– هل تعتقد الكثير من النساء أنهن كن ضحايا للسحر الأسود؟
من الصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال لسببين: كلمة «الكثير» تظل فضفاضة وغامضة ما لم يتم ترجمتها إلى نسبة رقمية، بيد أن السحر ينتمي إلى مجال الحميميات. ولكونه كذلك، لا أعتقد بإمكان الوصول إلى هذا التدقيق باعتماد استبيانات أو استطلاعات للرأي. ألهذا السبب لا نتوفر على هذا النوع من المعطيات؟ في حدود ما أعلم، لم يأخذ أي باحث حتى اليوم المبادرة في المغرب. من جانب آخر، التقابلُ «سحر أبيض» – «سحر أسود» يتأصل في مرجعية خارج إسلامية، مسيحية عموما، وبالتالي فهو يدخل في باب المفاهيم التي يشيدها الباحث وليس في الظاهرة كما تمنح نفسها للمعاينة ولا في المعجم المتداول بين السحرة والمترددين عليهم.
– لكن، هل يوجد السحر فعلاً؛ بمعنى هل يمكن أن تؤدي الممارسات السحرية إلى حصول الأثر المطلوب منها؟
تعتبر مسألة وجود السحر أو عدمه من القضايا المربكة التي تتحاشى العلوم الوضعية التطرق إليها لتعذر إمكانية الوقوف على بعض مما تسعى هذه العلوم إلى الوقوف عليه، كالعلية والسببية والحتمية، مثلا… وفي اعتقادي، لا يمكن تقديم إلا جواب مربك يتمثل في أن السحر موجود وغير موجود في آن واحد: موجود بالنسبة لمن يزاولونه ويؤمنون بفعاليته، وغير موجود بالنسبة للذين يجحدون به. بيد أنه يليق التذكير بما فطن إليه ليفي ستروس منذ منتصف القرن الماضي وصاغه بما مفاده: لو لم يكن السحر موجودا؛ لو لم تكن له فعالية لتخلى الناس عنه منذ قرون ولما شهدت هذه الممارسة الانتشار الذي تعرفه على صعيدي الزمان والمكان. ومن ثمة، يبقى الأليق التساؤل عن مصدر الفعالية السحرية وكيفية أدائها إلى حصول الأثر المطلوب منها بدل السعي إلى حسم الجانب الأنطولوجي للمسألة.
– أين تكمن قوة الساحر و فعالية وصفاته؟
الساحر، على نحو ما عرفه به ليفي ستروس، هو الشخص الذي: أ) يعتقد أنه ساحر؛ ب) يقدم نفسه للمجموعة الاجتماعية بهذه الصفة؛ ج) تعترف المجموعة الاجتماعية بوضعه الاعتباري كساحر. فعالية السحر فعالية رمزية بالأساس، تمر عبر قناة اللغة (الأساطير)، ويشكل الإيمان المشترك بين الثالوث (الساحر – المجموعة الاجتماعية – المريض أو الضحية) عمودها الفقري.
– وأين تضع الممارسات السحرية المرتبطة بالعلاقات بين الرجل والمرأة، ضمن مطلق الممارسات السحرية في المغرب؟
تشكل العلاقة بين الجنسين أحد الحقول المفضلة لنشاط الممارسات السحرية، وذلك في المسرحين الأساسيين لتفاعل الجنسين، وهما العائلة والمجتمع: في الحالة الأولى يتم استدعاء السحر عموما لوضع حد لتردي العلاقة بين الزوجين. هذا الاستدعاء يتم إما من طرف واحد، الزوجة عموما، أو باتفاق بين الشريكين (نادر). والسيناريو الشائع، في هذا المجال، هو ظن الزوجين أنهما وقعا ضحية سحر طرف ثالث يسعى للتفريق بينهما (هو أحد أقرباء الزوج غالبا) أو الاستئثار بالزوج (امرأة أو فتاة: سحر التأخيذ)، فيتم اللجوء إلى مبطل للسحر يضلع بإعادة رتق العلاقة المهلهلة. أما في الحالة الثانية (السياق الاجتماعي)، فيتم الاستسعاف بالسحر غالبا لوضع حد لعنوسة مطولة، وبالتالي تخطي وضع إقامة مزمنة في طور العزوبة لولوج حقل الزواج وبناء أسرة. وفي سائر الأحوال يشكل السحر خطابا لترميز التحولات التي تشهدها العلاقة بين الجنسين في سياق يتسم بالعصرنة والتحديث، وبالتالي يضطلع بتكريس التقليد أو تبرير انتهاك قوانين هذا التقليد نفسه.
– يشتهر المغرب بين البلدان العربية والإسلامية الأخرى بانتشار الممارسات السحرية على نطاق واسع وبشكل سافر.. لدرجة أن إعلانات السحرة صارت تغطي بعض الصحف.. ما السبب في ذلك؟
تدخل عملية إلصاق صفة تعاطي الممارسات السحرية بهذا البلد أو ذاك، بهذه الفئة الاجتماعية أو تلك، ضمن تمثلات السحر نفسه. وقد سبق للباحث مارسيل موس أن بين ذلك جيدا في «النظرية العامة للسحر» التي وضعها منذ مستهل القرن السابق، والمنشورة حاليا في كتابه «علم الاجتماع والأنثروبولوجيا». هذا المسعى هو في نهاية المطاف عملية للتسمية تصب دائما في كون الذات تعمل دائما على نزع صفة السحر عن نفسها، وإلحاقها بـ «الآخر» أو «الغير». لا أحد يقول «أنا ساحر»، وبالمقابل يؤكد أن ذاك الشخص هو الساحر. يتم هذا حتى في الأوضاع التي يتعذر فيها على مزاول السحر إنكار أنه إنما يزاول «السحر» لا التطبيب أو «الرقية»، مثلا… وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات أيضا داخل البلد الواحد؛ على هذا النحو تم اعتبار السحر ظاهرة متفشية بين الجماعات اليهودية، وبين مزاولي حرفة «الحدادة»، وبين «أهل سوس»، في المغرب مثلا، كما ينطبق على بلدان بكاملها. من هنا شيوع فكرة اشتهار المغرب بالانتشار الممارسات السحرية. وهي فكرة خاطئة تماما. يجب ملاحظة أن مجموع المصنفات السحرية الحديثة واسعة الانتشار بين مزاولي السحر في المغرب حاليا إنما كتبها مشارقة، مصريون أساسا، وعلى رأسهم عبد الفتاح الطوخي الفلكي والسيد الحسيني، وهي كتب تطبع غالبا في لبنان ونادرا في المغرب، إلا أن من المشارقة من يأتي إلى المغرب خصيصا لاستشارتها أو اقتنائها… ويبقى الواقع أن السحر يدخل في باب الممارسات الكونية التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، بما في ذلك القديمة والعصرية، الشرقية والغربية، الإسلامية والمسيحية، البوذية والكونفوشيوسية، التوحيدية والوثنية على السواء.
أما ولوج بعض السحرة حقل الإعلان عن أنفسهم في بعض «الصحف»، فهو بمثابة ظاهرة يمكن النظر إليها من مناحي متشعبة، تحتاج حقا إلى دراسة، إلا أنه بالإمكان تقديم أفكار أولية حولها: قد يرتبط الأمر باتساع ظاهرة التحضر ومايلازمها من تذويب للفرد. بالتالي، للتعريف بالنفس لدى حشود الزبناء المحتملين يسعى بعض مزاولي السحر إلى الاستفادة من هذه القناة الدعائية الجديدة (العصرية) معوضا بذلك – أو معززا – الوسيلة التقليدية وهي دعاية الحكاية «من فم لأذن»، أي اضطلاع المجموعة الاجتماعية نفسها بعملية الدعاية لمزاول السحر. وهنا يمكن تبين حصول تطور داخل فئة مزاولي السحر؛ فناشر بطاقة زياراته على أعمدة بعض «الصحف» لم يعد هو «الفقيه» كما عهدناه في المجتمع المغربي التقليدي، أي ذلك الشخص الذي يتولى تعليم الأطفال وكتابة الرقى والأحجبة في الآن نفسه. في المقابل صار شخصا يقيم في مدينة حضرية كبرى، يقرأ الصحف، له استعداد مبدئي للتعامل مع زبناء قراء، لهم حظ من التعليم… بكلمة واحدة نحن أمام بروز فئة جديدة من السحرة تتألف من أشخاص تلقوا مستوى من التعليم العصري. لكن هذا التطور يسخر أداة عصرية، هي الصحافة، لتكريس التقليد، وضمان استمرار وإيصال ممارسة منحدرة من التقليد. فالمغاربة عموما، ربما كسائر المسلمين، يقدسون المكتوب. وولوج السحر هذه الدائرة، يبدو وكأنه يدخل في سجل نوع من اللعب يمارسه الساحر لا شعوريا على لا شعور الجماعة. والجانب المرئي والمدرك لدى الطرفين (الساحر وجماعته) هو: الاعتراف بصاحب لإعلان، وبالتالي منحه شرعية وسلطة: «قبل كل شيء، لو لم يكن متمكنا من ممارسة السحر لما ظهر في الصحف». هكذا سيفكر الزبناء… لكن أي «صحف» تنشر هذه الإعلانات؟ إنها ما يسمى بـ «صحف الرصيف» المقروءة من لدن شرائح محددة، ليست مثقفة وليست ذات مستوى تعليمي عال على كل حال. أكثر من ذلك، أخبرني مصدر صحفي موثوق بأن أغلب أصحاب هذه الصحف يمارسون عمليات ابتزاز على ناشري هذه الإعلانات بما يضمن للصحيفة موردا ماليا قارا، ومن هنا سر ثبات ودوام الإعلان الواحد عن هذا الساحر أو ذاك…
صدر نص الحوار التالي في مجلة «نساء من المغرب»، العدد: 38 – غشت / شتنبر 3002، ص. 40-41، إنجاز: مصطفى واعراب
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 26-08-2012 04:07 صباحا