أشباه قصص – الشيخ الفرنساوي وعشيقته الصغيرة

1٬296 views مشاهدة
minou
أشباه قصصسردمؤلفــــات
أشباه قصص – الشيخ الفرنساوي وعشيقته الصغيرة

عُدتُ للتو من سفر ميل على متن القطار. نبه مكبر صوت المحطة إلى أن رحلة الذهاب ستتأخر بعشرين دقيقة، فاتجهتُ إلى مقهى المحطة لقضاء ذلك الوقت فيها. هناكَ، وجدتُ نصا جميلا في انتظاري:
فرنسي في حوالي السبعين من عمره، أصلع، يكفي أن يرتدي طاقية بيضاء وسروال «قندريسة» و«تشامير»، فلا يعود هناك ما يمنع إطلاقا من أن يؤم الناس في الصلاة. كان العجوز مرفقا بفتاة صغيرة، في حوالي العشرين من عمرها، حرصت على إشهار انتمائها للحداثة، من خلال لباسها المتبرج وإمساكها سيجارة في اليد والجلوس بشكل يخيل للناظر كأنها نزلت للتو من حلبة لعرض الأزياء…
جلس الاثنان حول مائدة. البنت ذات بشرة وردية وعينين زرقاوتين، صبغتْ شعر رأسها بالأشقر وارتدت سروال دجين قصير التصق باللحم إلى أن أظهر كل تقاسيمه، وقميصا أصفر لازال يافعا، لذلك عجز عن إمساك النهدين على صغرهما فزاغا إلى الأمام، وعن حجب نصف البطن فخرج عاريا. وباختصار، فقد كان كل شيء يوحي بأن الرجل كان أمام غنيمة لذيذة بقدر ما كانت البنت أمام صيد ثمين. ومع أنَّ صوت تلفاز المقهى كان مرتفعا، فقد حرص الشيخ على أن يتكلم بصوت مسموع كأنه كان يعلن بذلك لجميع الحاضرين أنه كان فرنسيا…
قبيل وصول القطار، انضم إلى الاثنين رجل في حوالي الثلاثين من عمره، قوي البنية، أسمر البشرة، يرتدي ثيابا متواضعة. جاء وهو يجر حقيبة، فاتضح أنَّه كان خادما للعشيقين. مرت لحظات، وها هو مكبر صوت المحطة يعلن أن القطار سيصل في غضون ثوان. قام العشيقان والخادم، ولجوا الرصيف، وقف القطار، صعد الثلاثة، راودتني فكرة الالتصاق بهم والجلوس معهم في مقصورة واحدة لمتابعة بقية النص الجميل، وكنتُ شبه متأكد من أن جلوسي معهم كان سيكون مضمونا لأن كل القطارات القادمة من الدار البيضاء والرباط تفرغ قسما كبيرا من أحشائها في محطة القنيطرة المدينة، لأنَّ هذه المدينة أصبحت الملاذ الوحيد لكل من عجز عن العثور على سكن مناسب في الرباط أو سلا أو حتى في الدار البيضاء، جراء اقتتال كبار حيتان العقار الدائر حاليا في عاصمة الغرب إلى أن أصبحت الشقق الأنيقة الجميلة، المصممة بأحدث طراز معمار الحداثة، بل وحتى ما بعدها، تتطاير مثل الشظايا وتنزل على الراغبين في الاقتناء أو الكراء بأسعار يعد العثور على مثلها في العاصمتين الإدارية والاقتصادية من سابع المستحيلات…
«لكن مطاردة هذا الشيخ الفرنساوي وعشيقته المغربية الصغيرة وحارسهما الأسود ستقتضي مني أن أكون متلصصا»، قلتُ، وهو ما استكثرتُ أن أقع فيه واستعظمتُه، فتراجعتُ، وصعدتُ عربة أخرى حرصتُ على ألا تكون فيها مقصورات معاقبا نفسي على ذلك الخاطر الشيطاني؛ ففي هذا النوع من العربات تصطف الكراسي اثنين اثنين على جانبي ممر العربة، فلا يجد النص أي منفذ للدخول، اللهمَّ إذا أصر وألح وعاند كما جرى يوم ساقتني الصدفة إلى الجلوس أمام العجوز الفاسية التي استكثرتْ جلوسي بجوارها، لمجرد أني ذكرٌ. كأنها حسبتني جئتُ لأطبق قوله «وانكحوا ما طاب لكم من النساء»! نسيتْ – أو تناست – أنَّه قيَّد سكب بذور الحياة في أرحام النساء، إذ قال: «واختاروا لنطفكم!». من يشتت نطفه يمينا ويسارا، فليتوقع الإعصار الذي أتى على الأستاذ التطواني الذي كان لا يمنح طالباته أعلى العلامات إلا بمقابل التحليق معه في الماء، وأتى على أحد كبار مشايخ الدعاة عقب وقوعه في فخ فتاة في سن حفيدته!… صعدتُ وأنا أقول: ما لم يطلبكَ النصُّ فلا تتعب نفسك بملاحقته. أجمل النصوص هو من يأتي إليك وليس من تذهب إليه، يلاحقكَ ويُطاردك لا تستجديه أو تلهث وراءه، يطلبك ولا تطلبه…
لكن ذلك لم يمنعني من تخمين سر العلاقة بين الصبية والعجوز. قلتُ: واحدة من اثنين:
إما أن الشابة وقعت ضحية حادثة سير جراء تهورها في قيادة مراهقتها، فساقها الأمر، كالعديدات أمثالها، إلى نشر إعلان بأحد مواقع التعارف في شبكة الأنترنت، كتبت فيه ما يشبه:
«أنا شابة جميلة، عمري كذا، أرغبُ في الزواج من رجل أوروبي، يتراوح عمره بن 30 و90 عاما، أعده بأن أمنحه كل السعادة التي يطلبها».
فوقع العجوز على الإعلان، وشد حقائبه مهرولا إلى بيت الفتاة ممثلا دور العريس المنتظر؛
أو أنَّ العجوز مصور أفلام إباحية تنكر في هيئة عريس أو رب شغل يبحث فتاة لتعمل معه، أو ما شبه ذلك، ثم قصد الفتاة واستدرجها إلى مراكش ليجري معها سلسلة حوارات جسدية، ثم يطلق ساقيه للريح صوب أسواق النخاسة العجمية ليتاجر فيها بما غنمه من أشرطة.

*
*      *

في رحلة الإياب، وجدتُني في مقصورة رفقة سيدة في حوالي الثلاثين من عمرها يُصاحبها رجل بدين، انضمت إلينا امرأة مسنة بدينة جدا، بحيثُ كاد وزن جسدها أن يبلغ ضعف مرافق بنت الثلاثين. بعيد انطلاق القطار، اتضح أن السيدة الصغيرة كانت أستاذة قادمة من طنجة، في حين كان مرافقها عراقيا كرديا، كما اتضح أن العجوز قد صعدت من محطة صُعودي نفسها، وهي القنيطرة، وأنها كانت متجهة نحو الدار البيضاء لزيارة أقارب لها.. نزلت الأستاذة والكردي، بعد وقت وجيز، في أول محطة توقف فيها القطار، فما كان هناك متسع من الوقت لتجاذب أكثر مما تحدثنا فيه نحن الأربعة، ولم يتعد التشكي من المرض وكثرة الحرارة وقلة حياء شباب اليوم، وما إلى ذلك.
كان ملفتا للانتباه أن العجوز السبعينية المتكَوِّمة داخل جلبابها مثل ناقة عظيمة، قد صعدت إلى القطار مدججة بحقائب: واحدة مجرورة باليد وعجلتين، وثلاث «حقائب» كبيرة تُحمل من اليدين، ما أثار شفقتنا أنا والكردي على المسافرة النازحة، فتآزرنا على وضع حقيبة هنا، وثانية هناك، وتعليق الثالثة في الأعلى، وما إلى ذلك. شكرتنا العجوز، وبررت حملها الثقيل بأن قالت:
– أنا ذاهبة لأصِلَ الرحم، وما أدراكم ما صلة الرحم! أخطأ من ظن أنها سهلة (علاه غير أجي ودير صلة الرحم؟!
كانت وجهتها الدار البيضاء. أشفقتُ على الذين خرجت تلك المرأة البدينة لشن غزوتها عليهم، والذين لن يكونوا سوى ابنها أو بنتها المتزوجين هناك، وأبناءهما. فخلافا لما زعمتْ، أيقنتُ أنَّ رحلتها إليهم ستكون زيارة صُداع للرأس وقضاء شهرين أو ثلاثة في تنغيص حياة آمنين وترويعهم بسيل من الملاحظات والمؤاخذات والأوامر والنواهي. أما عندما احتملتُ أن تؤدي رحلتها إلى نشوب حرب عائلية كبرى فتتحول إلى نوع الزيارات التي تفضي إلى ارتكاب جرائم، كتلك التي أفضت بضابط شرطة القنيطرة إلى قتل حماته وزوجته، وآلت بضابط شرطة القصر الكبير مؤخرا إلى ذبح حماته، وبنادل مقهى سيدي بابا بمكناس إلى ذبح حماته وأخوات زوجتيه، وأفضت بآخرين كثر إلى ارتكاب أبشع الجرائم بحق أمهات زوجاتهم العجوزات، مما تتناقله أخبار الصحف والمواقع الإلكترونية، جراء سعيهن للتسلط والتحكم في أبنائهن وزوجاتهم، وبناتهن وأزواجهم، بل وحتى في أحفادهن وحفيداتهنَّ… عندما احتملتُ ذلك، عُذتُ بالله من الشيطان ومن هذا النوع من النساء ولذتُ بالنوم، فلم أصح منه إلا وصوت العجوز يناديني:
– قم يا سيدي، قم يا سيدي، ها قد وصل القطار إلى القنيطرة!!!
قمتُ ونزلتُ وأنا أشكر نومي الذي كان ألذ من كل ما كنتُ سأسمعه من العجوز على امتداد الرحلة…

الاخبار العاجلة