محمد أسليـم: النهايـة (رواية) / الفصل الثالث

1٬677 views مشاهدة
minou
سرد وتأمل
محمد أسليـم: النهايـة (رواية) / الفصل الثالث

ما أن طار رؤساء الدول من نيويورك إلى بلدانهم حتى اتضحَ أنهم لم يمثلوا إلا أنفسهم، إذ خرجت حشود مليونية في سيدني، وشنغاي، وطهران، والقاهرة، وكراتشي، وبومباي، وبانكوك، وسنغفورة، والدار البيضاء، وغيرها من كبريات مُدن العالم، منددة بـ «المؤامرة»، واصفة ذلك المؤتمر «التاريخي» بأكبر مهزلة عرفها النوع البشري منذ نشأته. صرخت الشعوب المتظاهرة على اختلاف ألسنها بأعلى حناجرها مرددة شعارات واحدة:

– لا، لا، ثم لا، لاستبلاد الحشود!
– الموت، الموت، لقتلة الشعوب!
– الإعدام، الإعدام، لمستبلدي الإنسان!…

اضطرت الشرطة في أكثر من عاصمة لاستعمال خراطيم المياه، ووضع حواجز إسمنتية، وإطلاق الغازات المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي، منعا لتدفق الحشود إلى مطارات وصول الوفود. كانت الأمواج البشرية في حالة من الغضب الهستيري يستحيل توقع ما يمكن أن يفضي إليه…

تبين فيما بعدُ أنَّه، بالموازاة مع تنظيم مؤتمر قمة الأمم المتحدة الطارئ، انتشر في شبكة الأنترنت ومحطات إذاعية وقنوات تلفزية أنشئت بسرعة البرق، انتشر خبرٌ كالنار في الهشيم، مفاده أنَّ قصة الكويكب لا تعدو مجرَّد أكذوبة وإخراج لسيناريو مُحبك وضعته حفنة من كبار أصحاب رؤوس الأموال المتحكمين في كبريات الشركات العابرة للقارات، وجماعة الهلدنبرغ، والتنظيم الماسوني العالمي، وأصحاب شركات معلوماتية ومواقع خدماتية، مثل ميكروسوفت، وقوقل، والفيس بوك، وأمازون، و إيباي، وغيرها، للتخلص من عبء البشرية.

فبعد أن جمَّعَ هؤلاء ملايير ملايير الدولارات – يقول الخبر – وبعد أن حققوا إنجازات هائلة في قطاع صناعة الإنسان الآلي والآلات الذكية، وفتوحات عظمى في علوم تكنولوجيا النانو والبيولوجيا التكنولوجية والمعلوماتية والعلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي، آل الأمر إلى أنه لم تعد هناك أي حاجة لملايير الأفواه والسواعد وملايين الأدمغة البشرية في تسيير كافة قطاعات الحياة، وها أصحابُنا يخرجون إلى الوجود كذبة عظمى لتصفية ملايير الأفواه والسواعد التي لا يُمكن توقع ما ستقوم به عندما ستطالها البطالة العامَّة والمعممة الوشيكة… وقد اختلقوا حكاية سقوط الكويكب لترهيب الناس، واستدراجهم كقطعان البقر، حتى إذا احتشدوا جميعا في يوم معين، وساعة مضبوطة وثوان محدَّدة في مكان محدد، سهُل تصفيتهم في رمشة عين، إما بوضع مادة كيميائية قاتلة في الماء الشروب، أو بإلقاء مواد نانوميترية قادرة على اختراق جدران المنازل وإبادة كل من يختبيء فيها، أو حتى بإلقاء أطنان هائلة من المتفجرات القادرة على تدمير كافة مدن الأرض في وقت واحد…

دعمَ زُعماء الانتفاضة الكونية طرحهم بحجج عديدة، أبرزها:
– تجاهلُ عدد من القنوات التلفزية خبر الكوكيب تجاهلا تاما، اتضحَ أن قاسمها المشترك كونها متخصصة كلها في شؤون الجنس، فواصلت بث الوصفات الجنسية والأشرطة البورنوغرافية والوصلات الإشهارية المتعلقة باقتناء لوازم الجماع، وتزويد الرجال بوصفات التغلب على سرعة القذف، والنساء بدروس فنون مص أيور الرجال… بل ثمة من مضى بعيدا في هذا الطرح ففسر تلك الرغبة العارمة في ممارسة الجنس التي اجتاحت سكان المعمور عقب إذاعة نبأ الكويكب بأنها كانت بتأثير من قنابل بيولوجية ألقتها حكومات العالم على سكانها. واستند في ذلكَ إلى معلومة كانت تسربت منذ عقود أفادت بأن مختبرات الداربا DARPA الأمريكية المتخصصة في صناعة الأسلحة بأمريكا قد سبق وأن عكفت على تجربة إنتاج قنبلة اسمها «قنبلة المثلية الجنسية la bombe gaie»، بهدف تحريف انشغال جيوش العدو في جبهات القتال المعركة من التركيز على الفتك بالعدو إلى الانهمام بإشباع رغباتهم الجنسية، فما تسقط القنبلة فوق رؤوس الجيوش حتى يهيجوا ويموجوا، تشتعل نيران الرغبة الجنسية في أحشائهم، بحيث تصير مسألة حياة أو موت، فيُلقي الجميع بأسلحته ويثب على الجميع…

– التعتيم المضروب حول بناية «سفينة نوح النباتية L arche de Noé végétale»، وهي ذلك المخبأ الضخم الذي تمَّ تشييد في منتهى السرية، تحت الأرض، في أرخبيل زفالبارد، وسط الثلج في خليج بالنروج، فقد بُني هذا المخبأ بإسمنت مسلح قادر على مقاومة أمواج التسونامي العاتية والتفجيرات النووية والزلازل، وحفظ ما بداخله لآلاف السنين، وما بداخله هو عينات من بذور ملايين نباتات الأرض… خطب أحدهم في الحشود قائلا:

– سيقالُ لكم إنما احتفظنا بهذا الخزان تحسبا لانقراض أنواع نباتية، وصونا للتعدد التنوع البيولوجي في الأرض. حسنا، ولكن لماذا أحطتم العملية بمنتهى السرية إن لم وراء الأمر ما وراءه؟ ! من قال لكم بأننا نحارب التنوع البيولوجي؟ !

– شيوعُ خبر مماثل، في عام 2006، زُعمَ فيه أنَّ العالم كانَ سيفنى يوم 21 دجنبر 2012، على إثر تغيير الكرة الأرضية الوشيك لاتجاه دورانها بشكل عنيف ومفاجئ، بحيثُُ يترتب عن العملية انحراف لمكان تواجد القطبين الشمالي والجنوبي، ما سيؤدي إلى تغطية مياه المحيطات لقطع هائلة من اليابسة، وخروج مساحات أخرى هائلة من قعر المحيطات كي تتحول إلى أراضي يابسة، فتُدفنُ قارات في قعر البحار وتخرج أخرى من أعماق المياه، وما سيؤدي إلى مقتل ملايير من الناس. خاطب أحدهم الحشود قائلا:

– ها لقد مر ذلك يوم الفناء المزعوم، ولم يحدث أي شيء مما قالوا! ستكونوا سذجا لو توهمتم بأنهم وفقوا هناك. مخطؤون الخطأ كله ستكونون إن تحسبونهم نائمين ! كانت تلك الحكاية برمتها تهييئا سيكولوجيا للحدث الحقيقي الذي نحن على أبوابه!!

– مخطط قتل 3.5 مليار ونصف من الناس الذي كشف عنه العديدون، وفي مقدمتهم الدكتورة لابينوف التي أذاعت أنَّ منظمة التجارة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة قد وضعتا مخططا يرمي إلى تحقيق الهدف السابق، وسلكتا للوصول إليه طريقا ملتوية اسمها مُحاربة مجموعة من الأوبئة، ففرضتا تطبيق توجيهات متعلقة بالفيتامينات عالميا، ابتداء من 31 دجنبر 2009، تحت اسم أنيق هو «الكوديكس أليمونتاريوس Cosex alimentarius»، برعاية منظمة الصحة العالمية، ومجرد هذا التطبيق سيؤدي إلى إبادة كل ذلك العدد من الخلق…

– عمل الولايات المتحدة، منذ خميسينات القرن الماضي، على تصنيع أجهزة للطيران تتحدى قوانين الجاذبية وأسلحة يعجز حتى الخيال العلمي عن تصورها، للفتك بالبشر… يتم التصنيعُ في مكان اسمه المنطقة 51 Zone، يوجد في ولاية كاليفورينا، وهي منطقة مُحاطة بمنتهى السرية، مضروبة حولها أشد وأكبر إجراءات الحراسة الأمنية في الكرة الأرضية على الإطلاق. قال زعيم إحدى المليونيات:

– يستبلدوننا بزعم أن الأجسام الطائرة مجهولة الهوية OVNI مركبات فضائية تأتي من كواكب أو مجرات أخرى. ليست تلك الآليات سوى رأس جبل الجليد العائم مما يُصنَّع سرا هناك، في المنطقة 51 ! يطلقونها لجس نبضنا واختبار ردُود أفعالنا، وإلهائنا، لربح الوقت، حتى إذا أكملوا تجاربهم، وأنهوا صناعة آلياتهم، أطلقوا أسرابا منها، تحجب الشمس فوق رؤوسكم، وأوهموكم بأنَّ الأرض قد تعرضت لغزو مخلوقات خارجية. ألم يقل أحد رؤساء الويلات المتحدة الأمريكية بأنه ليس من المستبعد أن يتعرض كوكب الأرض لعدوان خارجي؟ ألم ينشروا في الناس نبيا تكنولوجيا مزعوما اسمه رائيل؟! يرهب الناس باجتياح مخلوقات فضائية لكرة الأرض لن ينجو من فتكه سوى «المؤمنين» الذين زرعوا في أجسامهم هذه الصكوك للغفران التي يسميها النبي المزعوم بـ «شرائح إلكترونية»…

في هذا المنحى، ثمة من زعم أنَّ زعماء العالم، تحت ذريعة تمويل مشاريع علمية عالمية مثل نفق سيرن CERN لتسريع الجزئيات بجنيف، وبناء مراصد فلكية لحراسة كوكب الأرض، وغيرها من قائمة المشاريع الكونية الطويلة، قد نجحوا في تهريب أموال طائلة دفعوها رشاوي لمخلوقات فضائية، مقابل أن تحملهم إلى كواكب أخرى والإفلات من الأرض التي أوشكت على السقوط في يد حضارات قادمة من كواكب ومجرات أخرى، بلغت في التقدم درجات لا تعدو أكثر اختراعاتنا تطورا وإثارة للتعجب والذهول أمام مخترعاتها سوى لعب أطفال صغار، ولا نعدو بذكائنا مقارنة مع ذكاء أهلها مجرد قرَدة بونوبو… فقد احتاجت تلك الحضارات، حسب قول أصحاب هذا الرأي، إلى توسيع مختبراتها بإضافة الأرض إلى كواكب أخرى سبق وأن اشترتها بطرق مماثلة لتقيم على مخلوقاتها سائر أنواع التجارب.

ولإيصال هذه الأفكار إلى الحشود في وقت قياسي، تطوعت حشود المترجمين من أرجاء الكوكب الأربعة، فنقلت أشرطة نظرية المؤامرة وسائر الكتب والمواقع ذات الصلة التي تعج بها شبكة الأنترنت، إلى كافة ألسن العالم، عالِمها وعَاميها، في وقت قياسي، ما اتضحَ معه، في نهاية المطاف، أنَّ البشر متى وحدتهم قضية استطاعوا أن يتفوقوا على خلايا النمل والنحل في الكد والاجتهاد ونكران الذات وتذويب مصالح الفرد في مصلحة الجماعة… لكن الأمر أيضا صار يُشبه مسلسلا تلفزيا مشوقا في ذروة عقدته:

فالجميع مطالبٌ بالامتثال لرفض توصيات المؤتمر الطارئ لهيأة الأمم المتحدة، لكون الحكاية كاذبة من الأساس، ولكن في هذا العصيان الشامل خطر على تعريض النوع البشري نفسه للإبداة الذاتية. من يستجب لدعوة العصيان، يعرض نفسه للموت جوعا وعطشا، ومن يرفض الامتثال لمقاطعة العمل يُتهمُ بالعمالة والخيانة، وتلقي رشوة البقاء من بيادق الرؤساء، بعد إبادة النوع البشري. وقد ألصقت هذه التهمة برجال الدين أنفسهم الذين أموا صلاة الموت الجماعية بالرؤساء، في ختام أشغال المؤتمر الطارئ بهيأة الأمم المتحدة، إذ قيل بأنهم كلهم قد اشتُروا، فمثلوا تلك المسرحية الهزيلة، لطمأنة الحشود، مقابل حصولهم على ضمانات الخروج من الأرض لمواصلة الحياة في كواكب ومجرات أخرى.

صارت البشرية كلها مثل زوجة ذلك الأعرابي القديم الذي أمر ربة بيته بصعود سلم، حتى إذا بلغت منتصفه، خاطبها قائلا:
– إن تصعدي فأنت طالق، وإن تنزلي فأنت طالق؛

أو مثل صبيان معلم الزن الذي يمسك عصا بيده، ثم يخطاب الجميع سائلا: هل هذه العصا موجودة أم لا؟ فإن قال أحدهم إنها موجودة موجودة هوى المعلم عليه بها، وإن أجاب آخر بأنها غير موجودة هوى الأستاذ عليه بها ليُدرك إلى أي حد هي موجودة !

————-

محمد أسليـم: النهايـة (رواية) / الفصل الثالث (يُتبعُ)

الاخبار العاجلة