الكتابة والموت: 03 – مصطفى الحسنـاوي: هوامش حول: «حديث الجثـة»

1٬287 views مشاهدة
الكتابة والموت: 03 – مصطفى الحسنـاوي: هوامش حول: «حديث الجثـة»

«فاعلم أنَّ ما تلكَ الجثة أو النعش إلا جثثي وهيأتي…»
حـديـث الجـثـة، ص. 73.

«حديث الجثة» هل هو ممكن بدءا؟ هل يمكن للجثة أن تشيد وتنعلن كموضوع لكتابتها / فكرها؟ وكيف يمكن للجثة أن تقترب من / تتحدّث عن الموت التي هي بالنسبة لها السلبية الملموسة؟ هل بإمكان الجثة رؤية عريها المدمر والمركب للفكر والوجود، للحضور والغياب، رؤيته أمامها دون إغلاق عينيها؟ لربما أسعفتنا هنا أفكار جورج باطاي الذي يرى أن المعلوم ينفقد في المجهول تماما كما تندلق / تنفقد الأنهار في البحر وأن المعرفة هي المعبر نحو المجهول وأنّ الممكن هو المستحيل. لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاء المتعذّر تفكيره من الوجود كلية. من يستعمل اللغة للحديث عما ينفلت منها، عن البرانيات والكثافات الموحشة والمرعبة في آن لا يفلت أبدا من أسر الكلمات، من متاهاتها وشساعاتها المتعبة للممكنات ومن خياناتها أيضا. يصعب، في هذا السياق، معرفة هل «حديث الجثة» كف عن الانتساب لأحاديث الحياة من أجل الانخراط في / الاضطلاع بواقع الموت وتأويلاتها أم أنه لازال مقيما في الفاصل الهشّ الملتبس بينهما، منتميا لهما معا، هل هو خطاب انتحاري، نزيف إرادي عنيف أم هو تجربة في الكتابة بدم غريب، بكتابة اختراقية انخطافية تمارس بمكر وضحك نيتشيين التدميرَ الفعال واللامنقطع للكثير من البداهات والآراء والقيم وتدخل الواحد منطقة الزلازل التي لا رجعة منها. لنعترف بأننا أمام «حديث» استثنائي غير مسبوق في المتن الإبداعي المغربي، حديث مكتوب بأسلوب ينتشي راقص لا يهمه الإبداع أساسا بحكم ابتعاده أصلا عن الهمّ التجنيسي وعن خطاب الكساح الحداثي، بقدر ما ينشغل بنوع من المزج الخلاّق بين الكتابة والفكر، أي بنوع من الكتابة المفكرة التي ما أن تلجها المفاهيم والأفكار مهما كانت حدّتها وكثافتها حتى تدنّس، تفقد بكارتها وشرعيتها وتخترق. ليس سهلا اجتراح طريق تؤدي إلى كتابة الرماد داخل هذا الركام النصي المسكون بتمثلاته وتنكراته واحتواءاته. إن «حديث الجثة» لمحمد أسليم لم يفاجئنا، إذ سبق لصاحبه أن أنذرنا كثيرا، خصوصا عبر نصه «مذكرات شيزوفريني»[1] ونصوصه الأخرى التي تستوحي، ضمن سياق آخر من القول والتأويل، نمط العيش والعلاقات والقيم عند الطوروبريانديين[2]. إنه يلحُّ على إبداع نصوص متميزة في كتابتها ويوقعها، بمعنى أنه يعلن فرادته بمكر سحري شأنه في ذلك شأن السَّحرة التخوميين راسمي الخرائط السُّفلية. حين تخترق الكتابة الحدّ المعلوم المسيَّج بيقينه وبتاريخيته وتأويلاته ونزوعه الواحدِي المتراصّ ما الذي يبقى منها هي نفسها؟ ألا تنمحي ككتابة ويصبح نعتها بالأدبية مستحيلا نوعا مَّا، أي إحالتها على سمة بارانوية[3] دالة؟ ألا تدَنِّسُ بنوع من التفكير الفلسفي الآثم واللاشرعي؟ ألا تفقد عناصر وجودها ككتابة؟ لكن ألا تنفتح الكتابة عبر خرقها هذا بالذات على كينونتها باعتبارها كتابة لم تعد تبني تيمات ولا تنأسر داخل جمالية مفترضة مَّا ولا ضمن إرادة أدبية بانية.. إذ لم تعد معنية سوى بالفعل الليلي الاستثنائي: [أن تكتب الموت] أو إمكانياتها داخل الحياة، كما تنضج الفاكهة، لأن النضج، كما يرى هايدغر، لا ينتظر الفاكهة، بل يشكل، منذ البدء، جزءا لا يتجزأ منها. داخل عراء الكائن تشتغل هذه الكتابة عبر دفعه إلى تخومه القصوى التي لا تكون الجثة «سوى انفلات مارق منها». إنها كتابة مسكونة بشكل ماكر بفتنة اللحظة الأخيرة وبمنظور الموت؛ «تفكير الحياة من داخل الموت وتفكير الموت من خارج الحياة»[4]، كما يسميه محمد أسليم.

تنتمي الموت لتلك الأحداث الاختراقية الإسرافية التي لا يمكن قياسها أو إنتاج معرفة بها، الأحداث التي لا تبدو فقط خارج المعنى، بل الاستحالة الحاسمة لكل معنى مثل التضحية الطقوسية والجنون والضحك والعنف والانخطاف… الخ، الأحداث التي تنعلن وفق نوع من السيادة التي لا تمتلك موضوعها لأنها سيادة محايثة لنزيف مراد وعنيف ولتدمير فعال مستمر تتلاشى مع تلاشي تجربتها. يربط محمّد أسليم، في هذا السياق، بين الموت والجنون باعتبار أن «الموت لا يملك أدنى درجة من التفكير ولا يشتغل إلا كآلة عمياء. إنه لا يفعل دائما سوى إدخال المرء إلى الموت أو إخراجه من (الحياة)، لا مجال عنده إطلاقا لإدخاله وإخراجه معا، في آن واحد… وكونه كذلك يجعله ذا صلة بالجنون أكثر من أي شيء آخر، ولذلك فالسبيل الوحيد للانتقام منه هو تسديد لكمات عنيفة لوجهه من الموقع نفسه الذي سدِّد منه الأسوياء لكماتهم للمجانين»[5].
إن فهم الموت أو تفكيرها تبدو عملية مستحيلة لأنها لا تتوافق من جهة مع تقنية الفكر وموضوعه، ومن جهة أخرى إذا ما انخرطنا في التأويل الجنائزي قد نجد أنفسنا أمام الإمكانية الوحيدة المتمثلة في التفكير في الحياة. إن تفكير الموت لا معنى له كما عيش «اللحظة الأخيرة» إمكانية وتعبير متناقضان مع نفسيهما، إذ كيف يُعاشُ ما يُلغي العيشَ كله وكيف يُعَبَّرُ عما يسم التعبير بالإفلاس المطلق؟ كيف يمكن بشكل ملموس معرفة الصيرورة التي تقضي نهائيا على الشروط الممكنة لكل معرفة؟ تبقى هنا الإمكانية الحاسمة التي يتحدث عنها الكاتب في نص «هذيان ميت» هي الاقتراب، ما أمكن ذلك، من الموت داخل الحياة:
«لم يفهم ولن يفهم – ربما طالما عاش – سر افتتانه بالموت. حاوَلَ مرارا ذلك، لكنه سرعان ما كف عن محاولاته تلك عندما أيقن أن أولى عتبات الفهم هي الجنون أو الموت نفسه وأنه متى جن أو مات أصبح الفهم عديم المعنى لأنه سيكون بكل بساطة قد افلت من المدار البشري. وبما أنه جبان غبي يخشى الجنون والموت، فقد حوَّل فتنته تلك إلى ثرثرة تمكنه من نسج مساحة وهمية، فيخيِّل لنفسه أحيانا أنه حي، وأحيانا أخرى يخيل إليه أنه ميِت. تارة يتوهَّم الموت خرافة، وتارة يتوهَّم أن الحياة هي الموت عينه. وحينما يسأم التقطيعات، يقول ي قرارة نفسه: “لا يوجد موت ولا حياة. كل ما يف الأمر هو أنني أهذي أو أن الله يتكلَّمُ عبري” (…) إلا أن الثابت عنده هو أن موته قد كبر معه وسيكبر إلى أن يحتويه كما ظل هو طيلة حياته يحاول احتواءه»[6]؛ «الموت سؤال ضخم يستحيل الإجابة عنه بأي خطاب لأنه انتفاء الخطاب نفسه»[7].
باعتبار الموت خارج العالم وخارج الحدود، فإنها تصير بالضرورة أمرا متعذر الضبط داخل صرامة الخطاب الذي لا يشتغل على شيء أبدا دون وضعه داخل حدود معلومة. إن المحو الذي تتمثل فيه بالذات فاعلية الموت لا يستدعي أكثر من احتضان الفراغ، من الانفتاح على تجربة المستحيل واختبار ما نظنه الحقائق الموضوعية أو البديهية عبر إخضاعها لمحكّ الفقدان. المحو هو انفتاح الكتابة على اللاَّحد، وانفتاح اللغة على أشكال قصوى للخرق هو في آنٍ أنقاض المعنى وعتمة الفكر وتشظي الذات المتكلمة. لا يمكن التفكير في الموت انطلاقا من جدية الخطاب وصرامة عرضه الخطابي لأن «جدية الموت هي عبودية الفكر»، كما يرى باطاي. إنها حدث مسكون بالتناقض دوما لأنها ما يرنو إليه الإنسان بشكل لا واع وحتميّ وما سيحدّده ويقضي عليه في آن بل إنها الحدث الذي يبدو داخل العالم بالغ الغرابة مما دفع هايدغر للقول: «on meurt». ذاك ربما ما يدفع الكاتب إلى الحديث عن الموت كوضع للجسد على حافة «إفلاسٍ لا يضاهيه إلا إفلاس البقاء على قيد الحياة»[8]. إنه إفلاس الكائن حين يندغم الوجود كله في مشهد جنائزيته وتحضر الموت داخل الحي (le vivant)، تشرطه وتستحوذ عليه. يقول هذا الإفلاس نوعا ما ذلك المظهر الآخر البالغ الغرابة الذي يتحدَّث عنه بلانشو[9]، الموت اللاشخصية التي لا تتمظهر عبر العلاقة معي ولا تكون لا حاضرا ولا ماضيا، بل الآتي دوما، مصدر تجربة متعدِّدة وغير منقطعة، الموت التي تأتي من الخارج وتجعل (on meurt) تعبيرا إشكاليا أعمق من (je meurs): «خلال ذلك، كان الموت قد أطبق على الآفاق، فبدت الحياة قبرا هائلا انكشفت فيه أكفان عملاقة تلف الأحياء بمنازلهم وملابسهم وسياراتهم وأوهامهـم»[10].
وحدها الموت تقول حقيقة الحياة، الموت الشذرية، المذررة في خلايا الحيوات ومداراتها والتي تشتغل فيها على شكل جزيئات شيزوفرينية[11] بعيدة عن بارانويا الموت الدالة التي تتمثلها، كما في الخطابات الأخروية والقيامية، مثلا، كنهاية النهايات، كنهاية مطلقة. إن إحدى سمات الموت هي كونها النهاية التي تتربص بالكائن الدوائر، أي الموت كحدث داهم وشيك الوقوع (imminent)، يتم اللقاء معه داخل صخب العالم وهو ما يحدده هايدغر في كتابه «الوجود والزَّمن» قائلا: «ليست الموت الكائن الذي لا يوجد بعد هنا – أمام ولا الباقي الأخير المختزل إلى الحدّ الأدنى، إنها بالأحرى وشك الحدوث…»[12].
لذا، نلفي محمد أسليم يتحدث عن وشك الحدوث هذا عبر تعبير المداهمة: «إذا لم تسبق إلى مداهمته [أي الموت] بادر هو إلى مداهمتك»[13]، ويلح عبر التلميح الإيحائي على الربط بين الإيروتيقية والموت، ذلك الربط الباذخ الذي عبَّر عنه باطاي في «مدام إدواردة»[14] على اعتبار أن الموت هي حقيقة الحب الجسدي كما الحب الجسدي أيضا هو حقيقة الموت. إن الحب الجسدي هو ما يجعل الموت حاضرة ويجعل الاقتراب الكبير منها ممكنا حدّ تنفسها كما لو كانت نفس المحبوب. بالإضافة إلى أن الموت في حكايات باطاي الإيروتيقية هي أفق أشكال المجون والمتعة الجسدية كلها، حيث يحثنا باطاي باستمرار على خرق الممنوع المتعلق بالموت والإيروتيقية لأن الأمر يتعلق بممنوع واحد فيه يجتمعان. بالإمكان إرجاع هذه العلاقة إلى ساد Sade نفسه، إذ معه ستصير الموت جزءا من عنف إيروتيقي سادي يمارس على الأجساد كما لو أن الموت هي أفق المتعة الإيروتيقية الجسدية لا آخرها: «استقرت يداها داخل الجلباب تعلنان الموت باحتكاك دائري يأسر العيون وسط شباك من الخيوط. عمَّت القاعة حرارة جحيمية. تضبب الفضاء وتعذَّرت الرؤيـة إلا مـن خلال التـراقص وبه»[15].
ثم يختلط كل شيء في زخم «احتواءات وتنكُّرات» لا بدايـة ولا نهايـة لها، وتصير كل مظاهر الوجود والرغبة الإيروتيقية موتا / متناسلة في أتون الموت: «وبقدر ما كان الجلباب يتراءى، والعطور تعبق كان الموت يغازلني ناصبا أمامي أضعاف ما نصب أمامي من الشراك في القاعة والسَّاحة ومحطة الأوتوبيس ولحظة اندفاع جيش الأطفال مني»[16].
ينبغي أن لا ننسى أن غريزة الموت لا تتميز عن الإيروس تلك الطاقة المحايدة والقابلة لتغيير موضوعها التي تحدث عنها فرويد. يبدو الأمر كما لو كان متعلقا بانسِكَان جنائزي داخله تستدعى الأجساد كجثت، تستعاد وتستثمر، وعبر هذا يتم الاقتراب من الموت كسقوط محتوم في المدنس والآسن، السقوط الذي ستصير معه عري الغياب. ينبغي، في هذا السياق (سياق إيروتيقية الموت) الإشارة إلى أن المتعة الجسدية ممثلة في أوجها [الرعشة] مماثلة لفعل الموت، وكأن تلك اللحظة الموجزة تكثيف دال لعلاقة الحياة بالموت. إنَّ الانسكان الجنائزي، كما في نصوص «حديث الجثة» ليس انسكانا بالموت كسقف منته ومغلق، لأنه مفتوح على إمكانيته اللانهائية وعلى الاحتمال متعلقا بلو التي تفتح التجربة على فضاء أحداث لا متوقعة. إنها لو الشبيهة نوعا ما بـ «ربما» النيتشية التي تفتح الكتابة والوجود على الوعد بإتيان الحدث. «ربما» كانت إحدى السمات التي تطرحها نصوص «حديث الجثة» هي التساؤل حول كيفية تحويل الموت من أسر الوعي المتعالي إلى ترحيلات الوعي المحايث؛ كيف تتحول الموت من وضعها الاعتباري كجزء ضمن فكرة مطلقة إلى مجرد حدث متعلق بالصيرورة؟:
«لو أني أقوم، وبكل ما أوتيت من قوة، أقذف هذين الطفلين باتجاه هذا الأخطبوط مقدما إياهما قربانا لهذه الليلة المرعبة الماجنة. تعصرني اللذة. بيني وبين الموت قيد شعرة. أهو موعده قد حان؟ لو أني أقوم وابتلع صيدلية المنزل وأسقط جثة هامدة. لو أن قبضة يدي تسع هذا الكوكب الذي يدعى أرضا فأحكم إطباقها عليه وأقذفه في اتجاه مجرات مجهولة.. لو.. لو.. لو..»[17].
«لـو» هذه، تفتَح الوجود على هشاشة الاحتمال. إنها «لو» تتخيل الكارثة الوشيكة الحدوث والمستقبل المنتمي إليها. «لو» هذه لا تفتح الجسد فقط على الصيرورة – جثة (le devenir – cadavre)، بل وتفتح الكتابة نفسها على تجربة الموت.
إن الموت لا تمنح الكتابة اليقين، بل تفرض عليها، من أجل أن تصير جديرة بالاضطلاع بمصيرها، أن تندغم في محكّ المحو، حينها تخرج الموت من عالم المعنى الذي تأسس عليه الوجود وتفتح المشروع على استحالته، تداهمه كما يداهم القطار جسدا يتأمَّل خارج زمن الأحياء. مسألة الخروج من العالم قد تبدو هنا أساسية خصوصا وأنَّ الموت متعلقة جذريا باستراتيجية الانبناء للمعلوم، أي للتسمية بينما يقودها هذا النوع من الكتابة الاختراقية والاختلافية إلى استراتيجية الانبناء للمجهول. إحدى المقاطع الجميلة تتمثل في رصد الصيغة اللغوية التعبيرية التي عبرها يتملك حدث الموت ويسمَّى في الزمان والمكان:
«وفجأة عادت الجثة الرّاقدةُ في بركَة دمائها. تذكرت ما تردد على ألسنة الرّاكبين: “آه مات!”، “آه مات!”، فأخذت أتساءل: لماذا لم يقولُوا بدلاً من ذلك: “إنَّه ميِّت”، أو “إنه يموت”، أو “إنَّه بصدد الموت”؟ استحضرت وجوه الموتى الَّذين عرفتُهم واحداً واحداً فما وجَدتُ إلا القولة نفسها تتردَّد على لسان من تخلَّف وراء كل ميت»[18].
هذه الصيغة اللغوية التي تأسر حدث الموت دوما في الماضي المنتهي صيغة تنزع عن الموت بسرعةٍ سمةَ الحاضر والآني لتقذف بها في فضاء الماضي واللا آني. إنها تبرز إلى أي حدّ يروم الأحياء، ربما انطلاقا من إحساسهم المأساوي بكونهم فانين، إلى التخلص من آنية (actualité) الموت وعدم تحيينها كما لو كانت الحدث الذي مرَّ والذي يتوجَّب نسيانه عبر التخلص من الجثة بسرعة ودفنها والتخلص في آن من ظلال المعنى الجنائزية التي تنشرها الموت. تبدو هذه الصيغة كثابت من ثوابت اللاوعي البشري لأننا لا نجدها في العربية وحدها، بل وفي الكثير من لغات العالم ومنها الفرنسية والإنجليزية مثلا. إن الصيغة اللغوية: «آه مات!» تحيل فعلا على زمن فارغ يشتغل خارج التعاقب الزمني مسكونا بنظامه الشكلي الجامد الذي تنسحق تحت وطأته الأجساد وتنوشم / تستسلم لغريزة الموت.
باعتبار الموت محوا، فهي تضاعَف بإرادة المحو التي تشتغل على مستوى القول. لربما قيلت صيغة الماضي اللغوية هذه للتعبير عن الحدث من أجل اتقاء شر الموت كما قال الكاتب أو تجنَّب التفكير طويلا في الموت كنهاية النهايات، النهاية القاهرة في حالة ما لو ظلت الجثة هنا حاضرة أمام الوعي أو تأكيد الطابع المباغث للموت من حيث هي حدث يداهمنا ولا يمنحنا علامات سابقة على مجيئه وهي الفكرة (صيغة الماضي) التي ينزع الكاتب إلى دحضها عبر قوله: «الحي ميِّتُُ في حياته والميِّتُ حيّ في موته»[19] أو عبر تأكيده أنَّ «الاحتضار يمتد من الولادة حتَّى الموت وأنَّ الموت ليس سوى محطة بين حياتين: حياة ما قبل الولادة وحياة ما بعد الموت، وبما أن الموت يقع داخل الحياة فالحياة تقع خارج نفسها»[20]. لربما اندغم هذا التصور في قول ريلكه بأننا يجب أن نقرأ كلمة موت دون مدلول سلبي. تبدو الموت هنا إمكانية يصير مطروحا على الوجود الاضطلاع بها في كل آن، كما لو أن موعد الوجود مع موته هو موعده مع ماهيته! إنها في آن الإمكانية البالغة الخصوصية والإمكانية القصوى التي بمجرد ما يلج الكائن الوجود ينرمي داخلها، على اعتبار أن الموت تنتمي جوانيا إلى عالمه. ينبغي أن نستحضر باستمرار أن الموت، نوعا ما، قوة الممكن.
تستدعي نصوص «حديث الجثة» نوعا من الموت في حالة الحركة (la mort en mouvement)، الموت التي يتم تصورها في المنظور الباروكي (Baroque) كموت في الحاضر، كحركة قيد الإنجاز، لا ننتظرها بل نصاحبها. إن الإقامة في البياض والمحو والنسيان، إقامةٌ في أرض المحايثة حيث نحايث الموت، نرتبط بها وفق نوع من العلاقة / اللا-علاقة التي لا تؤازرنا فيها غير الأطياف. هكذا يقودنا محمد أسليم، ذلك الكاتب – السَّاحر بامتياز (l’écrivain sorcier) الذي يبحث شأن دون خوان وكارلوس كاستانيدا عن أعشاب هذيانية وأجساد من ألياف ضوئية وحلفاء عابرين كالوميض، يقودنا وفق خط سحري نحو السؤال الذي لا نكتفي بطرحه، بل قد نتحالف معه مطلقا: «أأحياء نحن أم أموات؟». إنه السؤال الذي يقود الكائن مؤقتا إلى اكتشاف أنقاض وجوده وأقنعة حقيقته وشروخ حيواته. لربما كان هذا السؤال عميق الارتباط بالقول النيتشي في «هكذا تكلم زرادشت»: «سأظهر لكلم الموت التي تكمل، الموت التي تصير بالنسبة للأحياء حافزا ووعدا..».
——-
هوامش:
[1] نشره مؤخرا في كتاب تحت عنوان: كتاب الفقدان؛ مذكرات شيزوفريني، الرباط، مطبعة وزارة الشؤون الثقافية، 1997، (136 ص).
[2] صدرت هذه النصوص مؤخرا في كتاب يحمل عنوان: سفر المأثورات، الرباط، منشورات وزارة الشؤون الثقافية، 1997، (104 ص)
[3] نسبة إلى البارانويا (paranoïa)، وهو مرض عقلي يدخل ضمن فئة الذهان (معلوم أن طب الأمراض العقلية يميز في هذه الأخيرة بين صنفين كبيرين، هما العصاب والذهان). ويعرف تودوروف خطاب المصاب بالبارانويا على النحو التالي: «يمكن لعملية الإرجاع [لدى المريض] أن تتم بكيفية عادية، ولكن العالم الذي يتم الرجوع إليه ليس له، بالنسبة إلينا نحن غير الذهانيين، وجودٌ واقعي وحقيقي (…) فالإحالة تتم، لكن إلى عالم متخيَّل، أو بالأحرى، إلى عالم يمَّحِي فيه الفرق بين الواقع والخيال». انظـر:
– T. Todorov, Les genres du discours, Paris, Coll. Seuil, Poétique, 1978, p. 78-79.
[4] حـديـث الجـثـة، ص. 77.
[5] حـديـث الجثــة، ص. 21.
[6] حـديـث الجثــة، ص. 25.
[7] حـديـث الجثــة، ص. 27.
[8] حـديـث الجثــة، ص. 27.
[9] Voir M. Blanchot, L’espace littéraire, ةditions Gallimard, Coll. Folio / essais, Paris, 1955, h. IV.
[10] حـديــث الجثــة، ص. 30.
[11] نسبة إلى الشيزوفرينيا (schizophrénie): مرض عقلي يدخل هو الآخر ضمن فئة الذهان، ويعرفه تودوروف على النحو التالي: «تتكلم الذات [المريضة]، لكننا لا نتوصل، انطلاقا من خطابها، إلى تشييد أي عالم مرجعي»، تودوروف، المرجع السابـق، ص. 79.
[12] M. Heidegger, L’être et le temps, ةditions Gallimard, nrf, Coll. Bibiolthèque de la philosophie, Paris, 1986, p. 304.
[13] حـديـث الجثــة، ص. 19.
[14] ترجمها إلى العربية جلال الحكماوي، ونشرها ضمن مجلة إسراف 2000، باريس، العدد الأول، 1993، صص. 24-32.
[15] حـديـث الجثــة، ص. 46.
[16] حـديـث الجثــة، ص. 50.
[17] حـديـث الجثــة، ص. 55.
[18] حـديـث الجثــة، ص. 60.
[19] حـديـث الجثــة، ص. 61.
[20] حـديـث الجثــة، ص. 73.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 09:27 مساء

الاخبار العاجلة