في سياق اجتماعي تصل فيه نسبة الأمية نصف المجتمع أو أكثر، فضلا عن غياب تقاليد قرائية عريقة، بحكم حداثة دخول مجتمعنا في دورة التحديث، من الطبيعي جدا أن تقع الرهانات في جهات أخرى بما يجعل الإنتاجين الفكري والإبداعي، بل وحتى الفني، وتلقيهما أمرين لا يقعان في جدول أعمال الانشغالات الفورية ليئتنا. والحالة هذه، هل نشكو كون عدد سحب معظم الكتب، في أفضل الاحوال، لا يتجاوز 5000 نسخة يلزم جلها انتظار سنوات للنفاذ؟ هل نتعجب من كون الاستثمار في قطاع النشر يُعتبر مجازفة غير مضمونة العواقب بالنسبة للناشر ومنالا غير سهل الوصول بالنسبة للكاتب والباحث؟ وحده المستقبل كفيل بتبين الحكم الذي ينبغي إصداره تجاه هذه الظاهرة الفريدة المتمثلة في تولي مجموعة كبيرة من المبدعين والباحثين النشر على نفقتهم الخاصة إلى حد ظهور مصطلح ما يُسمى بـ «المؤلف الناشر».
اجتزتُ شخصيا هذه التجربة التي تشبه إلى حد كبير العمل النضالي، حيث آخر ما يمكن أن يشغل من يخوضها هو الاعتبارات المادية، ونشرتُ القسم الأعظم من كتبي عبرها.
وإذا كانت هذه الوسيلة أتاحت التعريف بتلك الإنتاجات، فإنها في المقابل لم تتح إطلاقا الوصول إلى القراء في جميع أنحاء المغرب؛ فلشركات التوزيع بدروها حكاياتها الأخرى التي تجعلها ترى في توزيع الكتب الصادرة على نفقة المؤلف استثمارا غير مضمون العاقبة إطلاقا.
في هذا السياق شكل حادث الشبكة العنكبوتية هبة لدنية لم يحلم بها مؤلف من قبل، بما تتيحه، عبر بناء موقع شخصي لا غير، من نشر ليس لمجموع مؤلفات الباحث أو الكاتب فحسب، بل وسائر مقالاته والكتابات التي تناولت أعماله القديم منها والجديد على السواء، الأمر الذي يتيح إحياء الأعمال التي يقتلها النشر الورقي بإكراهاته المادية المتعددة، ناهيك عن إمكانية نشر أعمال للغير، وهو ما حاولتُ القيام به شخصيا عبر موقعي الشخصي www.aslim.org.
بتعبير آخر، جاء النشر الإلكتروني ليفك عزلة الكاتب من خلال تمكينه من تخطي جميع حلقات الوساطة التي كانت تضع مسافة بينه وبين القارئ، ومن ثمة الوصول رأسا إليه. أكثر من ذلك من خلال بناء موقع شخصي يغدو الكاتب ممتلكا لما يعادل دار نشر بكاملها، وبمعنى الكلمة، تقف على قدم المساواة مع جميع ناشري الويب. وفيما يلي بعض مميزات هذا الشكل الجديد للنشر:
النشر الإلكتروني لا يعرف إكراهات طول النصوص الذي يفرض على الكاتب والناشر نفسه فرضا، إذ بمقدار كبر عدد صفحات الكتاب تزداد كلفة إنتاجه: فالمنشورات الافتراضية توضع في خوادم تزداد سعتها التخزينية يوما عن يوم، حتى إن الحديث جار عن ابتكارات ستفضي إلى وضع ما يعادل الموارد النصية للخزانة الوطنية الفرنسية كاملة في مساحة لا تتجاوز سعة رأس إبرة. ثم إن ثمن شراء أسماء النطاقات وكراء مساحات تخزين المعلومات تعرف تراجعا مذهلا بالنظر للتطور الحاصل في حقل الصناعة المعلوماتية، من جهة، والمنافسة الشرسة القائمة بين شركات الاستضافة من جهة ثانية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يعرف النشر نفسه إكراه الزمن: يمكنك أن ترسل نصك إلى أي منبر، فيظهر دقائق بعد الإرسال. في حين تفرض الطباعة والتوزيع في حقل الورق إكراهات تبلغ حدا يمكن نعته بـ «الفضائحي» في الحقل العلمي بالخصوص، حيث الكثير من الاكتشافات ونتائج الأبحاث تتعرض للتعديل ما لم تصبح لاغية لحظة وصولها للقارئ.
أكثر من ذلك، بمجرد ما يوضع النص رهن التصفح يصير قابلا للقراءة انطلاقا من أي نقطة من نقط الكوكب، من لدن أي قارئ معني بقراءته، والذي يكفيه لأجل ذلك أن يتوفر على جهاز متصل بالشبكة. ومعنى ذلك أن النصوص تتخطى حاجز المكان وتعفي الناشر من المبالغ المالية الطائلة التي يتطلبها توزيع الكتاب الورقي.
أخيرا، بعد النشر، يصير بإمكان الكاتب تتبع حياة نصه عبر عدادات الزوار، فيعرف كم عدد القراءات التي حظي بها نصه، وإذا ما توفر في منبر النشر إمكانية التفاعل تعرف الكاتبُ أيضا على وجهات نظر القراء حول منشوره وتقويماتهم له. وخلال ذلك قد تنشأ علاقات صداقة غيرها بين الكاتب وقرائه، وتواصلات موازية.
وتلك كلها أمور مفتقدة في النشر الورقي.
فشكرا، ثم شكرا لهذه الهبة اللدنية المسماة بـ «الرقميـة».>
(الورقة الحالية نص جواب عن سؤال: باعتبارك كاتبا ومصمما لموقعك الشخصي ومشرفا عليه (وهو من أهم المواقع العربية بدون مجاملة) كيف تتصور انتقال إصدار كتبك من النشر المادي الورقي إلى النشر الإلكتروني الافتراضي؟ أرسله حسن الوزاني، في إطار بحث يعده حول وضعية الكتاب في المغرب من خلال بحث ميداني لدى اختصاصيي الكتاب والمؤلفين)
(منتديات ميدوزا 15/02/2005)
الكاتب:محمد أسليـم بتاريخ: الإثنين 27-08-2012 03:32 صباحا