Notice: _load_textdomain_just_in_time تمّ استدعائه بشكل غير صحيح. Translation loading for the amnews domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. من فضلك اطلع على تنقيح الأخطاء في ووردبريس لمزيد من المعلومات. (هذه الرسالة تمّت إضافتها في النسخة 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
الدولة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي: 03 – القيم الأول: نظرية السلطان – محمد أسليـم

الدولة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي: 03 – القيم الأول: نظرية السلطان

1523 مشاهدة
الدولة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي: 03 – القيم الأول: نظرية السلطان

القســم الأول: نظـريـة السطـان
الفصــل الأول: في عقلانية السلطة والسلطان
I. عقلانيـة أسـُس السّلطـان:
في فكر ابن المقفع، هناك بالخصوص هذا المرتكز العقلاني للسلطة السياسية الذي ينحدر من طبيعة المجتمع نفسه المقسَّم إلى حاكمين ومحكومين. إنها فكرة جديدة في المجتمع الإسلامي وغريبة عن الإيديولوجيا المهيمنة. في الواقع، يقيم الإسلام ثنائية (مؤمن – كافر) لا ثنائية (حاكم – محكوم). وباستبدال الأولى بالثانية، يـبرهن ابنُ المقفع على الضَّرورة القصوى لوجود السلطان وجدواه. وهو في ذلك يتعارض أيضا مع بعض التيارات «الفوضوية» لعصره

1. الدولة والعقل: الدولة العقلانية وسلطان العقل

من السابق لأوانه شيئا ما مناقشة مفهوم العقل عند ابن المقفع، ولذا سنتركه إلى سياق آخر من العمل الحالي. من الهام أوَّلا معرفة التمثل الذي يقيمه المؤلف حول العلاقة (عقل – دولة)، وكيف نجح في تأسيس السلطان على العقل مع شرعنة كليهما.
يتعلق الأمر في هذا المستوى بدراسة السلطان باعتباره ضَرُورَة ومنحه، بالتالي، خاصية «طبيعية».
يجري ابن المقفع في واحد من كتبه النفيسة مُقارَنة مجازية بين ثلاثة عناصر أساسية، في نظره، لحياة المجتمع هي: الدولة، والعقل، ثم العافية، وذلك من خلال الحكاية التالية:
«اختلف ثلاثة في العقل والدولة والعافية، فقال بعضهم: العقل أفضل، وقال آخر: الدولة خير، وقال الثالث: العافية خير الأشياء كلها. وكل منهم أثنى على ما فضله وفضَّل ما انتصر له. فلما انتهى بهم الخطاب إلى غايته أتوا حكيما في عصرهم فاضلا له في الإصابة عجائب، حتى إنه يتصور في خاطره الأشياء على صور مختلفة، فسألوه أن يحكم بينهم ويبين لهم الفاضل من المفضول. فقال لهم: إني فاعل ذلك. ففكر فيما سألوه فتمثل له العقل على صورة شاب حسن اللون عليه ثياب فاخرة وزينة ظاهرة، وكأن وجهه الشمس الطالعة، ذات الأنوار الساطعة، وهو جالسٌ على قعدة مربعة. ثم تصورت له الدولة في صورة شاب طويل الجسم قوي البدن عَبْل الذراعين متين الساعدين عظيم المنكبين، لا يُحدّ مدى قدرته ولا يُوقف على غاية قوته، وفي بصره بعضُ الغشاوة، وهو قاعد على كرسي مستدير متدحرج، ثم تصورت له العافية في صورة امرئ مصبغ الثياب، طيب الريح، كثير الزينة، وهو جالس على عَجلة. فسأل الحكيم العقل وقال: ما هذا النور الذي عليك؟ قال: هو العلم والبَصَر. قال: فما هذه الزينة التي عليك؟ قال: هي الوقار والتي بها قوام العالم وتمام أمور الدنيا وهي اللذة العلمية التي عليها يجري المتعلمون. قال: فما هذا الكرسي المربع الذي أنت قاعد عليه؟ قال: هو لأني إذا حللت موضعا لم أزُل عنه إلا أن أزال. ثم سأل الدولة وقال: ما هذه القامة الطويلة والأوصال الغليظة والمادة الثابتة في الأحوال كلها؟ قال: هو عِظم قوتي، وشدة صولتي وغَلبتي، تفضل قوتي وقدرتي الكثير من الجند والعديد من الفرسان باليسير الضعيف من الأعوان. قال: فما هذه الغشاوة التي في عينيك؟ قال: لوقوعي إلى من لا يستحقني ومن يستحقني، وكوني في غير أهلي مرة وفي أهلي أخرى، فصرتُ لذلك أغشى. قال: فما بالك أمرد؟ قال: لأن ذلك أفضل حالات الإنسان. قال: فما هذه الثياب المصبغة التي أراها عليك؟ قال: هي حليتي وزينتي. قال: فما هذه العجلة التي أراك جالسا عليها؟ قال: هي سرعة إجابتي إذا حُركتُ، ولزومي موضعي إذا تُركتُ. ثم تصوّر له في خاطره كهل حسن الوجه ربع القد مُقتدر الحركات مُعتدل الأوصال، عليه ثياب بيض نِظاف، بإحدى يديه السّكَّر وفي الأخرى الصَّبر، وبين يديه دواء مركَّب، وهو جالس على سرير، له قوائم أربع، فسأله الحكيم وقال: من أنت؟ قال: أنا العدل. قال: فما بالك رَبع القامة معتدل الحركات؟ قال: كذا ينبغي أن يكون العدل واسطا بين الطرفين، قال: فما هذه الثياب البيض النظاف التي أراها عليك؟ قال: لأنه لم يَشبها دَنَسُُ ولا خِلطُُ. قال: فما هذا السّكر الذي في إحدى يديك والصَبر في الأخرى، وما الدواء المركب الموضوع بين يديك؟ قال: أما السكر، فهي الحلاوة التي يجدها من أقضى له بالحق؛ وأما الصبر، فهي المرارة التي يجدها من أقضى عليه؛ وأما الدواء المركب، فهو مركب من الأخلاط على التداوي ليكون معتدلا، وهو دليل الصلح يكون بين الخصمين. قال: فما هذا السرير الذي أراك جالسا عليه؟ قال: لا يصلح لي غيره لأنه لو نقص منه قائمة لنقص شكل المساواة ولظهر ميل السرير واعوجاجه وأنا ضدّ ذلك. قال الحكيم: فأنا أسألك أن تحكم بين هؤلاء وتقضي بينهم لأنك العدل. قال العدل للعقل: أما أنت فما معنى مخاصمتك لهذين وأنت تعلم أن الأمور كلها لها جهات، فبعض الأشياء أفضل في جهة وبعضها أفضل في جهة، وأنت أفضل في كل الجهات، وكل واحد من هذين الخصمين خُلق لأمر واحد وأنت المحيط بجميع العلوم؟ قال العقل: صدقت أيها العدل، وما أحوجني إلى هذا الموقف إلا ظلم الدولة إياي وجورها علي في باطن ادعائها الفضل لنفسها، ولا أستريح منه حتى تحكم بيننا بحكمك. قال العدل: أما إذا ادعيتم أني فاصل بينكم بحكمي فأقول: أيها العقل إنك بصر ونور، وأنت أيتها الدولة فقوة وقهر وتدبير، ولا تمام إلا باجتماعكما فاجتمعوا. قال: فاعتنقوا وصاروا هنالك شيئا واحدا، ثم التفت إلى العافية فقال: أنت زين وجمال ولذة ومتعة، فمن كنتِ معه انتفع بنفسه وطابت الحياة حسُن عيشه»[1].

أ – مناهضة الفوضوية عندَ ابن المقفع:
«وقد علِمنا علما لا يخالطه شك أن عامَة قط لم تصلُح من قبل أنفسها وأنها لم يأتهَا الصَّلاح إلا من قبل إمامها…»[2].
وإذن فالمؤلف يعتبر السلطة السياسية ضرورية للحياة داخل الجماعة ولتحقيق رخاء العامة التي يعتبرها تفتقر إلى الكفاءة والاستقرار على حال. وهو في ذلك يتعارض مع تيارات عديدة كانت تعمل داخل المجتمع:
1 – الأولُ القدريون، وكانوا يعلنون أنَّ تنصيب الإمام ليس ضروريا. ومثل هذه الأفكار كان يُنسَب لابن بكر الأعصم وهشام القوطي[3].
2 – وابن المقفع نفسُه يُشِيرُ إلى وُجُودِ فريق من الناس يقول: «الناس نظائر ولا يقوم بأمرهم إمام…»[4].
على العكس، عندما يعالج المؤلف ضرورة الحكم، فإنه يرجع إلى اللحظات المجيدة لملوك الفرس ليقابلهم بمعَاصِريه الذين أرسوا حكمهم على الدِّين. إلا أن مؤلفنا يرى أن العقل هو الذي يؤسس السلطان لا الدين:
«إنه لا جدال في أن الناس في الزمن الأول، مع معرفتهم لعلم الدين ومع ثباتهم ويقينهم، كانوا محتاجين إلى ملك صاحب راي ليقضي فيما يقع بينهم من خلالف ولا قوام للدين ما لم يبنه الرأي»[5].
أكثر من ذلك، يرى ابن المقفع أنه حيثما تغيب سلطة سياسية قوية تضمن أمن الإنسان، لا يمكن أن تكون هناك سعادة: لأن «شر البلاد بلادٌ لا خصب فيها ولا أمن»[6]. لا يتعلق الأمر هنا بأمن عسْكريّ فقط، بل يتعلق أساسا بسلطان يضمن العافية الاجتماعية. «أربعة أشياء أصفار: النهر الذي ليس فيه ماء؛ والأرض التي ليس فيها مَلك؛ والمرأة التي ليس لها بعل؛ والجاهل الذي لا يعرف الخيرَ من الشر»[7]. يرى ابن المقفع أن النظام عنصر أساسي للمجتمع، وهو في هذا يُعَارضُ العنفَ الذي صَارَ «شريعة للمحدثين»:
«فأما سنة الأولين فهي العدل، وقد درست معالم طريق العدل إلى حد أنك لو وصفت رجلا في عهدنا هذا بأنه عادل لحمله الجهل على العجب واستصعاب الأمر. وأما سنة الآخرين فهي الجور، فقد استراح الناس إلى الظلم إلى حد أنهم لا يتحولون عن سبيله الضارة إلى المنفعة التي يحصلون عليها بتفضيل العدل»[8].
إن غياب السلطان و / أو فساده هو ما يُصَعِّدُ العنفَ، ويزرعُ الفوضى داخل المجتمع:
«وإذا ضل الناس في زمن الفساد، ولم يكن يضبط الأمن، طمعوا فيما ليس لهم، وضاعت الآداب وأهملت السّنن وأغفل الرأي، واقتحم الخلق أنفسهم في مسالك لا تعرف نهايتها، وصرحت الغلبة، وحمل بعضهم على بعض برغم تفاوت المراتب والأقدار، حتى يقضى على الدنيا والدين جميعا، ويغدو الناس كالشياطين والوحوش»[9].
هذا ما يفسر لماذا استهلَّ المؤلف رسالته في الصحابة بمعالجة قضايا الجيش، ولماذا ألح على توحيد النظام القضائي… بعبارة أخرى، (هذا ما يفسر لماذا ألح) على الوسائل التي يملكها السلطان للتحكم في المجتمع. وانطلاقا من هذه النقطة بالضبط يتناول تأمل ابن المقفع مسألة أخرى، وهي الدَّوْلة والمجتمع. كيف تخلق الشرعية؟ (بالطاعة). من يخلقها؟ (المجتمع) ولصالح من؟ (النخبة).

ب – الطاعة، السّلطان والعقـل:
تتأسَّسُ شرعية الأمير، في تصوّر ابن المقفع، على الطاعة التي يجب أن توليها له العامة. بيد أنَّ الطاعة لا يمكن أن تقدَّمَ إلا لمن أسماهم بـ «الملوك العظام»[10]. لا يستحق الأمير الطاعة إلا إذا استجاب لتطلعات العامة والمهام المرتبطة بمرتبته[11].
لقد كاد هذا المشكل أن يفجر المجتمع الإسلامي، وأثار مجموع النقاش حول أصل الفِرق والمدارس الفكرية. وبالرجوع إليه، لم يجب ابن المقفع فقط عن سؤال الراهنية وإنما أرَادَ النفاذ إلى عمق سلطة الخلافة. بالإضافة إلى ذلك، كان يريد تطبيق جوابه أيضا على تحديد اختصاصات وصلاحيات مَن بيده السلطات الروحيةّ:
«فإنا قد سمعنا فريقا من الناس يقولون: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”؛ بنوا قولهم هذا بناء معوجا؛ فقالوا: “إن أمَرنا الإمام بمعصية الله فهو أهل أن يُعصى، وإن أمرَنا [غير] الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع؛ فإذا كان الإمام يُعصى في المعصية وكان غير الإمام يُطاع في الطاعة فالإمام ومَن سواه على حق الطاعة سواء”»[12].
كان آخرون، بحسب ابن المقفع، يقولون أيضا: «”بل نطيع الأئمة في كل أمورنا ولا نفتش عن طاعة الله ولا معصيته، ولا يكون أحدُُ منا عليهم حسيبا: هم ولاة الأمر وأهل العلم، ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم»[13]. يشكك ابن المقفع في هذه الطاعة السلبية التي ليست «بأقل ضرارا في توهين السلطان وتهجين الطاعة» لأنها تنتهي «إلى الفظيع المتفاحش من الأمر في استحلال معصية الله جهارا صُراحا»[14].
وابن المقفع من أنصار نظرية توضح وتحدد الأحكام التي يجب طاعة الإمام على أساسها:
«فأما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يُطاع فيه غيره، فإن ذلك في الرأي والتدبير والأمر الذي جعل الله أزمَّته وعراه بأيدي الأئمة، ليس لأحد فيه أمرُُ ولا طاعة، من الغزو والقفول والجمع والقسم والاستعمال والعزل والحكم بالرأي فيما لم يكن فيه أثر وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة ومحاربة العدو ومُخادعته والأخذ للمسلمين والإعطاء عنهم؛ وهذه الأمور كلها وأشباهها من طاعة الله – عز وجل – الواجبة، وليس لأحد من الناس فيها حق إلا الإمام؛ ومن عصى الإمَامَ فيها أو خذله فقد أوتَغَ نفسه»[15].
إلا أن الأمير يجب عليه، شأنه في هذا شأن العامة، أن يحترم اختصاصاته دون تجاوزها، وإلا فقد دعا العديد من التجاوزات من هذا الجانب وذاك إلى إراقة الدماء:
«فلما كثر الفساد وخرج الناس عن طاعة الدين والعقل والسلطان، وأصبحوا ولا زاجر لهم، بات مجدُ هذه الدولة ولا حمى له بغير إراقة الدماء»[16].
في الواقع، إذا كان المجتمع ينقسم إلى طبقات[17]، وبالخصوص إلى حاكمين ومحكومين، فذلك ليحترم كل واحد من هذين المكونين صلاحياته ووظائفه. على النحو ذاته، إذا كان ابن المقفع يقسم المجتمع إلى حاكمين ومحكومين، فلكي يشدد على ضرورة السلطان. ولكنه لا يذكر هل هذا التقسيم طبيعي أو ضروري.

2. عن ضرورة تقسيم المجتمع إلى حاكمين ومحكوميـن:
أ – عن طبيعة العامـة:
بخلاف الأمراء، فإن «الناس مجبولون على الشر والفتنة»[18]. وطبيعة العامة تجعل السلطة جزافية (aléatoire): «أشد ما يجب أن يُخشى عليـه هو ما ستصير العامة إياه». وإذن فهو حكم متشائم حول العامة[19]، ولكنه ليس نهائيا مادامت هذه العامة قابلة للتربية[20].
1 – العامَّة والانحطَاط: يبدأ الانحطاط عندما يُباحُ للرعايا أن يشغلوا أنفسهم بأشياء أخرى غير أشغالهم التقليدية وأنشطتهم المألوفة. العامة شديدة الحساسية إزاءَ المعتقدات، وهي تتبعها تقريبا دون تفكير في طبيعتها. ومن هذا الاختلاف للمعتقدات تنشأ بين الناس العداوة والكرَاهية، وهُوَ مَا يُعتَبَرُ مُناقضا لمبدإ الحيَاة دَاخل المجتمع نفسها:
«فإذا فشا الصراع تولد منه النظر في الأمور والفكر في الأصول، فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف المذاهب ويتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم، وتضاغنهم، وتطاغنهم»[21].
عندما يبدأ الانحطاط، ينقسم الناسُ حول الأشياء قاطبة إلا حول كراهية ملكهم:
«وهم [الناس] في ذلك [ما سبق ذكره] مجتمعون في اختلافهم على بُغض الملوك لأن كل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه»[22].
ويعتبر الدين الوسيلة المضمونة التي تتخذها العامَّة مطية للوُصُول إلى ذلك، لأنه يأتيها بأكبر عَدَدٍ من الأنصَار، فضلا عن أنه من الصَّعب جدا محاربته. فماذا يجري بعد ذلك؟
«ثم يتولد من عداوتهم كثرتهم فإن من شأن العامة الاجتماع على استثقال الولاة والتعاسة عليهم لأن في الرعية المحروم والمضروب والمقام عليه وفيهم من حميمه الحدود والداخل عليه بعز الملك الذل في نفسه وخاصته فكل هؤلاء يجري إلى متابعة أعداء الملك».
«يعيش القانع الراضي مستريحا مطمئنا وذو الحرص والشره يعيش ما عاش في تعب ونصب»[23].
إنَّ الحكم الذي يصدره ابن المقفع حول العامة حكمٌ قاس، ولكن يليق التقليل من حدته بالنظر إلى الوضعية الفوضوية التي كان يوجد فيها المجتمع في بداية حكم العباسيين. يلاحظ ابن المقفع أن وضع الأمير، في مثل هذه الظروف، لا يكون مريحا:
«أو [نجد أخيرا] حال رعية متَّزرة ليس من أمرها النَّصَف في نفسها، فإن أخِذَت بالشدة حميَت وإن أخِذَت باللين طَغَت[24].
إن العامة مجبولة دائما على التقلب، الأمر الذي يسقطها في أسوأ البلايا من جراء ما يصدر عنها من تصرفات مهووسة:
«تشبه معاداة الحكام فيضانا في غمرة الليل، لا يعرف المرء من أين جاء ولا كيف يحمي نفسه منه»[25]
هل يمكن تجنب هذه الوضعية؟ نعم بالتأكيد، ووسيلة ذلك هي التربية. على السلطان أن يقوم بتربية شعبه لتجنب انحلال الرعايا وضمان استقرار نظامه.
2 – عن تربية الشعب: يلاحظ ابن المقفع أنَّ:
«بالناس من الاستجراح والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشدّ من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها»[26].
تنشأ ضرورة تربية العامة من طبيعتها غير المستقرة ومن ميلها للفوضى واحتقار الحكام:
«اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد الرعية وأنه لا سلطان للملوك على القلوب»[27].
الشعب في تصور ابن المقفع ذاتُُ ليِّنة، نوعٌ من النابض (ressort) الذي يمكن معالجته باليد في جميع الاتجاهات، ولكنه وحدَه يعرف اتجاه صحوه. في هذا المستوى، يجب على الأمير أن يتحكم في الشعب لتجنيب مُلكه الخراب.
بيد أنَّ الشعبَ هو أيضا خليط فئات من الأشخاص، وهناك فئة لن يكون لتربيتها و/أو الرفق بها أي نتيجة. في هذه الحالة يجب على الأمير ألا يتردَّد في استعمال القوة مع هذه الفئة «الأشد دناءة من الشعب».
ولكن هل يتوفر الأمير على طريق وسَط، بين اللين والقسوة، من شأنه أن يجنبه تقصير ذلك اللين وإسراف هذه القسوة؟ يجيب ابن المقفع بنعم:
«فإذا كان الملك محصنا للأسرار، متخيرا للوزراء، مهيبا في أعين الناس، بعيدا عن أن يقدَر عليه، كان خليقا ألا يُسلب صحيحَ ما أوتي من الخير»[28].
ومع ذلك، فتربية الشعب ليست مفروضة على الأمراء وحدهم، بل وكذلك على هذه النخبة التي استخلصها المجتمع، والتي يجب أن تكون مهيأة للعمل لما فيه خير للحياة الاجتماعية.

ب – عن الطبقة السياسية: النخبـة:
«وفي كل قوم خواصّ رجال عندهم على هذا معونة إذا صنعوا لذلك وتلطِّف لهم وأعينوا على رأيهم وقوّوا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبطهم له»[29].
هذه النخبة هي ما يترجمه شارل بيلا بالفاعلين الخاصين (agents spéciaux). بأي وجه هم فاعلون؟ بتعبير آخر، ما هو الوضع الاعتباري الاجتماعي للنخبة؟ وما الوظيفة التي يمكن أن تؤديها؟[30]

الوضع الاعتباري للنخبـة:
يرى ابن المقفع أن الوضع الاعتباري للنخبة يتبع لطبيعة المجتمع. مادام المجتمع ينقسم إلى طبقات اجتماعية، فإن النخبة تتمتع بتفوق أخلاقي وتراتبي لا يناقش. إنها قمة المجتمع.
«اعلم أن الناس في الدين أربعة أعضاء، وقد ورد كثيرا في كتب الدين، بلا جدال أو تأويل أو خلاف أو أقاويل، أن هؤلاء يسمون الأعضاء الأربعة، ورأس هذه الأعضاء الملك. والعضو الأول هو أهل الدين. وهذا العضو أصناف، فمنه الحكام والعباد والزهاد والسدنة والمعلمون. والعضو الثاني المقاتلة، وهم قسمان: الفرسان والرجالة، وهم يتفاوتون بعد ذلك بمراتبهم وأعمالهم. والعضو الثالث الكتاب، وهم أيضا طبقات وأنواع، فمنهم كتاب الرسائل والمحاسبات والأقضية والسجلات والعقود وكتاب السير. ويدخل في طبقتهم الأطباء والشعراء والمنجمون. والعضو الرابع المهنة، وهم الرعاة والتجار وسائر أهل الحرف»[31].
ما معنى هذا التقسيم؟ إنه لا يحيل، من وجهة نظر الإسلام، على الأقل، على أي معيار ديني. أأراد ابن المقفع المقابلة بين ديانتي الأفستا والإسلام الذي يريد لنفسه أن يكون دين مساواة لا يشرعن وجود طبقات أم تراه أراد فقط أن يجيب عن انشغاله بالمحافظة على النظام الاجتماعي مُتصورا هذه الحالة التي وإن كانت قصوى، فهي تقليدية في الفكر القديم؟
في كليلة ودمنة، يحيل ابن المقفع ضمنيا على نظام اجتماعي ثلاثي يتألف من الحكام، والجيش، والفقهاء. إنها مَنابت النخبة الثلاث.
يتعلق الأمر هنا بتقسيم تقني دقيق، دليل على فعالية اجتماعية ووسيلة لاحترام النظام. وهو تقسيم لا يشرعن هيمنة طبقة على أخرى ولا يسمح بذلك إطلاقا، لأن المجتمع، في هذا الفكر، عبارة عن مجموعٍ لكل مكون من مكوناته قيمة ومكانة:
«ليس أحد يصغر أمره إلا وقد يكون بعض الغناء والمنافع عن قدره، حتى العود الملقى في الأرض ربما نفع فيأخذه الرجل فيحك له أذنه فيكون عدته عند الحاجة إليه»[32].
من أين تستمد النخبة تفوّقها؟ أمن معرفتها؟ أمن وَظيفتها السّياسية أم من دورها باعتبارها مربية للشعب؟ إن تفوق النخبة هو نتيجة تآلف ثلاث وظائف سبق ذكرها أعلاه، تعتبر أساسية للمجتمع والدَّولة.

الوظائف الاجتماعية للنخبة:
تبقى مسألة معقدة، وهي مسؤولية النخبة في استنكار تجاوزات السلطة السياسية ومعاكسة تصرفات الأمير السيئة. هنا نريد، بالأحرى، التركيز على القيمة الاجتماعية للنخبة بوصفها مجموعة من الأشخاص المتوفرين على معرفة كافية لمعرفة العامة ومشاكلها ثم لتربيتها: المنتمون إلى النخبة، بحسب ابن المقفع، «يتفقدون أمور عامة من هم بين أظهرهم، حتى لا يخفى عليهم منها مُهم، ثم يستصلحون ذلك ويعالجون ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح…»[33]. كيف ستستطيع هذه النخبة أن تنجز وظائفها؟ يجب «إلغاء مركزيتها». ها هي فكرة يبدو أن باكورتها تعود إلى ابن المقفع: يرى أنه من الأساسي تقريب الشعب من التيارات والمكتسبات الثقافية لعصره:
«وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراءُ إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدِّبون مقوِّمون يُذكرون ويُبصِرُونَ الخطأ ويعظون عن الجهْل ويمنعون عن البدع ويُحذرون الفتن»[34].
تستطيع النخبة أن تضمن الاستقرار للسّلطان والمجتمع لأنَّ حُضُورها يتيح[35]:
– أولا، رجوع مثيري القلاقل والشقاقات إلى النظام، عودة المحرضين على الفتنة إلى الوئام.
– في المقام الثاني، «ما يقوم أحدٌ بحركة تمسّ العامة إلا ويلاحظ حركته رجلٌ مخلصٌ أمينٌ، ما يُهَمْهِمَ أحدٌ إلا وتميل إليه أذنٌ شفوقة»[36].

II. عن طبيعة السلطـان وأشكالـه:
ما السلطة؟ سؤالٌ أبدي للإنسانية، حوله تمفصلت ولا زالت تتمفصل المجتمعات والأمم:
«ما يُستخلص من تاريخنا هو أن الحياة السياسية، تماما كتأملها في الفكر، لم تستطع إنتاج [شيء آخر] غير السلطة – ولكن ليس أي سلطة – لأن كل مجتمع يستوجب رؤية وشكلا محدَّدا من هذه السلطة»[37].
لكن إذا كانت السيطرة – نتيجة و / أو تجل للسلطة – واحدة، فإن أشكالها ومرتكزاتها الإيديولوجية تختلف من مجتمع لآخر. فقد كتب ابن المقفع لأمراء أسسوا سلطانهم على شرعية الانتماء إلى «بيت الرسول» وكانوا يعتبرون هذا السلطان بمثابة «هبة من الله». في هذه الظروف يتضمن عمق خطاب ابن المقفع كشفا عن هذا الإفراط في الشرعنة الدينية؛ بل إنه يمضي إلى حد القول بأنه ليس من الضروري البحث عن أصول السلطة السياسية في ميتافيزيقا – ولو دينية[38] – غير مؤكدة تماما. السلطة السياسية موجودة هنا، إنها واقع يومي يشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية ويخضع لتجاذباتها وصراعات مُكوِّناتها. السلطة هي «العز والأمن والسرور والقدرة على طباع الأنفة والجرأة والعبث»[39].
ولكن صورة السلطان / القوة تكشف أيضا للمؤلف عن نوع من الغـاب:
«وإنما شبه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والأنهار الجارية والجواهر النفيسة والأدوية النافعة، وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضار مخوف، فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه أشد»[40].
لأن السّلطان موضوع صراعات دائمة بين جميع هذه الحيوانات التي تحاول الانقضاض عليه…، فإنه يصنع من الضحايا أكثر مما يصنع من المنتصرين. وإذن، فالسلطان يأخذ، في رأي مؤلفِنا الكاتبِ الأخلاقيِّ، كذلك سمات النقيصة (vice)، أو على الأقل سمات لعبٍ محفوفٍ بالمخاطر.

1. عن طبيعة السلطان: السلطان غير مستقر لأنه ثمين:
رأينا كيف يقسم المؤلف المجتمع إلى حكام ومحكومين. إلا أن هذا التقسيم، مع ذلك، ليس سوى مؤقت لأن كل فرع من فروع المجتمع يسعى إلى حيازة السلطان والتمتع بامتيازاته.

أ – تقلب السلطان:
يكمن السلطان في الحكم والسيطرة، ويمنح لمالكه وضعا اعتباريا يجعله «ساميا وعالي الرتبة» في المجتمع. غير أن بُعد السلطان بداخل الإنسان ليس عميقا. فهو ليس الدين، إذ لا ينفذ السلطان إلى داخل الشخص البشري. إن فعلية السلطة تتحدَّد في طبيعة الشخص البشري وفي تصرفاته التي يُظهرها. يشدد ابن المقفع – وهو أمرٌ جدير بالتذكير – على هذه الطبيعة المحدودة بالضرورة:
«اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجساد الرعية وأنه لا سلطان للملوك على القلوب»[41].
أمثلة عديدة مقدَّمة على هذا النحو:
«واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات أيديهم فلن تغلبوهم على عقولهم»[42].
وإذن كيف نتعجَّبُ من أن تكون السلطة دائما مهدَّدة: فهي توجد وسَط صراعات بين طبقات، عائلات، جماعات، وبل حتى أشخاص. كثيرون هم الذين يتنافسون من أجل تملكها:
* ) أوَّلا ممتلكوها القدماء: «لم يخرج الملكُ من قوم إلا بقيت فيهم بقيـة يتوثبون بها، ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم»[43].
* ) وبالخصوص وارثها المحتمل:
«واعلموا أنَّ ابن الملك وأخاه وعمه وابن عمه كلهم يقول كدت أن أكون ملكا وبالأحرى أن أموت حتى أكون ملكا. فإذا قال ما لا يسر الملك، فإن كتمه فالداء في كل مكتوم، وإن أظهره كلم في قلب الملك كما يكون لقاحا للتباين والتعادي، وستجد القائل ذلك من المتابعين والمحتملين والمتمنين ما تمنى لنفسه ما يريده إلى ما اشتاق إليه شوقا. فإذا تمكن في صدره الأمل لم يرج النيل له إلا في اضطراب من الحبل وزعزعة تدخل على الملك وأهل المملكة. فإذا تمنى ذلك فقد جعل الفساد سلما إلى الصلاح ولم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط، وقد رسمت لكم في ذلك مثالا لا مخرج لكم منه إلا به»[44].
يجب إذن على الملك أن يتجنب تنصيب ولي للعهد مُسَمَّى لأن ذلك يجعل الملكَ غير مستقر ويشكل خطرا على من بيده:
«فاعلم أن الملك قد فكر مليا في فساد من قد يسميه بعده. فإنه يعينه ويسميه سيجعله مناط تفكير الناس جميعا. فإذا قرب منه قليلا رجلا غيره نَفِسَ على من قرَّب. ثم ألا يقول الملك حين يرى ولي عهده “إن هذا الرجل ينتظر ويترصد موتي؟” وحينئذ يخمد ما في القلب من الود والمحبة والشفقة. وإذا كان صلاح الملك والرعية جميعا في غير هذا الرأي فالأولى أن يظل ولي العهد مستورا»[45].
*) أخيرا، هناك تنافس هذا الـ «ذكي» (ضئيل الحظ بالفوز) الذي، دون أن يحرز على شرفٍ / مقامٍ مَلكي، يسعى إلى الملك ويمكن أن يحرز عليه.
كثيرة هي الصراعات الممكنة حول الملك. والسبب في ذلك يعود إلى قيمته التي تجر عليه جميع الأطماع.

عـن قيمة السلطان:
من يعرفُ قيمة السلطان؟ الذين بأيديهم (هذا السلطان) طبعا. فوق ذلك، فالكل يعترف لهم بتفوق محقق:
«وعليك أن تعلم علم اليقين أن الملك هو النظام بين الرعية والجيش، وهو الزينة يوم الزينة، وهو المفزع والملجأ يوم الخوف من العدو»[46].
السلطان ثمين لأنه مصدر ما يحظى به الأمير من تشريفات.
ولكن هذه الصورة لا تخلو من وجه سيء، وعديدة هي المخاطر التي تحيط بمن يملك زمام الحكم. ومن ثم أهمية هذا العلم أو الأشياء التي «يجب على الملك أن يلزم بها نفسه ويحفظ ملكه ويثبت سلطانه»[47].
«المُلكُ عزيز، فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه، فإنه قد قيل: إنه في قلة بقائه بمنزلة قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر؛ وهو في خفة زواله، وسرعة إقباله وإدباره كالريح؛ وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئام؛ وفي سرعة اضمحلاله كحباب الماء من وقع المطر»[48].

2. أشكـال السلطان:
ليسَ السلطان إلا ما يفعله به الملوكُ أنفسُهم. ويتيح لابن المقفع معيارٌ أخلاقي أن يميز بين الملك الفاسد والملك الكامل، الحكم العادل والحكم الظالم. الأمير نفسه هو الذي يحدِّد قيمة مُلكه، ويلونه بمعادلته الشخصية. والتقليد المشرقي عموما، والإسلامي بالخصوص، يجهل التقسيم السقراطي للدولة إلى جمهورية، وملكية، وأرستقراطية. وبما أن التقليد الثقافي الشرقي عاش دائما تحت أنظمة مونوقراطية[49]، فإنه يجعل من الملك العنصر المركزي ومن الرعايا عنصرا محيطيا[50]. وفي الواقع، لقد أتاح عدم نقل المعرفة السياسية الإغريقية للمسلمين، في ذلك العصر، أن يتصوروا أشكال حُكمٍ خاصَّة بهم.
وابن المقفع لا يشكل استثناء: فهو يصوغ مبادئه وتصوراته خارج النموذج الإغريقي. بتعبير أدق، إنه يربط السلطان أولا بمفهوم للزمن ويميز بين الملك المشيَّد قديما والملك حديث العهد من جهة، ثم يعزل ثلاثة أصناف أخرى من السلطان، هذه المرة حسب معايير أخلاقية وعقلانية[51].

أ – تأثيـر الـزمـن على السلطان:
هناك علاقة بين الزمن والسلطان، إذ لا يكون السلطان واحدا بحسب ما إذا كان قديما أو حديثا. يُصابُ الملك ببلى الزمن، مُفضيا به هذا البلى إلى تلاشي الأجيال وتناقص الثروات. وبذلك يجب على الأمير أن يغير استراتيجيته بحسب ما إذا كان ملكه قديما أو شيِّد لتوه.
1) استراتيجية السلطان المشيَّد قديما: رأينا كيف أن الملكَ يفتقر إلى الاستقرار. فهو يثير أطماع جماعات عديدة وأشخاص عديدين. والأمير لا ينبغي أن ينسى أبدا هذه الحقيقة، ويجب عليه، بالتالي، أن يعتني بملكه يوميا وعلى الدَّوَام.
«وعلى العاقل ألا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي، والزلل في العلم، والإغفال في الأمور. فإنه من استصغر الصغير أوشك أن يجمع صغيرا وصغيرا، فإذا الصغير كبيرٌ. وإنما هي ثلمٌ يثلمها العجز والتضييع. ولم نر شيئا قط إلا قد أتيَ من قِبَل الصغير المتهاوَن به. قد رأينا الملكَ يؤتى من العدو المحتقَر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يُحفَل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به.
وأقل الأمور احتمالا للضياع الملك، لأنه ليس شيء يضيع، وإن كان صغيرا، إلا اتصل بآخر يكون عظيما»[52].
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأمير أن يتجنب هذا السّكر الذي يحدثه طولُ مُزاولة الملك. وإذن يجب عليه ألا ينسى الخصوم:
«ثم كلما ازداد [الملك] في العمر تنفسا وفي الملك سلامة، زاده في هذه الطباع (…) حتى يسلمه إلى سكر السلطان الذي هو لأشد من سكر الشراب فينسى النكبات والعثرات والغير والدوائر وفحش تسلط الأيام ولو مر عليه الدبر فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول»[53].
إن السلطان لا يخلق حالات سُكر وحدَها، بل ويعطي أيضا مظهر نظام جيد يخفي غليانا خطيرا. وتلك حالة السلطان حديث العهد.

2) استراتيجية السلطان حديث النشأة:
يحذر ابن المقفع حديثي العهد بالملك من نفاق البعض وغباء و/أو سذاجة الوَرَثة. ففي تاريخ الأمم الأخرى أمثلة كثيرة تشير إلى أن أولياء العهد، عندما يستلمون الحكم، يعتقدون أنهم قد استلموا منتوجا كاملا، مملكة مستقرة وشعبا مُطيعا.
بيد أن الأمر يكون على خلاف ذلك مع الملك حديث العهد، إذ يُشكل دائما موضوعَ توترات وصراعات. فابن المقفع ينصح وارث السلطان بأنه إذا رأى أمورا تنفذ بغير تعليل وحاشية غارقة في الكرم، تُيسر له ممارسة عمله فليعلم أن ذلك وهما، لأن الأشياء التي لا عماد لها قابلة للهدم بسهولة[54]. وتلك فلسفة عهد أردشير بكامله.
هناك العديد من الحقائق الخفية عن السلطان حديث النشأة، بحيث لا يجب على الوارث نفسه أن يثق بخدعة مظاهر استقرار عابر، معتقدا أن القدماء لم يعملوا إلا من أجل راحته:
«ومنكم من سيرث الحكم عن الكفاة المذللين له مركبه، وسيجري على لسانه ويلقي في قلبه أن قد فُرغَ له وكفى واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي وإن من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا وفي التمكين له سعوا وأن قد خُصَّ بما حُرموا وأعطِي ما مُنعوا فيكثر أن يقول مسرا ومُعلنا: خُصوا بالعمل وخصِّصت بالدعة، وقدموا قلبي إلى الغرور وخلفت في الثقة وهذا من الأبواب التي تسكن سكون الفساد وتهاج بها قربات البلاء ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك. فإنا قد رأينا الملك الرشيد، السعيد، المنصور، المكفى، المظفر، الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف، المبسوط له في العلم والعمر يجتهد فلا يعدو صلاح ملكه إلا أن يتشبه به متشبه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال واليد بما عملت بغير تدبير يُدرَك، أفسد جميع ما قدم له من الصَّلاح ويخلف المملكة خرابا على من بعده»[55].
والأمراء الجدد مُلزمون – بنفس صفة سابقيهم – بواجبات العناية بمملكتهم من أجل البقاء في الملك أطول ما يمكن.
بمقتضى هذا العلم العام للملك، يُبيح ابن المقفع لنفسه وضعَ العائلة الحاكمة الجديدة موضعَ تسَاؤل، فيواخذ عليها كونها لم تلحق بالإمبراطورية تغييرات كثيرة، مُظهرا بذلك الأخطاءَ التي يجب أن يتحاشاها كل مُلك حديث النشأة:
«ثم كانت هذه الدولة، فلم يُتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب ممن دَنا منهم أو وَجَدوه بسبيل شيء من الأمر؛ فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيثما وقعوا من صحابة خليفة أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو مـوطن جهاد؛ وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حيث يُلتمسون، فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا ويُنتَفع بهم»[56].
وعندما لا تحتَرَمُ مثل هذه القواعد في مملكة ما، فإن المرء يجد نفسه أمام سُلطان قابل للإدانة أخلاقيا، وهو ما لم يتردد ابن المقفع في القيام به عندما أدان الحكومات المعاصرة له، بطريقة حازمة وموجزة في آن واحد.

ب – أصنـاف السّلطـان:
يُصنف ابن المقفع السلطان حسب معيارين: خلقي وعقلاني. غير أنّ الفصل بين الإثنين مجرد مؤقت، ذلك أن الملك المدان أخلاقيا لا يمكن أن يدوم طويلا.
*) المعيار الأخلاقي: يرمي إلى اتهام السلطان بـ «الهوى»، أو الرغبة الشخصية. وهذا النوع من الملك مُدَانٌ لأنه لا يعتبر إطلاقا مصالح الشعب ولا مستقبله.
وعلى العكس، فالسلطان الذي يرتكز على الدين والمعزَّز بالحزم سُلطانٌ يحظى بالتقدير.
*) المعيار العقلاني: ويمتحن الملك بمقياس المنفعة والضرورة. هكذا، فسلطان الهوى يبدو – استنادا إلى هذا المعيار – عابرا وآيلا بسُهُولةٍ إلى الخراب، بينما الملكان الآخران يُعتَبران قابلين للبقاء، سليمين ومُرْضِيين للعَامَّـة.
انطلاقا من هذين المعيارين، يميز ابن المقفع، إذن، بين ثلاثة أنواع من السلطان: «مُلك دين، ومُلك حزم، ومُلك هوى»[57].

أصناف السلطان الدائمـة:
*) مُلك ُالدين: عندما يُدخل المؤلف الدين، فإنه لا يقصد به الإسلام وحده. فهو يرى أن للدين معنى واسعا جدا يتجاوز العقيدة باعتبارها إيمانا إلى إدراكها باعتبارها مجموعة من الممارسات، والعادات، والمرامي وتصرفات مجتمع ما. والملك المرتكز على الدين هو السلطانُ الذي يحترم مصالح العامة. يوضح ابن المقفع رأيه على النحو التالي:
«فأما ملك الدين، فإنه إذا أقام للرعية دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم ويُلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم»[58].
وهذا الملك هو الأفضل لأنه يضمن النظام وإجماع المجتمع.
*) مُلكُ الحزم: هو نوعُ السلطان القوي الذي يقدم نفسه، في ظروف محدَّدة، باعتباره البديل الوحيد لتقويم أوضاع المملكة. إنه يذكر بالديكتاتورية القديمة. من الصعب إصدار حُكمٍ بصدده لأنه، من جهة، يلجأ إلى العنف وبالتالي يُوَلد الاستنكار والنقد، ومن جهة أخرى، يفرض نفسَه باعتباره ضروريا لإتباب النظام: «وأما مُلك الحزم فإنه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن والتشخط[59]. ولن يضر طعن الضعيف مع حزم القوي»[60].
سُلطانان في النهاية يوافقان مصالح العامة؛ أحدهما يضمن الإجماع دون أن يريق الدماء أو يستخدم العنف إلا في حالات نادرة جدا، والآخر يضمن النظام ولكنه لا يبدي إلا قليلا من الحساسية تجاه الرأي العام.
وكلاهما يعتبره ابن المقفع إيجابيا مادام الأول يستجيب لمثاله الذي يهيمن عليه البحث عن الانسجام الاجتماعي وعن الإجماع. أما الثاني، فلا يقل تطابقا مع ضرورات عصره، وهو عصر مضطربٌ يطالب بسلطان قوي وفعال. ولكن السلطانين معا يتعارضان مع ملك الهوى.

سلطـان الهوى: شر غير نافـع
تنطلق إدانة سلطان الهوى من تحليل الإفراطات والتجاوزات التي تترتب عن ممارسته، وهو ما يلخصه ابن المقفع على النحو التالي: «وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر»[61]. إنَّ هذا النوع من الملك هُوَ ما يُدينه المؤلف في سائر كتاباته تقريبا. أولا، لأنه يزرع العطالة بين العامة كما بين حاشية الأمير:
«واعلموا أن الملك ورعيته جميعا لحق عليهم ألا يكون الفراغ عندهم موضع فإن التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فساد الرعية»[62].
ثانيا، لأن الأمر يتعلق بنوع من الملك المثير للاستهزاء، يهلك نفسَه ويهلك العامة معه، وقد رأينا، في مؤلَّف آخر، أن الكاتب يشجب هذا النوع من «الزمن»:
«وشر الزمان ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية… فقولي في هذا الزمان إنه إلا يكن خير الأزمان، فليس على واليكم ذنب، وإلا يكن شرَّ الأزمان، فليس لكم أحمد»[63].
في مكان آخر، يسخط ابن المقفع على هذا الملك الذي يهمل المصلحة العامة، ويهيئ الشروط للقتل، والسرقة، وتضعضع الإيمان، والسفالة وعدم التديّن[64].
————
هوامـش
[1] كرد علي، رسائل البلغاء، القاهرة، 1937، صص. 169-171.
[2] الرسالة § 57.
[3] الدغيرين، في أصول الخلافـة، الرباط، 1987، ص. 27 وما يليها.
[4] رسالـة الصحابة، م. س.، ص. 13.
[5] كتاب تنسر (أقدم نص عن النظم الفارسية قبل الإسلام)، نقله إلى العربية: يحيى الخشاب، القاهرة، مطبعة مصر، (د.ت.)، ص. 32.(للإشارة، فإن حميد الدليمي اعتمد على الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب، من إنجاز دارماستيتر:
– Darmasteter, Lettre de Tansar au roi de Tabaristan, J.A., 1894.
وسنحيل عليها كلما تعذر علينا أن نجد في الترجمة العربية (للرسالة ذاتها) مقابل ما يورده حميد الدليمي من النص المفرنس. [م].
[6] كليلة ودمنـة (ط. مكتبة لبنان)، م. س.، ص. 271.
[7] كليلة ودمنة (ط. محمد علي بيضون – دار الكتب العلمية)، م. س.، ص. 202.
[8] كتاب تنسر…، م. س.، ص. 30-31.
[9] نفسـه، ص 35.
[10] كتاب تنسر…، م. س.، ص. 27 وما يليها.
[11] نفسـه، الصفحات ذاتها.
[12] الرسالـة، § 13.
[13] الرسالـة، § 14.
[14] نفسه، الفقـرة ذاتها.
[15] نفسـه، § 17.
[16] كتاب تنسر…، م. س.، ص. 36.
[17] نفسه، ص. 32-33. وأصل هذا التقسيم الأفيستا، راجع: المسعودي، كتاب التنبيـه، لندن، 1893.
[18] الرسالة § 55.
[19] عهد أردشير لابن المقفع، قدم له ونشره د. حميد الدليمي، تحت عنوان: «عهد أردشير. رسالة في العلوم السياسية عند الفرس»، ضمن مجلة أبحاث في العلوم الاجتماعية، العدد 24-24، السنة الخامسة، ربيع 1990، صص. 67-85.
[20] نفسـه.
[21] نفسـه.
[22] نفسـه.
[23] وحده هذا المقطع، من النسخ العربية الثلاث التي اعتمدناها، هو الذي يشترك مع الترجمة الفرنسية التي تتعداه بحيث يشكل نصها:
«La manie qu’ont les gens de se transporter sans cesse d’une situation à une autre, d’abondonner les conditions stables où ils se sont accoutumés à gagner leur subsistance, le désir de la classe inférieure d’aquérir les gains de ceux de la classe supérieure, tout cela est nuisible pour les gouvernants, tout cela est favorable à la déstabilisation d’une société, source de pourissement pour la bonne éducation, occasion pour le médecin d’abbattre l’homme généreux. L’imitation des uns par les autres s’en mêle, jusqu’à ce que l’on arrive à un danger grave», Le pouvoir et les intellectules ou les aventures de Kalila…, op. cit., p. 262.
ويخص رونيه خوام هذا المقطع بإحالة يذكر فيها أن الأمر يتعلق فيه بنثر أبيات شعرية لابن المناذر ضد غياث بن حرملة الهنائي. (م).
[24] الرسالـة، § 7.
[25] كليلة ودمنة (الترجمة الفرنسية)، م. س.، ص. 245.
[26] الرسالـة، § 55.
[27] عهد أردشيـر، م. س.، ص. 75-76.
[28] كليلـة ودمنـة، (ط. مكتبة لبنان)، م. س.، ص. 211-212. (في الترجمة الفرنسية نقرأ:
Le gouvernement obtient la victoire par la fermeté. Il acquiert la fermeté en prenant las avis de tous ses conseillers. Il adopte la solution nécessaire aux problèmes en gardant les secrets de ses consultations», Le pouvoir et les intellectuels…, op. cit., p. 230.
[29] الرسالـة، § 56.
[30] نفسه، الفقرة ذاتها.
[31] كتاب تنسر…، م. س.، ص. 32-33.
[32] نفســه، ص. 72، ويجب مقارنته بالـ Pancatantra.
[33] الرسالـة، § 55.
[34] نفسـه، § 55.
[35] نفسـه، §. 56.
[36] كتاب تنسر (الترجمة الفرنسية)، م. س.
[37] Mairet, G., Les Doctrines du pouvoir. La formaton de la pensée politique, Paris, Idées / Gallimard, 1978, p. 14.
[38] كتاب تنسـر (الترجمة الفرنسية)، م. س.، ص. 517.
[39] عهد أردشيـر، م. س.
[40] كليلة ودمنـة (ط. محمد علي بيضون – دار الكتب العلمية)، م. س.، ص. 71.
[41] عهد أردشيـر، م. س.
[42] نفسـه.
[43] الرسالـة، § 43.
[44] عهد أردشيـر، م. س.
[45] كتاب تنسر…، م. س.، ص. 51.
[46] نفسـه، ص. 42.
[47] كليلة ودمنة (الطبعة الفرنسية)، م. س.، ص. 235.
في كليلة ودمنة (ط. محمد علي بيضون – دار الكتب العملية)، م. س.، نقرأ في الصفحة 282 ما يلي: «فينبغي للملوك أن لا يصطفوا أحدا إلا بعد الخبرة بطرائقه والمعرفة بشكره. فإن من أقدم على المشهور بالاستقامة والعفة واسترسل إليه من غير اختبار ولا تجربة كان مخاطرا في ذلك مشرفا منه على هلاك وفساد (…) ولا ينبغي أن يختص بذلك قريبا لقرابته ولا أحدا من خاصتهم لشرفه إذا كان غير محتمل للصنيعة فإنه إنما شرف بتشريفهم إياه».
[48] نفســه، ص. 238.
[49] بالنسبة للنظام الإسلامي، راجع:
– Tyan, E., «La Monocratie», R.S.J.B., t. XX, 1968, p. 55-56.
[50] حول المجتمعات المؤسسة على هذا التصور، راجع:
– Hocart, M. A., Rois et courtisans, Paris, Seuil, 1978, 379 p.
[51] rationalité: صفة ما هو عقلي. (م).
[52] ابن المقفع، الأدب الصغير، م. س.، ص. 141-142.
[53] عهد أردشيـر، م. س.
[54] نفسـه، يقارن مع ماكيافيل، الأميـر (باللغة الفرنسية)، الفصل السادس.
[55] عهد أردشيـر، م. س.
[56] الرسالـة، § 22.
[57] الأدب الكبير، م. س.، ص. 24.
[58] نفسـه، الصفحة ذاتها، (يقارن بالفقرة الواردة في المجموعة الكاملة لمؤلفات عبد الله بن المقفع، م. س.، ص. 111، حيث ورد: «فأما ملك الدين فإنه إذا أقيم لأهله دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم ما لهم، ويلحق بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، ونزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليم»[م]).
[59] التشخط: الغضب.
[60] الأدب الكبير، م. س.، ص. 24.
[61] نفسـه، ص. 24، واليتيمة الأولى، م. س.، ص. 160.
[62] عهد أردشيـر، م. س.
[63] اليتيمة الثانيـة، م. س.
[64] كتاب تنسر (الترجمة الفرنسية)، م. س.، ص. 548

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 21-09-2012 12:13 صباحا
طباعة

الاخبار العاجلة