في ماهية السحـر ووجوده أو عدمه / حوار: عادل الحربي

1٬263 views مشاهدة
minou
في السحر
في ماهية السحـر ووجوده أو عدمه / حوار: عادل الحربي

– الأستاذ محمد أسليم، يطيب لي أن أهنيء نفسي على الإطلاع على موقعكم الشائق الذي احتوى العديد على المراجع المفيدة، فهو بحق سد ثغرة ظاهرة في المكتبة العربية والمتعلقة بكتابات الكتاب المغاربة. وأود مساءلتك في موضوع السحر. فقد ألقيت نظرة على المادة المتعلقة بهذا الموضع في موقعك، وأتساءل هل تؤيد الكتابة في موضوع معين من موضوعات السحر؟ وهل تتوقع أن يجد الباحث معطيات كافيةً بهذا الجانب في المغرب؟
– يعتبر السحر واحدا من المجالات الواسعة والخصبة للبحث، التي يمكن تناولها من زوايا متعددة، وبالتالي، فهناك بالتأكيد جوانب تحتاج إلى الدراسة. علما بأنني اهتممت به فقط من الزاوية الأنثروبولوجية لاعتقادي أنها تظل أحد المسالك الهامة للتوغل في هذا العالم.
بخصوص المغرب، لا أعتقد أنه بلد ذو حظوة في هذا المجال؛ فالسحر ممارسة كونية موجودة في جميع البلدان وبدون استثناء. وهذه المعلومة تدخل ضمن أحد عناصر تمثلات الساحر نفسها، كما حددها مارسيل موس: الساحر يكاد يكون دائما هو الآخر/ المختلف؛ الأجنبي، ، الجار، اليهودي الخ. لا أحد يقول إني ساحر. ومثلما يُشاع في المشرق أن أمهر السحرة يوجدون بالمغرب يظن المغاربة هم الآخرون أن أمهر السحرة يوجدون بالمشرق. أما بخصوص المراجع، فللمغرب حضوة احتواء رفوف خزاناته على العديد من المخطوطات في السحر، والتي تنتظر من ينفض عنها الغبار.

– إذا كان المغرب ليس ذا حضوة في هذا المجال، فهل تشير بأماكن أخرى؟ هناك ملاحظة على كتابك الإسلام والسحر، وهي أنك لم تعرض رأيك في الموضوع بشكل مباشر؛ عرضت مواقف الآخرين وإن بأسلوب منمق جميل، ثم هل هناك أماكن معينة بالمغرب يستطيع الباحث الحصول على تسجيلات حية صوتية أو مرئية لطقوس السحر…
– في مواضيع شائكة، مثل السحر، لا أعتقد أنه بإمكان الباحث في المجال العربي الإسلامي، بالخصوص – حيث يشمل الدين السحر بنظرة مريبة – أن يعثر على ميدان تمنح فيه هذه الممارسات نفسها للملاحظة بشكل سافر، ومن ثمة يبقى أمر الحصول على المعلومات – الموجودة بالتأكيد في جميع البلدان (فالسحر قبل كل شيء هو من الممارسات الكونية) وربما على قدم المساواة مع المغرب – أمرا موكولا لاجتهاد الباحث ولاستراتيجيته في جمع المعينات الميدانية. وعليه، لا ننتظر العثور في المغرب على فضاءات يُمارس فيها السحر بشكل سافر. وحتى إن وجدت فبطرق ملتوية: التطبيب بالموسيقى والرقص (ما يشبه الزار المصري)، زيارة الأضرحة والأولياء، إقامة المواسم، إزالة لسحر (في مدينة تازة مثلا هناك نساء متخصصات في إزالة السحر، يمارسن عملهن أسبوعيا بأحد الأسواق، ويسمين «العوادات»، كلمة عربية الأصل بدون شك، وتفيد معنى الشافيات…). إذا اختار الباحث هذه السبل الملتوية منفذا لولوج عالم السحر، والسعي إلى تقديم أجوبة عن أسئلة من نوع: من يتعاطى السحر؟ لماذا يلجأ الناس للسحر؟ وفي أية وضعيات؟ ما الدلالة الرمزية لهذه لسلوكات؟، الخ.، فيمكن الحصول على معلومات قابلة للتدوين السمعي البصري.
ثمة تجربة رائدة في المجال الفرنسي للباحثة جان فافري سعادة، تعرضها في كتابيها: « اللغة، الموت، والسحر»، و«جسد بجسد» (الصادرين ضمن منشورات غاليمار ستني 1977 و1983 على التوالي) المنبثقين عن بحثها الميداني بمنطقة بوكاج المايان بفرنسا. لقد خلصت فافري من هذه التجربة إلى صياغة مقولة شهيرة فحواها أن المعلومات، في عالم السحر، لا تمنح كيفما اتفق، وأنه للحصول عليها يجب دائما على الباحث أن يتموقع في مكان ما داخل النسق، يمنحها غالبا المبحوثون للباحث (موقع المسحور، أو المريض، أو الساحر).

– ولكن يقال إن في المغرب سحرة يزاولون عملهم جهارا، بل فيهم من يشار لهم بالبنان في علم السحر في المغرب وأنه يمكن الحصول على أرقام هواتفهم…
– أكيد، ولكن لا أحد منهم يقول إني ساحر. كلهم يقولون «نزيل السحر أو نعالج المرض أو نقرأ الفأل، أو نزاول علم الفلك». الواقع أن في المغرب اليوم فئتان: فئة لازالت تعمل بالطريقة التقليدية لجلب الزبائن والزوار، طريقة الدعاية من فم لأذن – على حد تعبير مارسيل موس – وفئة خطت خطوة وصارت تسخر وسائل الإعلام العصرية، حيث ينشر أصحابها إعلانات إشهارية في نوع معين من الصحف. وإذا كان من السهل الوصول إلى هذه الفئة التي يُعمد فيها أصحابها إلى نشر عنواين سكناهم وأرقام هواتفهم، فإن بلوغ الفئة الأولى، على العكس، لأنه يتطلب استعلاما لدى الزبناء، لدى من اجتازوا تجربة السحر أو هي عندهم بصدد الاجتياز.

– يبدو أن موضوع الأرواح وأثرها في تكوين السحر العربي موضوع هام، لكن لم يسبق التطرق إليه، ربما لقلة المصادر والمراجع في هذا الباب…
– لو أتيحت لي اليوم فرصة العودة للاشتغال في هذا الموضوع لتناولت موضوع «الممارسات السحرية عبر الأنترنيت»، إذ ثمة عدد كبير من المواقع المتخصصة في الموضوع، والتي تقدم خدماتها عبر هذه الوسيلة الجديدة للمعرفة والتواصل. هناك أيضا موضوع هام، في اعتقادي، وسيكون مفيدا بدون شك، ويتمثل في المقارنة بين الوضع الاعتباري للسحر بين ديانتي المسحية والإسلام. فلكلتاهما ديانة توحيدية، ظهرت في سياق وثني متعدد الآلهة، تعرف فيه الممارسات السحرية انتشارا واسعا، وكلتاهما ألقت على السحر بالتحريم. لكن بينما عرف السياق المسيحي ظاهرة لا نظير لها في تاريخ البشرية، تتمثل في انتشار محاكم التفتيش في مجموع أنحاء أوروبا، على امتداد ثلاثة قرون، حيث تم استنطاق وتعذيب وإحراق عشرات، بل وربما مئات الآلاف من الساحرات المزعومات، بخلاف ذلك لم يشهد المجال الإسلامي ظاهرة مماثلة. لماذا تحرم الديانات التوحيدية السحر؟ كيف نفسر اختلاف امتدادات الموقف الديني من السحر في الحضارتين؟ كيف نقرأ واقع السحر في السياقين على ضوء خلفية التحريم المشتركة بينهما؟

– موضوع السحر بين المسيحية والإسلام موضوع جيد ومتميز، لكن تبرز العديد من الأستفهامات: أولها في شأن المراجع والثاني في كيفية معالجة المسيحية لحالات السحر التي تحصل؟ هل تكون بقراءت مقاطع من الكتاب المقدس أو نحو ذلك؟
– لتحديد مفهوم السحر ومكانة الساحر في المجتمعات ماقبل الديانات التوحيدية، يمكن استشارة كل ما يمس تاريخ الشرق القديم، وعلى رأسها موسوعة ول ديورانت المتوفرة في موقع الوراق، وتكميله بالدراسات التي أنجزت حديثا حول ما يسمى بالمجتمعات البدائية، وهي غزيرة باللغتين الإنجيزية والفرنسية، مؤلفات فريزر ومالينوفسكي وإيفانس برتشارد وميرسيا إلياد. حالة الإسلام لا تطرح أي مشكلة مادامت الآيات والأحاديث والتخريجات الفقهية كثيرة جدا.
وفي حالة المسيحية، يمكن استخلاص موقف من خلال قراءة الكتاب المقدس الذي ينزل مجانا على شكل ملفات وورد 2000 من أحد مواقع الأنترنيت. والحصول على نسخة إلكترونية من الكتاب المذكور، تتيح ربح الكثير من الوقت بفضل توفير الكتاب الإلكتروني دعامات قراءة للقارئ لا يوفرها له الكتاب الورقي، الخ.
وحول امتدادات الموقف المسيحي من السحر، المتمثلة بالخصوص في ظاهرة محاكم التفتيش التي أفضت إلى إحراق مئات الآلاف من الساحرات المزعومات، فإن هذا الباب قد أشبع بحثا في اللغة الفرنسية، وإذن الأنجليزية بالتأكيد.
أخيرا حول الوضع الميداني، سواء العربي الإسلامي أوالمسيحي، فيمكن الاعتماد، في حالة المسيحية، فرنسا الراهنة بالخصوص، على دراسات جان فافري سعادة، ودومينيك كامو، كما يمكن الاعتماد، في الحالة العربية الإسلامية، على الدراسات الميدانية التي أنجزتها الدكتورة الساعاتي، في شأن مصر، ونادية بلحاج وفاطمة أميتي في المغرب وعيسى عويتس ونجيمة بلانطاد في الجزائر…

– هل فعلاً يستطيع الساحر التفريق بين الأشخاص وجلب المحبة بين البعض الآخر؟ من خلال تجربتك ومؤلفاتك المتنوعة في هذا المجال هل مرت عليك حالات عاينتها فعلاً من قبيل هذا الامر؟ أعتقد ان حدوث ذلك يعتبر امرا مثير فعلاً .
– بخصوص سؤال قدرة الساحر، لاشك أن كل شيء يتوقف على الإيمان بهذه الممارسة. كلما كان الإيمان قويا كانت الفعالية شبه مضمونة، والعكس صحيح. طبعا باستثناء ما يسمى عندنا في المغرب بالتوكال ترجمتها الحرفية إلى العربية هي «التأكيل»، وهي ممارسة تعمد فيها بعض النساء إلى إطعام الرجل المرغوب في تهييجه بالمحبة أو الانتقام منه أو تضبيعه (معناها الحرفي جعله مثل الضبع)، أي جعله يرى منها أشياء لا تروقه (كأن تخونه مثلا) ولا يقوى على التلفظ بكلمة اعتراض، الخ… تعمد إلى إطعامه مواد تم تحليلها مختبريا فثبت أنها سامة.
في ما يخص تجربتي الميدانية، منحني بعض المبحوثين دور «الساحر»، فقبلته، بعد الاستشارة مع الأستاذ المشرف طبعا كما باحتذاء خطوات جان فافري سعادة لدى اجتيازها التجربة نفسها بمنطقة بوكاج المايان الفرنسية، وكانت النتيجة أنني حصلت من الأخبار على ما يستحيل الحصول عليه من خارج هذا الموقع. من ذلك، مثلا، العرافة التي زرتها لأجل تدوين معلومات، فتبدى بعد المقابلة الأولى أنها بدورها تحتاج إلى من يقوم لها بأعمال سحر لزواج ابنتها وحصول أحد أبنائها على شغل، الخ… (كانت قائمة المطالب طويلة فعلا بما جعل عملية الحصول على المعلومات تخضع لميثاق مقايضة ضمني)، فقبلت القيام بذلك، ففتحت لي باب منزلها يوميا، وعلى امتداد شهر تقريبا، حكت لي خلاله كل تفاصيل تجربتها المسارية، أي مشوار تحولها من امرأة عادية إلى امرأة عرافة، وفي النهاية دوَّنتُ لها أحجبة لابنتها العانس، فكانت النتيجة أن تزوجت هذه البنت وهي الآن أم لطفلين… من ذلك أيضا حكاية التلميذ الذي كان يجتاز أزمة نفسية قوية آلت به إلى رفض حفظ الدروس والكف عن التردد على الفصل الدراسي ورفض اجتياز الباكالوريا، ومن الموقع نفسه، موقع «الساحر» (يتم تلطيفها في المغرب بكلمة «الفقيه»)، حصلت على معلومات تهم الأسرة المسحورة بكاملها مقابل تحرير أحجبة للتلميذ، فكانت النتيجة أنه أكد بأنه اجتاز مباراة الباكالوريا بنجاح. ومع أنه لم يتهيأ جديا للامتحان، فإنه ساعة التحرير أخذت الأجوبة تنزل عليه مثل وحي…
على أي، فلدى القيام بالبحث الميداني يجد الباحث نفسه ملزما بتعلم مبادئ السحر وقواعده، كما حددها القدماء، وذلك بغاية قراءة طقوس سحرة اليوم، لقياس درجة معرفتهم بالأصول السحرية على نحو ما تحددها الكتب، الخ.

– بالنسبة إلى تجربتك الشخصية مع العرافة وأبنتها ومع ذلك الولد ، فأقول جيد ، يمر الباحث بمرحلة تعلم السحر، بل أعتقد أن هذا جزء من فهم آلية عمله، ولكن السؤال مثلاً هل الفقيه يستطيع عند معرفة اسم أم شخص معين أو يستطيع الحصول على أثر منه أن يجعله يحب شخص آخر بحيث لا يعصي له أمراً؟؟ وهل فعلاً الأحجية التي يعملها البعض وتوضع على عنق بعض النساء أو الرجال تجله محبوباً لكل من رآه ؟
– فعالية السحر عائدة إلى قوة إيمان المعني بالسحر لا المزاول. فالطقوس السحرية مهما بلغت دقتها تبقى في النهاية ممارسات رمزية أو دعامات نفسية تساعد الشخص، المتوسل إلى الساحر، في حل مشاكله شخصيا، وذلك على غرار ما يحدث في التحليل النفسي: فالمريض نفسيا بمجرد قبوله التوجه إلى المحلل النفساني يكون قد حقق من حظوظ نجاح العلاج نسبة 80% ، والعشرون المتبقية هي كل ما يقوم به المحلل النفساني، بمعنى أن المريض إذا لم يؤمن بالقدرة العلاجية للمحلل، فإن عمل هذا الأخير يبقى عديم الجدوى ولو صرف دهورا في معالجة مريضه. وهذا هو ما يحدث في السحر. بهذا المعنى، يمكن اعتبار السحر ضربا من العلاج النفساني على نحو ما بينه جيدا ليفي ستروس في الفصل الحامل عنوان «الفعالية الرمزية» ضمن كتابه الأنثروبولوجيا البنيوية (الجزء الأول) وواضح أن هذا الجواب يقع ضمن وجهة نظر محددة للسحر، هي المعالجة الوضعية (أو العلمية إن شئت) في مقابل وجهة النظر الأخرى وهي المعالجة الأنطولوجية التي تسعى إلى البرهنة على الوجود الفعلي للسحر والخوارق والتخاطر عن بعد واستحضار أرواح الموتى، إلخ…

– ولكن كيف نفسر أن الساحر الفلاني يحظى بشهرة أوسع من الساحر الفلاني؟
– الجواب برأيي يكمن في الأسطورة التي نسجها الأول حول شخصيته وجارته فيها المجموعة

– ثم نرى أن الفقيه يحرص على اسم الأم الشخص أكثر من اسم الأب، فما سبب ذلك برأيك؟
– أهمية اسم الأم بالقياس إلى اسم الأب تحلينا – في اعتقادي المتواضع – إلى مسألة أصل السحر وعلاقته بالدين لتضعنا قلب تاريخ الأديان: الأم تحيل على تعدد الآلهة ومرحلة الإلهة الأنثى (عشار، أفروديت، الخ)، على مرحلة ما يسمى بالمجتمع الأموي (أو الأموسي) الذي كانت السلطة فيه بيد المرأة. بينما يحيل الأب على الانتقال إلى الإله الواحد، إلى ظهور الديانات التوحيدية وبروز الإله المذكر الذي سيحرم السحر. من هذه الزاوية، يمكن اعتبار التركيز على اسم الأم بقية من بقايا مراحل الوثنية والتعدد تسربت إلى الحاضر مثلما يعتبر السحر نفسه بقية من المرحلة برمتها تخللت القطيعة التي أرساها التوحيد مع التعدد وسلطة المرأة للتوغل إلى حاضرنا نفسه. في هذا الصدد، يمكن اتخاذ إشارة وردت لدى فرويد في كتابه «موسى والتوحيد» لا تتعدى صفحة أو صفحتين، منطلقا أو فرضية لقراءة ليس حاضر السحر فحسب، بل وكذلك حاضرنا برمته من زاوية اكتساح الرقم لعالمنا، اكتساحا
يسعى إلى وضع الكتابة (والكتاب عموما) في مقام ثان بعد الصورة والصوت. في هذا الصدد، يمكن استخلاص الكثير من الأبحاث التي تنجزها حاليا شعبة الوسائط التشعبية بجامعة باريس الثامنة (سان دوني) تحت إشراف ببير ليفي بالخصوص…

– ولكن هنالك سؤال هام حول هذا الموضوع ، وهو اننا نشاهد فعلاً تمكن أحد الأشخاص على شخص آخر ، أو أحد الزوجات على زوجهاتملكاً كاملاً وهو منصاع لها يطيع كل ما تأمره به ودون ان ينبس ببنت شفه، خاصة إذا علمنا أن هذا الشخص كان قبل ذلك حُر نفسه قوياً صلباً في تعامله فإذا هو فجأة كالاطفل إمام هذه الزوجة او هذا الشخص لا يعصي له امراً ، لذا أرى ان السحر له تأثير بذاته بدليل ان هذا المسحور لا يدري أصلاً انه مسحور ، لذا انتظر رأيك اخي أستاذي الكريم حول هذا الجانب، مع اني أفكر بتجربة ميدانية في هذا الجانب لأدعم بها بحثي، بل إن هناك من يقول بعدم جدوى البحث في السحر، بدعوى أنه ليس بالإمكان الإتيان بجديد في الموضوع، وأن السحر ضوب من الأوهام، وإلا فإنه يشترط الإتيان بالأدلة الميدانية الملموسة على وجوده.
– في مجال شائك مثل السحر، يستحيل على الباحث أن يأتي ببرهان علمي يثبت فيه وجود السحر، لسبب بسيط هو أن السحر يقبل التدخل في الحالات الفردية بينما يرفض العلم ذلك. فالعلم يبحث عن قوانين وقواعد ثابتة وعامة. مثلا عندما يقر العالم بأن الماء متى بلغ درجة كذا من الحرارة تبخر، فإن قاعدته تكون من الصحة بحيث يستحيل تكذيبها ولو مرة واحدة، إذ سواء أخذنا ماء بحيرة أو بئر أو مطر أو بحر أو وادي، فإننا في جميع الحالات متى غليناه إلى الدرجة الموجبة للغليان تبخر. والنتيجة أيضا نحصل عليها سواء قمنا بالعملية صباحا أو مساء، في البادية أو المدينة، فوق سطح الأرض أو على ظهر القمر… هذا مثال بسيط جدا عن الطريقة التي يتناول بها العلم الأشياء والظواهر، ويقر انتماء القوانين إليه أو يرفض هذا الانتماء عبر منح صفة «العلمية» أو نزعها عن المسمى قانونا.
إذا حاولنا مقاربة السحر على هذا النحو، فإن السحر لن يكون علميا، بمعنى أنه يستحيل إثبات وجوده لسبب بسيط وهو أن فعاليته لا تشمل جميع الناس نظريا فأحرى عمليا. لنأخذ مثال المحبة. لنفترض وجود ساحر ماهر متبحر في علوم السحر بما يجعل عمله يستوفي جميع القواعد وبالتالي يضمن النتيجة الإيجابية. لو وجد هذا الساحر لتحققت المدينة الفاضلة، إذ يكفي أن يحج إليه جميع الناس أو أغلبهم، على الأقل، فتختفي الكراهية من مدينة هذا الساحر أو مجتمعه، وتسود المحبة والوئام بين أفراده ويختفي الحقد. مثال آخر، لو كان الساحر نفسه قادرا على إشفاء المرض العضال، لتوجه إليه جميع مرضى السرطان والكباد والأيدز، الخ… ولما مات منهم أحد… لكن هذا لا يعني أن السحر منعدم الوجود والفعالية؛ فلو لم تكن له فعالية، لو لم تكن له قدرة لتخلى عنه الناس منذ آلاف السنين ولما عرفت الممارسات السحرية هذا الانتشار الواسع في الزمان والمكان بحيث لا يخلو منه بلد وحضارة، كما يقول ليفي ستروس. أين تقع هذه الفعالية؟ إنها تقع في مجال المفرد، في مجال الخروج عن المألوف، لكن ليس إلى حد الوصول إلى القاعدة العلمية. فالسحر علم من نوع آخر، له صلة بالوحي والمعجزة والكرامة، وهي ظواهر كلها يرفضها العلم لأنها لا تمنحه الشروط الأولية لمزاولة نشاطه. بتعبير آخر، الساحر بإمكانه أن يشفي المرض الميئوس من علاجه ويزرع المحبة بين القلوب ويبدر الكراهية والفرقة بين الناس، لكن ليس بين جميع الناس، وليس أوتوماتيكيا، كما ليس دائما. وإذا عدنا، لأجل التوضيح، إلى مثال الماء وتبخره لدى بلوغه درجة من الحرارة، كان السحر هو ذلك العالم، أو الكيميائي (سمه ما شئت)، الذي يكذب قاعدة العلماء ويخرج عنها، فيقول لهم: تقولون الماء يتبخر عندما يبلغ درجة كذا من الحرارة، تعالوا لتروا كيف أني وضعت الماء في درجة الحرارة نفسها ولم يتبخر، فيتحلق الناس حول الماء، بيد أن منهم من يؤكد أنه يرى ماء يغلي ويتبخر ومنهم من يؤكد أنه لا يرى سوى ماء باردا… أو هو الذي يعمد إلى قلب القاعدة نفسها فيخاطب الناس: تقولون الماء لا يتبخر إلا فوق درجة حرارة معينة؟ انظروا ها لقد غليت ماء إلى أن تبخر ولم أضعه فوق النار إطلاقا، فيتحلق الناس حوله، بعضهم يؤكد أنه يرى فعلا ماء يغلي وبخارا دون أن تكون تحته نار، وبعضهم يؤكد أنه مايرى سوى ماء باردا مؤكدا أن الأمر يتعلق بزعم مجنون. بيد أن حقيقة السحر تكمن في أن بعضا ممن أكدوا أن الماء يغلي قد وضعوا يديهم فيه فاحترقوا فعلا بما اقتضى نقلهم إلى المستشفى لتلقي العلاج !! فيما وضع المنكرون للغليان أصابعهم في الماء نفسه ولم يتعرضوا للاحتراق. وأكرر أن هذا مثال بسيط جدا لأجل التوضيح.
والقرآن الكريم نفسه ينطوي على فهم عميق لإواليات العمل السحري. لنأخذ مثالين: مشهد هزيمة سحرة فرعون أمام النبي موسى، ومقطع قدرة السحر على التفرقة بين الأزواج، في آيات هاورت وماروت. في المثال الأول، يمكن تشبيه موسى بصاحبنا الذي كذب قاعدة العلماء بتأكيده أنه وضع الماء فوق درجة حرارة قوية ولم يتبخر، كما يمكن استخلاص ارتكاز السحر على مسألة القوة، وذلك بخلاف العلم؛ لا يوجد عالم قوي وعالم ضعيف، لأن التجربة العلمية لا تخضع لشروط نفسية أو فيزلولوجية، بينما السحر يقول بهذا. وفي المثال الثاني، ألا ترى أن الله تعالى أثبت قدرة السحر على التفريق بين الأزواج، لكنه سرعان ما نزع عن هذه القدرة صفة التعميم والشمولية، أي جعلها لا تنطبق على جميع الناس، وذلك من خلال قوله ما مضمونه: «وما يفرقون به من أحد إلا بإذن الله»، وهو ما أفهمه على النحو التالي: نعم الساحر يملك قوة، ويحقق أشياء عبر ممارساته، ولكن هذه القوة ليست مضمونة دائمة ولا تشمل جميع الناس. إنها مجال الخاص والمفرد، بمعنى أنها تشمل أناسا دون غيرهم، بمعنى أن التفريق بين زوجين ليس بالنتيجة السهلة على نحو ما يسهل الحصول على رقم اثنين بإضافة 1 إلى 1. إلا أنه إذا كانت هذه النتيجة ليست مضمونة 100 % فإننا مع ذلك نجد فلانا أو فلانة يؤكدان بأن ساحرا ما قد فرق بينهما. من هو هذا الساحر؟ كيف فرق بينهما؟ لماذا نجح في التفريق بينهما بالضبط ولم ينجح في التفريق بن جميع الأزواج؟ هذا برأيي هو مجال البحث في موضوع السحر.

الاخبار العاجلة