الدولة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي: 08 – خاتمة

1٬246 views مشاهدة
الدولة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي: 08 – خاتمة

الدولة باعتبارها بنية، الدولة باعتبارها صورة، مجتمع التكافل، الإنسان الكامل، الحكيم الفعال…، في منظور مغاير للمنظور الديني. الثورة ضد الجمود، ضد رفع المسؤولية عن سادة الشأن العمومي، ابتكار معايير أخرى للملِك – النموذج. تحديدٌ جديد للشأن السياسي وباكورة من أجل علمانية معتدلة، خجولة وعقلانية… كلها مواضيع تدخلنا في الحقل الأصيل والجديد لإسهام ابن المقفع في العلم السياسي.

تكتسي هذه الموضوعات أهمية رئيسية بالنظر إلى ظروف صياغتها والطريقة التي تمت بها هذه الصياغة. وإذا كانت قد تعرضت فيما بعد للإخفاء، لا بل وحتى «للإقبار» من قبل الأمراء و«الفقهاء السياسيين» الذين وَضَعَتهم مَوضع تساؤل، فذلكَ بالضبط لأن مؤلفها قام بعمل في منتهى الأصالة، دون أن يكتفي بإعادة إنتاج نماذج موجودة آنفا. في روح كتابات ابن المقفع، لم يكن استخدام نوع ونماذج قديمة، في الواقع، سوى وسيلة لمنح فكره بُعدا كونيا وموضَعته داخل إطاره التاريخي المشروع.

إن استعمال ابن المقفع لمَصَادِره ليس مجرد تجميعات ومنتخبات، وإنما هو تأليف نماذج من أجل تصور منتوج أصيل، متكيف مع وضعية تاريخية محدَّدَة.
تعتبر رسالة ابن المقفع واضحة نسبيا، وتتلخص على النحو التالي: «لكي يكون المرء مثل الآخرين، يجب عليه أن يتبنى ما يصنع عظمتهم، ولكن يجب عليه أن يكون هو نفسه متهيئا للتكيف مع ما سيُستعارُ من الآخرين». كان المجال مفتوحا كليا لابن المقفع كي يلاحظ تردد المسلمين تجاه البنيات الاجتماعية للأمم الأخرى، والوسيلة التي بقيت له هي أن يُبيِّنَ لهم احتمال تطابق مَشرُوعه مع البنية الإيديولوجية الإسلامية. بيد أنَّ تصميمَ المسلمين وحزمهم في مواجهة كلّ ما يمس العقيدة، أفضى إلى وضع ابن المقفع على رصيف المجتمع، ثم على رصيف التاريخ، بدل منحه المكانة الوحيدة التي طمحَ إليها، وهي مكانة المثقف المنشغل بمستقبل مجتمعه.
ما وراء هذا «النسيان» وهذا «الجحُود»، سيفرض فكر ابن المقفع نفسَه خارج كل سجال[1]، وسيُغري الأمراء ويضطرهم إلى إجراء تأمل مُعمق. وذلك لا يخلو من صواب، إذ أننا، مع ابن المقفع، نكون في منأى عن تفكير ناقص أو مشوَّه ومتعدد الشكل. ثمة وحدة، تجانس وتماسك يتعين اكتشافه في الوسائل المستعملة، في بنيات الكتابة وانطلاقا من نص مشتت لأسباب محدَّدة – بدون شك – ولكن لا يمكن كشفه بسهولة. مشرُوعُُ يُستخلصُ بصُعوبة، ولكن ما أن نضع عليه أيدينا فجأة حتى يغير طريقتنا في تبصّر كل كتابة، سواء كانت سياسية أو أدبية في الظاهر. في هذه الحالة، يفرضُ المشروع المقفعي على المرءَ إعادة كتابة تاريخ العلم السياسي منذ الأصول حتى أيامنا هذه. ولكن مثل إعادة الكتابة هذه يجب أن تحترز من القبليات الإيديولوجية والسطحية التي جردت كتابة تاريخ الأفكار السياسية من طبيعتها. يطرح فكرُ ابن المقفع نفسَه باعتباره يكاد يكون مختلفا اختلافا كليا عن الإشكالية الإسلامية. والحاضرة الإنسانية التي تصورها ابن المقفع وامتدحها، سيقابلها التقليدُ الإسلامي – تقليد «الفقهاء السياسيين» – بدوغمائية دون ابتكار.
تتمثل أصَالة العِلم السِّياسِي المقفعي في كونه ألح على قدرة العقل على تأسيس دولة، على تدبير إمبراطورية وتحقيق سعادة الإنسان انطلاقا من الانسجام الاجتماعي. ولكن التناقض هو الأقوى وحاضرة الإنسان هذه ستختفي نهائيا لفائدة حاضرةٍ لله يمتدحها «الفقهاء السياسيون» و/أو حاضرة ميتافيزيقية «يستنسخها» الفلاسفة. ومعناه، في الواقع، أنه مع هذه المدارس الأخيرة ستتبع مفاهيم سياسية خالصة للفقه، أي لهذا «العلم» المهيمن الروتيني الذي انصب اهتمامه على قضايا خاصة للشأن اليومي وليس على الشمولية الاجتماعية. وحتى عندما سيَدرُس تيار «الفقهاء السياسيين» القواعد الدستورية للجماعة، سيفعل ذلك دون أي استقلال وسيختزلها إلى جزء من الفقه وكذلك القضايا الثابتة كقواعد الإرث وقواعد الالتزامات والعقود. بيد أن الشأن السياسي، كما يتبين من عمل ابن المقفع، هو علمُُ تجريبي مُرتكِز على تجارب الذين سبقونا. إنَّ الشغل الأساسي «للفقهاء السياسيين» لم يكن هو مسألة النظام ولا مسألة الانسجام الاجتماعي، مادام من المفروض أن يكون هذا الانسجام مُحصَّلا عليه داخل الأمة. كان انشغالهم بالأحرى يتمثل في أن يظهروا، من جهةٍ، الأصولَ الدينية للخلافة، ويبينوا، من جهة أخرى، جمع أحكام وممارسات دينية خاصَّة بالسّلطان.
لذا، فابن المقفع لا يشكل صورة أصيلة تجاه عَصْره فحسب، بل إن رسالته وإن لم تفهم في عصره، فإنها تظل أكثر نجاعة في العصور التالية التي ستفهمها. وهناك مجال للتساؤل: من أين تستمد أعماله طبيعتها المجدِّدة إلى هذا الحد؟
إذا كان لابن المقفع الكثير مما يريد قوله، فذلك راجعٌ أوَّلا لشخصيته، لوسطه ولتجربته. باعتباره رجُلا رهيفا، حاد الذهن وسريع التأثر، فقد رأى موهبته ككاتب تظهر في ملتقى ثقافتين. منحدرا من الأرستقراطية الفارسية القديمة التي ضيَّق عليها الحاكمون الخناق، فإنه يبقى بعيدا عن أن ينكر القيم والتقاليد الموروثة عن الأجداد و، ماوراء هذه التقاليد، مجموع المكتسب الهندي-الفارسي؛ عندما يحيل عليه، فذلك ليس للتضحية بهذا الميراث العظيم، ولا لمجرد التذكر المبهم لماض بعيد. بيد أنَّ ابن المقفع هو أيضا المثقف المسلم، الذي نشأ في التقليد الإسلامي واللغة العربية، وتغذى من أفضل المدارس العراقية. منتميا إلى النخبة المحلية القديمة التي تعرضت للانحطاط في نهاية الفتح الإسلامي، فإنه لم يشغل بالتأكيد منصب شخصية سياسية سامية ولكن موقعه لم يبعده – مع ذلك – عن دوائر الحكام وبالتالي لم تَفلت من حدة ذكائه رهانات السلطة وما تحدثه من مكائد ودسائس سياسية. محرَّرا من الأوهام، هناك أيضا دواعي لذلك؛ فالعائلة الأموية – المقدَّمة باعتبارها تألقت بظلمها – تشغر المكان للعائلة العباسية التي وإن وصلت إلى السلطة بثورة حقيقية، فهي لا تبدو قادرة على تبرير الآمال المعقودة عليها. في هذا السياق اعتقد ابن المقفع أن من واجبه أن يصوغ فكره، متغلبا على الكراهية والنفور الذين يوحي بهما إليه نفاق الحكومات وعدم كفاءتها وغطرستها وكيفية استخدامها الدين لأغراض سياسية. الظرف مناسب أكثر من أي وقت مضى، بحسبه، لترك الكلمة للحكماء، لأهل العقل الذين ظلوا إلى ذلك الحين صامتين عن حذَرٍ أو عن وَهْم. تعتبر هذه الجرأة أول ميزة لابن المقفع، ولربما كانت الوحيدة لو لم يكفه الوقت ليخلف كتابات نادرة جدا قبل أن يتعرض للقتل من قِبَل السلطان الذي كان يهدِّده بواقعيته الكاملة. خلافا للحكماء الرواقيين من الحضارة الإغريقية – الرومانية القديمة، المنسحبين من العالم والمحتقرين لأباطيله، فإن الحكيم الشرقي وريث التقاليد الآسيوية يرى من واجبه التدخل لدى الأمير لتنويره وإرشاد سياسته.
بقي حاجزُُ كبير: لم يكن ابن المقفع مدعوا مباشرة إلى إطلاع العاهل الحاكم على آرائه ووصاياه. هل كان تقليد استشارة الحكماء في طور التلاشي أم كانت فعاليته في طور الإفراغ تحت ضغط سلطة تيوقراطية وغليظة؟
ثمة مجال لافتراض ذلك. على الأقل يزعم ابن المقفع تجديد الصلة مع هذا التقليد وإصلاحه في كل بُعدِه السياسي الشفاف. وقد نجح في ذلك، وأعماله هنا لتشهد بذلك، ولكن هو نفسه دفع حياته ثمنا لالتزامه.
معناه أن جنسَ مرايا الأمراء الذي اختاره ابن المقفع شكلا تعبيريا لإضفاء حلة الأصالة على أفكاره، لم يكن مُتَصَنَعا بالشكل الذي كان يمكن انتظاره من صورة مرآوية. ألم يكن في تسجيل ذاكرة الأمراء الهنديين للبانكاطانطرا أو شاهنشاه الفُرس، حَطٌّ، في الآن نفسه، من ذاكرة الخلفاء المتزينين مع ذلك بلقب خلفاء الرسول؟ يوحي ابن المقفع بذلك بالكاد، وبطريقة محجوبة بغطاء الخرافة.
ولكن ماهذا الفكر الصَّاقل والكريم الذي لا يطيقه السلطان القائم؟
ابن المقفع أوَّلا هو المحلِّل الذي يفرض نفسَه، هو الرجل الذي يعرف وضع مسافات بينه وبين مجتمعه، ومحيطه، والإيديولوجيا المهيمنة. تتجلى فيه مسبقا الخصال العلمية التي قد تباهي قرن ديكارت: واضعا قواعد العلم السياسي، ينطلق من تقطيع، من تجريدٍ يتيح له أن يعزل مفهوم الملك. هذا السلطان يوجَد في استقلال عما يمكن أن يبرِّره (الدين أو الأخلاق وحدها)، إنه في آن واحد حتمي وضروري، يتعالى عن القرون والأمصار، يهدف إلى غاية موضوعية هي الدوام أو الاستمرار على الأقل. ومن هذا التسلسل من الضرورة إلى السلطان ومن السلطان إلى العقلية[2]، يستخلص ابن المقفع قوانين ليس لها أية علاقة (بالقوانين-التنظيم) أو (القوانين-الأحكام). هذه القوانين هي ثمرة تفكير علمي حق حول الإواليات الضمنية التي تحكم الظاهرة السياسية: إنها لا تملى، إنها تلاحِظُ وتُحلل. بالفعل، يرخص ابن المقفع لنفسه، من خلال كتاباته، باستخلاص عدد من المعطيات السياسية موضوعية قابلة للتعميم.
لا تكمن إشكالية السلطان في البحث عن بديل له (ولا في اختيار شكل مثالي لممارسته، لأن ابن المقفع يقصي كل احتمال للمُلك المتقاسم أو المشترَك على أعلى مستوى)، وإنما (تكمن) في البحث عن توازن أكبر وأساس أفضل لهذا السلطان. وللوصول إلى هذه النتيجة، لا يتوقف ابن المقفع عند أي اعتبار ذي طبيعة أخلاقية، أو على الأقل عند الوسائل التي يجب استعمالها لأنها جميعا صالحة ومشروعة شريطة أن تعود على السلطان بربح الاستقرار، وهو ما يصير الغاية في ذاتها للحكيم السياسي. ومن ثمَّ، عند المقفع، تبرير شكل دولة من نوع عصري وعقلاني، متوفرة على جهاز قوي: جيش دائم، مُكوَّن بعناية ويتلقى راتبا منتظما، ومصالح الاستخبارات للإمبراطورية، واللامركزية. أخيرا، من بين أركان الدولة، لا يتردَّد ابن المقفع في التطرق للإيديولوجيا، وبالخصوص الدين، قالبا على هذا النحو نمط المقاربة الإسلامية للظاهرة السياسية.
ولكن الدولة، بعيدا عن أن تنتهي إلى تشكيل نوع من الوحدة العضوية، ليفياتان[3] قاس لا ينثني وشخصي، لا تتصوَّرُ إلا ضمن منظور خدمة الأمير. ذلك أنه لا يمكن أن يكون هناك سلطان سام ما لم يكن شخصيا، لا يجب على الدولة أبدا أن تتجاوز شرطها، وهو شرطُ الانبثاق عن الأمير. ففي الأمير تقيم كلُّ قوة وعليه يعتمد كلَّ خير. في هذه المرحلة يتطور الـشق المثالي والإنساني عند الكاتب، لأنه إذا كان يقبل بضرورة السلطان، بل وبقدريته، فإنه يرى إلى جانب ذلك أن المَدعُو للمُمَارَسَة يجب أن يكون جديرا باستعمال شيء ثمين لدرجة أنَّه يمكن أن يغدو مصدرَ الخير كله لدولةٍ ما أو مصدر الشر كله لشعب ما. وظيفية، وعقلانية، تستقر الملكية بين يدي رجُل. وهذا الرجل يتعين عليه، بفضيلته، أن يلهم شعبَه. بدون هذه الفضيلة لا تكون الدولة سوى آلةٍ يمكن أن تصاب بالجنون، أن تـسكِرَ أو تصاب بعطب مفاجئ، بدون هذه الفضيلة يكون الشعبُ غابة، وبدونها يغدو الملِك مصدر خوف للمرء وإن كان بريئا. ولذلك، إذا كان ابن المقفع لا يبرِّر وُجودَ السلطان بمؤسَّسة إلهية أو ببحثٍ أخلاقي، فإنه يؤمن في المقابل بالفضيلة باعتبارها مبدأ مُنظِّما لكل نظام سياسي. وهذه القناعة تقوده بعيدا جدا لأنه، وهو يتخذ لحسَابـه المنطِق «المكوِّن» للخليفة، يصل في كليلة ودمنة إلى تخيل إمكانية «مقاومة» الشعب (الحكماء) لسلطان الظلم. وبدون لُـبْسٍ يضع ابن المقفع نفسَه في الخشبة منيطا بذاته دور «الحكيم – الرادع»، وبـ «الخليفة» الحاكم دورَ المستبدّ. كان التلميحُ واضحا، فأدى حياته ثمنا عنه، واختبر نظريته نتيجة لذلك: السّلطانُ كان موجودا بالتأكيد خارج كل ما كان يمكن أن يبرره، والفضيلة لم يكن بإمكانها أن تكون إلا ترفا، ترفا ثمينا مثلَ حياة رَجُلٍ رفضَ وضعية التشيّـؤ.
————
هوامـــش
[1] حسب الذهبي، لقد «طلب المنصور من المكي بن العباس تحرير كتابٍ وجمع قضاته على طريقة القرآن…»، راجع: السيد، ر. الأمـة…، م. س.، ص. 107.
[2] rationalité: صفة ما هو عقلي [م].
[3] ليفياتان (Leviatan): نسبة إلى كتاب توماس هوبز تحت العنوان نفسه.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-09-2012 10:31 مساء

الاخبار العاجلة