هوامش في السحر: 02 – هل السِّحر موجودٌ؟

2٬724 views مشاهدة
هوامش في السحر: 02 – هل السِّحر موجودٌ؟

إذا تصفَّحنا المقالات والدراسات التي تُكتَبُ في المغرب اليوم حول السِّحر والخفي عموما وجَدناها، على قلتها لا تحيد – إلا في حالات نادرة جدا – عن أحد توجهين:
– عندما يكون المخاطَبُ هو الآخر (الغرب) يتم اختزال السِّحر إلى مظاهره الغرائبية، كما يتم التركيز على هذا الجانب إشباعا لرغبة هذا الآخر المُفتَرَضة أنها كذلك. ويتجلى هذا التوجه بوضوح في الدراسات المكتوبة بلغة أجنبية (الفرنسية، مثلا).
– أما عندما يكون المُخاطَبُ هو القارئ المغربي، فإن اللهجة تتغيَّر، فتحكمها نزعة نضالوية يُختَزَلُ السّحر فيها إلى مجرد شعوذةٍ ومظهر من مظاهر التخلف الاجتماعي والاقتصادي التي ينبغي التخلص منها في أسرع وقت ممكن. يلتقي في هذا الموقف السَّلفيون وفئة واسعة من المثقفين التقدميين(1)، بل وأحيانا حتَّى بعض وسائل الإعلام الرَّسمي كالإذاعة والتلفـزة.
ويبدو أن هذه الأحكام تستند إلى تمثُّلٍ للغربِ مُتَخَيَّلٍ، شائع بين المغاربة والعرب عموما، يرى في هذا الغرب نموذجا للاحتذاء بوصفه «تخلى عن هذه المعتقدات والممارسات نهائيا»؛ تقول باحثة تونسية في معرض حديثها عن ظاهرة الصرع: «… فهل الصرع ظاهرة ميتافيزيقية أم ظاهرة أنثروبولوجية؟ مع العلم أن هاتين المرحلتين يمكن أن تتعايشا بشكل مكثف في المجتمعات العربية أكثر منها في المجتمعات التي حسمت أمرها مع الخرافة ووضعتها في مكانها الصحيح، وأحلت العلم ليجيب عن أسئلتها»!! (2).
والحال أن الواقع بخلاف ذلك تماما: ففي فرنسا وحدها، وصلت الميزانية السَّنوية للسحر في عام 1957 مبلغ 3 مليار فرنك فرنسي(3)، وستتضاعف هذه الميزانية بسرعة قصوى لتصل سنة 1976 إلى 70 مليار فرنك فرنسي(4). وفي أمريكا السبعينيات: «كان العمل من الوفرة بما اقتضى تشغيل 000 10 مُنجِّما طيلة الوقت و000 175 لوقت جزئي. كما جعل بعض 40 مليون أمريكي من الـ zodiac buiness مقاولة بلغ رقم معاملاتها السنوي مائتي مليون دولارا. عدة أجهزة حاسوب تشغل باستمرار لسحب الأبراج وتفسيرها. مقابل عشرين دولارا، يطبع أحد هذه الحواسيب في بضع دقائق طالع برج من عشرة ألف كلمة. حاسوب آخر يشتغل ليل نهار، يـزود بالطوالع الفلكية ألفي موقـع في كافة أرجاء البـلاد. حاسـوبُُ آخر يقع في Grand Central Station، يقرأ يوميا 500 برج تابع له»(5).
و«”كافة مبادئ السحر الطقسي متضمنة في الإنتاج التلفزيوني، في الإعلانات التجارية والبرامج المنسقة بعناية كليهما”، (كما) كتب مايكل بنتاين، الذي يعرف الكثير عن كل من السحر والتلفزيون، ويضرب عدة أمثلة على طرق التأثير في عقول المشاهدين طيلة الوقت دون معرفتهم الواعية»(6).
ثم فيما تُنادي أصواتٌ هنا باسم العلم بضرورة إحلال أدوات العلاج الغربية محل نظيرتها التقليدية يُقرّ عدد لا يُستهانُ به من الغربيين أنفسهم بفعالية هذه الأخيرة، ويدعون إلى الاستسعاف بها في مراجعة الأسس النظرية التي ترتكز عليها الأولى.
أخيرا، هل من الضروري تكرار ما صاغه ليفي ستروس نفسه منذ 1949 لحسم النقاش الدائر حول الموضوع من قبل، والذي كان يدور حول الجانب الأنطولوجي للمسألة، أي السعي إلى معرفة ما إذا كان السِّحر موجودا فعلا أم غير موجود، وهل هو مجرَّد خُرافة أم أنه علم من نوع آخر؟ السِّحرُ موجود بكل بساطة لأنه يُمَارَسُ. ولو لم يكن موجودا لما كان يُمَارَسُ. ثم لو لم تكن لممارسات الأطباء التقليديين فعاليات مماثلة، بل وأحيانا مطابقة لممارسات زملائهم الأطباء العصريين لما شهدت الممارسات العلاجية التقليدية والسِّحرية هذا الانتشار الواسع على مستويي الزَّمَن والمكان(7).
وبذلك فالمسألة هنا، كما هو الشأن، بالنسبة لباقي مظاهر الثقافة التقليدية، هي مسألة قراءة أو ملاحظة أساسا؛ هذه الأخيرة تتمُّ – والاستثناءات قليلة جدا – وفق خطاطة يتَّخِذُ فيها العالمُ لنفسه دور العليم العارف أو المُلاحِظ الإيجابي فيما ينيطُ بمن يلاحِظُهُم دورَ «الجَهَلَة» والملاحَظين السلبيين. وهذه الخطاطة، فضلا عن أنها تنخرط في حقبة من المُلاحظة في الإثنوغرافيا مُتَجاوَزة، كان يمثلها مالينوفسكي وإيفانس بريتشارد أساسا، تقع في فخ اصطدام التمثلات التي تسود المجتمع المغربي اليوم بحكم اجتيازه فترة تحوُّل من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، فيترتب عن ذلك – ضمن ما يترتَّب – انتزاع الباحث الكلامَ من الظواهر المدروسة وحرمانها من التعبير عن نفسها، وتعذّرُ فهم إواليات اشتغالها، والوظائف التي تؤديها والدلالات التي تحملها، وتَمَثُّلُ تمثلاتها التي تُقصِي منها الباحثَ حواجزُ الثقافة العالمة.
لعل الالتفات إلى بُعد التفاعل، أثناء عملية الملاحظة، بين الباحِث والجماعة المدروسة هو السَّبيل الأسلم لتحقيق فهم موضوعي للظواهر الثقافية؛ فكما يسعى الباحث إلى تحقيق معرفة بالجماعة المبحوثة، فإن هذه الجماعة بدورها تريد تكوين معرفة عنه؛ بقدر ما يَقرأ الدَّارسُ أو يُلاحِظ يشكِّل هو أيضا موضوعا للملاحظة من قبل من يدرسُهُم. وبذلك، تصبح مهمته باعتباره إثنوغرافيا بالضبط هي «محاولة التوفيق بين ما يظن أن الناس يعتقدونه وما يظن أنه كان سيعتقده فعلا لو كان واحدا منهم»(8).
وسنتناول هنا مظهرا واحدا من مظاهر عملية التَّفاعل التي تمَّت بيننا وبين جماعة مبحوثة خلال بحث ميداني يعود إلى سنة 1985 بمدينة الرباط. يتعلق الأمر بإلحاح المُخبِرين في طرح السُّؤال: «هل السِّحْر موجود؟» كلما أعلن الباحثُ حاجته إلى جمع معلومات وأخبار تتعلق بالممارسات السِّحرية. هذا الإلحاح كان يتم بكيفية جادَّة ومتواترة لدى أفراد عديدين لدرجة أننا تلقيناه عشرات المرّات. ولا يخفى أنه سؤال يقلب معادلة العل الميداني بحيث يصير الباحث (أو يُرادُ له أن يصير) مُخبِرا فيما يصبح هذا الأخير (أي من يسعى الباحث إلى اتخاذه مخبرا) «باحثا». فما دلالة سؤال كهذا؟ أيُّ سبيلٍ لجمع معلومات من مُخبرين فيما يُنتَظَرُ منهم أن يُخبِروا يتحولون منذ الوهلة الأولى – في الظاهر على الأقل – إلى طالبي أخبار؟
من المعلوم أن المغرب الحالي يحمل «ذاكرة» ثقافية يُعتَبَر السحرُ، والخفيُّ عموما، أحد مكوناتها الأساسية في الشِّقّ الإسلامي من هذه الثقافة على الأقل. نقول «في الشق الإسلامي على الأقل» لأنه بات شبه مؤكَّد أنه عندما توجد ثقافة ما في سياق هيمنة تكون فيه الغلبة لثقافة أخرى، فإن العديد من عناصر الثقافة الأولى تتمكن من الاستمرار في الوضع الجديد وتواصل حياتها على شكل رواسب أو بقايا (أو مخلفات survivances). بتعبير آخر، إن هذه المخلفات لا تموت، بل تواصل حياتها بأشكالٍ أخرى. ومن الأمثلة الحديثة التي يقدمها الدرس الأنثروبولوجي حديثا في هذا الموضوع، دراسة ظاهرة ما يسمى بكرنفال «بوجلود»، أي ذلك الحفل التسكعي الذي يواكب عيد الأضحى في العديد من قرى المغرب العربي. وهي ظاهرة اهتم بها الإثنوغرافيون الفرنسيون بها منذ بدايات القرن، فرأوا الأمر هنا يتعلق ببقية طقس ما قبل إسلامي يرتبط بعبادة الطبيعة والإيمان بقدسية الحيوان والنبات(9)، وكانوا ينطلقون في ذلك من سؤال مركزي، هو: كيف يمكن التوفيق بين ما هـو إسلامي وما اصطلح على تسميته بالجاهلية؟ ثم يجيبون بأن ليس ثمة من حل سوى انتظار أن تنتهي كل هذه البقايا. وفي انتظار ذلك لا يجب على الباحث أن يخلط بين الأشياء. يجب عليه أن يفصل بين طقسي بولجلود وطقس عيد الأضحى… في حين انطلقت دراسة عبد الله حمودي المتميزة الصادرة حديثا في الموضوع نفسه(10) من انتقاد هؤلاء الإثنوغرافيين (مولييراس، دوتيه، لاووست، ووسترماك، الخ)، فأظهـرت أن البقايا لا تموت، وأن المجتمع قد تدبر أمره للجمع بين الطقسين المتعارضين تحت علامة واحدة هي نهاية السنة الهجرية (أي بتحويل الطقس الأصلي الذي كان يرتبط بالخصوبة) من التأريخ الشمسي إلى التأريخ القمري، وبالتالي ليس ثمة من حل غير تناول الطقسين مجتمعين، وما يكمن وراء الطقسين إنما هو مسألة التعارض الوجداني، بمعنى أن المذكر لا يوجد إلا مع المؤنث، وما هو إسلامي لا يعاش إلا مع ما هو جاهلي، وبالتالي لا يوجد قانون بلا خرق، كما أظهر أن ما يتم تجسيده من وراء هذه العادة القديمة إنما هو بعض الأحداث التي شهدها المجتمع حديثا…
فكتابات ابن خلدون، وابن البناء المراكشي وإبراهيم ابن الحاج وخطير الدين العطار ونور الدين الزناتي، وغيرهم في مختلف العلوم الخفية لا تدع مجالا للشك في كون هذه المعارف كانت تشكل جزءا من المعرفة السَّائدة في الماضي والتي ترتدُّ في نهاية المطاف إلى الكوزموغونيا الإسلامية كما صاغها مؤلفون مشارقة عديدون من حقول معرفية متعددة (الطبري، التيفاشي، الدميري، القزويني، الخ.(11)). وعلى مستوى الممارسة، يتعاطى اليوم للخفي عددٌ كبيرٌ من «الفقهاء» (الطُّلْبَة) والعرَّافات (الشوَّافَات)، لكن صياغة السؤال بالكيفية والتواتر المذكورين أعلاه تحتمل – فيما تحتمل – الإجابة عنه بالنَّفي. أيُّ شيء جَعل قابلية نفي هذه الممارسات أمرا ممكنا اليوم فيما كان الإيمان بها في الماضي من المسلمات؟
يمكن القول إن عملية المثاقفة مع الغرب هي التي حقَّقت شروط طرح هذا السؤال الذي لم يكن ليُطرَح في الماضي بالحدّة نفسها على الأقل. فإذا كان الكائن العربي قد تصدَّعَ بفعل المثاقفة، على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي(12)، فإنه يمكن اعتبار إلحاح السؤال الحالي أحد مظاهر هذا التَّصدُّع.
ويأخذُ هذا التأويل دلالة كبرى إذا أخذنا بعين الاعتبار كلاًّ من «الطبيعة التركيبية للمجتمع المغربي»، على حد تعبير بول باسكون(13)، للمجتمع المغربي الحالي وإمكان توسيع مفهوم المثاقفة، بالشكل الذي أنجزَه بايدزُن، ليشمل حتى الاتصال بين فئاتٍ تنتمي لمجتمع واحد:
«تحت اسم الاتصال الثقافي سأدرجُ (…) حالة الاتصال داخل الجماعة الواحدة بين فئات مختلفة من الأفراد؛ بين الجنسين، وبين الشباب والكهول، وبين الأرستقراطية والشَّعب، وبين القبائل، الخ. (…) (بل) وسأمضي إلى أقصى حدّ في توسيع فكرة الاتصال لأدرج فيها حتى العمليات التي تُشكِّل الطفل وتكوِّنه حسب قواعد الثقافة التي وُلد فيها»(14).
يترتبُ عن كل اتصَال بين جماعتين مختلفتين تنتميان إلى ثقافتين متباينتين إحدى النتائج التالية:
«- تحقق التحام كامل بين الجماعتين؛
– إقصاء إحداهما للأخرى أو إقصاؤهما معا؛
– تعايش الجماعتين في توازن ديناميكي داخل جماعة أكبر»(15).
ففي أي وضعية من هذه الوضعيات يقع المغرب حينما يتعلق الأمر بالسحر؟
من الصعب المبادرة بصياغة جواب واحد عن هذا السؤال، يستوعب كل من يزاولون أعمال السِّحر، لأنه يمكن العثور داخلهم على فئات صغرى تنتمي كل واحدة منها إلى أحَد الأوضاع الثلاثة السابقة، وهو أمر يتيسَّر للملاحظة باعتمَاد تحليل الحالات المبحوثة. إلا أن المقام يضيق كثيرا عن إنجاز هذا العمل، ولذلك يمكن القول بصفة عامة، واستنادا إلى واقع استمرار مزاولة أعمال السحر في مغرب اليوم وانتشارها بكيفية واسعة، إن جماعات القائمين على السِّحر والعلاجات التقليدية والمتردِّدين عليهم يعيشون وضع الالتحام شبه الكامل. ويتيحُ النظرُ إلى هذه الجماعات من منظورات خمسة(16) فهمَ العوامل التي تحقق هذا الانسجام:
1 – مظهر بنيوي: عندما يتوفر سياق الشك في خيانة الزوج، مثلا، فإن استجابة أي امرأة من هذه الفئة ستكون هي التوجّه مباشرة إلى عرَّافة للتأكد من ذلك. وهذه الاستجابة تتناسب، معرفيا، مع استجابات كل نساء فئة انتماء هذه السيِّدَة في مواقف مماثلة باعتبار وجود منطق، يحكم هذه الاستجابة، مشترَكٍ بين جميع أفراد هذه الفئة. ويمكن صياغة أحد أشكال هذا المنطق، من خلال المثال الذي بين أيدينا، على النحو التالي:
القاعـدة (أ):
«مهما يكن (س) زوجا، س يتصف بالصفات (ي، ع، ز…). (س) لا يرتبط بامرأة أخرى غير زوجته».
بموجب هذه القاعدة، عندما يتصف الزوج بالصفات (ي، ع، ز)، فإن الزوجة لا ترى أيَّ مبرر لزيارة العرَّافة. لكن قد تَردُ سياقاتٌ لتُحْدِث بهذه القاعدة استثناءات وتعديلا لتصيَر على الشكل التالي:
القاعـدة (ب):
«مهما تقل القاعدةُ (مهما يكن (س) زوجا، (س) يتصف بالصفات (ي، ع، ز…). (س) لا يرتبط بامرأة أخرى غير زوجته)، فهناك على الأقل حالة واحدة حيثُ (س) يتصف بالصفات (ي، ع، ز) و(س) يرتبط بامرأة أخرى غير زوجته».
لعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا القاعدة (ب) قاعدة القواعد في الممارسات السحرية والخفية عموما. إنها مجالٌ لتقاطع المعقول واللامعقول، المنطقي واللامنطقي؛ ما اصطلحنا على تسميته بالمعقول والواقعي يصبح داخلها لا معقولا ولا واقعيا، والعكس كذلك. بتعبير آخر، إن العلم يجيب «عند الاقتضاء عن السؤال: “لماذا يحدث ذلك؟”، لكنه يجبرنا على التسليم بكوننا محرومين من الحصول عن السؤال: “لماذا يحدث لي ذلك؟”. أما السحر فهو يقبل أن يجيب عن هذا السؤال»(17)، أو: «الفرق الأساسي بين السحر والعلم يقوم (…) على أن أحدهما ينطلق من التسليم بحتمية شاملة وتامة، في حين أن الآخر يشتغل على التمييز بين مستويات عدة، بعضها فقط يرتدي أشكالا حتمية غير قابلة التطبيق على المستويات الأخرى. ولكن ألا يسعنا أن نمضي في الاتجاه أشواطا أبعد، فنعتبر التشدد والدقة، اللذين ينم عنهما الفكر السحري والممارسات الطقسية، بمثابة التعبير عن استيعاب لاواع لحقيقة الحتمية بوصفها صيغة من صيغ وجود الظاهرات العلمية، بحيث أن الحتمية تصبح موضوعا للاشتباه واللعب بها بصورة إجمالية قبل أن تصبح موضوعا للمعرفة والاحترام؟ هكذا تبدو
الطقوس والمعتقدات السحرية بمثابة أنواع من التعبير عن فعل إيمان بعلم لم يولد بعد»(18).
إن إيمان أفراد الجماعة بهذه القاعدة واستنادهم في ذلك إلى تمثل للكون والإنسان – لا يتسع المجال هنا لعرضه(19) – هو ما يجعل سلوكهم يبدو منطقيا.
2 – مظهر عاطفي: عندما يُنظَرُ إلى مجموع سلوكات الجماعة من هذا الجانب، فإنها تبدو محمَّلةً بشحنات وجدانية تجعل من هذه السلوكات إوالية مٌبَرْمَجة ومُوَجَّهة نحو الإشباع العاطفي. هكذا فطقوس الرَّجْم والرِّباط والعقد والجلب والتهييج إنما تُشبعُ أساسا، وبصورة رمزية، عاطفتي الحب والكراهية. وكافة الطقوس السحرية الرائجة في المغرب اليوم، سواء منها الشفهية أو المرتكزة على الكتب العربية القديمة كمؤلفات البوني والإمام الغزالي وابن الحاج وغيرهم، يمكن نظمها في محورين أساسين: محور هجومي والآخر دفاعي.
3 – وحدة اقتصادية: يتيح هذا المنظور الوقوفَ على كون الممارسات السحرية هي إوالية موجَّهة لإنتاج المواد وإعادة توزيعها. فالـ«فْقيه» والعرَّافة يُنشطان دورة اقتصادية كاملة يستفيد منها، نقديا وبشكل ظاهر ومباشر، كل من الفقيه والعرَّافة نفسيهما، والعشَّاب، ومناطق جمع الأعشاب والعقاقير، كما يستفيد منها، بشكل غير مباشر، القنوات التي يَصرف فيها هؤلاء جميعا نقودَهم لتوفير مستلزمات الإقامة والعيش والكسوة والنقل، الخ.
4 – وحدة زمانية – مكانية: تتم نمـاذج سلـوك الأفـراد وفـق خُطاطة زَمَانية – مكَانية: سنجدُ الفقيه، مثلا، ينقش وِفقاً (جدولا سحريا) في الساعة (س) ليلا، وفي مكان خال من النَّاس لأن الموضوع يتعلق بجلب رجل لامرأةٍ، ولأن الوصفة التي يعتمدها تفرضُ ذلك. كما سنجد المرأة التي لا تزاول شغلا خارج البيت – مثلا – تستشير الفقيه في مكان إقامته في إحدى عشيات وسط الأسبوع لأنها تحرص على ألا يعلم الزوج بهذا النوع من الزيارات، ولأن هذا البعل يكون خارج البيت في الوقت المذكور، يكون في مكان العمل…
5 – وحدة سوسيولوجيـة: في هذا المستوى يستمد سلوك الأفراد قيمته بالقياس إلى اندماجه داخل وحدة أكبر تمثلها الجماعة ككل. هكذا، فاستسعاف الفتاة العانس بالفقيه يهدف إلى إدماجها في المجتمع وتحقيق تبادل في إطار أنظمة القرابة داخل وحدة المجتمع الكبرى.
إن أبسط طقسٍ سحري يشكل مجالا لتقاطع كل هذه المظاهر، وهذا ما يضمن استمرارية الممارسات السِّحرية وتوازن الفئات المزاولة لها داخل بنية المجتمع ككل. وأي إجراء يستهدف القضاء على هذه الممارسات بالتركيز على أحد هذه المظاهر دون تحسُّب عواقب ذلك على الباقي (المهمة التي يمكن للأنثروبولوجيا التطبيقية أن تقدم فيها الكثير) سيؤدي دون شك إلى اضطرابات جدية داخل الفئات المزاولة للسحر.

*
*       *

بعد هذا الاستطراد الوجيز نعود إلى السؤال الذي نحن بصدده، وهو: هل السِّحرُ موجود؟، لننتقل إلى مستوى ثان في قراءته:
يبدو أن المخبرين بقلبهم معادلة البحث عن طريق الإلحاح على الباحث بالسؤال السابق، إنما يهدفون أساسا إلى تحديد موقعه ليأخذوا بعد ذلك الموقع المناسب تبعا لإجابة التي سيحصلون عليها. وواضحٌ أن الأخبار التي يتم الحصول عليها في وضع مثل هذا تكون محكومة كميًّا وكيفيا بلعبة تعدُّد المواقع بين الباحث والمبحوثين؛ فالتزام الدارس بجوابٍ واحدٍ عن أسئلة كل سائليه من شأنه أن يقصيه من كثير من الآفاق الإخبارية. وفيما يلي عرضٌ سريعٌ لانعكاسات اختلاف المواقع على المادة الإثنوغرافية المجموعة، وذلك من خلال تجربة ميدانية أخذنا فيها على التوالي مواقع: الباحث، عديم «النية والتصديق»، المريد، ثم «السَّـاحر».
1 – موقع الباحث: يُقابله المخبرون المحتملون بالرفض التَّام متذرعين بأعذار شتى. ويلتقي في هذا الرَّفض كل أطراف السِّحر: الفقهاء (الطلبة) والعرافات ومريدوهما، ثم المطببون الشعبيون:
ففي أحد الأحياء الشعبية بمدينة الرباط، رفضت عرَّافة أن تستقبلنا بدعوى أنها لا تستقبل الرجال، وأمام إلحاحنا وإخبارنا إياها بأن كل ما نريده منها كان لا يعدو «مجرد» الحصول على معلومات قصد إدراجها في بحث في الموضوع أغلقت الباب بقوة في وجهنا مردِّدَة أن ليس لديها ما تقوله لنا.
وخلال لقاء، بمزلنا هذه المرة، مع فقيهٍ أحجم هذا الأخير عن ذكر كل ما يتعلق بعمله بدعوى أنه غير مَسموحٍ له بذلك (من قِبَل الجنّ). ولما أخبرناه بأننا نتوفر على الكتب نفسها التي كان يستعملها في طقوسه وجَّهَ لنا بلهجَةٍ ناصحة: «احذر ثم احذر أن تجازف، ولو على سبيل المزاح، بممارسة أي طقس من الطقوس المذكورة في هذه الكتب لأن العاقبة ستكون وخيمة. فأنا نفسي (المتضلع في المجال، أحرى أنت الذي لا تعرف فيه ربما أي شيء) يحدُثُ لي أن أرسم الجداول، ثم أسهو وأرتكب بعض الأخطاء البسيطة، فأؤدي الثمن غاليا: في الليل، تأتيني جيوشهم (=الجنّ) القصار بطرابيش حُمر، فتُذهب النوم عني ولا أنجو من شرها إلا بقراءة العزائم الطوال».
وعندما حاول صديق مقرَّبٌ من أحد الفقهَاء أن يربط الصلة بيننا وبين هذا الأخير مُحَفِّزا إياه على اللقاء بنا لكوننا نتوفر على كتب عديدة في الموضوع كان ردّ فعل الفقيه، بعد استفسار طويل للصديق عن شخصنا، هو: «اذهب إلى صديقك هذا وقلْ له: “يقول لك الفقيه: “لا تضيع وقتك في البحث في هذا الموضوع لأنك سترسبُ لا محالة (في دراساتك الجامعية). أقسمُ بالله العلي العظيم (3 مرَّات) إن تسمرّ في هذا المجال يصبكَ الجنون أو لن تنجحَ على الإطلاق (في دراساتك)».
وفي «جوطية» حـيّ العكـَّاري بمدينة الرباط، حصل أن طلبـتُ – رفقة صديقٍ – من أحد المطبِّبين الشعبيين، وهو وسط حلقته، أخذَ صورة لمائدته، فرحَّب بالفكرة ووظَّفَها حالا في الدعاية لنفسه قائلا: «لستما أول من يأخذ لي صورة. فالأجانب من فرنسا وألمانيا ودول أخرى يلتقطون لي صورا»، فالتقطنا صورة لمائدته. لكن ما أن أخذنا صورة ثانية له وهو يكوي ذراع أحد المرضى حتَّى انزعجَ، فأُقعى وهمّ بنزع جلبابه، ووجَّه لنا الكلام التالي في غضب وسخرية لاذعتين: «إن شئتما أن أكشف لكما عن مؤخرتي كي تلتقطوا لها هي الأخرى صورة فأنا على أتم الاستعداد لذلك».
لا يتسع المجال لعرض أمثلة عن ردود المريدين، ولذلك نكتفي بالأمثلة السابقة.
إذا اختبرنا المحصَّل عليه – من هذا الموقع – على ما كان يرادُ الحصولُ عليه، وهو: من يسحر من؟ كيف؟ بماذا يبرر الساحر سحره؟ كيف يعرف المسحور أنه مسحورٌ؟ وما هو المسار الذي يتبعه للتخلص من سحره؟، إذا فعلنا ذلك لم نجد شيئا عدا معلومات أخرى، تعتبر ذات أهمية قصوى مع ذلك، تتعلق بالتصور المقام عن الباحث والاستراتيجيات التي ينطلق منها المبحوثون في أجوبتهم: ففي المثالين الأول والأخير، تمَّ تلقي سؤال الباحث باعتباره استفزازا، وبذلك تمَّت مماهاته مع رجل أمن أو استعلامات، فتم إقصاؤه على الفور. وفي المثال الثاني والثالث ربما تم مماهاة الباحث مع ساحر مبتدئ من شأنه أن يتحول في المستقبل إلى منافس مزاحم في المهنة، ولذلك تمَّ إقصاؤه مبدئيا أيضا.
2 – موقع عديم النية: عندما يتلقى المخبرون المفترضون الإجابة بالنفي، من قِبل الباحث، أي عندما يجيبهم بأن السحر غير موجود، فإنهم يختزلون البحث إلى جملة من محكيات. حينما يكون حاكوها شبابا، فإنهم يطلبون من الباحث تفسيرها إما على سبيل تعجيزه وردعه بغاية إجباره على الاعتقاد بوجود السحر. وفي هذه الحالة يكون السؤال بريئا. أما عندما يكون حاكو الحكايات من المتقدمين في السن شديدي الاعتقاد، فإن القصد يكون هو الطلب من الباحث أن يسلم بها.
يصعب إنكار أهمية هذه المحكيات في فهم جوانب هامة من ظاهرة السحر. ذلك أنها تبرز التقاطع الشديد الموجود بين السحر وظواهر مجاورة كالمس باجن، والصرع، والعلاج بالموسيقى، بل وحى ببعض الممارسات الخفية الوافدة حديثا من أوروبا كالروحية، والتنويم المغناطيسي، من خلال إدراج المخبرين إياها في خانة السحر، لكن هذه المحكيات وحدها لا تكفي باعتبارها تغيب عنصر التجربة؛ لا أحـد يقـول سُحرتُ أو سحَرتُ، ومقابل ذلك هناك عددٌ لا نهائي من «حُكيَ أنه…».
3 – موقع المريد: يتطلب إمكانيات مادية هامة للاستجابة لمتطلبات الفقيه والشوافات لإنجاز الطقوس والتردد عليهم بانتظام. وبذلك، فإن الحالة المادية للباحث تعلب دورا حاسما في كمّ وكيف المادة الخبرية الممكن الحصول عليها من هذا الموقع. في الحالات التي زرنا شخصيا «شوافات» و«فقهاء»، بصفتنا مريدا، كان الثمن غاليا باستمرار والمقابل الحصول على أحجبة ونبوءات ومعاينة فضاءات ممارسة العرافة والسحر لا غير.
4 – موقع الساحر: يتيح هذا الوضع – بالمقارنة مع المواقع السابقة – تحقيق تقدم هام في البحث الميداني، لأن حصول الباحث على موقع «الساحر» يمكنه، في آن واحد، من فهم المسار الذي يجعل منه ساحرا ومن الحصول على أسرار المريدين لأنه يصبح شخصا يطمأنّ إليه، ويجب إخباره بكل شيء لضمان فعالية طقوسه. إلا أن الحصول على هذا الموقع لا يتأتى بسهولة: فهناك عاملان، على الأقل، يتدخلان بشكل حاسم في منحه: إقامة تعاقد بين الساحر الجديد والجماعة، ثم ارتباط هذا الساحر بعلاقة مقايظة مع مريديه.
لعل تعاقد الساحر المقبل مع الجماعة المحيطة به هو ما كان يقصده مارسيل موس عندما عرف الساحر بأنه «الكائن الذي اعتقد أنه ساحر في الوقت نفسه الذي تمَّ تصديقه وجعله ساحرا». هذا التعاقد تتدخل فيه عوامل متعددة، أهمها: غربة المعني بالأمر عن مدينة المبحوثين، وأحيانا مستواه الدراسي أو مهنته نظرا لظهور فئة جديدة من السحرة أصحابها موظفون أو طلبة.

—–
هوامـــش
(1) المسألة سبق أن انتبه إليها الدكتو رعبد الله زيوزيو، وأثارها في مقال له تحت عنوان:
«Réflexions sur la thérapie traditionnelle», Lamalif, n° 143, Juin 1983.
(2) حياة الـرايس، جسـد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطـة الجـان، القاهـرة، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1995، ص. 51 (والتشديد من عندنا).
(3) Rloland Barthes, Mythologies, Paris, Seuil, 1957, p. 165.
(4) Joseph et Annick Dessuart, La voyance, P.U.F., (Que – sais – je?), 1980, p. 61.
(5) E. F. Heenan cité par Mircea Eliade, Occultusme, sorcellerie, et modes culturelles en Occident, Paris, Gallimard, nrf, 1976, p. 80.
(6) غاي ليون بيلفير، ثلاثية الطب والعقل والسحر. السحر والمعجزة، ترجمة عيسى سمعان، اللاذقية، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1990، ص. 23.
(7) للوقوف على هذه المقارنة يمكن العودة إلى:
Claude Lةvi-Struass, Anthropologie structurale, Plon, 1958, t. 1, pp. 184-202.
أو ترجمته العربية: كلود ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي، البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، صص. 203-223. كما يمكن الرجوع إلى العرض تحليلي لهذه المقارنة، الذي أنجزه ماك روكفيل، «الساحر والمحلل النفساني»، ضمن دراسات ترجمناها ونشرناها تحت عنوان أبحاث في السحـر، مكناس، مطبعة سندي، 1995، صص. 29-48.
(8) Dan Sperber, Le savoir des anthropologues, Paris, Hermann, 1982, p. 31.
(9) انظـر: حسـن بـحراوي، المسرح المغربي. دراسة في الأصول السوسيوثقافية، البيضاء-بيروت، المركز الثقافـي العربـي، 1994، ص. 74-75.
(10) Abdellal Hammoudi, La victime et ses masques, Paris, Seuil, 1989.
انظر ترجمتنا لقراءتين أنجزهما جلبير غرانغيوم في هذا الكتاب. الأولى بعنوان: «كرنفال في المغرب العربي»، الاتحاد الاشتراكي (الملحق الثقافي)، ع. 285، يوليوز، 1989، والثانية تحت عنوان: «الضحية وأقنعتها» ، الاتحاد الاشتراكي، 23 غشت 1989.
(11) راجع، على سبيل المثال لا غير، ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، بيروت، دار الكتب العلمية، (د. ت)، ج. 1، صص. 62-97، وعماد الدين ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق أ. أبو ملحم، ف. السيد، ع. ن. عطوي، م. ناصر الدين، وع. عبد الساتر، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة 1987، ج.1صص. 25-86، وأبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي، كتاب سرور النفس بمدارك الحواس الخمـس، تحقيق إحسان عباس، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1981، وكمال الدين الدميري، حياة الحيوان الكبرى، (د.م)، المكتبة الإسلامية، (د.ت)، صص. 203-215، وزكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، قدم له وحققه فاروق سعد، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1973، صص. 45-105… هذا دون أن نذكر المصنفات التي تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ «الأدب النعيمي»، مثل الاستعداد للموت وسؤال القبر، لزين الدين بن علي المعبري، وأهوال القبور للحافظ بن رجب، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة لأبي بكر القرطبي، ودقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار لعبد الرحيم بن أحمد القاضي، أو تلك المخصصة للجن مثل آكام المرجان في أحكام الجان للشبلي، ولقط المرجان في أحكام الجان للسيوطي…
(12) عبد الكبير الخطيبي، النقـد المـزدوج، بيروت، دار العودة، 1981.
(13) Paul Pascon, «La nature composite de la société marocaine», Buletin ةconomique et Social du Maroc (30 ans de sociologie du Maroc, textes anciens et inédits), n° 155-156, Janvier 1986, pp. 211-215.
(14) Gregory Bateson, Vers une écologie de l’esprit, Paris, Seuil, 1977, t. 2, p. 80.
(15) نفســـه، ص. 80.
(16) هذه المنظورات وردت في المرجـع السابق، ص. 81-82، ونتوخى هنا عرضها أكثر من تطبيقها الفعلي.
(17) بول جوريون وجونفييف دلبوس، «ارتجالية مفهوم السحر في الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر»، ضمن أبحاث في السحـر، مرجـع سابق، ص. 10.
(18) ليفي ستروس، نقلا عن محمد بن حمودة، الأنثروبولوجيا البنيوية أو حق الاختلاف، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية 1990، ص. 97.
(19) سبق أن تطرقنا لهذا الموضوع في أطروحة لنا ناقشناها، تحت عنوان: Magie et sorcellerie au Maroc actuel، بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، باريس، 1990، الفصل الأول، صص. 25-111.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 13-09-2012 07:02 مساء

الاخبار العاجلة