أشباه قصص – «العْصير» و«التخنزير»

1٬116 views مشاهدة
minou
أشباه قصصسردمؤلفــــات
أشباه قصص – «العْصير» و«التخنزير»

خرجتُ صباح اليوم إلى مقهاي بالحي الشعبي، وجلستُ في مائدة عن يمينها مائدة أخرى أحاطت بها جماعة من أنصاف البدو وأنصاف الحَضَر. ومع أنهم يرتدون قبعات وسراويل الدجين أقمصة أوروبية كان حديثهم لا يدور سوى حول الأبقار والأغنام والزرع والخضر والأعراس والمحاكم، وما إلى ذلك. انصرفت جماعة أخرى كانت جالسة في المائدة التي كانت ورائي، تقع في أقصى ركن بالمقهى، بحيث إذا جلستَ فيها صار كل الجالسين في المقهى يقعون عن يمينك وأمامك، في حين يقع الشارع عن جانبك الأيسر، وأهم من هذا وذاك أنك إذا اخترتها اجتنبتَ دخان السجائر الذي يعج به المكان. فرحتُ لأن تلك المائدة قد فرغت من جلاسها (كانوا حوالي أربعة أشخاص) الذين قاموا وغادروا المقهى، قمتُ، مسحتُ بعيني الكؤوس التي كانت فوق المائدة للتحقق مما إذا كانت هذه قد تحررت فعلا، فإذا بالأكواب كلها فارغة، قررتُ الجلوس، وضعتُ حقيبتي اليدوية في كرسي، ثم شرعتُ في نقل الكؤوس إلى «مائدتي «القديمة» لاستبدالها ببراد شاي وكأسي، وها هو أحد من غادروا المائدة قبل قليل يعود:
– باقا «الدكيكة» ديالي هنا، قال، ثم أشار إلى كأس قهوة لم تجاوز ما بقي فيه بضع ميللترات!
قلتُ:
– تفضل!
ثم عدتُ إلى مائدتي، متوقعا أن يخلي صاحبنا المائدة بعد مرور بضع دقائق لا غير، لكن ما وقع هو أنَّ جلوسه امتد إلى نصف ساعة، أي إلى ثلاثين دقيقة بالتمام، دخن خلالها سيجارتين أو ثلاثا، وبين الفينة والأخرى، كان يصل صوت «طاق» الناتج عن وضعه الكأس بيده فوق المائدة بعد أن يرشف من الكوب جرعة. استغربتُ أن تكون بضع الميللترات التي كانت في الكأس كافية لكل تلك الرشفات والدقات على المائدة، وأنا أتساءلُ: «هل يشربُ تلك «الجغيمة» ( = الشفطة) في الكأس فعلا أم أنه يتظاهر بشرب القهوة في حين يشرب الهواء؟!»
خمنتُ أن يكون ليس هو من أدى ثمن فنجان قهوته، بل أحد جلسائه قبل قليل، وأنَّه ربما كان فقيرا، وأنَّ الجلوس في المقهى يعد عنده ضربا من المعجزات، لذلك ربما استغفل جلساءه، رافقهم إلى أن تحقق من ابتعادهم عن المقهى، ثم تسلل وعاد خفية لينعم بالجلوس لمزيد من الوقت…
راودتني فكرة أن أنادي النادلة، وأهدي لصاحبنا كأس قهوة، تراجعتُ لأني خشيتُ أن يقوم ويلوي على ياقتي، ويوسعني لوما وشتما، وهو يصرخ في وجهي:
– لماذا أهديتني قهوة؟! هل حسبتني شحاذا؟ لماذا تحتقرون الناس؟! اعلم أني قادر على تسديد ما يتناوله كل رواد هذا المقهى، من الصباح حتى المساء!»…
استفدتُ في تراجعي ذاك من حكاية مماثلة مع خضار تستحق نصا كاملا. استقبل الخضارُ عرض سخائي وإشفاقي عليه بأن زعم أنَّه يستطيعُ شراء كل ما كان في السوق (حوالي عشرين شاحنة كبيرة جدا)، فيما كان ما يبيعه لا يتجاوز صندوق بصل أو طماطم!
أخيرا، غادر صاحبنا المائدة. كانت الكأس فارغة تماما، انتظرتُ أن يتلاشى من المكان، فإذا به يقف قبالة المائدة ببضعة أمتار، ويستوقف أحدهم، ويستغرق في تجاذب أطراف حديث معه دام حوالي ربع ساعة! كان واقفا وهو يمسح المائدة بعينيه بين الفينة والأخرى، مشيرا بذلك إلى أن المائدة كانت لازالت «ملكا له» وأنه ليس من حقي ولا من حق زبون آخر الجلوس فيها. وبالفعل، لم يكن من حقي، شخصيا، أن أجلس فيها مادامت نظرات صاحبنا كانت لا زالت مُسَمّرة، وهو الذي كان قد منعني قبل ذلك بقليل من أن أجلس فيها؛ فهو لم ينصرف من المقهى بعد، ثم إنه لازال يملك فيها «دكيكة» قابعة في أحد كؤوس تلك المائدة…، فتركتُها مِلكية حصرية له إلى أن تأكدتُ من انصرافه تماما، وآنذاك، آنذاك فقط، جلستُ فيها، وطلبتُ براد شاي جديد…

الاخبار العاجلة