي دراسة الثقافة في المغرب العربي ضمن هذا الطرح أن نتناول دائما الموقع الخاص بهذه «الأقطاب» الثلاثة، أي موقعها في المجال البنيوي وموقعها في دينامية علاقات القوى، بكيفية تتيـح الكشف عن القطب المرجعي والدلالـة الأساسية اللذين تتم الإحالة عليهما في ظواهر محدودة كظاهـرة تحديـد النسـل أو الأغنية، أو ظواهر أكبر مثل وضع المرأة أو سياسة التعليـم. وهذه الأقطـاب الثلاثة متداخلة في الواقع الـراهـن، ولا يجـوز الفصل بينها أثناء التحليل إلا إذا كان الهدف الأخيـر من هذا الفصل هـو إعـادة بناء تداخلها في الواقـع المـدروس.
ولبسط هذه الوجهات للنظـر، سنحدد أولا المعنى الذي نفهم به هذه الصلات القائمة بين اللغة والثقافة والهوية في حالة المغرب العربي، ثم ننتقل بعد ذلك لرؤية كيف يمكن تصور تداخلاتها في دينامية ثقافة وطنيـة.

1 – اللغة والهوية والثقافة في المغرب العربي
«لا تصلح اللغة للتواصل، بل تصلح للوجود»[1]. تعبر فكرة جاك بيرك هذه جيدا عـن العلاقة العميقة الموجودة اللغة والهوية. والسؤال المطروح هو: كيف يتمكن الفرد من تثبيت هويته داخل اللغة؟
إذا كان بالفعل في اللغـة علامة اعتـراف اجتماعي بين أفراد الجماعة الواحدة، كما بين ذلك سوسيولسانيون وإثنولوجيون، فإنه يتعين علينا المضي أبعد من ذلك لفهم ما هو جوهري في هذه العلاقة القائمة بين الإنسـان ولغتـه.
وتتمثل الأطروحة التي ندافع عنها في كون اللغة، شأنها شأن الثقافـة، تمثل بالنسبة للفرد واقعا مزدوجا. فهي، من جهة، تمثل القانون الذي يفرض نفسه على الفرد. إنها قانون الجماعة الذي يأتي ليؤطر «ارتجالات» طبيعة الفرد «المتوحشـة». لكنها، من جهة أخرى، تمارس عليه في الآن نفسه إغراء ينتج عنه انخراط في هذا القانون مادام الملفوظ، عندما يُحَدَّدُ التعبيرُ في حقل دلالي معطى، يترك «الكلمات تجتر وراءها»، إن صح القول، جميع التمثلات المقترنة بها. وهذه الكلمات لا تتيح قول كل شيء، وإنما تجبر الفرد على القول بكيفية معينة، لكنها تظل مشحونة بمجموع ما لا يمكـن قولـه، وهـو مجمـوع مقترن بها. وبذلك، يوجد ضمن هذه العلاقة التي تربط الفـرد باللغة فرض قانون واستثمار رغبـة في آن واحـد.
اللغة هي القانون الأول الذي يفرض نفسه على كل فرد خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تقوده إلى الانتقال «من الطبيعة إلى الثقافة». إنها قانـون بمعنى الكلمة، أي أنها تـرغم الفـرد على تمرير عالم الرغبات والتمثلات الطفولية من مصفاة مقولاته الاختزالية. لكنه يحصل في مقابل تلك التضحية والاعتراف بذلك القانون على القدرة على «تسمية الأشياء»، أي التأثير فيها، و«ترسيخ قدمـه» في السجل الرمزي، في عالم الحياة الاجتماعية ونيل اعتراف الآخر. لا يمكن للطفل – ومعناه الحرفي هو الذي «لا يتكلم» (Infans) – أن يندمج في المجتمع ويحصل على هوية إلا إذا أدى مقابلا يتمثل في التضحية بقسط من «فردانيتـه». وبعد ذلك، ستعترف به الجماعة باعتباره عضوا كاملا فيها عبر اللغة و«الثقافـة» وخضوعه لحسن التصرفات، أي لما تعتبره جماعته سلوكات حسنـة. وبواسطة الضبط الذي يمر عبر اللغة والثقافة، يضطر الإنسان طيلة حياته إلى إجراء هذا التبادل: الخضوع لقانون مقابل الحصول على اعتراف بهويـة. وتطابق الهوية المفروضة – أي هوية القانون أو الضابط – هوية مرغوبة. فعندما أقبل التكلم بلغة هذه الجماعة التي لا تعبر بدقة عن حقيقة ما بداخلي، فإن أعضاء هذه الجماعة يعترفون بي باعتباري واحدا منهم، أي أتلقى هذه الهوية الجديدة التي تموضعني في العالم الواقعي وتحددني فيـه.
هكذا، فعندما أقبل الكف نهائيا عن تناول الطعام بأصابعي، فإني أحرم نفسي من لذة الاتصال الجسدي المباشر بالطعام. غير أنني، في الوقت نفسه، أخضع لقانون الجماعة. ومقابل هذا الخضوع أصير إنسانا من العالم المتحضر، أي أحصل على هذه الهوية التي تجذبني وتعلي من شأني، والتي – بعيدا عن هذه الممارسة المبتذلة المتمثلة في الأكل بملعقة – تجتذبني بما أشعر به من لذة وحظوة وحماية واطمئنان لكوني أنتمي إلى هذا العالم المتحضر «الذي ينتظر مني هذا السلوك». وإذا كان هذا القانون يجد مرجعه دائما في قيمة مطلقـة، كأن يكون المـرء رجلا مسلما عضوا في أسرة ما، فإنه مع ذلك ليس ذو محتوى جامدا لأنه يكون دائما هو تعبير الهوية المرجع (Référent) الذي عدلته الجماعـة. وبذلك، فالجماعات لا تعين دائما محتويات واحدة للهويات التي تريد أن تجسدها. مثلا، فالجماعات التي تفرض على أعضائها أن يكونوا مسلمين لا تجبرهم دائما على إقامة الصلاة باعتبارها شرطا لمشاركتهم في هذه الهوية الإسلاميـة.
يجري المجتمع التنشئة الاجتماعية للفـرد ويؤطره في عملية واحدة وكأنه لا يكف عن تدجينه احترازا من العواقب غير المتوقعة لفردانيته «المتوحشة». وتحتل اللغة المرتبة الأولى في هذه العملية كما أنها تظل ذات أهمية كبرى طيلة حياة الفرد. لكن الثقافة – التي تمر هي الأخرى عبر اللغة – تلعب نفـس الدور الكابح لطبيعة الفـرد الجامحة مقابـل اندماجه في الجماعة واعترافها به. وهناك نقطة أخرى مشتركة بين اللغة والثقافة في هـذا التحويل للإنسان إلى «إنسـان مثقف» تتمثل في أن اللغة لا تنقل سائر هذه التعليمات والشفرات (Codes) فحسب، بل تتضمنها أيضا وتعكسها في حقولها الدلالية وبنياتها النحوية المرتبطة على الخصوص بعالم التمثلات والاستيهامات التي تضفي عليها هالـة.
كل ما سبق يتعلق – طبعا وقبل كل شيء – باللغة الأم؛ بهذه اللغة التي يسمع الطفل فيها كلمة أمه ثم كلمة محيطه؛ بهذه اللغة التي، في ارتباطها بالاتصالات المتعددة التي يقيمها الطفل مع أسرته، تشكل بالنسبة إليه ذلك التجذر الأساسي أو الهوية التي تعترف له بها أمـه. وهذه اللغة هي التي «تطبع» الفرد مدى الحياة. غير أن المراحل اللاحقة تُجَمْعِنُ هذه اللغة الأم التي لا تعود مجرد لغة للحميمية العائلية، بل تصير أيضا لغة للجماعات المتعاقبة التي تفرض قانونها على الفرد وتتبناه باعتباره عضوا فيها.
وهكذا، تتدخل اللغة والثقافة في عملية التنشئة الاجتماعية للفرد باعتبارهما ضابطين أو قانونين يأتيان لتأطير الفرد ومنحه في المقابل هوية تُدْرَكُ بعبارات التماهي مع الوسط الذي يقبل هذا الفرد لغته واستعمالاتها.

2 – اللغات والثقافـات في المغـرب العربي
يتعلق ما قلناه حتى الآن بحالة لغة أم قد تظل اللغة الوحيدة أو الأساسية لفرد في مجتمع من المجتمعات. وإذا تأملنا حالة المغرب العربي لاحظنا أن الوضعية اللغوية فيه تتصف بالتعقيد. فهي، كما يعلم الجميع، تتمحور حول أقطاب ثلاثـة: اللغة الأم، وتكون عربية أو بربريـة، ثم لغتان مكتوبتان هما العربية والفرنسيـة.
والعربية المكتوبة تختلف عن العربية التي تستعمل في الحديث اليومي وتدعى في الغالب دارجة. ويكمن المشكل هنا في تقويم النتـائج الثقافية لهذا التعـدد اللغـوي.

اللغــــــة الأم
تكون اللغة الأم تارة لهجة عربية، وتارة لهجة بربريـة. وهي في الحالتين معا لغة شفهية. وقد كان الانتقال إلى الكتابة يتم باللغة «الكلاسيكية» منذ قرون. وعلى أية حال، فهذا ما تقوله الرواية الرسمية، ذلك أن دراسات حديثة قد أظهرت جيدا – فيما يبدو – أن التحفظ في الكتابة بـ«العربية الدارجة» في الماضي ما قبل الاستعماري كان أقل مما هو عليه في الوقت اللاحق. كما يحتمل أن الهوة بين العربية الشفهية والعـربية الكلاسيكية قد صارت الآن أعمق مما كانت عليه في الماضي بسبب الأهمية الجديدة التي حظيت بها الكتـابة في الحياة المعاصرة. وقد أذكى هذه «القطيعة»، أو بالأحرى شعور الرأي العام بها، كل من إبعاد اللغة العربية المكتوبة طوال فترة الاستعمار واحتكار اللغة الفرنسية لقطاعي الإدارة والتعليـم. وللسبب نفسه وجدت اللغة العربية المكتوبة نفسها قد أبعدت وتقلص تدريسها وانحصر استعمالها في مجالات ثانوية. وبذلك صار الانتقال إلى هذه اللغة في سياق المكتوب أكثر صعوبة وأقل شيوعا نظرا لأنه يغير اتجاهه غالبا نحو اللغة الفرنسيـة. وتهدف سياسة التعريب التي باشرتها دول المغرب العربي الثلاث بعد الاستقلال إلى منح اللغة العربية المكتوبة المكانة المتميزة التي كانت تحتلها اللغة الفرنسية، وذلك بجعلها تؤدي سائر الوظائف التي كانت تضطلع بها اللغة الفرنسية عندما كانت لغة رسمية.
ولذا، فالوضعية اللغوية الحالية في بلدان المغرب العربي تتصف بكونها وضعية ثلاثية الزوايا: فاللغة الأم، عربية كانت أو بربرية، تسود في الحياة العائلية والاجتماعية. كما تظل في الحياة الدراسية لغة للتواصل بين التلاميذ والمدرسين، ماعدا في العملية التعليمية التي تتم باللغة العربية الكلاسيكية أو الفرنسية. واختيار السجل اللغوي لا يكون محايدا: ففيما يهدف اختيار اللغة الأم إلى إجراء اتصال مباشر مع المستمع أو المشاهد يتجاوز استعمال اللغة الكلاسيكية – حتى في شكلها العصري الملطف – ذلك إلى الإيحاء بأن الأمر يتعلق بإعلان كلمة ضمـن «قـول» يتجاوز المستمع العـادي. ولهذا السبب، فإن نشرات الأخبار المتلفزة التي يقرأها بالعربية الكلاسيكية مذيع مُمِلٌّ تعطي الانطباع بأن الأمر يتعلق بقراءة بلاغ رسمي، أي توحي بالإبلاغ وليس بالإخبار. وكما لا حظ عمر إبراهيم (1978) جيدا[2]، بشأن خطابات قادة الدولة المصريين، بينما يعادل اختيار اللغة الكلاسيكية في خطاب شعبي فعلا حكوميا أو خطابا للسلطة يتموضع اختيار اللغة الدراجة الشعبية في مستوى من التواصل، بل ومن التقارب المباشـر. وقادة دول المغرب العربي أنفسهم يجيدون اللعب على هذين السجلين، مما يحملنا على الاعتقاد بأنهم لا يجهلون تدبير تأثيرات السلطة المرتبطة باللغة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فاللغة الدارجة بشكلها العربي وحده حتى الآن قد رسخت قدمها في السينما. فالشريط الجزائري «عمـر قتلاتو» [عمر قتلته] يستخدمها استخداما جيدا، بل وحتى استخداما مناضلا في هذا المشهد الذي يجد فيه خطيب يتحدث بالعربية الكلاسيكية نفسه قد انقلب إلى موضوع للسخريـة. إنها مناسبـة للمغاربيين كي يلاحظوا أن المصريين يغرقون الإنتاج السينمائي بلغتهم الشعبية منذ زمن بعيـد.
لا يقف في طريق اللغة الأم سوى حاجز الكتابة. وإذا كان هذا يصدق على العربية فهو ينطبق أكثر على اللغة البربرية التي لا تتوفر على نظام للكتابة خاص بها، إذ لا تنطبق هذه التسمية على حروف التيفناغ[3] إلا بصعوبة. ففي وضع الحضارة الراهن الذي عزز مكانة الكتابة وقرنها بجميع مراحل الحياة الاجتماعية يشعر أنصار قضية اللهجات بأن الشفهية الخالصة بمثابة عاهة أو شلل وعائق أمام الحصول على اعتراف. ولا شك في أن مطالبتهم بإدخال اللهجات ضمن البرامج الجامعية يهدف – ضمن ما يهدف إليه – إلى دعم هذه اللهجات بسند من الكتابة. وللرفض الدائم الذي يقابل به هذا المطلب في دول المغرب العربي الثلاث دلالته أيضا. غير أن الفكرة السائدة التي ترى أن ما من لغة شفهية خالصة إلا ومآلها الموت قريبا، تلك الفكرة ربما فقدت مصداقيتها شيئا ما في الوقت الراهن بفعل تطور وسائل الإعلام السمعية والبصرية في التواصل الاجتماعي، وهي وسائل يمكن أن تمنح هذه اللغات الشفهية وضعا معمما ومعترفا به، أي ذلك الوضع الذي كان في الماضي مقصورا على اللغات المكتوبة. وفي المقابل، بما أن وضع الشفهية يحول دون التدخل المعياري للكتابة، فإنه يترك اللغات المعنية في منأى عن كل رقابة أكاديمية ممكنة لحيويتها المتدفقة، ويجعلها ليست في متناول أضرب «النقاء» التي تحاول مختلف البرامج من نوع «لا تقل كذا، بـل قـل كذا» عبثا أن ترسخها فيها. وللاقتناع بذلك، يكفي أن نرى كيف حلت اللهجات العربية والبربرية معضلة «المصطلحات» التي لا زالت اللغة العربية الكلاسيكية تعاني منها. فقد حلتها بأن عمدت إلى اللغة الأصل للمصطلح التي تحتاج إليه (الإسبانية أو الفرنسية أو الإيطالية)، ثم استعارته منها كما هو، وأخضعته لنظامها الصرفي بحيث لم يعد يخامر المتكلمين أدنى شك في أن الأمر يتعلق بمصطلح محلي[4].
يمكن التساؤل: إلى أي حد لا تبدو هذه الفوضى اللغوية أو هذا الارتجال الجامح أمرا مزعجا للسلطة؟ لقد أوصى المؤتمر الدولي[5] المنعقد في طرابلس سنة 1975 جميع الحكومات المشاركة بمحاربة انتشار العامية في الفنون والكتابات. يضاف إلى ذلك أن هذا الموضوع، موضوع محاربة اللهجات الذي يردده الخطاب العالم باستمرار – مثلا في ندوة التعريب المنعقدة في تونس عام 1977[6] – لا يخلو من شبه مع ذلك التقليد الثقافي الحضري العربي الذي لا يكف عن إدانة القبلية والفوضى، أي ما يمكن تسميته بـ«خشونة» البدوي وفظاظة إنسان الفطرة أو مـا يسميه جاك بيرك «فوضى البدوي العريقـة»…

اللغـة الفرنسيـــة
لقد دخلت اللغة الفرنسية إلى المغرب العربي مع الاستعمار. وبها تم إرساء وتنظيم مجموعة من البنيات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية والثقافية لهذه البلدان. ويقود القول إنها كانت اللغة الرسمية طوال فترة الاحتلال إلى الأخذ بعين الاعتبار هذا التشكيل الطويل لمجموع وقائع هذه البلدان ومجموع المؤسسات، بل وحتى مجموع الذهنيات في هذا القالب الغريب عن التقليد العربي الإسلامي والمغاربي. وتعتبر إرادة اختزال كل هذا إلى قضية لغوية محضة ضربا من المخادعة، لأن ذلك التشكيل يتجاوز اللغة نفسها بكثير ويشمل مجموع هالتها الثقافية. فعبر اللغة والثقافة تم فرض ليس قانون المستعمر فحسب، بل وأيضا سحر وجاذبية العالم الذي كان يجسده ذلك الاستعمار. ولا يحول دون الاعتراف بهذا الواقع إلا اعتبارات ديماغوجية. كما لا يمكن لتحول لغوي كالتعريب أن يقلب هذه الوضعية بين عشية وضحاها. فمثلا، عندما لجأت الإدارة الجزائرية إلى جلب مدرسين من الشرق يتكلمون باللغة العربية وحدها حصل سوء تفاهم بينهم وبين زملائهم المعلمين الجزائريين الذين لوحظ فيما بعد أنهم كانوا يطبقون عفويا بيداغوجية فرنسية. ومع أن هذا الأثـر الغـربي يعتبـر نتيجة موضوعية للاستعمار، فإن المغاربيين لا يشعـرون به كعاهة، بل يتخذونه – على العكس – حجة لإعلان تفوقهم على إخوانهم المشارقة.
ورغم أن اللغة الفرنسية لم تعد هي اللغة الرسمية، فإنها ظلت مع ذلك سائدة في القطاع الاقتصادي وفي القطاعات الإدارية الأكثر تقنية كالمالية مثلا. وهي لا زالت تحتل مكانة هامة في التعليم إذ تدَرَّسُ في التعليم الابتدائي بالبلدان الثلاثة، وتستخدَمُ في وسائل الإعلام من صحف، وبرامج للإذاعة والتلفزة… كما أن انتشار التمدرس يشيع معرفتها بين شريحة من السكان أوسع مما كان عليه الأمر قبل الاستقلال. إضافة إلى ذلك، فهذه اللغة تشهد انتشارا شفهيا واسعا حتى في الأوساط الشعبية سواء تعلق الأمر فيها بالعمال الذين أقاموا في فرنسا أو بالسكان الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ولم يسافروا إلى الخـارج.
ونظـرا للمواقع التي تحتلها اللغة الفرنسية في المغرب، فهي لغة معترف بها باعتبارها لغة للخبز، أي لغة للترقية الاجتماعية: بدونها يصعب على المرء أن «يشق طريقه» في المجتمع. ومما له دلالة بهذا الصدد التكوين الذي تختاره النخب لأبنائها. فمن المعروف في جميع أنحاء المغرب العربي أن أنصار التعريب الأكثر تحمسا – وماذا نقول عن غيرهم؟! – قد كونوا أبناءهم عموما في مدارس فرنكوفونية. ومن ثم، فالـرأي العام يحس بأن سياسة التعريب عموما تعد بمثابة إجراء للانتقاء الاجتماعي من شأنه أن يلعب ضد الفئات المحرومة.

اللغـــة العربيـــة
إن اللغة العربية المكتوبة التي تدعى أدبية أوفصحى أو كلاسيكية ليست لغة للتخاطب الشائع. ذلك أن استعمالها يقتصر على المثقفين الذين لا يملكون أداة أخرى للتواصل فيما بينهم غير هذه اللغة. وبالمقابل فهي تظل لغة دولية بمعنى الكلمة لأن الكيفية التي تستخدم بها كافة الأقطار العربية في تحرير الصحف أو عرض البرامج الإذاعية والتلفزية تبقى واحدة. ولذا، فهي تعد أداة ثمينة للتواصل والتماسك بين العرب.
يصعب تحقيق معـرفة دقيقة بالوضع الذي كانت تحتله هذه اللغة قبل مجيء الاستعمار. فالسياق التاريخي لتلك الفترة لم يكن يقتضي وجود لغة رسمية لها نفس وظائف النموذج الحالي ولا هذه الهيمنة المطلقة للكتابة التي تطبع المجتمع الغربي الحديث. فقد كان المكتوب – شأنه في ذلك شأن القرآن – يحظى بقيمة قدسية قبل كل شيء. كما كان يشكل رمزا لتأكيد الذات بقوة، بل يمكن القول إن هذه العربية المكتوبة كانت تشكل قيمة طقوسية بعيدة جدا عن الابتذال الذي أصابها لاحقا. ومن الممارسات الدالة بهذا الصدد ذلك العرف – الذي عاشه جميع المغاربيين إلى وقت حديث – الذي يقضي بعدم إلقاء أي ورقة مكتوبة بالعربية في القمامة أو استخدامها لأغراض وضيعة بحجة أنها قد تتضمن بعض الآيات القرآنية. والصحافة، في الواقع، هي التي أخرجت هذه اللغة من قدسيتها وأقحمتها في الممارسة السياسية اليومية وجعلت استعمالها، من ثمة، أمرا مبتذلا.
لقد استهدفت السياسة الاستعمارية بوضوح استئصال اللغة والثقافة العربيتين في سبيل عملية مزدوجة تتمثل في إقصائهما بيداغوجيا والحط من شأنهما ثقافيا. وقد كانت تلك النتيجة تبدو محققة غداة الاستقلال. ورغم أن بلدان المغرب العربي الثلاثة قد فشلت في الجهود التي بذلتها منذ ذلك الوقت لإحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية في جميع استعمالاتها، فإنها قد أفلحت مع ذلك في جعل العربية تستعيد مكانتها الواقعية. وهو أمر كان الملاحظون في السابق يرون من المستحيل تصوره أو تصديقه. وهذا النجاح يفتح جميع إمكانيات المستقبل بما في ذلك إمكانية إجراء تعريب كلـي.
غير أن تحقيق هذا التعريب الكلي لازال أمرا بعيدا، واللغة العربية لا تحتل مكانة مرموقة في البلدان الثلاثة لأن النشاطات الأساسية فيها لا تتم بالعربية كما أن نسبة قراءة الصحف العربية لازالت أقل من نسبة قراءة الجرائد الصادرة بالفرنسية. ثم إن اللغة العربية ليست هي لغة الترتقية الاجتماعية. ومع أنه غالبا ما يتم النظر إليها باعتبارها لغة للدين، فإن بعض مثقفي المغرب العربي لا يجدون حرجا في اعتبارها لغة لـ«التأخر»، وإن كان هذا المفهوم يبقى قابلا للنقـاش.
رغم أن كل بلد من بلدان المغرب العربي الثلاثة قد أكد عزمه على نهج سياسة تعريبية، فإنه لم يتبعها إلا باعتدال كبير. فتونس لم تباشر هذه السياسة إلا ابتداء من سنة 1974، والجزائر نهجتها بعد 1965 بطريقة منهجية وعقلانية إلى حدود 1976 حيث اصطدمت بعراقيل موضوعية بسبب عدم تعريب المحيط بكامله، هذا الأخير الذي ظل عاجزا عن ضمان مناصب شغل للأطر والتقنيين المعـربين. وقد عرفت سياسة التعريب منذ ذلك الوقت توقفا – مع وزارتي مصطفى الأشرف وعبد اللطيف رحـال[7] – لا نعرف حتى اليوم إلى أين سيؤول. أما المغرب الذي كان قد طبق هذه السياسة بخطوات مترددة، كسياسة 1965، فقد أسند حديثا وزارة التربية الوطنية إلى أعضاء من حزب الاستقلال الذي كان قد نصب نفسه بطلا للتعريب لما كان في المعارضة، ومع ذلك لم يُسَجَّل تحول ملحوظ في السياسة المتبعة في هذا المجـال.
وما يستنتج هو على الرغم من تأكيد مجموع دول المغرب العربي على نهج سياسة تعريبية، فإن ما يطبق في الواقع هو ممارسة ازدواجية لغوية. فأشد المدافعين عن التعريب حرصوا دائما على تأكيد أنهم ينوون تخصيص مكانة متميزة للفرنسية وكأن هذه الأخيرة رقية لابد منها، علما بأنها تسمى تارة لغة أجنبية، وتارة لغة «للانفتاح».
لعل ما سبق يتيح ملاحظة أننا نسائل الفئات اللغوية الثلاث السائدة في المغرب العربي ليس باعتبارها مجرد «أدوات تواصـل»، وإنما باعتبارها مجموعات تحيط بكل واحدة منها سمات ثقافية وطبائع اجتماعية. ويتعين علينا الآن أن نتوغل أكثر لنبين أن ما تطرحه هذه اللغات في العمق إنما هو إشكالية الهويـة.

3 – اللغة ومشاكل الهوية
إذا كانت العلاقة القائمة بين اللغة والهوية علاقة واضحة، فإنها تصير أوضح في الحالات التي يصير فيها أحد العنصرين مصدر مشاكل. وفي ما يلي سنفحص بعضا من هذه المشاكل في المغرب العربي الراهـن.

لغـةٌ أُمٌّ غير معتـرف بهـا
لقد رأينا أن اللغة الأم، عربية كانت أو بربرية، لا تحظى بالاعتراف في المغرب العربي ولا تتمتع بأي وضع في ما يليق تسميته بـ«عالم الثقافة» رغم أنها تشكل لغة التخاطب اليومي في مجموع أنحاء المغرب العربي. فعندما يصل الطفل المغاربي إلى المدرسة يجد نفسه – كالطفل البروطوني[8] الصغير على عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة – مدعوا بكيفية مباشرة تقريبا إلى إلقاء لغته الأم في المستودع، أي إلى طرح اللغة التي أدرك ضمنها العالم الذي يحيط به وشيد داخلها علاقاته العاطفية واندمج في أول محيط خارجي، إذ يقال له إن هذه اللغة لن تنفعه إطلاقا في عالم العلم والثقافة لكونهما يستعملان لغة أخــرى.
هل تختلف هذه الصدمة عن صدمة الدخول إلى الكتاب أو المدرسة القرآنية التي كان يفد إليها الطفل في الماضي لحفظ النص القرآني المقـدس؟ نعم، لأن الطفل كان يدخل آنئذ في علاقة مع لغة مقدسة هي لغة الوحي، وكان من الطبيعي أن تختلف عن لغة الحياة اليومية. وكما لم يكن نبذ الباطـوا[9] في عهد الإمبراطورية الفرنسية الثالثة يحدث صدمة نفسية إلا بحطه من قيمة هذه اللغة عبر منعها وتحقيرها الراميين إلى جعل التلميذ القروي يستدخل احتقار نفسه والوعي بتفوق السلطة، كذلك ما أن ظهر نظام التمدرس في المغرب العربي واتسع حتى طرح مشكل اللغة بحدة في المناطق التي تتكلم اللغة البربرية نظرا لعنف القطيعة بين اللغتين البربرية والعربية والمنع الذي تتعرض له اللغة الأم في هذه المناطق بخلاف نظيرتها العربية حيـث يستطيع الطفل هنا أن يجد نوعا من الاستمـراريـة بيـن لهجتـه والعربية الكلاسيكية. لكن سواء أكانت اللغة الأم عربية أم بربرية فالمهم هو رفض الاعتراف بها الذي تصادفه أثناء الدخول المدرسي. وكم هو قليل اليوم عدد الدراسات التي حاولت أن تدرس عواقب هذا الرفض الذي تلقاه الهوية الأولى والأساسية. ولعل السبب في ذلك يعـود إلى أن الأمـر هنـا يتعلـق بظاهـرة كانـت، كما قلنا، غريبة عن الثقافة العربية رغم التمييـز القائـم فيها بين لغة الكلام اليومي واللغة المقدسة. فقد تولدت هذه الظاهـرة في الثقافة الغربية المستوردة عن التمدرس، أي عن هذه العملية التي قامت بها دولة ممركزة، تحت غطاء «تنمية العقل»، بهدف تشكيل هذا الأخير وجعله طيعا للحكم ومحترما له. وقد انتقلت هذه الظاهرة طبعا إلى المغرب العربي في إطار الاستعمار أولا، ثم الدولة المستقلة بعد ذلك.
وينتج عما سبق أن فضاء اللغة الأم، هذا، المحكوم بالتلاشي في منطق الوضعية (لقد قضت اللغة الفرنسية نهائيا على اللهجات الإقليمية بفرنسا) ظل فضاء مهملا، لا تصل إليه «التنشئة الاجتماعية» اللغوية والثقافية، فبقي هو الملاذ المحفوظ الذي تحيطه اللغة والثقافة بفضاء من الحميمية العائلية شاسع بهذا القدر أو ذاك.
يبدو أن هناك علاقة بين اللغة التي لا تتحرر من فلك الأم والمكانة المتميزة التي تحظى بها هذه الأخيرة في الفضاء الثقافي المغاربي. إننا لا نستطيع البرهنة على هذه المسألة، ومع ذلك نطرحها على الأقل كفرضية. فالأم في هذا السياق تمتلك سلطة ملحوظة وتمارس نفوذا كبيرا على ابنها حتى الكبـر، إذ تبقى علاقته بزوجته مرتبطة في أغلب الأحيان بمتانة صلته بأمه. وهذا واقع يجهله تماما ذلك العويل الإثنوصحفي بشأن «وضعية العبوديةْ» التي «تتخبط» فيها المرأة المغاربية. وربما يجب التساؤل عن جذور هذه الوضعية – الصعبة حقا في عدد كبير من الحالات – المعطاة للمرأة وعما إذا كانت لا تعدو مجرد شكـل مقلوب لوضعية أخرى يجد فيها الرجل نفسه مغلوبا كليا من طرف المرأة ولا يفلح في تأكيد خصوصيته أمام السلطة الحميمية التي تمارسها عليه – هذه المرأة – بقوة الفتنة، فيعمد إلى مضاعفة آثار السلطة و«الإجراءات المضادة» متغلبا بذلك على ما يشعـر به من قلق وخوف. ومعروف جدا أن المخاوف الكبرى هي التي تولد أشكال القمع الكبرى. ففي هذه الثقافة يتم كل شيء كما لو كان الرجل لا يستطيع أن يسمع أي كلمة عدا واحدة، وهي كلمة أمه الخارقة القوة، أو كما لو كان مكرها إلى الأبـد على أن يحاكي بحركات العنف والقسوة مشهـد حرية متعذرة البلوغ. وتظهـر هذه الفرضية ضمنيا في الفيلم الجزائـري عمر قتلاتـو [عُمَرٌ قَتَلَتْهُ] (أي: «قتلت» المرأة – أو الرجولة – عمـرا، بمعنى «أنهكته»، ولم لا بمعنى «قتلته»؟).

لغـة فرنسية جذابة
لقد ذكرنا أعلاه إلى أي حد دفعت اللغة الفرنسية بالوقائع المغاربية في اتجاه الانفتاح على مجتمع مختلف. ورغم أن هذا المشروع لمحو الشخصية المغاربية قد أثار المقاومات التي قادت هذه البلدان إلى الاستقلال، فمن المؤكد أن اللغة الفرنسية وهالتها الثقافية قد فرضتا نفسيهما ليس كمعيار فحسب، بل وكغواية أيضا. فهما عالم لا زال يمارس جاذبيته. عالم قد لا يحيط به وصف لأنه في الواقع متعذر التحديد، إذ يمثل مجموع عالم الاستيهامات التي يحملها الإنسان المغاربي تجاه الغرب عموما وفرنسا على الخصوص. وهي استيهامات متجذرة بحيث لا تفلح تكذيبات الطابع المأساوي للواقع المغاربي في التغلب عليها. وهذا العالم يشمل طبعا أساطير العلم والتقنية والتقدم، كما يشمل – بكيفية أكثر وأبعد – عالم الشهوية، والعاطفة الجامحة، والاستهلاك الذي لا حد له، والكحول، وأسطورة ما يسميه كاتب ياسين في روايته نجمـــة بـ«الفرنسية» المتسلطـة والعاهـرة في الوقت معا. في هذه الهالة اللغوية جاذبية عالم عجائبي مرغوب ومكروه في آن واحد وكأن القانون الاستعماري قد تم استدخالـه والبقاء معه على صلة وثيقة غير معترف بها ولا يمكن الاعتراف بها، صلة يخشى قطعها. كأن قانونا قد فرض نفسه ولا يمكن إلغاؤه. قانون فيه تكمن حقيقة السلطة، واسترجاعه وحده هـو الذي يستطيع طمأنة الحكم الوطنـي.
من المفيد أن نلاحظ، ونحن مسترسلين في هذه الدراسة، أن اللغة الفرنسية هي الأخرى تحمل نظرة استيهامية إزاء العالم العربي. فهو عندها دائما عالم غرائبي: بالأمس مستعمـرة واليوم فضاء للسياحة. إنه عالم الهروب الرومانسي إلى الرمال والشمس، والفنتازيا والقصبات، والنزهات المجنونة، والحريم المسجون. إنه العالم الساحر الذي تراود كل أوروبي أمنية الارتماء فيه. وما يريد هذا الأوروبي أن يعرفه عن العالم العربي هو هذه الصور وليس وقائع التجارة والبترول التافهـة.

التعريب حصاد طروادة للتغريب
لما استعمرت فرنسا بلدان المغرب العربي كانت الوضعية اللغوية واضحة. فالفرنسية كانت لغة للأجنبي، والعربية لغة للإسلام. وكان كل فرد يتكلم بلهجة جماعته. وكان الإسلام، بالإضافة إلى تجسيده لقانون من خلال فرضه لمجموعة من التعاليم الأخلاقية، يجسد أيضا – من خلال اللغة العربية – قانونا بكامله خاصا بالمسلمين المتقين. ومن هذا المتخيل الجامح يمكن الإشارة إلى تلك الأوصاف الرائعة التي يقدمها عن ملذات الجنة، وعن الحور العين بالخصوص في سور الطــور والواقعـة والنبـأ، عن تلك العذارى اللواتي لو «أطلعت [إحداهن] إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحا…[10]». ويتعين إضافة أنه قد تم تخصيص أدب شعبي بكامله مكتوب وشفهي لهذا المتخيل المتجذر في القرآن، فأفاض وبالغ في وصفه. ويقدم لنا عبد الوهاب بوحديبة في كتابه (1975: 91 وما بعدها) لمحة عن هذا المتخيل القرآني. وباختصار، فإننا نشاهد الجذور العميقة للغة العربية لغة القرآن ماثلة بين مسلمي المغرب العربي عربا وبربرا على حد سـواء. يضاف إلى ذلك أن هذه اللغة كانت في فترة هيمنة الكفار والاحتقار العرقي تمثل بالنسبة لجميع المغاربيين لغة للاختلاف والمقاومة ورفض المستعمـر. كانت تشكل مَعْلَماً بارزا لهويـة خاصـة.
ثم لما جاء الاستقلال طولب بمنح هذه اللغة وضعا صحيحا يتيح لها أن تنشر نتائج تأكيد هذه الهوية وتوسعها، أي انتظر منها أن تعيد ترسيخ الهوية وتأكيدها في عالم مختلف.
لقد باشرت الدولة المستقلة سياستها التعريبية بواعز من العناصر التي تذكـِّرُها بواجبها في الحفـاظ علـى «الأصـالة»، وربطت تلك السياسة بهدف مختلف يتمثل في إعداد لغة وطنية، لغـة تـؤدي أداء دقيقا سائـر وظائف اللغة العصرية وتنقل محتوياتها العصرية. تم التشديد، إذن، على اللغة الوطنية، أي اللغة الرسمية الوحيدة. وتحديد اللغة العربية بهذا الشكل سيقودها إلى التشبه باللغة الفرنسية، باللغة التي يجب عليها أن تحل محلها في وظائفها ومعجمها وانتشارها في المجتمع. وإذن فسيتمثل المشكل في جعل اللغة العربية تنقل مجموع المحتوى الثقافي الذي كانت اللغة الفرنسية تنقله سابقا. ويتعلق الأمر، في الواقع، بامتلاك لغة لوضع قوانين إدارية أو امتداح مزايا الوقاية، لغة لتحرير طلبات الشغل أو الإعلانات الإشهاريـة…
هكذا نلاحظ أن عناصر الخصوصية التي قاومت المستعمر طيلة فترة الاحتلال وظلت في مأمن من العدوى الغربية بسبب التعارض القائم بين اللغة الفرنسية واللغة العربية، تلك العناصر ستجد نفسها فجأة مهددة بالإندماج في القيم الغربية، وبذلك أفضى الأمر إلى هذه العملية الغربية المتمثلة في ملء عمق اللغة والثقافة العربيتين بمحتوى أجنبي في إطار التعريب وبواسطة هذه اللغة العربية ذاتها التي كانت تضطلع دائما بالوظيفة المعاكسة. علما بأن الاستعمار كان قد حاول إقحام ذلك المحتوى، لكنه اصطدم بمعارضة شرسـة من قبل الهوية المغاربية. وهكذا تصير اللغة العربية هي حصان طروادة الذي أدْخِلَ خفية إلى عقر دار الإسـلام…
وفوق ذلك، ليست هذه هي الحالة الوحيدة التي تكلف فيها الدولة بالحفاظ على الأصالة لكنها تجعل من نفسها، في الواقع، الوكيل المضطلع بنتحية هذه الأصالـة بكيفية أكثر فعالية مما كان عليه الأمر مع الاستعمار، وذلك نظرا لأنها لا تلاقي المقاومة التي كان يلاقيها هذا الأخير. وفي المقابل، يذهب ربح العملية إلى الدولة الوطنية التي تحول لفائدتها تلك الروابط التي كانت تجمع بين اللغة العربية والإسـلام، أي تستخلص منها ضمانة مشروعيتها مع ملء هذه «الحاويات» – إن صح القول – بـ«المضامين الغربية»، أي بتيمات (Thèmes) التقدم، والتنمية، وعالم الإنتاج والاستهلاك، والنقد، وباختصار بعالم غريب عن العالم المغاربي ومنحدر من الاستعمـار. وإذا استمر هذا التطور، فإن الاختلاف سوف لن يجد ملاذه إطلاقا في لغة عربية خضعت محتوياتها لإعادة تشكيل على النموذج الأجنبي. وآنذاك سوف لن يفلت من هذا «التحايل على المرجع» للغة سوى اللغة الأم، ومن ثمة ستشكـل هذه الأخيرة قطب «المقاومـة» الوحيد ضد نفوذ الدولة الوطنية المتزايد وضد الاندماج في ثقافة دولية موحـدة.
لنذكر في ختام هذا القسم بأن هذا الاستقطاب حول ثلاث لغات في المغرب العربي لا يحيل فقط على ثلاثة تعابير لغوية تقع في مستويات مختلفة، هي المستوى المحلي والإسلامي و الغربي، بل يحيل أيضا على انطباع الوسط الاجتماعي بثلاثة ضوابط ثقافية مختلفة تمثل هي الأخرى نداءات وإحالات على هويات مختلفة. وهذه الهويات، أو الأنظمة أو المرجعيات، الثلاث لا تمثل عوالم منفصلة بقدر ما تشكـل عوالم في تكافل مستمر بحيث يخضع الفرد لجاذبيتها كلها، في آن واحد، ضمن المجرى العادي لحياته اليومية. ولتوضيح هذه الوجهة للنظر، من المفيد دراسة بعض الظواهر البارزة في الحياة الثقافية لكي نرى إلى أي حد تتخللها تلك الأنظمة المتباينـة.

4 – التيمـــات الثقافيـة والهويـة
لا نزعم الإحاطة بمجموع مشاكل الحياة الثقافية في المغرب العربي، ومع ذلك فقد ارتأينا من المفيد أن نتناول هنا بعض جوانبها الدالة لأنها تحيل على الهوية وتمثل، لهذا السبب، نقطا حساسة في فترة التحول الراهن. وسنكتفي هنا ببعض القضايا، وهي: مسألة العلاقة بالجسـد أو «الصحة العقليـة»، «مشكلـة المرأة»، ثم الأغنية والمسـرح.

العلاقـة بالجسـد أو مشكـلة المجنـون
سواء تحدثنا عن العلاقة بالجسد أو الصحة العقلية أو صورة المجنون، فالأمر هنا يتعلق بمشكل دَرَسَتْهُ الأنثروبولوجيا الحالية بكيفية جيدة. والمشكل المطروح هو مشكل الضابط (أو المعيار) (La norme) والهامش(La marge)، هو معرفة إلى أي حد يمكن لفرد من الأفراد أن يعبر عن ارتجالية رغبته خارج الإطار المعترف به كإطار سوي من لدن الوسط الذي يعيش فيه. ومن هذا المشكل تنحدر مشكلة أخرى تتمثل في نوع العلاج الواجب تخصيصه للفرد الذي لا يدخل في إطار الهوية التي يحددها المجتمع: أيجب التنقيص منه، أي إخفاؤه وعزله، أم يجب على العكس تركه حرا طليقا باعتباره فردا هامشيا يشهد، من خلال وضعه كمقصي، على كلية قدرة الضابط الاجتماعي؟ ومهما يكن من أمر، فإنه يجب إيجاد «علـة» لهامشيته، وتفسيرها، واقتراح علاج لـ«مرضـ»ـه إن تم اعتباره مرضا. هكذا، نلاحظ كيف يمثل هذا المشكل المكان المتميز للكشف عن الهوية في أي مجتمع من المجتمعات.
لقد شكل وضع المجنون موضوعا لعدد من الدراسات خارج الغرب، وفي المغرب العربي على الخصوص[11]. ولنكتف هنا بالتذكير بأن سجل القيم القديمة يعتبر المجنون عادة فردا مملوكا أو ممسوسا (Possédé)، أي تملكه أرواح يمكن أن تمنحه قدرات خارقة للعادة. ولذا، فهو يحظى باحترام وسطه ولا يولد أي شعـور بالإثـم الفردي أو الاجتماعي. وإذا تم التفكيـر في «التطبيب»، فذلك يكون في إطار استشارة اختصاصي، هـو الطالب أو الفقيه، أو القيام برقصة جماعية لتخليص المريض من الأرواح (حضرة أو جذبة Transe). وهذه الطقوس واسعة الانتشار، وممارستها تتم غالبا في إطار الزوايا. ورغم أن الأرثذكسية الإسلامية تركن إلى التفسير الأساسي نفسه، تفسير المرض العقلي باعتباره مسا من الجـن، فإنها تشجب الممارسات الخفية وتوصي بتخليص المملوك بقراءة القرآن لا غير. إلا أن الأشكال العقلانية العصرية لهذه الأرتذكسية تقترب من رد المرض العقلي إلى المرض الشائع الذي يتطلب، كسائر الأمراض، عون الله وممارسة المعرفة البشرية. أما الممارسة العصرية، ممارسة مستشفى الأمراض العقلية الذي تـرسخ جيـدا في المغـرب العـربي، فتغفـل كـل خصوصية ثقافية حتى – بـل وأساسـا – عندما يزاولها أطباء مغاربيـون، وتطمح إلى أن تكون مقاربة علمية للمرض الذي يتعين معالجته في جذره، أي باعتباره اختلالا عضويا معينا يمكن مداواته بعقاقيـر كيميائية.
هكذا يُستخدَم في حل مشكل الجنون منظورٌ شعبىٌّ يمكن نعته بالسحري، وتصور إسلامي أرثذكسي، ونظرة عقلانية غربية. والفرد الذي يجد نفسه منساقا إلى «العلاج»، أي الذي يسميه محيطه مجنونا أو مريضا، يضطر في الغالب إلى تجريب ثلاثة علاجات، إذ يقوده الفشل المتكرر لمستشفى الأمراض العقلية إلى زيارة طالب (فقيـه) أو إحدى الجماعات التي تمارس طقوس الصرع عن طريق الحضرة. إنها ممارسات ثلاث تحيل على ثلاثة ضوابط ثقافية كما تحيل غالبا على ثلاث لغات، هي: لغة السحر الطبيعي الشعبي الذي يسمى غالبا (سحراً) إسلاميا، ولغة الأرثذكسية الإسلامية كما يحددها العلماء والفقهاء الحضريون، ثم لغة «العلم العصري» الذي ينظر إليه باعتباره عالما للأجنبي الغربـي.

«مشكـــل المـــرأة»
يحضر هذا المشكل بقوة في الراهنية لأنه يعكس التطور العميق الذي يشهده المجتمع الحالي. وهو مشكل أساسي لأنه يمس تعريف هوية الرجل نفسه ويطرح – بما يؤسسه من تمييز (بين الذكـر والأنثى) – مسألة الجنس محيلا على وضع هذا الأخير في صلته بطبيعة المجتمع، وعلى الدور المناط به في تحديـد الضابط. ذلك أنه إن كان يوجد مكان لمعاينة الانتقال من النظام الطبيعي إلى النظام الثقافي، فذلك الفضاء بالتأكيد هو الجنس لأن ما من مجتمع إلا ويرى التحكمَ في القوى الغامضة والمبهمة أمراً ضرورياً. والكلمة هي التي تضطلع في البداية بمهمة إيقاف هذا السيل الجارف من أجل احتوائه داخل أشكال الرمزي. وبذلك فالعلاقة بالكلمة في هذا المجال علاقة مضبوطة جـــدا.
يوجد في المجتمع البدوي أو القروي وضع محدد للجنس – منه ينحدر وضع اجتماعي للمرأة – مختلف عن ذلك الذي نجده في الحاضرة الإسلامية، إذ تشارك فيه المرأة بقوة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وهو يرتبط في العمق بتصورات طبيعية للخصوبة رغم تغطيتها بحجاب الممارسة الإسلامية. وليس من باب العبث أن يكرس الإسلام الأرثذكسي نفسه في كل العصور – وحديثا جدا في الحركة الإصلاحية – لمناهضة هذه الممارسات «المتأخرة» و«الخرافيـة» (كما يدعوها غالبا) التي تستعيد بها المرأة – فيما يبدو – هوية خاصة بها وقدرة غامضة في الوقت معا. وأقل ما تدل عليه هذه الإدانات هو أن الممنوع المزدوج الذي تلقي به العقلانية الإسلامية أو عقلانية العلم على «أنوثـة الأصـول» هذه لا يؤدي بالتأكيد سوى إلى إذكاء عمق حيويتها. ففي المغرب العربي، عندما تفلت قوة الحياة النسوية من الانكسار داخل عزلة المدن وفردانيتها، فإنها تغور في أساس من الكلمات والحركات مختلف عن ذلك النموذج الذي اختاره فقيه الإسلام للمرأة. وتجليات هذا الأساس في الاجتماعات النسوية تضمن للجسد تعبيرا تحريريا لا تعرف المجتمعات الغـربية نظيرا لـه.
ويبدو هذا الوضع الذي يحاول النموذج الإسلامي فرضه على المرأة محددا لها مكانة سلبية وخاضعة وملزما إياها على الامتثال له في الحياة الاجتماعية، يبدو بمثابة الضابط الذي يريد الرجل أن يفرضه على المرأة لاحتواء طفح النظام الطبيعي الذي يراه يتفجر فيها، وربما أيضا لتحاشي ما يثيره فيه ذلك الطفح من خوف عميق. وقد صار الحجاب رمزا لذلك لأنه يحيل على نظرة للمرأة تجعل منها شيئا مخجلا أوخطيرا يجب إخفاؤه. والمشكل هنا يكمن في أن ما كتب من أدب غزير حول المرأة المغاربية لم يحاول تحديد الدور الذي أناطه النظام الرمزي الإسلامي بالجنس في علاقته بالرقابة الواجب ممارستها على الحياة الاجتماعية. ومن المؤكد أن هذا الدور مختلف جدا عن نظيره في النظام المسيحي الذي تبناه المجتمع اللائكي الغربي. وإذا كانت الدراسات التي شرعت في معالجة هذا المشكل في الغرب تختلـف في تفسيـره فهي، على الأقـل، تجمـع على الاعتـراف بالـدور الرئيسي الذي تلعبه الرقابة الجنسية في تركيبة المجتمع ككل. حقا، يبدو في الوقت الراهن أن التصور الإسلامي للجنس متمركزٌ بشدة حول الشرف فيما يتمحور نظيره الغربي حول النقد، لكن يتعين فهم كيفية تشكل آثار السلطة في النظاميـن.
أما نموذج المرأة الذي يقترحه الضابط الغربي وتنشره بكيفية واسعة الأجهزة المؤسساتية لـ«التطور»، فيتضمن بحثا عن تحرر اجتماعي يترتب عنه وضع جديد للمرأة مختلف عن الوضع السائد في المغرب العربي. ويعتبـر الصـدى الـذي يلقـاه هذا النموذج في المغرب العربي عاملا حاسما في التوترات القائمة حاليا حـول موضـوع المـرأة.
هكذا يعرف سياق المغرب العربي ثلاث هويات للمرأة، وهي هويات حاضرة في الواقع واللغة معا. ويبدو في الوقت الراهن أن صورة المرأة الغربية هي القوة الأشد تحريكا لأنها ترتبط بسياق التحرر والمُتْعِية (Hédonisme). غير أنه من الصعب تفسير ذلك: هل يتأتى تأثيـر تلك الصورة في المرأة المغاربية من جاذبيتها أم من الأصداء العميقة التي توقظها في ذلك «العمق الطبيعي التقليدي» الذي لا زال يحتفظ بكل حضوره إما على شكل ممارسات من صميم عالم النساء أو ميولات كبتها الممنوع الثقافي الإسلامي؟

الموسيقـى والغنـاء أو الكلمـة المغنَّاة
للموسيقى والغناء ميزة تفتقر إليها الكتابة، وتتمثل في ترميم هذا البعد «الشعبي» الذي غالبا ما تنتصب في وجهه الضرورات والأوامر الثقافية. بالإضافة إلى ذلك، فهما يحيلان مباشرة على أنماط التعبير اللغوي الثلاثة، وهي: اللهجة، واللغة العربية، ثم الفرنسية.
لن نتوقف عند الدور الذي تلعبه الموسيقى الغربية بين صفوف الشباب المغاربي. فتأثيرها يمكن تبينه من خلال ما تصادفه من انتقادات لدى الشرائح الشعبية التي ترى في اجتياح هذه الإيقاعات المرتجفة والكلمات التي ترافقها تشبعا بالحضارة الغربية في جانبها الأكثر لا أخلاقية: جانب انحطاط القيم وعدم الاكتراث بالأخلاق.
وما يسمى في الغرب موسيقى عربية يغطي، في الواقع، أشكالا متعددة يمكن تصنيفها إلى تيارين هاميـن: الأول يدعى طربا شعبيا، يستخدم أدوات كالناي والطبلة أو الطارة، ويستعمل كلمات دارجة، وهو ذو مرجعية بدوية وقروية. أما الثاني فهو على العكس حضري، يسمى أحيانا طربا كلاسيكيا (الأندلسي أو الملحون)، ويستعمل أدوات أخرى كالعود والكمان أو الرباب، ويرتكز على إيقاعات متنوعة، كما يستخدم في أغانيه اللغة العربية الكلاسيكية أو لغة حضرية منمقـة.
ومما تجدر ملاحظته في بريد قراء الصحيفة الجزائرية الجزائـر الجمهوريـة Alger Républicain، خلال النقاش الذي فتحته سنة 1969 حول اللغة المستعملة في برامج الإذاعة والتلفزة ونوع الموسيقى التي يليق بثها فيهما، أن المراسلين قد نظموا اقتراحاتهم تلقائيا حول أقطاب ثلاثة: قطب الموسيقى الغربية، واللغة الفرنسية أو الإنجليزية مع إعطاء حرية معينة (البنات اللواتي يرقصن التويست). ثم قطب الموسيقى العربية (المصرية) التي اعتبروها صعبة، مما يفصح عن وجود ضرب من الخلط في أذهانهم بين العربية الكلاسيكية والعربية المصرية من جهة، وبين الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى المصرية، من جهة ثانية. أقول اعتبروها صعبة وذات مرجعية خارجية تحدد، حسب الحالات، تارة في الأمة العربية الكبرى، وتارة في أمة أجنبية – هي مصر – ينظرون إليها باعتبارها أمة تسعى إلى الهيمنة. أما القطب الثالث والأخير، فهو قطب الموسيقى المسماة موسيقى شعبية أو وطنية، ويقرن المراسلون المطالبة بها ببث البرامج باللغة التي يتكلم بها الشعب، العربية أو البربرية، وبإرادة إثبات وتأكيد ما يحسون به باعتباره شيئا من صميم البـلاد.
وإذا كانت الموسيقى تشكل عالما تتعايش فيه تمثلات متعددة للهوية، فإن التعبير الشفهي يتيح للمرء أن يسمع فيه استيعابا مباشرا للعالم الراهن ومشاكله الشديدة الاختلاف عن مضامين الخطابات الرسمية المحلية حول الدولة أو الإسلام. وعلى سبيل المثال الدال – وهو ليس الوحيد – يجب ذكر مجموعة المغنين المغاربة التي تسمى «ناس الغيـوان»[12]. فهؤلاء المغنون الذين ينحدرون من أوساط شعبية بمدينة الدار البيضاء، وتلقوا تكوينهم في تجربة المسرح الشعبي، يعالجون في قصائدهم الشهيرة (مثل قصيدة «الصينية» أو «فين غادي بيا خويا؟» [إلى أين أنت سائر بي يا أخي؟] موضوع الاضطراب العميق الذي فرضه الغرب على المجتمع المغاربي، والتدمير البطيء الذي تشهده العلاقات الأكثر حميمية، والذي يرتبط بتفكك الاقتصاد والحياة الاجتماعية القديمين. كما يعالجون موضوع فقدان امتلاك عالم لم يكن عالما للتقنية المتخلفة فحسب، بل وكذلك عالما لسيادة قيم الشرف على قيم النقـد (Argent). والارتباك الذي أحس به النظام خلال مدة معينة، حيث منع إذاعة أغاني هذه المجموعة مدة عامين، يدل بما فيه الكفاية عما كانت تمثله هذه المجموعة. غير أن فنهم يكشف بالخصوص عن جانب كامن في تأكيد الذات. واللغة نفسها التي يستعملونها، وهي عربية دارجة عتيقة في بعض الأحيان وتعود بعض تراكيبها إلى الرافض المغاربي القديم عبد الـرحمان المجذوب الذي عاش في القرن XVI م (ج. سيل – ميلي وب. خليفة، 1966)، تلك اللغة تشهد على ثقـافة حقة عرفت كيف تحافظ على إيقاعاتها وشفراتها ولغتها خارج كل تطبيـع لغـوي أو إيديولـوجي.
ويعتبـر تكاثـر فـرق غنائية شابة في مجموع أنحاء المغرب العربي، تتأرجح بين الأقطاب الثلاثة للتعبيـر الثقافي، دليلا يشهـد على دينامية ملحوظة جدا لا سيما أن الأغنية الشعبية تظل في غياب فرصة التعبير السياسي – بسبب الممنوع الثقافي المرتبط بالقمع الذي يمارسه المكتوب واحتكار وسائل الإعلام والممنوع السياسي الذي تمارسه الرقابة – تظل المرآة التي يجد فيها مجموع سكان المغرب العربي صورة انشغالاتهم الجوهريـة.

المسـرح أو الكلمـة الملعوبــة
يوجد إنتاج مسرحي باللغات الثلاث. وهنا أيضا يمكن أن نتبين، من خلال اللغة المختارة، إحالات على الأمكنة الثلاثة المختلفة للهوية المغاربيـة.
أن يختار مؤلف ما العربية الكلاسيكية لكتابة نص مسرحي، فذلك ينطوي على اختيار سجل وتأثير نوعي جدا. ذلك أن اللغة الكلاسيكية تقتضي تكلفا في التعبير لا يتلاءم مع تلقائية الحركة، وذلك حتى عندما يتعلق الأمر بمسرحيات تعرض على شاشة التلفزة. والإحالة في هذه اللغة تتم طبعا إلى مقدس الإسلام أو ملحمة التاريخ العربي، وهما فضاءان يجد المغاربي نفسه دائما معنيا بهما في العمق ما لم يحل غموض اللغة بينه وبين النفاذ إليهما.
لقد احتل التعبير المسرحي باللغة الفرنسية مكانة هامة في المغرب العربي لمدة طويلة. فإلى جانب المسرح الكلاسيكي الذي كان يمثل «المسرحيات الكبرى» تطور مسرح آخر ذو توجه تقدمي وشعبي مستوحى في الغالب من المسرح الغربي الجديد كمسرح برتولد بريشت. وقد قام الإنتاج المسرحي هنا إما بإعادة تمثيل مسرحيات بريشت أو بإبداع مسرحيات جديدة تستوحي الواقع المغاربي.
إلا أن منطق التوجه الفني لهذا التيار نفسه فضل عموما للمسرح أن يعبر باللغة الدارجة، لأن اللهجة تظل أداة التعبير المفضلة بالنظر إلى أنها تتيح التعبير بتلقائية وحيوية، كما تتيح للمعيش الجمعي أن يقتحم الخشبة فضلا عن أنها تتيح بمفردها النفاذ إلى حساسية المتفرج وإحداث أصداء عميقة فيها وردود فعل غير متوقعة في أغلب الأحيان. ثم إن اللهجة تملك بالخصوص، من خلال سحر الكلمة والحركة، القدرة على الربط المفاجئ بين راهنية ساخنة وماض متجذر بعمق.
وكما ذكر المؤلف التونسي عز الدين المدني[13]، فاللغة المتكلمة التي تُعْرَضُ في الغالب باعتبارها مجرد زي خارجي إنما تخفي، في الحقيقة، مستويات مختلفة، بدءا من اللغة اليومية ووصولا إلى أشكال – قديمة في بعض الأحيان – أكثـر صنعة وتكلفا. أشكال لا تكون دائما في متناول المستمع العادي، غير أنها تظل مع ذلك محملة بقدرة إيحائية شديدة. وقد قادت عز الدين المدني أبحاثه في هذا الاتجاه إلى كتابة مسرحية خرافـة رأس الغـول وعرضها في تونس سنة 1969 في ذكرى جهاد الإمام علي ضد كفار اليمن. فقد استوحى التقليد الشعبي للحكايات الملحمية كما تروج في «الأدب الأصفر» – هذه الكتب الصغيرة التي تطبع في أوراق صفراء وتباع في الأسواق بأثمنة زهيدة – أو كما يحكيها في الأسواق القصاصون الشعبيون (المداحون)، فأخرج مسرحيا هـذه الحقيقـة الواقعيـة التاريخيـة والمتعالية عن الزمان، في الوقت معا، المتعلقة بالكفاح ضد الظلم مرموز إليه بشخصية الإمام علي العجيبة، أي بالجد الروحي للشيعة. ومن خلال لعب المؤلف على النص والإخراج توصل إلى وضع المتفرج أمام حرية الرجوع إلى الظلم الأبدي أو الظلم المجسد في الوضعية التاريخية التي يعيش فيها. وقد أحالت حركية الإمام علي المستوحاة مباشرة من التمثلات الشعبية، كما تصورها الرسوم الشهيرة على الزجاج، هذا المتفرج أيضا على الحساسية الفنية التي سبق له أن تشبع بها. وقد حفرت اللغة نفسها، من خلال تأرجحها بين الكلام العادي اليومي واللغة الأكثر طقوسية متمثلة في حديث القصاصين الشعبيين، حفرت في الراهن كلمات لكي تستوفي الأساس المنسي للرمزي الخاص بالثقافة الشعبية.
ومما سبق نلمس أيَّ استحضار للهوية يمكن أن يتحقق في المسرح أو الأغنية من خلال هذا التعمق في التقليد الشفهي الذي يعيد إلى اللغة الأم السمات المنسية لماض يشكـل مصـدر خصب لها على الدوام. ومن المحقق، كما يتضح ذلك من خلال النجاح الذي يلقاه هذا المسرح وهذه الأغنية، أن ما يتم استحضاره هنا إنما هو هوية حية مختلفة بالتأكيد عن التقليد الغربي، بل وكذلك عن التقليد العربي الإسلامي «المثقف».
لقد تطرقنا هنا إلى مجالات ثقافية مختلفة دون أن نسعى إلى الإحاطة بالحقل الذي تغطيه تلك المجالات، لأن قصدنا ينحصر في التقاط الأبعاد الثلاثة التي ندرسها وهي تشتغل داخل ذلك الحقل. ونلاحظ أنها حاضرة فيه، ويمكن التعرف عليها انطلاقا من معالم لغوية. غير أن تحديد الحقل الثقافي والفاعلين المتواجدين فيه لا يتيح التعرف على اللعبة. قد يصعب تصور دينامية بنيوية معينة تبرز العمل انطلاقا من طبيعة الفاعليـن. غير أنه من الهام معرفة قواعد اللعبة، ولذلك يجب التساؤل عن الفئات الاجتماعية التي تتخذها هذه الضوابط مرجعا وعن القوى السياسية التي تهيمن على الساحة، أي التساؤل – في حالة المغرب العربي – عن السياق الكلي لبناء الدولة وإرساء سلطتها.

5 – الدينامية الاجتماعية والثقافة الوطنية
لقد أتاحت لنا الصفحات السابقة الوقوف على أن اللغة، باعتبارها عنصرا أولا ومكاملا للثقافة، تبدو بمثابة الفاعـل المحرك لمثاقفة الفـرد، أي لتنشئته الاجتماعية من خلال كونها تجعله ينقل متخيلاته المنعـدمة الشكـل إلـى بنيـة الرمـزي. ويتم هذا الانتقال إلى «الثقافة» عند الفرد بقبولـه لقانون يجعله يتخلى عما «لا يمر» في اللغة، ولا يمر في الثقافة فيما بعد. لكن يترتب عن هذا القبول إدماج للفرد داخل الجماعة، أي إكسابه هوية تجذبه وتطمئنه. هكذا، وفي نهاية المطاف، إذا كانت اللغة والثقافة قانونين فهما أيضا قطبا جذب. فالسلطة والإغراء مترسخان في الحركة نفسها. السلطة تعمل بالغوايـة.
لقد حددنا في حالة المغرب العربي موقع ثلاث لغات أو ثلاث ثقافات، وبالتالي ثلاثة قوانين تمارس سلطتها في عملية التنشئة الاجتماعية، أي تعرض ثلاثة أقطاب للتماهي. وهذه المجموعات الثقافية تغطي مجموع الحياة الاجتماعية لدى الأفراد، إذ ما من ممارسة أو فعل إلا وهو «خاضع لضابط» قانون اجتماعي، أي لتعبير ثقافي. كما أن ما من ممارسة أو فعل إلا ويقال داخل اللغة. وما قلناه عن بعض الموضوعات قد ينطبق على مجموع ما يسمى ثقافة بمعنى أوسع، بمعنى مجموع حياة الإنسان: استهلاكه، عمله، تصوره للجسد والزمن والموت…
وكما أن اللغات لا تحتل مواقع متشابهة، فالأمـر كذلك بالنسبة للضوابط الثقافية التي تترجمها تلك اللغات. فاللغة الأم غير مكتوبة وغير معترف بها، ومع ذلك فهي اللغة التي تغور في أعماق الفرد، وهي التي يجد بداخلها التعبير عن هويته الأولى. أما اللغتان الأخريان اللتان تحيطهما سلطة «الثقافـة» والكتابة بهالة وتمنحهما نفوذا، فتستفيدان من وضع أرقى في الممارسة الاجتماعية. فالضوابط الثقافية التي تقابلهما تملك سلطة أقوى، لكنها تبقى سلطة خارجية عن الفرد وتظل، بهذه الصفة، أقل فرضا لنفسها عليه. ونظرا لأن تلك الضوابط تندمج في الدواليب العليا للمؤسسة السياسية، فإنها أكثر قدرة على إيصال تأثيرات تلك السلطة التي تمتلكها استراتيجية سياسية ما. والسؤال المطروح الآن هو معرفة كيف يتم إدماج هذه القوى الثقافية في الجهاز الكلي للحكم بهدف التأثير في الدينامية الاجتماعيـة.

الجماعـة القاعدية، العالـم الإسـلامـي، الأمـة[14]
عرف المغرب العربي طيلة الحقبة التاريخية السابقة للاستعمار قطبين أساسيين للانتماء الاجتماعي بالقياس إليهما كان يتم تحديد الهوية. الأول هو قطب الجماعة العائلية الممتدة بهذا القدر أو ذاك. وفيه كان يتم التفكير في الانتماء بمصطلحات النسب الذي يكون حقيقيا أو خياليا. وقد كانت أبعاد هذه الجماعة تمتد أحيانا من العائلة إلى القبيلة أو أي جماعة أخرى. كما كانت طرق الانتماء ودرجاته ترسم عموما حسب نموذج تفرعات شجرة النسب كما تبينه النظرية الأنثروبولوجية الانقساميـة[15]. ذلك النموذج هو مصطلح قـوم[16] الذي يطلق في التقليد اللغوي العربي على هذا النمط من الانتماء القائم على الدم. ونعرف قوة هذه الروابط الأساسية التي ذكرها ابن خلدون في مفهومه العصبيـة[17]، والتي تظل حقيقة واقعية ما لم يمحها إلى اليوم خطاب الإسلام المعياري الذي ينعتها بالتعصب أو خطاب الغرب الذي يـرُدُّها إلى عالم البدائيـة.
أما القطب الثاني للانتماء الاجتماعي، فهو الجماعة الإسلامية – الأمة، أي جماعة المؤمنين التي لا تقبل أي تمييز يقوم على أساس الدم أو العرق أو الانتماء القبلي، وذلك رغم أن العنصر العربي شكل دائما قلبها التاريخي. ومع ذلك، فما دامت هذه الجماعة جماعة روحية، ومادام لم يحاول أي حكم تسلطي إعطاءها شكلا واضحا، فإن كل مغاربي لا يجد مشكلا في الحياة ضمن هذه الهوية المزدوجة وهذا الانتماء المزدوج إلى عشيرته في الدم وجماعته في الديـن.
تعتبر فكرة الـ (Nation) بمعناها العصري، والتي تترجم أحيانا إلى العربية بكلمة وطن، فكرة غريبة عن التقليد السياسي العربي. فقد كانت – ولازالت – تعتبر بمثابة النتيجة التعسة لعملية «الْبَلْقَنَـةِ» التي أجراها الغرب داخل الأمـة (Nation) العربية الكبرى الوحيدة. أما اليوم، فقد فقد رجال الدولة – باسثناء بعض الساسة المثاليين أمثال العقيد معمر القذافي – الأمل القريب في إعادة منح إطار سياسي للأمة التي تظل الموضوع المثالي لمشروع يتناقض مع الحقائق السياسية الحديثة السائدة في الوقت الراهـن.
يتعين علينا مقابلة هذه المرجعيات الطوبولوجية الثلاث للهوية – الجماعة القاعدية، والأمة العربية، والأمة العصرية – بتلك التي تقدمها اللغات الثلاث، وهي اللغة الأم واللغة العربية الكلاسيكية واللغة الأجنبية الفرنسية. ولتوضيح هذه المقارنة يمكن رسم جدول للتطابق على الشكل الآتي:

الأمة القاعـدية
الأمة العربيـة
الأمة العصريــة

(قـــــوم)
(أمـــــة)
(وطــــــن)

اللغـة الأم
العربية الكلاسيكية
اللغة الفرنسية؟

وإذا كان يبدو من السهل إجراء التقابلين الأولين، فإن الثالث على العكس يطرح مشكلا. فاللغة الأم، عربية كانت أو بربرية، هي بالفعل لغة الجماعة الأصليـة للفـرد. بـل ويمكننا أن نذهب إلى القول إن اللغة الآن تحدد دائما الجماعة الأصغر، ونعني بها اللهجة التي تتكلمها هذه القرية أو تلك بخصوصيتها القبلية. فكونها تجَانِسُ بين وحدات اجتماعية مختلفة أمر يطابق اتساع دائرة العلاقات التي ترتبط بها هذه الوحدات فيما بينها. إن هذه اللغة هي أول عنصر للتماهي بين الأفراد. وهي تقع دائما في القسم الأسفل من المستوى الوطني. أما الانتماء القبلي بالمعنى الواسع الذي يشمل الانتماء إلى الوسط الاجتماعي القاعدي بمعناه المحلي، فيمثل – شأنه شأن اللغـة الأم – العنصـر الحاسـم، لكـن غير المعترف به في تحديد الهويـة.
طبعا، تحيل اللغة العربية الكلاسيكية على الأمة. وفي غياب اعتبارات أخرى تظل هذه اللغة، إلى جانب الدين، القاعة الراسخة والدائمة للأمة. ويترجم إصرار جميع الدول العربية على عدم اتخاذ أي لغة وطنية عدا العربية، ضمن ما يترجمه، ذلك التعلق الراسخ لدى هذه الدول بالجماعة الإسلامية الكبرى.
ويبدو التقارب بين اللغة الفرنسية والأمة (Nation) تقاربا جلي التناقض لأن ما من دولة من دول المغرب العربي الثلاث إلا واختارت اللغة العربية لغة وطنية. وسياسة التعريب تترجم هذه الإرادة إلى وقائع. ومع ذلك، يمكن التساؤل عما إذا كان هذا الالتقاء العرضي في الظاهر لا يترجم تماثلا عميقا بين اللغتين، لأنه إذا كانت اللغة الفرنسية لغة أجنبية في المغرب العربي وكان الاستعمار هو الذي أدخلها فيه، فمن الصحيح أيضا أن فكرة الأمة (Nation)، بإطارها المؤسساتي وإيديولوجيتها معا، قد تم إدخالها ضمن نفس الشروط. فالمغرب نفسه لم يكن يعرف الأمة بهذا الشكل رغم قدم النظام الملكي فيه. ويمكن أن يقودنا ذلك إلى التساؤل عن المعنى العميق للبنـاء الوطنـي.

البناء الوطني والتنميـة والتعريـب
لقد وجدت الدولة الوطنية في المغرب العربي نفسها إبان اضطلاعها بالحكـم فـي فجـر الاستقـلال أمام مهمـة مـزدوجـة أوكلتها إليها الأمـة ضمنيا: مهمة بناء شخصية وطنية أصيلة (وذلك على عكس عملية محو الشخصية المغاربية التي باشرها الاستعمار طيلة فترة الاحتلال) من جهة، وضمان تنمية البلاد وجعلها أمة عصرية بهدف ضمان تغطية الحاجيات الضرورية لكل فرد باعتبار تلك التغطية شرطا وقاعدة لاحترام كرامته، من جهة أخرى.
غير أن الانتقال إلى الممارسة سرعان ما فضح التناقض الذي يختفي في هذا الهدف المزدوج. فالتنمية كانت في الواقع تعادل تغريب البلاد، إذ لم تستطع أي دولة اقتراح طريق للتنمية أصيل ومختلف جذريا عن النموذج الغربي. وحتى تلك الطرق التي أطلق عليها في تونس والجزائر إسم اشتراكية لم تكن في الواقع سوى إعادة إنتاج صور معدلة بهذا القدر أو ذلك لرأسمالية الدولة في إطار تقنوقراطية بيروقراطية متحجرة. والحقيقة أنه لم يتم اقتراح أي طريق آخر. حقا، لقد اقترحت بعض الأوساط – وهي أقلية صغيرة في الواقع – اللجوء إلى تعريب جذري كشكل من المعارضة المطلقة للمجتمع الاستهلاكي، غير أنها لقيت على العموم نفورا بالإجماع في مجتمعات لازالت بعيدة عن تغطية الحاجيات الضرورية لمجموع سكانهــا.
إلى ماذا، إذن، تم اختزال البحث عن الأصالة؟ في الواقع لا شيء في البنية الكلية يتيح تقديم جواب حاسم: لا ذلك الحفاظ على أخلاق عمومية إسلامية الذي يكذبه على الفور هذا الزخم المؤيد لقيم غربية متناقضة مع القيم الإسلامية، ولا سياسة التعريب التي تهمنا بالخصوص.
في هذا السياق، تبدو المرامي الموضوعية للتعريب غامضة. حقا لقد كان من الهام إرجاع اللغة العربية إلى مكانتها اللائقة بها. وهنا ينطبق ما قلناه عن اللغة باعتبارها قانونا. فمعرفة اللغة العربية تحيل على الإرث الإسلامي والتاريخي العربي. غير أنه يتعين رؤية أن القانون العربي في الحالة الراهنة يوجد في موقع دونية بالقياس إلى القانون «الفرنسي» أو الغربي أو العالمي بالنظر إلى العناصر المحركة. فالقانون الأخير هو الذي يلهم مجموع سياسة التنمية التـي تترجم في الواقع بتغريب عميق لسائر دواليب المجتمع رغم التأكيدات النافية لهذا التغريب (Occidentalisation). ففي الواقع، تواصل الدولة الوطنية المهمة التي بدأها الاستعمار. وقد أكملت مخططاته في الغالب منذ السنوات الأولى للاستقلال. وبذلك فهي وريثة له. استلمت الحكم من الخارج، لكن يتعين عليها أيضا أن تحرز على اعتراف بمشروعيتها، وذلك بتأكيدها لذاتها باعتبارها ذاتا أخرى مختلفة عن ذلك المستعمر. وهنا تكمن وظيفة سياسة التعريب. فهي تهدف قبل كل شيء إلى استـرجاع سلطة الأجنبي المستعمـر لفائدة الدولة الوطنية. إلا أن ذلك الاسترجاع لا يمكن أن يتم إلا إذا أحرزت هذه الدولة الوطنية على مشروعيتها. والحالة هذه، لا يمكن لهذه المشروعية أن تأتي إلا من القيمة الوحيدة التي يعترف بها الجميع باعتبارها مختلفة عن الغرب ونابعة من الداخـل، ونعني بها الإسلام هذا القانون الوحيد المقبول في المغرب العربي منذ قرون وبدون اعتـراض. وبذلك تكون وظيفة التعريب هي إضفاء شرعية الإسلام على الدولة الوطنية بواسطة اللغة العربيـة. وهذا الإضفاء يتيح، في لحظة ثانية، تحييد ما قد يعترض في الثقافة الإسلامية على سياسة تنموية تؤدي إلى استيراد نماذج ثقافية أجنبيـة.
إنها هذه العملية التي تتحقق في اختيار لغة وطنية فرنسية في محتواها ووظائفها لكنها عربية في شكلها ومرجعياتها الدلالية. الأمر الذي يمكن اعتباره أيضا بمثابة تحويل لغة كانت في الماضي مقدسة تقديسا تاما إلى لغة لائكية ذات استعمال دولي، إلى لغة «للإسمنت والفولاذ»[18]. وبهذا المعنى تحدثنا عن التعريب باعتباره «حصان طروادة للتغريب». ولا يتعلق الأمر هنا بقول إنه كان بالإمكان اتباع طريق آخر بقدر ما يتعلق بمعاينة واقع كثيرا ما يراد له أن يظل مجهولا.
ولعل عملية البناء الوطني الناجحة هي تلك التي تجتذب لصالحها – بواسطة لغة وطنية عربية موحدة – فعالية التقدم التقنية مقرونة بالشرعية الإسلامية والتجذرات العرقية. فمن شأن عملية كهذه أن تحقق لفائدتها وحدة مكونات الثقافة الوطنية، وتتمتع لهذا السبب بسلطة ثقافية ذات هيبة ومناعـة.

التعريب والتحـول الاجتماعـي
تقود الأولوية المعطاة للتنمية والتقدم إلى التأمل في آثار دينامية هذه الثقافة بالنسبة للسياق الكلـي.
باعتبار تلك الأولوية تنحدر من النموذج الرأسمالي فهي تولد اللامساواة. وما يصدق على جميع البلدان يصدق على المغرب العربي أكثر حيث تحول التبعية الدولية والضغط الديمغرافي الداخلي دون وصول جميع شرائح السكان بطريقة متساوية إلى امتيازات التقـدم. ويتولـد عـن ذلـك تنافـس اجتمـاعي حـاد يمكـن أن تستعمل فيه جميع الوسائل للاستئثار بجانب من هذه الامتيازات. وآنذاك لا يبقى للطبقة الاجتماعية المستأثرة بعملية الترقية هذه إلا محاولة الإيهام بأنها هي التي تعمل بشدة من أجل ضمان غد زاهـر للجميع. فمن شأن هذا العمل أن يبرر الامتيازات التي تستفيد منها حاليا. ومن الأمثلة النوعية لهذا التنافس الاجتماعي سياسة التعليم التي ترمي إلى إشراك أكبر عدد من الأطفال في هذه العادة الثقافية. فهذه العملية هي القادرة وحدها على جعل الذين أقصاهم النظام، أو «نفايات التعليم» يعتقدون أن عدم كفاءتهم هي التي جعلتهم غير قادرين، بل وغير جديرين بالانضمام إلى كتائب المجتمع الجديد المتألقة (غرانغيوم، 1977: 34-43).
وهذه الوضعية الصعبة بالقياس إلى الإدماج الاقتصادي والاجتماعي تقود إلىالفردانية، أي إلى محاولة كل فرد «أن يخرج منها سالما بمفرده». وهذه نتيجة منطقية أخرى لنظام اختار النقد باعتباره قيمة أولـى، بهـا يحظى المرء بالتقدير، وأحَلَّهَا محل الشـرف. وهو تطور يسهـل ملاحظته في الاستراتيجيات الزواجية التي لم يعد الفرد فيها يبحث عـن مصاهـرة «عائلات شريفة» كما كان الأمر في الماضي بقدر ما يبحث عن مصاهـرة عائلات ثـرية أو ذوات نفـوذ. وتقـود هـذه الفردانية إلى التلاشي التدريجي للتضامنات العائلية أو القبلية القديمة ما لم يتم إعادة تنشيطها، وهو ما يحدث في أغلب الأحيان، لاستخدامها كجماعات ضغط داخل النظام الجديد.
في هذا السياق الذي يشهد أعدادا كبيرة من المؤهلين، لكن القليل منهم فقط هم الذين يُختارون «لخدمة التنمية»، تبقى أغلبية واسعة من المهمشيـن الذين تتراجع الشروط الموضوعية لحياتهم اليومية سواء تعلق الأمـر بالأجـور أو الصحة أو السكن. وهؤلاء قد يرون في المرجع الديني الملاذ الأخير ضد الجور الرأسمالي. وهنا ربما يكمن تفسير بعض حركات الانبعاث الإسلامية – مثل حركة الخوانجية في تونس – التي تتشبه في الغالب بجماعات الإخوان المسلمين المصرية. ويمكن ملاحظة أن انتفاضة الإيرانيين الحديثة (سنة 1979) باسم الإسلام ورفضها لتنمية فاسدة قد جعلت هذه الأقلية تنتقل فجأة من وضع حركات سلفية إلى وضع أقليات فاعلة. كما يمكن لرد الفعل، هذا، تجاه وضعية فاسدة أن يتحول إلى مقاومة مطلقة ورفض معمم لكل ما تقترحه الدولة باعتباره لا يمكن أن يخدم إلا سياستها. لقد ردت نساء من جنوب تونس على موظفين من قسم تخطيط الأسرة جاؤوا يعرضون عليهن استعمال أقراص لمنع الحمل، بأن قلن: «[هذه الأقراص] فَاسْدَاتْ كِ زِيتْ الْخُلْـزَة (فاسدات مثل زيت السلجم)». وهي إجابة تقدم حصيلة سريعة وبليغة لسياسة تنموية تؤدي بالمنتجين التونسيين إلى بيع زيت زيتون ممتاز بثمن زهيد كي يشتروا زيت سلجم مشكوك في جودته (كامل شعيب، 1979).
إلى أي حد يمكن أن يذهب «الذين أقصتهم» التنمية؟ لقد أظهرت الثورة الإيرانية لأول مرة عواقب رفض وضعية كهذه. غير أن أي بديل صالح لم يتم تقديمه حتى اليوم. فالحلول التي يقدمها الكتاب الأخضر للعقيد القذافي تعد في الغالب طوباوية، فضلا عن أن تطبيقاتها الأولى في ليبيا لم تجد إلا صدى ضئيلا على الصعيد الدولي. وفي المغرب العربي يقود هذا الرفض إلى تصلب الأنظمة: تصلب الدولة التونسية بعد سقوط قتلى يوم 26 يناير 1976، وتصلب الحكومة الجزائرية التي تواجه ضغط شبيبة غير مندمجة باللجوء إلى حملات «تطهيرية»، فيُنقل هؤلاء الشباب إلى معسكرات الأشغال، ثم تصلب الملكية المغربية التي وجدت لمعارضتها مصرف حرب حقيقية. ويبدو أنه يتم الوصول إلى عتبات التنمية، لكن هذه الأخيرة تصطدم بحدودها الخاصة فلا تعود قادرة إطلاقا على منح هؤلاء المحرومين أي وهم للإندماج الثقافي، ولا تجد ملاذا آخر غير الضغط القمعي.

الثقافة الوطنية: هوية جديدة؟
الثقافة المثالية هي تلك التي ترسي قانونها بتحبيب نفسها. ولعل المثال، فيما يخص الدولة المغاربية، هو أن تُنَصِّبَ هذه الدولة نفسها باعتبارها القطب الوحيد للقانون والرغبة محلة نفسها محل القانون الثلاثي: قانون الإسلام والغرب والأم. لقد أخذت من الغرب لغة حول العلم، والتقدم، والتقنية، والصحة. لكن يتعين قول هذه الأشياء باللغة العربية كي تترسخ نهائيا في أذهان الجماهير. وآنذاك، سوف تتحقق الوحدة الثقافية الوطنية الجديدة لتخلف «عسر القراءة والفهم» الذي يطبع ثقافة الحاضر. وموقع اللغة الأم هو وحده الذي يطرح مشكلة. لكن يجب أن نلاحظ في بلدان كمصر وجود تنافذ مترابط مع استرجاع هذا البعد في إطار الوحدة الوطنية. أما في المغرب العربي، فيضع انقسام اللغة الأم إلى لهجات عربية وبربرية عائقا أمام مثل هذا التطور. غير أنه من العرضي ملاحظة أن تونس، حيث اللغة أكثر تجانسا بفعل اختفاء البربرية تقريبا، هي البلد الأكثر انفتاحا على لغته اللهجيـة.
أمام هذا التوحيد الثقافي المحدد بهـذا الشكل، والـذي يتحقق أخيرا على حساب لغة وهوية عربيتين مختلفتين، يمكن التساؤل عما إذا كان الحل الراهن الذي يحافظ على الشخصية الخاصة بكل ثقافة في إطار الازدواجية اللغوية ويحيل على هوية ثقافية مزدوجة أفضل من هذا التوحيد المفقر الذي ينحو إليه التعريب المرتبط ببناء هوية وطنية. قد تتساءل الدولة لدى تحقيق ذلك التوحيد عن الحقل الملائم لزرع بذور شرعيتها الفتية. لكن ألا يقتضي التبصر الرجوع إلى هذه الثقافة الحية والأصلية، إلى هذه اللغة الأم التي كانت دائما عربية وبربرية في آن واحد، والتي تعين مكان الهوية الأشد عمقا وتجذرا ورسوخا لتاريخ لم يتنازل أبدا عن أراضيه ورجالـه؟
————
الهـوامش والمــراجـــع
AMR HELMY, I.
1978, «Niveaux de langue et communication sociale en Egypte», Peuples Méditerranéens», N° 5.
BOUHDIBA, A.
1975, La sexualité en Islam, Paris, P.U.F.
CHOUaÎB, K.
1979, La famille et la régulation des naîssances en Tunisie, Mémoire de l’E.H.E.S.S.
DERNOUNY, M.
1979, La nouvelle chanson marocaine: Lecture de poèmes de «Nâss el – Ghîwân», Mémoire de l’E.H.E.S.S.
EL KHAYAT, G.
1978, «Tradition et modernité dans la psychiatrie marocaine», Ethnopsychiatrica, N° 1.
GRANDGUILLAUME, G.
1977, «Pour une anthropologie de l’arabisation au Maghreb», Peuples Méditerranéens, N° 1, pp. 95-121.
1977, «L’enseignement au Maghreb», Maghreb – Machrek, N° 78, pp. 34 – 43.
PATTE, V.
1979, «Parler en France: les possibilités des femmes immigrées», Peuples Méditerranéens, N° 8.
SCELLES. MILLIE, J. et
KHELIFA, B
1966, Les Quatrains de Mejdoub le sarcastique, poète maghrébin du XVIè siècle, Paris, Maisonneuve & Larose.
XANTHAKOU, M.
1978 (a) «Le fou du village en Péloponèse», Ethnopsychiatrica, N° 1 et 2.
1978 (b) «Les images de la folie en Péloponèse», Peuples Méditérranéenns, N°3.
————
هوامش الترجمـــة
[1] – قولة لجاك بيرك سبق ذكرها وإيراد مصدرها في الصفحة 33، الهامش 1 من الكتاب الحالي.
[2] – وتقدم لنا فيرونيك باط (1979) مثالا آخر عن سلطة الفرد على اللغة بواسطة اللغة نفسها.
[3] – التيفناغ إسم يطلق على نظام للكتابة تختص به اللغة البربرية عن سائر اللغات الإفريقية. وهذه الكتابة قديمة جدا تعود إلى ماقبل التاريخ. (م).
[4] – يطور الكاتب هنا الفكرة التي وردت في الصفحة 17 من الكتاب الحالي، وذيلناها بهامش توضيحي.
[5] – لقد أوصى ذلك المؤتمر المنعقد في يناير من السنة المذكورة الدول العربية بإعطاء تعليمات إلى دور الطبع كي تتوقف عن طبع الروايات والقصص والمسرحيات المكتوبة بالعربية الدراجة، كما أوصاها بمنع استعمال اللهجات في الأشرطة السينمائية. انظر المجاهـد الثقافي ليوم 14 فبـرايـر 1975.
[6] – راجع ندوة «اللغة والمجتمع في العالم العربي»، تونـس، غشت 1977. ويوجد عرض لوقائعها في مجلة مغرب – مشرق (بالفرنسية) العدد 78، 1977: 78-81.
[7] – وزيران للتعليم تم تعيينهما خلال التعديلات الوزارية التي عرفتها الحكومة الجزائرية في أبريل 1977. الأول شغل منصب وزير التربية، والثاني منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي. وقد ظلا على رأس الوزارتين إلى حدود مارس 1979، وهو تاريخ وفاة الرئيس هواري بومديان وتشكيل حكومة جديدة. (م).
[8] – نسبة إلى الـ (Bretagne)، وهي محافظة فرنسية تقع في المنطقة الشمالية الغربية. (م).
[9] – الـ (patoi) لهجة فرنسية محلية يستعملها سكان قليلو العدد عموما، قرويون في الغالب، ويُنظَرُ إلى ثقافتهم ومستوى حضارتهم على أنهما دون ثقافة وحضارة المناطق المحيطة بهـم. (م).
[10] – حديث نبوي أخرجه البخاري ومسلــم (م).
[11] – يمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى الأبحاث الآتية: مارغاريتا كزانثاكو ((a) 1978 و(b) 1978)، وغيثـة الخياط (1978).
[12] – لقد استوحينا هذه التأملات من حصص عديدة خصصناها لهذا الموضوع في إطار الحلقات الدراسية الخاصة بأنثروبولوجيا المغرب العربي خلال الموسم الجامعي 1978 – 1979 (مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس). وقد نشط تلك الحصص سعيد عاطف، ومحمد درنوني، وبوجمعة زولف. كما استوحيناها من بحث محمد درنوني (1979).
[13] – نحيل هنا على تقديم عز الدين المدني لمسرحيته خـرافة رأس الغـول خلال إحدى حلقات البحث الخاصة بأنثروبولوجيا العالم العربي، الموسم الجامعي 1978 – 1979.
[14] – نقصد هنا بالجماعة القاعدية الوسط الأول لاندماج الفرد اجتماعيا. وهذا الوسط يمكن أن يكون رابطة دم، أو جماعة يعتقد أنها ترتبط بهذا الرابط (القبيلة مثلا)، أو جماعة الإقامة (القرية، مثلا، أو الحي)، أو جماعة ذات أساس عرقي أو ديني. وهذه العناصر غالبا ما تتقاطع فيما بينها. ورغم أن استعمال مفهوم الجماعة القاعدية يمكن أن يثير بعض التحفظات، فإننا اضطررنا لاستخدامه نظرا لعدم وجود مصطلح يناسب كافة السياقات المذكورة أعلاه.
[15] – انظـر الهامش 1 بالصفحة 69 من الكتاب الحالي.
[16] – غالبا ما يُتَرجَمُ المصطلحان العربيان «قـوم» و«وطـن» بـ «Nation». ويقابـل مصطفى الأشرف مفهوم قومي الذي يحيل علىالأمة العربية الكبرى التي تمجدها الحركة البعثية بمصطلح (وطنـي) الذي يحيل على الأمة بمعناها الضيق. وإذا كان مصطلح قومي يستخدم اليوم استخداما فعليا بمعنى «National»، فإن استعماله التقليدي يحيل على تعدد الإثنيات – القوميات المقابل للوحدة الإسلامية. وبما أن مصطلح «وطـن» يحيل على الأمة العصرية، فإننا نحتفظ هنا لمصطلح «قوم» بمعناه التقليدي، وإن لم يكن هناك إجماع حول الاستعماليـن.
[17] – يعتبر مفهوم «العصبية» كلمة مفتاحا عند ابن خلدون. و يعني به التماسك القبلي، ويترجم إلى الفرنسية بـ«Fanatisme tribal» (التعصب القبلي). وقد أسهب دارسو ابن خلدون وفكره في شـرح هذا المفهـوم.
[18] – عبارة للرئيس هواري بومديان سبق ذكرها في الصفحة 14 من الكتاب الحالي.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-09-2012 09:33 مساء

الاخبار العاجلة