محمد أسليم: النهاية (رواية) / الفصل الثاني

1٬667 views مشاهدة
minou
سرد وتأمل
محمد أسليم: النهاية (رواية) / الفصل الثاني

عقدت هيأة الأمم المتحدة، مؤتمرا طارئا، لم يتخلف عنه أي رئيس ولا اعترضت دولة على حضور أخرى، أحس الحاضرون بأنهم سواسية فعلا؛ غابت التقسيمات شمال جنوب، انحياز – عدم انحياز، الخ.، وتجووزت الشكليات، وبذلك جلس رئيسٌ يرتدي بذلة عصرية وربطة عنق بجوار آخر يلبس عمامة وجلبابا وبلغة، وبجواره آخر يرتدي بذلة النوم، وبجانبه حيوان منزلي، بل وحتى زوجته وهي ترضع صغيرها من ثديها… أكثر من ذلك، تُركت للرؤساء حرية اختيار تركيبة وفودهم، فتألف أكثر من وفد من سحرة ومنجمين وعلماء نفس وأنثروبولوجيين وفيزيائيين ومهندسين، وعمال مناجم، ومزاولي حرف تقليدية، الخ.، فكان التمثيل لأول مرة في تاريخ هذه المنظمة العتيدة تمثيلا حقيقيا، يجمع فعلا بين القمة والقاعدة.

كانت النقطة الوحيدة في جدول الأعمال هي كيفية تدبير شؤون الأرض في المدة الوجيزة التي تبقت، وذلك بحث الناس على الرغبة في مواصلة الحياة، ومواصلة العمل في جو يسوده الأمن والسلم والاطئمنان!!! فالحشود أصيبت باكتئاب شديد، فكفت عن الذهاب إلى العمل، فتعطلت المعامل، وأغلقت المتاجر، وتوقفت القرى عن إمداد المدن بالمنتوجات الزراعية والفلاحية، فأوشكت البشرية على الانتحار جراء شبح الشلل التام الذي خيم على كافة مرافق الحياة، وهو شبحٌ لم يكن يرد من قبل سوى في بعض روايات الخيال العلمي وتحذيرات البعض من خطورة تبعية البشرية العمياء للكهرباء، ووضعها كل ميراثها العلمي والثقافي في الشبكات الرقمية واعتماد هذه الشبكات وسيلة حصرية للاتصال والتواصل. من أقوال بعضهم في هذا الصدد: «باكتمال الثورة الرقمية سيكون الإنسان كالمرء يضع بيضه في سلة واحدة، إن تسقط ينكسر البيض كله فلا يلوي على أي شيء عدا نفسه وسلته… أما إن تسقط الرقمية، فلن يلوي الإنسان على بيض ولا على سلة ولا حتى على نفسه، لأنه سيكون هو الحامل والمحمول، والكاسر والمكسور !!!»…

خلافا لما كان متوقعا، دارت نقاشات صاخبة، تلاسنَ الرؤساء وتبادلوا التهم، بل واشتبكوا بالأيدي غير ما مرة، أثناء مناقشة نقطة فرعية فرض بعضُ الرؤساء إدراجها تحت موضوع جدول الأعمال الوحيد، وهي: «من المسؤول عن قدوم هذا الكويكب؟». اقتضى تحديد المسؤولية عرضَ مختلف المراحل التي قطعتها البشرية منذ الثورة النيولويتية التي وقعت منذ 10000 سنة، في أواخر العصر الحجري، عندما اكتشف الإنسان الزراعة وربى المواشي واستقر وابتكر الكتابة وقسم العمل وأنشأ الدولة، واضعا الحجر الأساس الذي تقوم عليه حضارتنا اليوم، كما تطلب الأمرُ تقديم منجزات كل إمبراطورية من الإمبراطوريات التي تعاقبت على حُكم العالم منذ تلك الفترة إلى اليوم، وما أهملته تاليتها إلى أن تمكن هذا الكويكب القادم من الفضاء من التسلل في غفلة من البشر ليدمر الأرض في وقت كان بالإمكان اعتراضه منذ قرون خلت… قال رؤساء الصين والهند وباكستان وأفغانستان وإيران وسوريا والعراق ومصر وأمريكا الجنوبية:

– حضارات أسلافنا رفعت عين الإنسان إلى السماء، فراقبت حركة الكواكب والأفلاك، واكتشفت تكنولوجيات في التعامل مع الأحجار الضخمة، لم يهتدي إليها أي علم من علوم اليوم ولا تقنياته بعد، مثل أحجار الأهرام وأحجار سوننج وصخور بعلبك التي يبلغ وزن الواحدة منها 1500 طن، وتم نقلها من أسوان المصرية، بدون آلات بخارية ولا كهربائية… ولو واصل الرومان والإغريق والعربُ والغربُ السير على الأسس التي وضعناها من قبلُ، ولو لم يُنزلوا عينَ الإنسان إلى الأرض ويسجنوه في مشاغل الجسد والتهافت على المادة، لكان كوكبنا اليومَ محميا بغلاف من حجر الكريستال، يقيه ضربات هذه الملايين من الكويكبات المحتشدة في ذلك حزام الكوكيكبات المشؤوم الموجود المريخ والمشتري، التي ينجح أحدها في الخروج من مداره والارتطام بالأرض مرة كل 35000 عام…

أجاب رؤساء أوروبا وأمريكا الشمالية وكندا والدول الإسكندنافية:
– كذبتكم، لم نفعل سوى مواصلة السير على الدرب الذي رسمتم. إنما تكنولوجيا اليوم حصاد ما زرعتموه أنتم أيها الأولون: فبالتقنية هزم رمسيس 2 الحثيين، وبها وحد التسين إمبراطورية الصين، ومن التصنيع الجماعي للأسلحة، في الإمبراطوريات الصينية القديمة، انحدرت مطاحن الإمبراطورية الرومانية ومخابزه الجماعية، ومن مصنفاتكم وإنجازاتكم في الأجهزة الخشبية والهوائية العملاقة، أيها العرب، انحدرت آلاتنا البخارية قبل أن تتحول إلى مصانع تنتج عشرات آلاف السيارات وقطع الأسلحة في معامل مثل فورد والجينرال موتورز، وغيرها… أترَانا كنا بالحجر سننتصر في الحربين العالميتين الأولى والثانية؟!، ثم إنكم لعلى علم تام بأن من يتحكم في الفضاء الافتراضي اليومَ يؤسس أول إمبراطورية كونية في التاريخ ويحكم سكان الأرض قاطبة. وقد كنا جميعا منشغلين في سباق محموم على تحقيق هذا الأمر لما نزل خبر هذا الكويكب اللعين…

قال شيخ قدم من أدغال إفريقية:
– أيها السادة، لا تكلفونا بثرثرتكم ولغوكم فوق ما نستطيعُ. إن الذي وقع وسيقعُ لواضحٌ وضوح الشمس. انظروا سراويلكم وأيديكم، ففيها الجوابُ عن سؤالكم؛ نحنُ بذرنا النوع؛ نزلنا من الأشجار، وصنعنا الأداة وتكلمنا، وتجشمنا عناء التنقل بين القارات، منذ ملايين السنين، وسلمناكم المشعل، لكنكم بقيتم في العصر «البُرازي-البولي»؛ فلو جُمعَ بُراز سكان القرن العشرين وحده لكما كفت أي قارة من قارات الكوكب كاملة لحمله، ولو حُفظَ بول سكان القرن العشرين وحده لغرقت الأرض في طوفان أكبر من طوفان نوح. لو سخرتم التقنية في غير الحروب لكنتم تخلصتم من البراز والبول منذ قرون ولكنتم اليومَ بأربعة أقدام وليس بيدين وقدمين!».

كان الرجل صادقا في قوله ومُخلصا، وتبدى مغزى كلامه عميقا، لما تناوبَ على شرحهُ ثلاث علماء من تخصصات مختلفة. شرحوه في كلام طويل، أهم ما جاء فيه:

– أيها السادة ! يقول لكم هذا الشيخ: إنَّ مبدأ الإنسان كان في إفريقيا؛ فمن إفريقية خرجَ أسلافنا الذين ينحدر منهم جميع سكان الأرض الحاليين. خرج أسلافنا من إفريقية منذ ملايين السنين، على إثر دورة جفاف أصابت وادي الريفت الأثيوبي العظيم، ثم انتشروا في شمال إفريقية وعبروا إلى أوروبة وآسيا والأمريكتين، وإنَّ الإنسان قد تأخر كثيرا في اكتشاف اللوح الحاسوبي وسائر الأجهزة الرقمية التي ستُفضي إلى إلحاق تغيير آخر بيدي الإنسان بحيث تأخذان شكل قدمين:

أيها السادة ! يقول لكم الشيخُ لقد وقف الأفارقة الأولون، ومشوا على قدمين، كانتا في الأصل تشبهان يدينا الحاليتين، كانت أصابع قدمينا آنذاك طويلة مثل أصابع يدينا الحاليتين، لكن جراء إهمال استعمال أصابع القدمين الطويلة تلك للإمساك بالأشياء، وتسخيرها حصرا للمشي، وجراء إدخالها في حذاءين، طوال مئات آلاف السنين، فقد آل بها الأمر إلى أن التصقت ببعضها فلم يبق منها سوى رؤوسها التي نراها اليوم. بعبارة أخرى: كان للإنسان في البداية أربع أيدي، وجراء التخلي عن اثنتين واستعمالهما في المشي فقد تحولتا إلى قدمين، وتحول الإنسان من مخلوق له أربع أيدي إلى كائن بيدين وقدمين. واليوم، بظهور اللوح الحاسوبي والهواتف الذكية والآلات العاقلة انطلق العد العكسي للاستغناء عن أصابع اليدين الحاليتين، بحيث لن نستخدم منها من الآن فصاعدا إلا رؤوسها للمس الأجهزة الرقمية. وبمرور مئات آلاف السنين، ستلتصق أصابع يدينا ببعضها البعض، فلا يبقى بارزا منها إلا الرؤوس، ومن ثمة سوف تأخذ يدانا شكل قدمينا الحاليتين. وبذلك يكون مبدأ الإنسان أربعة أيدي و«نهايته» أربعة أقدام. كان مفروضا أن يحصل هذا منذ آلاف السنين، ولكنكم – يقول الشيخ – صرفتم معظم أوقاتكم في التطاحن والاقتتال وإرادة هيمنة بعضكم على البعض الآخر، وبذلك فوَّتم على أنفسكم فرصة السفر بين النجوم، ومواصلة الحياة في كواكب، بل وحتى مجرات أخرى… فوتم على أنفسكم فرصة السفر بين النجوم لما تأخرتم كثيرا في اكتشاف الأجهزة الرقمية!

أما قول الشيخ «بقيتم في العصر «البُرازي-البولي»»، فيقصد به أن الإنسان قد تأخر كثيرا عن بلوغ درجة تلك الدرجة من التطور التي سيستغني فيها عن إلقاء نفايات جسده في الخارج، أي لا يتبرز ولا يتبوَّل، فلا يعود يطرح نفايات من جسمه، إما لأنه سيكون قد استعاض عن أكل الخضر والفواكه واللحوم والأسماك بشرب أقراص وأدوية أو لأنه سيجد وسيلة لإعادة تدوير recyclage نفايات الأطعمة والسوائل داخل جسمه فلا يخرجُ من هذا الجسد أي شيء مما يَدخله، فلا يُحتاج إلى مراحيض ولا قنوات صرف المياه… كان مفروضا أن يحصل هذا منذ آلاف السنين، ولكنكم – يقول الشيخ – صرفتم معظم وقتكم في التطاحن والاقتتال وإرادة هيمنة بعضكم على البعض، لأجل الملكية وتلبية غرائز الجسد الأولية، من أكل وشرب وتوالد، وبذلك فوَّتم على أنفسكم فرصة التحول إلى كائنات لا تطرح نفايات، تسافرُ بين النجوم، وتواصل الحياة في كواكب، بل وحتى في مجرات أخرى… فلو فعلتم، لكنتم غادرتُم النظام الشمسي منذ قرون ولما وقعتم الآن تحت قبضة كويكب..

لكن نظرا لوحدة المصير القريب المشؤوم، فالخصومات والتلاسنات والعراكات الجسدية السابقة، لم تفسد للود قضية، إذ سرعان ما تبادل الجميع عبارات الصلح وطلب الصفح والعفو، ليُصوَّتَ بعد ذلك بإجماع مطلق على قائمة من التدابير والقرارات، أبرزها:

1) استبدال مفهوم الإنسان الحالي بآخر جديد، يُعرف بموجبه بنو آدم باعتبارهم مخلوقات ذات انتماءات عدة، نظرا لوحدة المكونات الأولية التي يتشكل منها جسم كل مخلوق، من البكتيريا إلى الذباب والطيور والفيلة؛ بمقتضى التعريف الجديد للإنسان تتجدد الأخوة المفقودة بين النوع البشري وسائر الأشكال الحية، فيصير الإنسانُ شقيقا للسلحفاة والتمساح والأسد وطائر السَّمان والثعبان، الخ..
2) إعادة تحديد تاريخ ولادة كل فرد، بحيث يصير الجميع قد وُلدَ في يوم الفاتح من يناير 2029، أي يوم وصول نبأ الكويكب المشؤوم، ويصر الجميع سيموت على الساعة العاشرة صباحا وعشر دقائق وأربع ثوان من شهر يوليوز من العام نفسه، وبذلك يتعين ألا يقالُ عمر هذا أربعون سنة، وعمر تلك ثلاثون، ولا عمر هذا سبعون وسن تلك تسعون، بل يجبُ قول: مر على ولادة الجميع كذا أسبوع وكذا يوم، وبقي للجميع في الحياة كذا أسبوع وكذا يوم، وكذا ساعة وثانية، الخ. وبذلك يستوي كهل الثمانين مع رضيع عمره بضعة أشهر.
3) إعادة تحرير دفاتر الحالة المدنية وبطاقات التعريف الوطنية، بحيثُ يُكتب على تاريخ الولادة، يوم بث نبأ الكويكب، ويوم الوفاة هو يوم الاصطدام الفعلي للكوكيب بالأرض. كما يُلغى العمل بالسن الحالي، لأنه «تقويم جاهلي» و«بدائي»، وأهله «بدائيين»، لفائدة تقويم جديد «حديث»، «منطقي» و«عقلاني».
4) إعادة مرافق الحياة إلى سالف عهدها، ليتمكن الناس من البقاء، مع الاستغناء عن المهن والتكوينات والمشاريع التي يستغرق إنجازها سنوات طويلة؛ ولأجل ذلك يتعين صرف رواتب الناس وحوالاتهم، مرتين في الأسبوع، في منتصفه وآخره، كما يجب الاستغناء عن مهن عديدة لفائدة أخرى جديدة من الضروري أن ترتبط كلها بالتهيؤ للموت، والاستعداد لاستقبال الكويكب القادم بالبهجة والفرحة والسرور لا الفزع والبكاء والعويل .
5) إلغاء الحدود بين جميع الدول، بحيث يتمتع جميع سكان الأرض بحرية السفر والتنقل إلى أين شاءوا ومتى أرادوا، مع ترصد كل من ستسول لهم أنفسهم المتاجرة بموضوع النيزك القادم، والضرب على أيديهم بقبضة من حديد، ذلك أن العديدين قد عمدوا سلفا إلى التلاعب بعواطف المستضعفين من الناس من قليلي الذكاء والأميين، بإيهامهم بإمكانية الخلاص من الموت، عبر ترحيلهم إلى مناطق آمنة مزعومة، مقابل مبالغ مادية يتفاوت حجمها بين البلدان.

وفي شبه احتفاء طقوسي بالموت، أو تملق إليه، انتهى المؤتمر بصلاة جماعية للموت، وتم توجيه شكر كبير إليه، لكونه قد عدل أخيرا بين الناس، فلن يقبض روح هذا ويترك روح ذاك، بل سيأتي على الجميع دفعة واحدة، في يوم واحد ودقيقة واحدة وثانية واحدة، وذلك لأول مرة منذ بدء الخليقة. كما تم الإعراب عن منتهى السعادة والغبطة، لأن البشرية ستعرف مصيرا مشتركا واحدا، فلا يختطف الموت أحدا، ويُبقى آخر. وما أن أذاعت القنوات التلفزية هذا النبأ حتى هلل بالفرح والسرور حشدٌ المرضى الذين لم يتبق لهم في الحياة سوى بضعة أشهر، جراء أمراض لا شفاء لها، مثل السرطان والكبد الوبائي، بل وحصل أن قفز الكثيرون من المشلولين الذين كانوا لا يتحركون إلا فوق عربات كهربائية، فقفزوا من عرباتهم ووقفوا على قدمين ومشوا، في غمرة ذهول الجميع…

محمد أسليـم: النهاية (رواية) / الفصل الثاني

يُتبَعُ

الاخبار العاجلة