اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي: 01 – تقديم للترجمة العربية بقلم المؤلف

1٬764 views مشاهدة
اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي: 01 – تقديم للترجمة العربية بقلم المؤلف

يسرني جمع هذه النصوص ضمن كتابٍ مترجم إلى اللغة العربية بقدر ما سيتاح لقراء اللغة العربية أن يطلعوا عليها. فلربما كان هؤلاء هـم المخاطبين الحقيقيين بهذه التأملات المكتوبة في أوقات متباعدة والمنصبة أساسا على مجـال العلاقات بين اللغة العربية واللغة الفرنسية. وإذا كان اختيار هذه النصوص وترجمتها يعود إلى الصديق محمد أسليــم، فإني موافق تماما على هـذا الانتقاء لأنه يعكـس جيدا المراحل المختلفة لتأملاتٍ رَكزْتُ فيها دائما على موضوع واحـد.

يعرف القراء العرب تلقائيا أن اللغة مسألة أساسية جدا. فالقرآن الذي يعتبـر النـص المؤسس للثقافـة العربيـة الإسلاميـة هو كذلك مؤسـس لغـة جديدة لا شك في أنها تطورت داخل الثقافة الدينية، وفي سائر مجالات الحياة، وبالخصوص في الشعـر الذي يعـد التعبير الإنساني الأكثر عمقا وتعبيرا عما هو أشد حميمية في الإنسان، ونعني به موقف هذا الأخير تجاه القضايا الكبرى كمسألة الأصل، والحياة، والموت، والحب… لكن هؤلاء القراء أنفسهم يمارسون أيضا في حياتهم اليومية تجربـة لغـة أخرى يتكلمون بها وتشكل هويتهم الأولى، أي علاقتهم مع العائلـة، والجماعـة، والأمـة. وهذه اللغـة تكـون في أغلب الأحيان لغـة عربيـة تدعى لهجة، وتكون أحيانا لغة بربرية. لكن التجربة تبقى هي نفسها: إنها تجربة الازدواجية اللغوية. فالأمـر يتم تقريبا كما لو أن ما من كلمة تسمع إلا وتحمل معنى هنا في حقل الشفهي واليومي، ومعنى آخر هناك في مجال المكتوب و«الدوري». وقد يكون من المفيد تعميق التأمل في هذه الازدواجية التي لم تتناولها الدراسات حتى اليـوم إلا باعتبارها ظاهـرة سلبية، والحال أنهـا تخفي في طياتها ثـروة كبـرى.

ومثل هذه التجربة اللغوية لا يعرفها الغربيون. ففي فرنسا، مثلا، يتكلم المرء لغة واحدة عبر تدرج مستوياتها: في البيت أولا، ثم في المدرسة، وبعد ذلك في سائر مجالات الحياة الاجتماعية. وبذلك، فالازدواجية لا تنتمي إلى حقل التجربة اليومية. ويرى الكثيرون – بمن فيهم مثقفون – أن اللغة ليست سوى أداة للتواصل. بل إن حقولا معرفية كاللسانيات، مثلا، قد اتخذت من هذا المظهر التواصلي مجالا حصريا لنشاطها. والحـال أن اللغة، بالإضافة إلى كونها أداة تواصل، هي أيضا حقـل للتعبير يتجاوز الرهان الأساسي فيه التخاطب إلى الهويـة. وعلى هـذا الجانب بالضبط ستركز هذه السطـور.
منذ أزيد من قـرن ظهر تيار فكري لإبراز أهمية الوظيفة التعبيرية للغة، هذه الوظيفة التي لا زال الشعراء يجيدون معرفتها فيما يجهلها العلماء. وقد تجسد هذا الاهتمام الجديد باللغة مقتفيا أثـر فكر فرويد الذي يرى أن اللغة من خلال المقول إنما تنقل أيضا اللامقول. بل ولربما كان الأساسي من المقـول يقـال دون علم ناقله. وسلوك البشر والمجتمعات لا يحدده فقط ذلك الجزء الواعي مما يعرفونه عن وجودهم، بل يحدده أيضا ما يجهلونه عن هذا الوجود. ولذا فإن مفهوم اللاشـعور – الذي يثير كثيرا من الجدل ويكتنفه كثير من الغموض – يشكل بالضرورة معطى رئيسيا لكل تأمل في اللغة. وكما كتبت في الدراسات التي يتضمنها هذا الكتاب، فاللغة هي الغلاف الأم لكل كائن. فهي تنقل إليه الخصائص الأساسية لوجوده ومجتمع انتمائه. تقدم له امتيازات، لكنها تجبره أيضا على تقديم تضحيات في سبيل تنشئتـه الاجتماعية. فالطفل يولد ومعه رغبات لا تعرف حدودا ولا قيودا، لكنه يضطر إلى التضحية تدريجيا بوهم فردانيته، والتخلي عن أحلام طفولته الكبرى – مع الاحتفاظ بها في داخله – التي ستشكل حبكة رغباته طوال حياته. وعبـر حلقات متعاقبة سيندمج في مجموعات بشرية، في قانونها أو لغتهـا، رابحا بهـذا الاندماج في فضاء المخالطة ما سيفقـده من ثراء داخلي. تعتبر هذه التنشئـة حتمية كما أنها تتنوع حسب العصور، لكنها يمكن أن تأخـذ شكلا مأساويا في أيامنا هذه حيث لم يعد فضاء اللغة بكامله سوى إكراه اجتماعي كما يحدث في لغة الخشب، أو محاكاة كلامية على نحو ما يَتِمُّ عندما تأتي الصورة لتملأ الفضاء الداخلي بكامله.
وتجاه ذلك، توجد مواقف أخرى ممكنة. منها أساسا تلك التي تأخذ فيها الأشياء وجودا مزدوجا حيث لا تختزل في مظهرها المحسوس، بل تتضمن بعدا آخر تملك فيه معنى آخر. وهـذا ما تعبر عنه الحكايـة جيدا كما يلفت إليه الانتباه بـول أوستيـر (Paul AUSTER) في دراسة له حول ألف ليلة وليلـة:
«ما معنى أن تنظر الحكاية إلى شيء أو موضوع يوجد واقعيا في العالم الواقعي، إلى حيوان مثلا، ثم تؤكد على أن ذلك الشيء ليس هو ما يُرَى؟ معناه أن ما من شيء إلا وله وجود مزدوج: وجود في العالم ووجود في أذهاننا في آن واحد، وأن رفض أحد هذين الوجودين هو قتل للشيء في وجوديه معـا.» (L’invention de la solitude, Actes Sud, 1988: 188-189).
يعود اهتمامي بمسألة اللغة في المغرب العربي[1] إلى تجربتي في التعليم بالجزائر حيث كنتُ أقمت لحقبة من الوقت. وصادف آنذاك أن مسألة التعريب كانت تُطرَح بحدة كبيرة في هذا البلد. ولكم كانت تدهشني المقاومات الكبرى التي كانت تلقاها عملية إعادة إدماج اللغة العربية في الفضاء الإجتماعي، فوجدتُ في ذلك فرصة سانحة للتساؤل عن الرهانات الفردية والاجتماعية التي تنطوي عليها اللغة. ودون أن أعيد ما تناولته في هذا الكتاب بإسهاب، أكتفي هنا بذكر ما يبدو لي اليوم، في 1994، أساسيا في هذه المسألـة:
لقد اتضح لي جيدا، مع مرور الوقت، أن ما تنطوي عليه اللغة أساسا هو مسألة العلاقة بالقانون الفردي والاجتماعي على السـواء. والحالة هذه، فطرح مسألة القانون هو طرح قضية الرغبة أو ما يبيحه القانون ويحظره. وهو ما حاولت فهمه منذ بضع سنوات من خلال ربط التأمل في اللغة بالتفكير في مسألة الأب داخل المجتمع، فلاحظتُ أن التقليد العربي قد تطرق إلى هذا الموضوع على نحو رائع – لا يقف عليه طبعا إلا من عرف كيف يقرأ هذا التراث – في ذلك الكتاب الجميل الذي يسمـى ألف ليلـة وليلـة…[2]
ومشكل التعريب لا يعود إلى طبيعة الثقافة العربية. فهذه الأخيرة لم تجد مشكلا في الحياة ضمن سجل لغوي مزدوج. كما أن مشكلة الانتقال إلى المكتوب، عند ضرورة نقل عالم آخر تقني أو ثقافي إلى اللغة العربية، تنحـل في بلدان الشرق الأوسط كاليمن أو سوريا أو لبنان دون ملاقاة صعوبات جمَّـة.
أثار التعريب في المغرب العربي مشكلة ضمن علاقة الهيمنة التي طبعت الاتصال باللغة الفرنسية التي طرح حضورها – عدا إقصاء اللغة العربية المكتوبة – أساسا وقبل كل شيء مسألة العلاقة مع لغة أخرى، أي مع قانون آخـر. وهذا القانون لم يُدرَك لوقت طويل إلا باعتباره هيمنة استعمارية. إلا أن بقاء المشكل رغم اختفاء الاستعمار يُظهر أن الأمر يتعلق بشيء آخر. فالقانون الآخر الذي تمثله اللغـة الفرنسية في الواقع إنما هو الصلة مع آخر، مع أجنبي، لكن أيضا مع كل ما يمكن أن يوقظه القانون على شكل رغبة وممنوع. والعلاقة مع اللغة الأخرى تنخرط ضمن علاقة تعارض وجداني، إذ لا يمكن للرغبة في الآخر إلا أن ترتبط بالخوف من هذا الآخر أو رفضه. وهذه العلاقة المزدوجة تطبع الموقف تجاه كل قانون بمعنى أنه يجب احترامه، لكن يجب أيضا انتهاكه. وبذلك فإن ما يطرح في مسألة اللغة هذه هو قضية الرغبـة برمتهـا.
وما تطرحه مسألة التعريب في نهاية المطاف هو مجموع هذه القضايا التي لم تحل إلى اليوم، بمعنى أن ما يثيره التعريب فيما وراء العلاقة بين اللغات – لكن بشكل مترسخ فيها – إنما هو قضية العلاقة بين الثقافات. فاللغة في العمق هي المكان الذي تطرح في صلبه على الأفراد كما على المجتمعات مسألة العلاقة مع عالم مختلف كانوا قد نجحوا في إبقائه خارج أنفسهم بشكل مفارق وطيلة قرون بما فيها فترات الاحتلال الاستعماري.
قد يحلم البعض بإعادة دفع ذلك العالم إلى الخارج، وهو أمر قد يكون مريحا. غير أن جاذبية التحول تجري في قلب الدَّاخِلانية (Intériorité). ومن خلال قلق المقاومات التي يثيرها هذا التحول أو النداء للغيريـة (Altérité)، ما من أحد إلا ويدعو إلى ابتكار السبـل التـي سيكـون بها في آن واحد وفيا لماضيه، أي يكون ناقل إرثٍ، لكن يكون أيضا ناقل حياة بقبوله للتحول. وبما أن اللغة هي المكان المفضل لكـل نقلٍ أو إيصالٍ، فمن الهام جدا أن يُحَدِّثَ الآباء أبناءهــم.
جلبيـر غـرانغيـوم الجزائـر [العاصمة] في يونيـو 1994
————–
هوامـــش
[1] – يستعمل المؤلف اسم المغرب العربي هنا بدلالته الخاصة التي كان يقصد بها المغرب والجزائر وتونس، وبذلك يستثني موريتانيا وليبيا اللتين التحقتا مؤخرا بهذا المجموع الذي صار يدعى اتحاد دول المغرب العربي.(المترجـم).
[2] – حول هذا التأويل لألف ليلة وليلـة أحيل هنا على بعض كتاباتي بالاشتراك مع فرانسوا فيللا (François VILLA)، وأخص منها بالذكر:
– «Les Mille et Une Nuits, la parole délivrée par les contes», Psychanalystes, «Symboliser», N° 33, 1989, pp. 140-152.
– «Les Milles et Une Nuits, un mythe en travail», Peuples Méditerranéens, Mythes et récits d’origine, 1991, pp. 55-83.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-09-2012 09:54 مساء

الاخبار العاجلة