محمد أسليم: الأدب الرّقمي العربي لم يحقّق تراكماً / حوار: نجيب مبارك

1٬167 views مشاهدة
minou
حواراتفي الرقمية
محمد أسليم: الأدب الرّقمي العربي لم يحقّق تراكماً / حوار: نجيب مبارك

نجيب مبارك 2 أكتوبر 2017

الدكتور محمد أسليم من الباحثين العرب البارزين والسبّاقين إلى الاهتمام بالثقافة الرقمية والأدب الرقمي والعالم السيبراني، وكلّ ما يتعلّق بالتحوّلات والتطورات المتسارعة التي تعرفها هذه المجالات. وهذا جزء فقط من اهتماماته المتعدّدة، إذ تنقّل بين حقول كثيرة تمتدّ من الكتابات السردية إلى السوسيولوجيا، ومن الدراسات النقدية والفكرية إلى الترجمة، كما عرف عنه ولعُه بالبحث في ميادين شديدة الخصوصية كالسحر والجنون والموت وغيرها. وله إصدارات عديدة، نذكر منها: «حديث الجثة»، «كتاب الفقدان»، «سفر المأثورات»، «بالعنف تتجدّد دماء الحب»، «ذاكرة الأدب»، «الإسلام والسحر»، «هوامش في السحر»… ومن  ترجماته: «الفرنكوفونية والتعريب»، «اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي»، «اللغة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي»، «وداعاً جتنبرغ»، «الحداثة والتربية» وغيرها. وهو يواظب منذ سنوات على الحضور في مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال تدويناته وآرائه الهادفة إلى تبسيط ونشر كلّ ما له صلة بالثورة الرقمية التي نعيشها اليوم، وانعكاساتها العميقة على فكرنا وثقافتنا وحياتنا اليومية بشكل عام. وبمناسبة صدور كتابه الأخير “الأدب الرقمي”، كان لنا معه هذا الحوار:

* أنتم من المتخصّصين العرب الأوائل والقلائل في مجال “الثقافة الرقمية” و”الأدب الرقمي” و”الفضاء السيبراني”، هل يمكنكم تقريب القارئ العربي من معاني هذه المصطلحات وما بينها من نقاط اتصال واختلاف؟

تحت اصطلاح «الثقافة الرقمية» تندرج كل أشكال استعمال الأجهزة الرقمية، في سائر مناحي الحياة الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والفكرية والإبداعية، وما إلى ذلك، بما فيها معرفة استخدام تلك الأجهزة. بدأ تشكّل هذه الثقافة منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما ظهر الحاسوب الشخصي، وامتدّ نطاق استخدام الكمبيوتر من الحساب إلى المجال الرمزي، وتواصل ذلك التشكّل مع ظهور شبكة الإنترنت في مستهل تسعينيات القرن الماضي عندما طاول استخدام الكمبيوتر العلاقات الاجتماعية. تتألّف الثقافة الرقمية من كلّ شاسع لا تمثّل فيه الثقافة بمفهومها الشائع سوى أحد مكونات سبعة لا تنفصل، وهي: التكنولوجيا، والثقافة، والمجتمع، والاقتصاد، والقانون، والجيوسياسة.

أمّا «الأدب الرقمي»، فهو لونٌ إبداعي لا يغادر الحاسوبَ كتابة وقراءة، وبذلك فهو يتميّز عن «الأدب المرقمن» الذي يمكن قراءة نصوصه على الحاسوب والورق دون أن يفقد النص أيّ خاصية من خصائصه. بدأت تجارب الأدب الرقمي الأولى في خمسينيات القرن الماضي، ومستهلّ ستينياته، بشكلٍ متزامن تقريباً في إنكلترا وألمانيا وفرنسا وكندا، ثمّ تطورت بتطور الأجهزة الرقمية والبرامج المعلوماتية. وهكذا، عندما كان الحاسوب لا يتوفّر على شاشة، اقتصرت الكتابات الأدبية الرقمية على التوليف والتنويع، حيثُ كان يبرمج الحاسب الآلي ليكتب نصوصاً مقروءة وتُنشرُ ورقياً. وعندما أصبحت للحاسوب شاشة للعرض في أواسط ثمانينيات القرن الماضي وصار ناطقاً، ظهر الشّعر المتحرك، والنصوص الهجينة التي تجمع بين اللّغة والصورة والصوت. كما ظهر في الفترة نفسها أوّل نص تشعّبي تخييلي في أميركا، وهو “قصّة الظّهيرة” لمايكل جويس. وعندما تمَّ إطلاق شبكة الإنترنت في العقد الموالي، ظهرت الكتابات الجماعية…. خلال تلك المسيرة، تشكّل تدريجياً، وعي بالآفاق الجديدة التي يفتحها الحاسوب أمام الكتابة الأدبية، فتمَّ التخلّي عن النّشر الورقي للنصوص التي تُبدع بالحاسوب لفائدة أعمال تُكتب وتقرأ حصراً فيه، فظهرت الأعمال المبرمجَة وتنازلَ المؤلّف عن بعض صلاحياته الإبداعية للآلة والقارئ معاً، لا سيما في الأعمال المولَّدة بالكمبيوتر والنصوص التي يتوقّف إنتاجها على تدخل القارئ، فلا يَقرأ القارئُ الواحدُ النص نفسه مرتين في قراءتين متتاليتين، ولا يتجلّى النص لقارئين بطريقة واحدة حتى وإن قرآه بكيفية متزامنة. وهنا حقّق هذا الأدب استقلاله.

في حين يتعلّق الأمر في اصطلاح «الفضاء السيبراني» بترجمة عربية للاصطلاح الإنكليزي cyberespace الذي يدمج كلمتي cybernétique (سيبرانية أو علم التحكّم الآلي)، وespace التي تعني فضاء، ويُشار به إلى مجموعة ضخمة من البيانات المرقمنة بكيفية تؤدي إلى تشكل عالم من المعلومات وفضاء للتواصل مرتبطين بتشابك حواسيب العالم. ظهر الاصطلاح للمرة الأولى في بداية ثمانينيات القرن الماضي على يد كاتب روايات الخيال العلمي ويليام جيبسون في روايته «النورومانسيان»، وعرّفه بـأنَّه «هلوسة توافقية يعيشها يومياً، وبشكل قانوني، عشرات ملايين المشغلين في سائر البلدان وأطفالٌ يُدَرَّسُونَ مفاهيم رياضية على هذا النحو… تمثيلٌ رسومي لبيانات مستخلصة من ذاكرة مجموع حواسيب العالم»، فتناول العديد من كتّاب روايات الخيال العلمي موضوعة الفضاء السيبراني بعد وليام جيبسون. بيد أنَّ هذا الاستعمال الأول للاصطلاح المرتبط بالمعلومة سرعان ما تحول إلى مرادف لشبكة الإنترنت بعد إطلاقها في مستهل تسعينيات القرن الماضي، وهو ما يزال قائماً إلى اليوم، حيث كثيراً ما تتقاطع اصطلاحات «إنترنت» و«فضاء سيبراني» و«ثقافة سيبرانية»، ويجري الخلط بينها، رغم الاختلاف الدقيق الموجود بينها. وقد يكون أفضل تعريف للفضاء السيبراني هو ذلك الذي ساقه الفيلسوف بيير ليفي في تقريره للمجلس الأوروبي بعنوان «الثقافة السيبرانية»، وكان كالتالي: «ليس الفضاء السيبراني بنية تحتية تقنية لاتصالات لاسلكية خاصّة، بل هو طريقة معيّنة لاستعمال البنيات التحتية الموجودة، مهما كانت متفاوتة وغير كاملة (…) كما أنه يستهدف، من خلال روابط مادية معينة، نوعاً خاصاً من العلاقات بين الناس». وباختصار، فالفضاء السيبراني هو المجال الافتراضي الذي تُمارَسُ فيه الثقافة السيبرانية والثقافة الرقمية والأدب الرقمي. أما الثقافة السيبرانية، فهي سائر الممارسات الثقافية التي يُستخدم فيها الحاسوب شريطة أن يكون متّصلاً بشبكة الإنترنت، في حين الثقافة الرقمية هي كلّ ما له صلة بتوظيف هذا الحاسوب، سواء أكان متصلاً بالشبكة أم لا. وإذا جاز تقريب هذه الاصطلاحات مما يجري في عالمنا المادي الواقعي، أمكن القول إن الفضاء السيبراني هو نظيرُ عالمنا الواقعي، والثقافة الرقمية هي ما يقابلُ الثقافة بمفهومها العام (الأنثروبولوجي)، والثقافة الشبكية هي ما يناظرُ الثقافة بمعناها الاصطلاحي، في حين الأدب الرقمي هو ما يُعادل ذلك النوع من الفنون الجميلة الذي يعبِّرُ باللغة.

رقمية عربية مستحدثة

* هل يمكن القول إن العرب انخرطوا نهائياً في المدّ الرقمي، وهل هناك تراكم عربي في مجال الأدب الرقمي، وهل توجد فعلاً ثقافة رقمية عربية مستقرّة ومنتشرة منذ بداية الألفية الحالية إلى اليوم؟

لم يدخل العربُ كلّياً إلى العصر الرقمي لأنّ الرقمية لم تلج بعد إلى كافة مناحي الحياة، وفي مقدمتها المدرسة باعتبارها أحد أعمدة التنشئة الاجتماعية الهامة، إذ لم يتم ربط المؤسسة التعليمية بشبكة الإنترنت، واعتماد الحوامل الرقمية والسبورة الذكية في العملية التعليمية التعلُّمية، كما لم يتم ترقية المدن الحالية إلى مدن ذكية، ولم يتم رقمنة كافة الإدارات بحيثُ تقدّم به خدماتها للمواطنين من منازلهم دون حاجة إلى تنقّلهم جسدياً إلى مقرّاتها. غير أنّ هذا الدخول آت لا ريب فيه، لأنّ على مدى دُخوله سوف يتوقّف بقاء الشعوب الحالية أو انحدارها إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، وربّما حتى انقراضها في العقود المقبلة. فمجتمعات اليوم تعيش فترة شبيهة بتلك التي نتجت عن الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية اللتين قادتا الغرب إلى احتلال مجموعة كبيرة من بلدان المعمور وإرغامها على دخول العصر الحديث الذي انطلق في القارة العجوز منذ القرن XVم، وذلك بإكراه المستعمَرات على إجراء تغييرات جذرية في بنياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعائلية. ومثل أمس، ستجد كل شعوب اليوم نفسها، بما فيها العربية، ملزمة طوعاً أو كرهاً على الالتحاق بعصر الشبكات والمعلومات في سياق هذا السحب الجاري للعالم الواقعي إلى نظيره الافتراضي، والمؤشّر على انطلاق بناء «حضارة كوكبية»، على حدّ تعبير البعض.

لم يحقّق الأدب العربي الرقمي تراكماً يستحقّ الذكر، إذ لم يظهر أوّل نص في هذا المجال إلّا في عام 2001، وبذلك فعمره لا يتجاوز حوالي عقد ونصف، في حين راكمَ نظيره الغربي أكثر من ستة عقود من التجارب الإبداعية والكتابات النقدية. ونظرا لأنَّ النصوص العربية المكتوبة في هذا الأدب تعدُّ على رؤوس الأصابع، فضلاً عن أنَّ نوعية التجارب التي ارتادتها تبقى محتشمة جداً، فلا يبدو ما يؤشّر إلى حصول هذا التراكم في المدى المنظور. فالمجالات التي تمَّ ارتيادها لا تتعدى أربعة أشكال:

– نصوص تشعّبية تخييلية لغوية صرفة، كما هو الحال في أوّل عمل أدبي إبداعي عربي رقمي، وهو «ظلال الواحد» لمحمد سناجلة، وقصيصات «حفنات جمر» لإسماعيل بوحياوي بإخراج لبيبة الخمار، و«احتمالات» محمد اشويكة، وأخرى تشعبية تخييلية هجينة أو متعدّدة الوسائط، كقصة «ربع مخيفة» لخالد أحمد توفيق، ونصوص محمد سناجلة اللاحقة، وهي «شات»، و«صقيع»، و«ظلال العاشق (التاريخ السري لكموش)»، و«تحفة النظارة في عجائب الإمارة»، ثمَّ قصيدة مشتاق عباس معن التشعبية والمتعددة الوسائط بعنوان «تباريح رقمية سيرة بعضها أزرق».

– نصوص شعرية أو نثرية متحركة ومتعددة الوسائط، كقصائد الشاعر المغربي منعم الأزرق التي واظب على كتابتها ونشرها منذ منتصف أعوام 2000، ونصوص «حذاء الحب»، و«فاكهة الحب»، و«رقصة الحروف»، و«غرف ومرايا»، و«هي والحمام» للبيبة الخمار، وكتابات أدباء آخرين بإخراج لبيبة نفسها، مثل «أن تكون الواحد» لمحمد سناجلة، و«حب واغتيال» لأحلام مستغانمي، و«حرفي» للشاعر أيوب مرعي أبو زور.

– روايات جماعية أهمّ ما ظهر منها لحد الآن، نُشرَ في مدوّنات، كرواية «على قد لحافك» بقلم ثلاثة كتاب مصريين، وفي موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، مثل رواية «حكاية تكملها أنت» لأحمد خالد توفيق، بمشاركة عدد من الكتاب، برزت منهم أربعة أسماء، ونص «شو القصة» لغسان حصباني، وعدّة مشاركين برزت منهم تسعة أسماء، ورواية «على بعد مليمتر واحد من الأرض» للروائي المغربي عبد الواحد استيتو، وكلها أعمال لقيت طريقها إلى النشر الورقي، مع استئثار المؤلفين المصري والمغربي بتوقيع روايتيهما باسميهما دون أسماء الكتاب الذين شاركوهما في الكتابة، وإثبات توقيع المؤلفين اللبنانيين التسعة في عمل «شو القصة؟».

– نصوص شذرية: يعود إنتاج هذا اللون الإبداعي إلى مرحلة المشافهة، وعرفته كل الثقافات، بما فيها العربية القديمة، ولكنّه توارى مع ظهور الكتابة، ثم عاد بقوة مع الرومانسيين الأوروبيين الذين طالبوا بالاعتراف به بوصفه جنساً أدبياً مستقلّاً. ومع الرقمية فرض هذا الشكل الفني نفسه بقوة سواء بتخلّله النصوص الأدبية الرقمية بمعناها الدقيق، إذ ليست النصوص التشعبية التخييلية في نهاية المطاف سوى مجرّة من النصوص الشذرية الموصولة ببعضها البعض بروابط، أو بإنتاجه وتداوله خالصاً من خلال إبداع كل شذرة ونشرها مستقلة باعتبارها نصاً مكتملاً، وهذا شائع نشره في موقع تويتر من لدن كتاب وشعراء سعوديين. ومع أنَّ هذه الأعمال لا تندرج في الأدب الرقمي بالمعنى الدقيق للكلمة، فمجرد كونها تظلُّ حاملة، بعد نشرها ورقياً، آثارَ قيود البرمجة التي تفرضها مواقع نشرها وسياق نشرها وفضاء تلقّيها، يجعلُها نصوصاً على درجة من التهجين، شأنها في ذلك شأن الكتابات الجماعية. فموقع تويتر، على سبيل المثال، لا يسمح بنشر أكثر من 140 كلمة في التغريدة الواحدة…

وبتقييم الأعمال السابقة، يتّضح أنها ليست متطوّرة جدّاً مقارنة بالتجارب الإبداعية الرقمية الغربية. فالنصوص التشعبية التخييلية العربية لا تشكّل متاهة حقيقية كما هو الحال، على سبيل المثال، في أوّل نص تشعبي غربي، وهو “قصة الظهيرة” لمايكل جويس المتألفة من 538 صفحة – شاشة تربط بينها 950 وصلة، وفي نص «حديقة النصر» لستيورت ميلثروب الذي يتألف من 993 شاشة – صفحة و2804 وصلة! ثم إنَّ النصوص الشعرية العربية المتحرّكة الهجينة تخلو من البرمجة الزمانية والمكانية، وتتضمّن صوراً وأصواتاً موسيقية جاهزة من تأليف الغير، ما يطرح سؤال ما إذا كانت هذه النصوص شواهد على الصور والأصوات المرافقة لها أم إيضاحات لغوية لها. كما تقتصر الكتابات الأدبية الرقمية العربية على ما سبق دون ارتياد تجارب التوليف، أو النصوص التشعبية التي تنتج روابطها آليا، أو النصوص الأدبية المولَّدة بالحاسوب، أو النصوص الجماعية الخالية من توقيع كتَّابها، كما في رواية الويكي، ورواية الألف يد وما شابههما في الأدب الرقمي الغربي. علماً أنَّ التنويع والتوليف شكّلا أولى تجارب الأدب الرقمي الغربي مع جماعة الأوليبو في مستهل ستينيات القرن الماضي، وأشهر ثمراتهما قصيدة الشاعر ريمون كينو «مائة ألف مليار قصيدة شعر». وباستثناء عدد قليل جداً من قصائد منعم الأزرق، فكل الأعمال العربية تندرج ضمن قصة الفيديو وشعره مع أنَّ النقاد الغربيين يتحفّظون في إدراجهما ضمن الأدب الرقمي، اعتباراً من أن أدب الفيديو كان أحد روافد أدبهم الرقمي لا غير ومن استحالة قراءة النص الأدبي الرقمي خارج الحاسوب، بخلاف شريط الفيديو الذي يمكن قراءته في أيّ قارئ لهذا النوع من الأفلام، هذا من جهة. من جهة أخرى، يؤدّي غياب البرمجة إلى حرمان القارئ من التفاعل مع النصوص، ووضعه في موقع المتلقي السلبي الذي يكتفي بمشاهدة ما يُعرضُ أمامه دون أن يُمنحَ أيّ إمكانية للتدخّل في هذا العرض وإنتاج النص.

أمّا عن سؤال هل توجد فعلاً ثقافة رقمية عربية مستقرّة ومنتشرة منذ بداية الألفية إلى اليوم، فتصعب المجازفة بجواب ثابت إذا استحضرنا تعريف «الثقافة الرقمية» الوارد في مستهل هذا الحوار. وإذا جاز اختزال هذا المفهوم في ما يُقصد عادة باصطلاحي “الثقافة العربية” و”المثقفون العرب” مع إضافة أبرز مستجدات الرقمية، وهي شبكة الإنترنت وأشكال الحضور فيها، فكل شيء يحمل على الظن بأن الجواب هو «لا»، اعتباراً للتطوّر الذي تعرفه صناعة الأجهزة الرقمية والبرمجيات الرقمية، ولحركية مرتادي شبكة الإنترنت. فقد خرجت دراسة أجريَتْ في أواسط أعوام 2000 بخمس خلاصات، هي: أوَّلا: الدخول العربي الثقافي إلى الفضاء الشبكي كان دخولاً تقليدياً أساساً نظراً لضخامة المعالم التراثية الدينية التي شُرعَ في تشييدها منذ وقت مبكر، عبرَ رقمنة كلّ ما أمكن رقمنته من الكتب العربية الإسلامية القديمة، ووضعه على الخط؛ ثانياً: حدوث شرخ في صف المثقفين العرب الحداثيين، إذ انقسموا إلى رقميين وورقيين؛ ثالثاً: ضمن المثقفين الحداثيين الورقيين من تمسّك بالورق وامتنع عن استخدام الحاسوب في مجرد الكتابة، فأصبحَ أشدّ أصولية من الأصوليات الدينية، وساهم في دعم التقليد بواجهة إعادة إنتاج جديدة، ما أفضى إلى وُجود تقليد مُضاعف: سلفي – أصولي وحداثي – عصري؛ رابعاً: هُزال المحتوى الثقافي العربي في شبكة الإنترنت، على مستوى مواقع المثقفين وعلى صعيد بناء مشهد ثقافي عربي عام في الشبكة؛ خامساً: عدم ولوج الأدباء العرب أشكال الكتابة الأدبية الرقمية، لا سيما الأدب الموّلد بالحاسوب، فضلاً عن العزوف عن توظيف الوسائط المتعددة في نشر الكتابات الأدبية والثقافية.

أما حالياً، فقد تسارع تطور التكنولوجيا الرقمية، لا سيما بعد ظهور الويب 2.0 وشبكة الويفي والهاتف الذكي، فالتحق الجميع تقريباً بالفضاء الأزرق، واختفى التقابل السابق (مثقفون ورقيون/ مثقفون رقميون)، كما ظهر فاعلون جدد في الحقل الثقافي بسبب ما يُسميه البعض بقوانين الثقافة السيبرانية الثلاثة، وهي تحرير البثّ، ومبدأ التواجد في الشبكة، ثمّ إعادة تشكيل الحقل الثقافي من خلال انتشار ثقافة الريمكس، والفن الإلكتروني، والبودكاست، والمدونات، وشبكات تبادل الملفات من جهاز إلى آخر، والبرامج المعلوماتية المفتوحة المصدر. وحيث إنَّ كل هذه الأشكال الثقافية جديدة تماماً، ناتجة عن تطوّر العتاد المعلوماتي وشبكة الإنترنت، ومحتملة التطوّر، فمن السابق لأوانه القول بوجود ثقافة رقمية عربية مستقرة.

* هل ثمّة فروقات بين “الأدب التقليدي” و”الأدب الرقمي”، في الشكل والمضمون، وهل يكفي أن يكون الحامل أو الوسيط رقمياً لنعت إنتاج ما بأنه ينتمي للأدب الرقمي؟

إذا كان لا بدّ من التمييز بين شكل النص الأدبي ومضمونه، فأوّل ما يفرق بين الأدبين التقليدي والرقمي هو اعتماد الأول على اللغة حصراً، إذ بها تحدّد هويته، فيُعرف بأنه “فن من الفنون الجميلة أداته اللغة”. بخلاف ذلك، لا تشكّل اللغة سوى مكون للنص الأدبي الرقمي ضمن مكونات أخرى غير لغوية، كالصورة والصوت، بل قد تغيب الكلماتُ تماماً في بعض النصوص. بذلك، مقابل صفاء النص القديم، يدخل التّهجين في صلب الأدب الجديد. وقد ترتّب عن ذلك أمران: الأوّل: تحوُّل النص الأدبي إلى كائن سيميولوجي بالمعنى الذي يعطيه سوسير لهذا الاصطلاح، ما جعل الأدوات المعتادة في مقاربة النص الأدبي وتحليله قاصرة، بل وأحياناً عاجزة كليّاً عن مقاربته؛ الثاني: استحالة نقل النص الأدبي الرقمي من جهازه المعلوماتي إلى الورق دون أن يفقد بعض خصائصه، فلا يمكن، مثلاً، نقل الصوت والكلمة المتحرّكة إلى الورق. ومعنى ذلك أنَّ الأدب الرقمي يكتب ويقرأ حصراً في الحاسوب، فلا يغادره أبداً. وإذا غادره دون أن يفقد أي خاصية من خصائصه، فهو يُسمّى آنذاك “أدبا مُرقمنا” وليس رقمياً، بالتالي لا يكفي كتابة النص الأدبي بوسيط رقمي ليكتسب صفة الرقمية.

نص بلا مسودة

* ما هي أبرز أجناس ومدارس الأدب الرقمي عالمياً، وهل فعلاً هناك فرق في اصطلاحات التسمية بين الأدب الرقمي الفرنكفوني والأدب الرقمي الأنكلوساكسوني، وغيرهما؟

في غياب تراكم كبير من النصوص الأدبية الرقمية، ومسافة زمنية طويلة بهذا القدر أو ذاك، واستقرار تطوّر العتاد المعلوماتي، فالنماذج العليا للكتابة الأدبية الرقمية لم تتشكّل بعدُ، وبالتالي يصعب الحديث عن أجناس أدبية رقمية، لأنَّ النوع الأدبي لا يتشكل بين عشية وضحاها؛ على سبيل المثال، استغرق اكتمال ظهور جنس الرواية زُهاء قرنين من كتابة النصوص الروائية والجدل والسجال الأدبيين قبل أن تتّضح الملامح النهائية للنوع الجديد التي يستطيع القارئ من خلاله أن يميّز النص الروائي عن غيره بمجرد الاستغراق في قراءته، ودونَ أن يكون ناقداً بالضرورة. في عام 2001، قام الناقد والمبدع الرقمي الفرنسي جان بيير بالب بجرد للأشكال التعبيرية الرقمية، في ثنايا دراسته “نص بلا مسوَّدة ومخطوط غائب”، لكن بعض تلك الأشكال انقرض في وقت وجيز بفعل تطوّر التكنولوجيا الرقمية، كرواية البريد الإلكتروني والتبادل الشعري، في حين ظهرت أشكال جديدة، كروايات الويكي وتويتر والهاتف الذكي والألف يد، وغيرها. لكن إزاء تعذّر الحديث عن أجناس للأدب الرقمي، يمكن في المقابل الحديث عن اتجاهات رئيسية، ظهرت منها لحدّ الآن خمسة، هي: السرد التشعّبي التخييلي، والشعر المتحرك، والأدب المولّد بالحاسوب، وأدب الومضة، والكتابة الجماعية، ثم المسرح الرقمي.

في غياب دراسات مسحية للكتابات الأدبية التي توظّف المعلوماتية، وعدم تكريس الأدب الرقمي نفسه على نطاق واسع، حيث لا زال يُعتبر أدباً تجريبياً، وفي غياب استقرار العتاد المعلوماتي، يصعب الحديث عن وجود مدارس إن لم يكن من السابق لأوانه. علما أنَّ أحدهم قام بتجميع عناوين كبريات البوابات العالمية للوصول إلى نصوص هذا الأدب في دراسة قيمة نشرها بالإسبانية في موقع الإنسانيات الرقمية بعنوان «أين يوجد الأدب الرقمي؟».

بخصوص التسميات، الفرق الوحيد المرصود بين الأميركيين والأوروبيين هو توسيع الأوائل نطاق مفهوم النص التشعبي، حيث يطلقونه على الأعمال الرقمية التشعبية وغير التشعبية، في حين ينتشر في أوروبا استخدام اصطلاحي «الأدب الديجتالي» و«الأدب الرقمي» للإشارة إلى الكتابات الأدبية التي لا تغادر الحاسوب كتابة وقراءة. ثمَّ تتنوّع الاصطلاحات حسب ما تُركِّز عليه، فيُقال، على سبيل المثال، «الأدب التفاعلي» لإبراز الخاصية النوعية لقراءة النصوص الجديدة، ويقال «الأدب الإلكتروني» للتشديد على الطبيعة التكنولوجية للوسيط، و«الأدب المعلوماتي» للتركيز على خصوصية الوسيط، و«الأدب السيبراني» للتركيز على النصوص المقروءة في الشبكة، وما إلى ذلك.

الخروج من النسق الميكانيكي

* كيف تنظرون إلى الطّفرة الرقمية والاهتمام المتزايد بوسائل التواصل الاجتماعي في مجال نشر الإنتاج الأدبي العربي، وما هو تقييمكم لأدائها وتأثيرها على عمليات الإبداع والتلقي على السواء؟

تحدث الطفرة عادة في مجال مَّا عندما ينطلق العمل من نقطة معينة، ثمَّ يسير إلى الأمام في خطّ متصاعد تدريجياً، ولكن في وقت مَّا يتسارع هذا السير في اتجاه عمودي لمدة معينة، ثم يعود ليأخذ منحى أفقياً ويستعيد سيره البطيء. لا تخرج الرقمية عن هذه القاعدة. نحن نعيش اليوم حركتها العمودية. فعلى سبيل المثال، عندما بدأ انتشار استعمال الهاتف المحمول، في مستهل الألفية الحالية، لم يخطر ببال أحد آنذاك أنَّ يصبحَ هذا الجهاز في غضون حوالي عقد من الزمن بالذكاء الذي هو عليه اليوم؛ أن يتّصل بشبكة الإنترنت، ويجهز بكاميرا، فيصير بإمكان أيّ كان أن يرقمن به ما يجري حوله في أيّ نقطة من العالم ويبثّه لسكّان المعمورة في وقت وجيز، مُسجَّلاً أو حيّاً. قد يبدو هذا مذهلاً، ولكن باستحضار قانون تطوّر الحواسيب الذي صاغه ماكس مور، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، وتذكر أنّنا بصدد الخروج من «النسق الميكانيكي» إلى «النسق الرقمي» الذي تجري في ظلّه الثورة الرقمية حالياً، ندرك أنّ التطورات الرقمية المتسارعة الحالية، متمثّلة في تقادم أجيال الأجهزة الرقمية وتجاوزها في وقت وجيز، ليست سوى ممهّدات للطفرة الكبرى القادمة التي يُطلَقُ عليها اسمُ «التفرّدية»، والتي قد تحدث في نهاية ثلاثينيات القرن الحالي أو منتصف أربعينياته، وفيها سَيصبحُ ذكاء الأجهزة الرقمية ندّاً لذكاء الإنسان، فتواصل الآلة تطوّرها تاركة الإنسان وراءها، ما قد يفرض عليه مغادرة الشرط البيولوجي لمواكبتها… ثمَّ بإلقاء نظرة على مسيرة النوع البشري الطويلة، يبدو أنّنا نوجد اليوم في عتبة تحوّل من النوع الذي لا يحدث سوى مرّة كل عشرات آلاف السنين أو أكثر، كاكتشاف النار، والزراعة وتربية المواشي، والكتابة والأبجدية، وما إلى ذلك. وباختصار، فقد ارتقى النوع البشري درجات في سلّم التطور عندما اكتشف اللّغة والتفكير الرمزي والكتابة، وها هو اليوم في ظلّ الثورة الرقمية وتأسيس العالم الافتراضي يتهيّأ لولوج محطة أخرى من محطات مسيرة ارتقائه الطويلة.

أمّا تزايد استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الكتابات الأدبية العربية، فيُفسَّر بمجانية كلفة النشر في هذه الفضاءات وغياب مصافي النشر التقليدية التي تحرم – عدلاً أو ظلماً – عدداً كبيراً من الأقلام من الوصول إلى القراء. ورغم التلوّث الذي يَشوب معظم منشورات هذه المواقع حالياً، لأنّ النشر صار في متناول من هبَّ ودبَّ، فالظّاهرة إيجابية عموماً لأنَّها أتاحت لمجموعة من الأسماء أن تفرض وجودها وتستقطب أعداداً كبيرة من القراء، وتنشر كتاباتها ورقياً، ما سيترك بصمته في الأدب التقليدي نفسه، متمثّلاً في بقايا آثار الفضاء الافتراضي لغة وأسلوباً ومضموناً وجمالاً.. كما أتاحت الظاهرة نفسها للجمهور الواسع التواصل مباشرة مع الكتَّاب، ومكّنت هؤلاء من أخذ فكرة عن تلقّي كتاباتهم من لدن القراء العاديين، وهو ما لم يكن متاحاً من قبل.

قواسم مشتركة بين ثقافات

* لننتقل إلى إصداركم الأخير، وهو بعنوان “الأدب الرقمي”، ويشتمل على ترجمة لدراسات فرنسية متخصّصة حول الأدب الرقمي، هل يمكن اعتبار نقل المفاهيم والتأطير النظري والتجنيس والمقاربات، وما إلى ذلك، كافياً لتحفيز الباحثين في الأدب الرقمي العربي على إبداع نقدٍ رقمي عربي وتطويره؟

من الصعب جدّاً الحديث عن نقد رقمي فرنسي وآخر إنكليزي وثالث إسباني، وما إلى ذلك، بسبب وجود قاسم مشترك جوهري بين الكتابات الرقمية في سائر هذه اللغات، وهو الحاسوب والبرامج المعلوماتية ولغات البرمجة التي يكتب بها النص الأدبي الرقمي. يستهدف الكتاب ثلاث فئات: الجمهور الواسع، والمبدعين الرقميين الفعليين والاحتماليين، وأخيراً النقاد.

الجمهور الواسع لأنَّ ما يُكتبُ اليوم عربياً حول الأدب الرقمي يفوق بكثير ما يُبدَعُ، ويكتب من مواقع متعدّدة بخلفيات متباينة، ما يحدث بلبلة ولبساً وغموضاً في ذهن عموم القراء. وقد سعت هذه الترجمة المتواضعة إلى المساهمة في إزالة هذا الغموض، عبر انتقاء منتخبات قليلة جداً من سيل كتابات أهل الاختصاص الفرنسيين. فعدا استثناءات قليلة جدا، تنقسم الكتابات العربية إلى ثلاثة أقسام: فيها ما ينبهر بهذا الأدب ويصفّق له، وفيها ما يستهجنه ويرفضه جملة وتفصيلاً، وفيها من يُقاربه بأدوات تحليل الأدب التقليدي. فعلى سبيل المثال، عندما ظهر نص «شات» لمحمد سناجلة في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، تجرّأ أحدهم، تحت فورة الانبهار، بأن وصف ذلك النص بأنه الأوّل من نوعه على الصعيد العالمي، وكأنّ لا أحد ولج هذا الباب من قبل! وعندما أصدر مشتاق عباس معن قصيدته «تباريح رقمية سيرة بعضها أزرق». مضى أحدهم، بفعل الانبهار، إلى حدّ كتابة أنه لا يجب استغراب أن يصدر مثل هذا العمل من صاحبه، فهو سليل عدنان! مشيراً بذلك إلى أسطورة ابتكار عدنان للسان العربي، وأسطورة نظم عدنان نفسه لأول قصيدة عربية بعد أن كانت عبارة عن خواطر انتابت النبي آدم!…

أما استهداف الكتَّاب الرقميين العرب الفعليين والاحتماليين، فتمَّ السعي إليه عبر إيراد نماذج من تعريفات الأدب الرقمي الدقيقة، وتاريخه، وأهم واجهات تجاربه، وخلفياته الإبداعية والنقدية والوثائقية، وما إلى ذلك، ما سيقتضي مساءلة روافد النصوص الإبداعية الرقمية العربية وربما أيضاً إعادة زيارة بعض المدارس الأدبية العربية، كالرومانسية والسوريالية والشعر الكاليغرافي، وغيرها. ففي حين يؤكد نقاد الغرب وجود قرابة بين هذه الاتجاهات والحركات الأدبية والفنية الطليعية للقرن العشرين وبين الأدب الرقمي الغربي، تغيب مثل هذه العلاقة في السياق العربي، ما قد يستدعي مساءلة هذه المدارس والأدب الرقمي العربيين في آن واحد.

أخيرا، قد تنبّه تلك الدراسات المترجَمة المهتمّين بالأدب الرقمي العرب ودارسيه الذين لا يقرأون بلغات أجنبية إلى أنَّ الأدب الرقمي يطرح العديد من الأسئلة والمعضلات غير المعهودة في الأدب التقليدي، ما يقتضي إعادة النظر في أدوات تحليل النص الأدبي ومناهجه والتفكير في مستقبل الأدب جراء لقائه بالتكنولوجيا. ففيما عدا استثناءات تعدُّ على رؤوس الأصابع، كلّ نقاد الأدب الرقمي العربي ينحدرون من الورق، ويحلّلون النصوص الرقمية وينظرون لها بمنظور الاستمرارية، معتبرين الإبداعات الجديدة امتداداً للقديمة، إما بتصنيف الأدب إلى حقب ثلاثة، هي الشفهية، والكتابة والرقمية، و/أو بالقول إن الأجناس الأدبية لا تموت، بل تواصل حياتها داخل الأشكال الأدبية الجديدة، والحال أنّ الأمر أعمق من ذلك بكثير، إذ يتعلّق الأمر بانصهار اللّغة في التكنولوجيا على نحو لم يعد ممكناً معه تحليل المكوّن اللغوي للنص دون مكونه المعلوماتي، كما يتعلّق باحتمال تلاشي الأدب في التكنولوجيا، وبالتشكيك في عبقرية المؤلّف ونبوغه، وفي جدوى الاحتفاظ بالآثار الأدبية في مكتبات على نحو ما نقوم به منذ نشأة الكتابة، وما إلى ذلك…

* كيف ترون مستقبل الأدب الرقمي العربي، وهل اللّغة العربية قادرة على استيعاب ومواكبة التطوّرات الهائلة والمتسارعة في مجال التكنولوجيا الرقمية والوسائط المتعدّدة؟

كما سبقت الإشارة أعلاه، نحن نعيش اليومَ فترة انتقال من الحامل الورقي الذي هيمن طيلة القرون الخمسة الماضية، عقب اختراع المطبعة في منتصف القرن XVم، أو مما يسميه البعض بـ «عصر جتنبرغ»، إلى عصر جديد، هو العصر الرقمي، وحامل جديد، هو الجهاز الرقمي الحالي بكافة أنواعه (حاسوب، لوح رقمي، هاتف ذكي، قارئة إلكترونية، وما قد يظهر لاحقاً). وفي ظلّ هذا التحوّل الكبير الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الكتابة إلّا في القرن الثاني ق.م.، عندما اكتُشفَ الدّفتر الذي أطاح بورق البردي لاحقاً، من الصعب توقع مستقبل الأدب الرقمي ليس في العالم العربي فحسب، بل وكذلك في سائر الثقافات. فعلى سبيل المثال، في عام 2006، قدَّر أحد كبار العارفين بالأدب الرقمي الفرنسي، وهو جاك دانغي، أنه يتعيّن انتظار 50 سنة لكي يتوفّر تراكم من الأعمال الأدبية الرقمية التي توظف الحاسوب وتتّضح صورة ما سينتج عن لقاء الأدب بالرقمية، كما تساءلَ جان كليمون، وهو أحد كبار نقاد الأدب الرقمي في فرنسا، عمَّا إذا كان الأدب باستعماله التكنولوجيا الرقمية، وولوجه مساحة تماسٍّ مع فنون أخرى، كألعاب الفيديو، يُجازف بالتبخّر فيها وفقدان هويته. في هذا المستوى الأول الذي يضعُ نصبَ عينه المدى البعيد، يُمكن توقع أن يكون مصير الأدب الرقمي العربي كمصير الآداب العالمية الرقمية عامة؛ سيتواصلُ إذا تواصل هذا الأدب، وسيتبخّر إذا تبخر، وسيأخذ أشكالاً جديدة غير مألوفة تماماً، كأن ينخرط القارئ فعلياً في أجواء النص الأدبي، فيعيش بحواسه البدنية وقائع النصَّ على غرار ما يتوقّع أن يحدث في سينما متوسّط القرن الحالي صاحبُ كتاب «تغيير العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمعتنا»… أما على المستويين القريب والمتوسط، فلا شيء يحمل على توقّع أن يعرف الأدب الرقمي العربي غزارة في الإنتاج ولا أن يحقّق تراكماً، وذلك لأربعة اعتبارات على الأقلّ؛ الأول: انشغال معظم الأدباء الحقيقيين والمزعومين في الوقت الراهن باستغلال الحامل الجديد وشبكة الإنترنت وسيطين لإيصال كتاباتهم إلى القراء مباشرة أحياناً، منتهزين في ذلك تكسير هاتين الأداتين لحلقات النشر التقليدي، وللبحث عن ناشرين ورقيين أحياناً أخرى، بمعنى أنّه يتمّ التعامل مع الوسيط الرقمي بديلاً عن المطبعة لا غير؛ الثاني: حيلولة مركزية المؤلف في ثقافتنا والهالة التي تحيط به دون استعداد الكاتب للتنازل عن بعض صلاحياته للقارئ والتخلّي عن وضعه الاعتباري الرمزي. فالجميع يحرص على إثبات اسمه في ما يكتب؛ الثالث: قدسية الكتاب في ثقافتنا. فما يُكتَبُ يُدرجُ ضمن النبوغ البعيد المنال عن عموم الناس. قد تكون الأسطورة القديمة التي تعتبر الإبداع وحياً تمليه كائنات خفية أو كلاماً لا يتأتى لصاحبه إلّا بالانتقال إلى حالة ثانية ما زالت تشتغل لاشعورياً إلى اليوم، وربّما كان للهالة التي أحاط بها الإسلامُ الكتابَ، عندما سمَّى به النصوص السماوية وصحفَ تدوين أعمال المرء في الدنيا لمحاسبته في الآخرة بناء على ما كُتبَ فيها، دورٌ في بقاء التمثل القدسي للكتاب؛ الرابع: تلكؤ المؤسسات التعليمية العربية في اعتماد الحوامل الرقمية في التعلُّم والتعليم. فأجيال اليوم هم قرّاء الغد، وبتأخر المدرسة في استعمال الحامل الرقمي فهي تطيل عمر الأدب والكتاب الورقيين لعقود أخرى على حساب الأدب الرقمي…

حال كلّ لغة مع العلم والتقنية عامة يُشبه حال الإيديولوجيا والدين مع العلم. فالعلمُ لا يفرض على مزاوليه عقيدة ولا إيديولوجيا، فيُستعمَل ويتقدّم ويتطوّر في البلدان العلمانية والدينية واللّادينية، في ظل الإيديولوجيا الرأسمالية والشيوعية على السواء، والسرُّ في ذلك يعود إلى إرادة البلدان لا غير. كذلك، لا وجود لأيّ لغة في العالم عاجزة عن مواكبة كل التطوّرات العلمية والتقنية إذا توفّرت للناطقين بها إرادة هذه المواكبة وشروطها. وإذا صحَّت هذه القاعدة على اللغات عامة، فهي على اللغة العربية أصحّ، بالنظر إلى ماضيها العلمي والتقني الزاخرين بالعطاء في كل العلوم القديمة.

الاخبار العاجلة