غي لاكروا: السيبرنطيقا والمجتمع: نوربرت فينر أو نكسات فكر متمرد / ترجمة: م. أسليـم

2173 مشاهدة
غي لاكروا: السيبرنطيقا والمجتمع: نوربرت فينر أو نكسات فكر متمرد / ترجمة: م. أسليـم

يقول فيليب بروتون في كتابه الأخير «طوباوية التواصل»(1) إننا نخضع اليوم لطوباوية جديدة، هي طوباوية التواصل التي ترتكز على الترويج لإنسان «بدون داخل» مُقلص إلى صورته داخل مجتمع صار هو نفسه «شفافا» بنعمة الاتصالات. وإذا كان التواصل قد أخذ مثل هذه المكانة في مجتمعاتنا، فذلك ليس فقط بسبب انتشار أجهزة الاتصالات، بل لأنّ هذا التواصل، في نظر فيليب بروتون، قد تمَّ التنظير له منذ نهاية الحرب العالمية من لدن عالم الرياضيات نوربرت فينر الذي يعتبر أبا للسيبرنطيقا ومروج طوباوية الشفافية التي ألهمت ما هو أكثر اختزالا في مجتمعنا الحالي. لم تكن نواياه سيئة، بل على العكس فقد تصور مدينة فاضلة للتواصل «باعتباره سلاحا ضد عودة البربرية»، ظانا بسذاجة أن «التواصل سوف يمحو السر الذي وحده جعل إبادات النازية الجماعية وهيروشيما ومعسكرات الاعتقال أمورا ممكنة. كان لهذا الحلم السخي تأثيرات ضارة يحدد بروتون سماتها الرئيسية في الدفاع المنظم عن توافق الآراء، ومماهاة معلومة وسائل الإعلام بمعرفة الحقائق ورؤية للمستقبل تحددها التكنولوجيات الجديدة بشكل وثيق.

ليس لديَّ ما أعترض به على فرضية أن مجتمعاتنا قد أنتجت مدينة فاضلة للتواصل يمكن لبعض جوانبها أن «يفسح المجال أمام العنف والإقصاء»، فهذا افتراض قوي جدا ويجب أخذه على محمل الجد بشكل كبير(2). وأحيي أيضا مبدأ القيام بنهج تاريخي يسعى للعثور على بدايات إيديولوجية وتتبع تبلورها التدريجي. وعلى العكس، أختلف بخصوص إناطة نوربرت فيينر دور كبش فداء. فعلى الرغم من بعض النقط الغامضة الملازمة لكل تفكير يستكشف حقلا جديدا، يبدو لي فكره على العكس تماما يتعارض مع هذه الطوباوية للتواصل الكاريكاتورية والمشلة للدماغ التي يشكك فيها بورتون(3).

وبالمناسبة، فهو يسلط الضوء على ظاهرة غريبة من فقدان الذاكرة الجماعية، تتعلق بهذه الفترة من تاريخنا الحديث التي أدت إلى ولادة المعلوماتية وتطورها. فقد كانت أعوام 1940 إلى 1955 (تقريبا) ثرية فكريا على نحو غير عاد، ومع ذلك فقد انمحت محوا تاما من الذاكرة الجماعية كل النقاشات التي جرت آنذاك. كذلك، تكرِّرُ نقاشات اليوم، سواء على الصعيد النظري (مع عودة ظهور النماذج العصبية المحاكاتية neuromimétiques في الذكاء الاصطناعي) أو الاجتماعي (مع البطالة)، في كثير من الأحيان الأفكار التي تم التعبير عنها منذ بداية الحوسبة متجاهلة مصادرها، تقريبا كما لو كان التاريخ يُتمتم.

أرى أنَّ لهذا الفقدان للذاكرة مغزى كبيرا. فهو يدل على سيرورة مُصادَرة اجتماعية كانت السيبرنطيقا أحد ضحاياها(4). ولذا فالفرضية التي سأطرحها هنا هي عكس فرضية بروتون تماما، وتتمثل في أنَ الطبيعة المقلقة لفكر فينر وسيبرنيطيقاه هي سبب ذلك التهميش. ويمكن تفسير النسيان الذي طال السيبرنطيقا بأنه عَرَضٌ للقوة التمردية لهذا العلم المتعدد التخصصات. فقد طرحت السيبرنطيقا، وبالخصوص فينر، (بطريقة مثيرة أحيانا) عددا من الأسئلة التي لم يكن لمجتمعاتنا أي رغبة في الإجابة عنها، فتمَّ تحييدها ليس بالطريقة العنيفة والمثيرة التي تصفي بها النظم الشمولية خصومها، ولكن بطريقة الديمقراطيات المريحة والماكرة. وإذا كان بعض هذه المفاهيم قد استعاد موضته مرة، تحت ضغط الضرورة، فربما أيضا لأن المجتمع كان له وقت لبناء نيران مضادة لمحو الراديكالية الفكرية والاجتماعية للمقاربة السيبرنطيقية. أيضا، يبدو لي أن بروتون بهجومه على فينر يخطئ هدفه، ومن ثمة فهو يسير في اتجاه تقوية طوباوية التواصل التي يشجبها.

من الواضح أنه يمكن للمرء أن يعود في وقت لاحق إلى قراءة الأعمال الفكرية المعقدة والمفتوحة بالخصوص، مثل عمل فينر، مُسقطا عليها افتراضاته الخاصة. هذه قاعدة، إذ التاريخُ هو دائما انتقاء وإعادة بناء معنى في وقت لاحق. شخصيا، لا أدعي الإفلات من هذا. وبما أنه لا يمكن تقديم ولو مجرد ملخص لفكر فينر والسيبرنطيقا في بضع صفحات، فسأركزُ على بعض النقط التي تبدو لي متعارضة بالخصوص مع الطوباوية التي ينتقدها بروتون، وهي مواقف فينر السياسية وتصوره للهوية الإنسانية.

فكر فينر السياسي
كان لفينر رؤية حادة للتحول الجذري الذي تعرفه الآلات، وكان ينظر إلى مخاطر أتْمَتَة automatisation حاملة للأفضل والأسوأ في آن. هذا الوعي المزدوج بجدة المشاكل التي كانت تواجه البشرية وبعدم قدرة المجتمعات على مواجهتها هو ما دفعه إلى تأليف كتابه «السيبرنطيقا والمجتمع» الذي يستعيدُ ويُركِّبُ فيه عددا من الأطروحات التي سبق له أن عرضها في كتابه «السيبرنطيقا»(5) الذي وضع أسس حقل معرفي جديد بالاسم نفسه (السيبرنطيقا) معرفا إياه بأنه علم «التحكم في الاتصالات داخل الإنسان والحيوان والآلة»، وسعى إلى توسيع مفاهيمه إلى نطاق المجتمع. لا يتعلق الأمر بمحاولة مكتملة، ولكن بمشروع يجمع بين حقائق علمية وفرضيات انطلاقا من نواة منهجية (نواة السيبرطيقا) هي بدورها قيد البناء. وهو أيضا كتاب يعبر فيه مؤلفه عن مواقفه السياسية والأخلاقية.

يستند نقده للمجتمع الأمريكي والمجتمع الغربي عامة إلى وعي يمكن وصفه بـ «الإيكولوجي» وبالمعبر عن مسؤولية العلماء(6). فهو يرى أن السوق لا يمكن أن تحل جميع المشاكل وأن عددا من التنظيمات تبقى ضرورية لإضفاء طابع اجتماعي على تداعيات العلم والتقنية. يأخذ فينر الديمقراطية على محمل الجد، ويتسم نقدُه للمجتمع باسم مثال idéal ديمقراطي.

يبدأ من فكرة التقدم مذكِّرا بأنها ابتكار غربي حديث وبأنَّ أغلبية الحضارات الأخرى لا تشاطرها. وهو لا ينكر الفوائد المترتبة على العلوم والتكنولوجيا، ولكنه يلاحظ أن هذا التقدم كان أيضا مُدمِّرا بشكل رهيب، وأنَّ الغرب قد نجح في نهب الكوكب في قرن واحد.
«لم تستنفذ ألفُ سنة من الحياة مماثلة للحياة في أوروبا القرون الوسطى أو حتى في القرن الثامن عشر مواردَنا كاملة على نحو ما استنفذها قرنٌ واحد من أعمالنا الليبرالية»(7).

من ناحية أخرى، يجب تنسيب فوائد التقدم العلمي. فالعلم والتقنية غالبا ما يكونان أقل فعالية مما كان يَعتقدُ. فهو يرى أنَّ مثالَ الطب الذي يعتبر شاهدا صارخا على نجاحات العلم مثالٌ مضيءٌ، إذ يُحسبُ له عدد من الإنجازات مثل تخفيض وفيات الأطفال، وتحسين صحة السكان، ولكن تفوقه في كثير من الأحيان يكونُ من سذاجة إحصائياته. في الواقع، يقوم الطب بتحديد مرض يؤدي إلى الوفاة في بعض الحالات الشديدة. من هنا، سيتم تحديد ساكنة بكاملها باعتبارها تعاني من هذا المرض نفسه الذي كان في معظم الحالات يزول وحده قبل هذا التحديد. وسيشرعُ الطب في «علاج» كل هؤلاء الناس، وسيتولد لديه الانطباع بأنه يحصل على نسبة شفاء هامة مع أنَّ المرضى الحرجين جدا سيستمرون في الموت. هذا ما حدث مع بعض الأمراض الخطيرة كالسرطان(8). من ناحية أخرى، كثيرا ما يحل العلم والتقنية مشكلة بخلق مشكلة أخرى كسابقتها ما لم تكن أكبر منها. مثال: السلفوناميداتُ التي تنقذ عددا من المرضى الميئوس من شفائهم من قبل كانَ يُساء استخدامها في السابق (بجرعات صغيرة جدا)، ما أثار رد فعل للفيروسات أخذ شكل تشوهات خلقية مكثفة. وبذلك لا يكون انتصار السلفوناميدات سوى نجاح مؤقت، وإلى الآن نحنُ لسنا في مأمن من أوبئة الجديدة.

أما فوائد التقدم التقني فتؤدَّى فاتورتها بإضعاف كبير ومتزايد لمجتمعاتنا، هو فدية للتعقيد التكنولوجي وعولمة المبادلات. فالمدُن الكبرى المكتظة بسكان يتزايد عددهم على نحو متواصل تعتمدُ اعتمادا كليا على الشبكات التقنية التي تدعمها وتغذيها، وهذه الشبكات هي من الهشاشة بحيثُ يمكن أن تطالها أعطاب فتتحول بسرعة إلى كارثة. والقرى صارت هي الأخرى تعتمد على هذه الشبكات مثل المدن الكبيرة. ونموذج الحياة التقليدية الأمريكية المثالي لم يعد سوى مسرح ظل. ثمَّ رغم التقدم التقني، فنحن لسنا في مأمن من المجاعة ولا من تهديدات نضوب مورد طبيعي أساسي مثل الماء.

من ناحية أخرى، فوسائل الاتصال الحديثة التي يمكن أن تساعد على توحيد الكوكب أدت إلى عواقب منحرفة ومؤذية للديمقراطية. فمع تركيز الصحافة صار عدد متناقص من الناس يُخاطب عددا متزايدا منهم، مما يؤدي إلى تراجع للأصالة والتفكير النقدي: كل ما يتجاوزُ حدودا معينة يُمحَى خشية ألا يروق الجمهور الواسع. والملاحظة نفسها تنطبق على السينما: هي فن مكلف بحيث لا يمكن أن يكون فيلم ما مربحا إلا إذا استقطب جمهورا واسعا جدا، وبالتالي يتم إبعاد المبدعين الأصيلين حقا أو المزعجين من هذا الفن. ويمكن نقل هذا النقد بسهولة إلى وسائل إعلامنا التلفزيونية.

والسؤال الرئيسي بالنسبة لفينر هو الاختراع. فالتقدم العلمي والتقني أحدث العديد من المشاكل الجديدة التي لا نقوى على حلها اليوم ونتوقع إصلاحها اعتمادا على الاختراعات المستقبلية. لقد صارت مجتمعاتنا تعتمد اعتمادا كليا على الاختراع الذي لا نعرف شيئا عن آلياته الدقيقة، ولكن النشر الاجتماعي للاختراعات هو من احتكار رجال الأعمال والسوق الذين أثبتوا قصورهم في تسخير تلك الاختراعات لخدمة السكان وفي تدبير آثارها السلبية الشديدة. أمام التحولات التي بدأت تظهر بالخصوص مع اعتماد الآلة في سائر قطاعات الحياة: «يجب علينا إيجاد بعض الآليات التي من خلالها يمكن للاختراع ذي المصلحة العامة أن يُخصَّص فعلا للعموم»(9).

وبطبيعة الحال، تؤدي التبعية للعلوم والتكنولوجيات بالمجتمعات إلى التأكيد على المسؤولية الاجتماعية للعالم والمهندس لأنهما مَصدرا التجديد الرئيسيين. وباعتبارهما كذلك، فإنه لا يمكنهما أن يتجاهلا الآثار الاجتماعية لما يبتكرانه. ينبغي عليهما ألا ينغلقا في البرج العاجي للعلم البحث وألا يخضعا كليا للجيش أو الصناعة.

«يجب علينا ألا نكون مُسجلين في كتب المقاولين كما لو كنا مواد في ملكيتهم»(10). «لكي يستمر الإنسان في الوجود، يجب عليه ألا يكون مقطورة في الأعمال التجارية»(11).

يرى فينر أن الآلات الجديدة تُدخل تغييرات اجتماعية جذرية لا يمكن التغلب عليها إلا عن طريق اختراع أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي. هذه هي الحال بصفة خاصة مع الأتمَتة التي يعلنُ فينر ألا مفر منها لأنها مرتبطة جوهريا بمنطق تطور خاص بالآلات ولأنها تحمل أرباحا إنتاجية ضخمة. إذا لم يتم أخذ هذه الخصائص بعين الاعتبار فستكون عواقب الأتمَتَة كارثية. فهي تدفع حتما إلى القضاء على الوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة عن طريق استبدال الإنسان حيثُما يقتصر عمل دماغه على فعل ارتكاسي، ولكنها تتصدى أيضا لعملية اتخاذ القرار. فهي يمكن أن تخفف عن الإنسانية أعباء المهام الشاقة جدا وأن تخفض وقت العمل، ولكن إذا لم يقم المجتمع بعدد من الإصلاحات، فإنها ستسبب في البطالة وفي الاضطرابات الاجتماعية. ومن المثير جدا عَمَى السلطات أمام التحولات التي تنتظرنا، ما سيدفع بفينر إلى القيام بعدد من الخطوات في محاولة لتحسيس السلطات، ولا سيما النقابات، ولكن دون جدوى.

ومع ذلك، فالخطر الأكبر يكمن في إمكانية تفويض سلطة القرار للآلة(12)، إذ يستطيع الإنسان أن يعهد إليها تنفيذ إجراءات صنع قرار تكرارية إذا كان يعرف تماما ما يريد وأمد الآلة بتفاصيل المعايير التي يستند عليها قراره. ولكن لا يجب عليه أبدا أن يثق في الآلة لأنها تنفذ تعليماته «حرفيا» وليس لديها وسيلة لتقدير العواقب الإنسانية لقراراتها.

والسمة البارزة لفكره السياسي هو أنه من الضروري على الإطلاق الحفاظ على الفرق بين الآلة والإنسان (يُدخل في فئة الآلات جميع التنظيمات البيروقراطية). ما يميز الإنسان أساسا عن الآلة ليس هو فكره (الذي هو عملية كونية)، بل هو الأخلاق. وهذه الأخلاق ليست مطلقة، إذ تختلف من مجتمع لآخر ومن فئة اجتماعية لأخرى، كما أنها تتطور مع مرور الوقت. ومع ذلك فهي الملاذ الأخير للفرد، لأنها تشكل مرجعيته الداخلية الأكثر حميمية، والمكان الذي ينسجم فيه الفردي والجماعي. وفي تعاون الإنسان مع الآلات، يجب عليه ألا يتخلى عن مسؤوليته وعن تأكيد أخلاقياته:

«أن ينقل المرء مسؤولية إلى آلة ما، سواء أكانت قادرة على التعلم أو غير قادرة عليه، هو أن يطلق مسؤوليته للرياح ليراها وقد عادت إليه على ظهر العاصفة»(13).

ولهذه الأسباب يُعارض فينر بعنف فكرة الآلة الحاكمة التي تدعو إليها بعض الأوساط باعتبارها [أي الآلة] بديلا علميا للجنون البشري. وقد قدم عنها نسخة نقدية ومطورة جدا الأبُ القس الدومينيكي دوربان في صحيفة لوموند الفرنسية(14). يرى فينر أنَّ اقتراح قيادة عقلانية للمجتمع بالآلات سيؤدي إلى الفاشية، وما يقلقه ليس إمكانُ محاولة استخدام آلات لحكم الناس (كان يرى هذا مستحيل التنفيذ في ذلك الوقت)، بل هو:

«أن يستطيع كائن بشري أو مجموعة من الناس استخدام آلات من هذا النوع، على الرغم من عجزها لوحدها، لزيادة التحكم في ما تبقى من الجنس البشري، أو أن يحاول زعماء سياسيون أن يتحكموا في سكانهم ليس بواسطة آلات في حد ذاتها بل من خلال تقنيات سياسية ضيقة جدا وغير مبالية بالآفاق الإنسانية إذا تمَّ تصميمها، في الواقع، ميكانيكيا [من أجلها] »(15).

يرى فينر أن الآلة الحاكمة هي للأسف ليست أسطورة تماما، إذ هي موجودة في المجال العسكري. ففي الغرب والشرق بدأ إسناد تقييم علاقات القوى ونوايا الخصم إلى حاسبات تنفذ نظرية الألعاب لعالم الرياضيات جون فون نيومان (أو لأحد تنويعاتها). وبالتالي، فقرار شن حرب نووية يخضع لعدم اكتمال نظرية رياضية وتنفيذها من لدن آلات.

وقد استخلص أبو السيبرنطيقا النتائج العملية لمواقفه الأخلاقية بما أنه رفض المشاركة في الأبحاث التي يتدخل فيها التمويل العسكري، مما أغلق أبوابا كثيرة في وجهه. بخلاف موقف فون نومان (مخترع بنية الحاسوب الحالية) الذي، مثله مثل أغلب «كبار علماء» العصر، لعب دائما ورقة المجمَّع العسكري الصناعي. من ناحية أخرى، سيتخذ فينر موقفا واضحا ضد المكارثية Maccarthysme [سياسة مناهضة للشيوعية في الولايات المتحدة من 1950 إلى 1954].

«لقد لاحظ عسكريونا وكبار أمراء التجارة عندنا تقنية الدعاية السوفييتية فوجدوها جيدة، واكتشفوا نظيرا جديرا للغيبيو guépéou [شرطة الدولة السوفييتية بين 1922 و1934] في مكتب التحقيقات الفيدرالي، في دوره الجديد المتمثل في فرض الرقابة السياسية»… «ابتكرنا محاكم تفتيش جديدة: محاكم أداء يمين المعلمين ولجان الكونغرس»(16).

ومع ذلك فلن ينال منه القلق، وسيحتفظ بمنصبه أستاذا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى نهاية حياته في عام 1964.
هذا السؤال حول الدور الاجتماعي للعلم ومسؤولية العلماء ليس حصرا على فينر، ولكنه أقليّ جدا بين النخب العلمية لخمسينيات القرن الماضي، حيثُ كانت الحرب الباردة ضد شيوعية ستالين قد خَلَفَت الاتحاد المقدس ضد النازية.

يجب علينا أن نحذر تبسيط الأمور. فموقف فينر لم يكن من إملاء مبدأ مناهضة النزعة العسكرية ولا من موقف سلمي، إذ خلال الحرب ضد النازيين واليابان عمل في مجال تطوير أنظمة مدفعية مضادة للطائرات. كما أنه لا يُبدي أي مجاملة تجاه الجهاز الشمولي الشيوعي السوفييتي. موقفه هو، في آن واحد، تأكيد على المسؤولية الأخلاقية للعالِم واحتجاج على ظروف العمل الجديدة التي يراها غير مشجعة على الإبداع العلمي. لكي يزدهر الاختراع العلمي والتكنولوجي، فهما يتطلبان حرية الفكر والحماس والمشاركة الشخصية، كما يحتاجان إلى تدفق المعلومة وإلى قدرة العلماء على التبادل بكل حرية مع زملائهم. وهو يرى أن لا الجيش السري ولا محاكم التفتيش البوليسية شرطان مواتيان للإبداع، وكذلك التنظيم التجزيئي والبيروقراطي الذي هو بصدد الإرساء مع «العلم الكبير big science». فهذه الممارسات هي مصادر للتكرار وهدر المال وانعدام الفعالية.

يُعتبر فكر فينر مزعجا لعشاق اليقين المطلق لأنه فكرٌ متأرجح ومتلوِّن. فهو يعارض الجهاز الشيوعي بشراسة، ولكنه يعترف بالدواعي الإنسانية التي أدت إلى الثورة الروسية ويُبدي إعجابه بها:

«العنصر الشيوعي الذي يستحق احترامنا أساسا هو الولاء لكرامة العمال وحقوقهم والإصرار عليها».

وهو يعتبر أنَّ الكنيسة الكاثوليكية هي النموذج العتيق للتنظيم الشمولي ويتوجَّسُ من الإيمان المؤسَّس لأنه آلية رهيبة للإقصاء واستعباد آخر، ولكنه يعترف بأن العلم هو في النهاية عمل من أعمال الإيمان. يعزو للآلات قدرات فكرية لاتخاذ القرار، لكنه يرى أنه لا يجب منح الثقة لهذه الآلات لكي تقرر بدل الإنسان. وأخيرا، فهو مُروِّجٌ للأتمَتَة التي يعتبر ألا مفر منها، ولكنه يقول إنها ستؤدي إلى كارثة اجتماعية إذا تُركَتْ لقوانين السوق وحدها. كما لديه بالخصوص جرأة الانتقاد الداخلي لبقرتي عالمنا الحديث المقدستين، وهما العلم والتقنية اللتان يُنسِّبُ مزاعمهما من خلال تذكير العالم والمهندس بمسؤولياتهما الاجتماعية.

الهويتان الإنسانية والآلية: المسألة الاجتماعية
تنسجم رؤاه السياسية تماما مع الرؤية التي يستخلصها من السيبرنطيقا بخصوص الإنسان والمجتمع. ولمعالجة مسألة الهوية الإنسانية، من الضروري الالتفات قليلا إلى هذا التخصص. لنتذكر أنَّ سيبرنطيقا فينر ترتكز على حركتين متكاملتين، هما: البحث عن الثوابت، والبحث عن الخصوصيات. وهي تنطوي على استعمال متحكَّم فيه للقياس من أجل تحديد السمات المشتركة بين النظم والاختلافات بينها. وهذه النقطة تستحق تناولا أطول لأنها هي قلب المنهجية السيبرنطيقية. لنحتفظ بفكرة أن الأمر يتعلق بتحديد التشابهات الوظيفية (لا الهيكلية لأنها مُضللة)، ومراعاة مختلف مستويات التنظيم وتداخلاتها.

إذا نظرنا إلى الإنسان والحيوان والآلة من زاوية المعلومات لاحظنا أنَّهم جميعا ينظمون أعمالهم ويقنونها حسب نموذج مشترك هو التغذية الراجعة. والتغذية الراجعة هي نوعٌ من السلوك غير القابل للاختزال يتكون من ثلاثة عناصر متخصصة لا تنفصل: الأول يمثل العمل ويقود، والثاني يعمل في المحيط، والثالث يُخبر بأوامر تسلسل العمل. هذه المعلومة تسمح للأوامر بالتكيف مع تغيرات البيئة من خلال تعديل تسلسل العمل الجاري.

يمكن أن يكون النموذج مركَّبا من مكونات التغذية الراجعة والعلاقات بين التغذيات الراجعة (التفاعل، التعشيش الهرمي…) في آن واحد. والنقطة الرئيسية هي أن هذا المفهوم يساعد على فهم كيف يمكن لطاقة صغيرة جدا (المعلومة) أن تأمر أخرى أقوى منها بكثير (كميا) وتقودها، بتعبير آخر كيف يمكن لتمثيل / تمثل ما(17) أن يقود العمل ويوجهه. يتيح مفهوم التغذية الراجعة فهمَ كيف يمكن تحقيق غائية داخلية لكائن حي أو لنظام (هدف) في بيئة عشوائية التنوع.

يبقى سؤال تغيير الهدف مطروحا. وللإجابة عنه يعود فينر إلى أعمال و. روس أشبي، وهو طبيب عقلي (وسيبرنطيقي) أنجليزي وضع مفهوم الاستقرار المتعدد لدراسة الطريقة التي يستطيع بها النظام الذي لا يتمكن من تحقيق أهدافه الداخية (في بيئة معينة) أن يستعيد توازنه(18). وللمضي سريعا نقول: لا يستطيع جسم حي ما أن يبقى على قيد الحياة في بيئة معينة ما لم يتمكن من الحفاظ على توازناته الداخلية بين حدود معينة. ومن ثمة يجب عليه أن يخدم الوسط (خارجانيته) لأهدافه أو يعدِّلَ هذه الأهداف بحيث تتكيف مع هذه البيئة. ويمكن لمفهوم التعدد الغائي أن يدمج تعديل الأهداف في نموذج التغذية الراجعة. فهو مفهوم يؤثر على الأمر أو القيادة ويقدم لفينر نموذجا أوليا للتعلم.

يتيح هذان المفهومان (الأول يركز على التنظيم، والثاني على الموازنة) استيعابا أفضل للكيفية التي يفهم بها فينر هوية الإنسان. وما يهم هنا، بخصوص تصوره للهوية، هو الإصرار على الغايات الداخلية للنظام، من جهة، ووجود مرونة خاصة للتمثلات التي ستعبر عن هذه الغايات الداخلية في علاقة بوسطها، من جهة ثانية.

في ضوء ذلك، يتوفر الإنسان والحيوان والآلة على نقطة مشتركة تتمثل في ارتكاز سلوكهما على آليات إعلامية تخضعُ جزئيا «لمنطق» موازنة مشترك. ولكن هذه الآليات ليست متشابهة، إذ تختلف عن بعضها البعض من خلال قدرتها الكبيرة بهذا القدر أو ذاك على التعلم بمفهومه الواسع جدا، وهو القدرة على إثراء التمثلات الداخلية من خلال العلاقة المتبادلة مع البيئة. في هذا السياق، يسير كل من القدرة على التعلم ومهارات الاتصال جنبا إلى جنب (أو تقريبا) بما أنَّ غنى الاتصالات يعتمد على قدرات التمثل.

يُميِّزُ التعلم الإنسانَ عن الحيوان ويقربه إلى آلة. الثلاثة قادرون على التعلم (بالمعنى المحدَّد أعلاه)، ولكن قدرات الحيوانات محدودة بفقر لغتها، وذلك على عكس نظيرتها لدى الآلة والإنسان التي يرى فينر أنه لا يمكن وضع حد مسبق لها. من وجهة النظر هذه، تتميز قدرتا الإنسان والحيوان بأنهما إمكانيات واحتمالات مفتوحة بشكل واسع. بيد أن هذا لا يعني أن هناك تطابقا بين الآلة والإنسان، فكلاهما يحتفظ بسماته الخاصة. الإنسانُ يُنمي إمكانيات مختلفة عن إمكانيات الآلة، حيثُ تتدخل حساسيته السامية في الفن، وفضوله تجاه نفسه وما يحيط به (خاصة مع العلم)، ويتدخل بالخصوص بعدٌ أخلاقي لا نجده عند الآلة تماما.

عندما نركز على البحث عن الثوابت، فإن معايير التمييز بين الإنسان والآلة تكون غامضة والحدود غير واضحة (الإنسانُ يُسقط نفسه جزئيا على الآلة والآلة في المقابل تُحاكي إلى حد ما التفكير الإنساني). ولدى وصف خصائص كليهما تظهر المزايا الفردية بوضوح لأن القطب الإنساني هو الذي يُهيمن. لم يعد الأمر يتعلق، في رأي فينر، بخصائص إنسان مجرد ولا بآلات بشكل عام بل بأشخاص حقيقيين يبحثون عن تفردهم في وجود – أو عدم وجود – صلة مع آلات. ومع ذلك، يرى فينر أنه لا يمكن لكل إنسان إلا أن يكون متفرِّدا بشكل غير قابل للاختزال، لأن لا أحد يدمج نفس معلومات غيره تماما أو يتفاعل بنفس طريقة تفاعل غيره مع بيئته.

في هذه العملية، تُدرَك الآلة باعتبارها امتدادا للإنسان وأداة تهجين فريد محتمَل في خدمة غزو دواخل الأفراد، ولكنها يمكن أيضا أن تكون أداة عبودية بقدر ما تعمل على تقييد التعبير عن الهويات. وفي جميع الحالات، هي تعكس غايات البشر. إن تصبح الآلة أداة للقمع فلأنَّ وراءها يجلس قامعون مختفون، وأغبياء أو غير مسؤولين. وإذا ما حكَمت الآلات الناس في يوم من الأيام فلن تكون الآلة هي التي أخذت السلطة بل سيكون الإنسانُ هو الذي استسلم للآلات.

وبالتالي فهوية الإنسان هي نتيجة لحركة هيكلة إعلامية مزدوجة، هي التنظيم الذاتي للمادة وتاريخ المجتمعات. وهذه الإمكانات للهيكلة هي التي تحدد الإنسان، إمكانية داخلية تسقط نفسها على العالم الخارجي لكي تتحقق وتغتني من خلال تحويله.

إذا كان لإمكانية الهيكلة مصدرٌ في الفرد فهي تعبر عن نفسها عبر شكل جماعي من خلال علاقة بينية مع الخارجانية، أي بالتواصل مع الآخر، ولكن أيضا مع الطبيعة والظواهر الاصطناعية والمؤسسات. من خلال هذه العملية للسببية الدائرية سيقوم لعب التكاملات والتضادات في آن واحد بالتعبير عن نفسه. من الناحية المثالية، يجب على الجماعة أن تكون في خدمة الفرد، وهذا نادرا ما يحدث لأن المجتمعات في معظم الوقت تستعبد الناس لآلياتها المؤسساتية. ولكن هذا الاستعباد يمكن أن يكون قاسيا أو مرنا نسبيا، وهذا – بين أمور أخرى – هو ما يفرق بين المجتمعات الشمولية (المجتمعات المغلقة من ناحية المعلومات) والمجتمعات الديمقراطية (وهي أكثر انفتاحا إعلاميا)(19).

لا يضع فينر أكثر من خُطاطة لتحليل الآليات الاجتماعية للاستعباد من خلال بعض الاعتبارات حول الأنظمة الشمولية ونقد الديمقراطية الأمريكية. وهو يبدأ بتوسيع مفهوم الآلة الإعلامية إلى المؤسسات الاجتماعية، مما يقوده إلى التركيز على مسألة التمثلات الاجتماعية ودورها في سلوك الأفراد. ومن الدَّال أنه يؤكد في آن واحد على أهمية الالتزامات العاطفية لحسن سير عمل تلك المؤسسات وعلى ما يسميه «الكنيسة الكاثوليكية» باعتبارها منبتا للحكم الشمولي مسلطا الضوء على وجوه شبه اشتغال الكنيسة مع الحزب الشيوعي.

وهنا أيضا يقيم فينر فرقا بين الفرد (الكاثوليكي) الذي ليس إيمانه أكثر خطورة من إيمان البوذي أو البروتستاني أو الملحد، من جهة، والكنيسة بوصفها جهازا وآلة للاستعباد، من جهة أخرى. ويرتكز في تحليله للمؤسسة على انغلاق نظام تمثلها. فبقدر ما تعتقد الكنيسة أنها تمتلك حقيقة مطلقة وأنه يمكن دعم تلك الحقيقة بآلية السلطة فهي تمثل خطرا على حرية الفرد في اختيار قيمه الخاصة. يرى فينر أنَّ الكنيسة هي آلة شمولية لأنَّ نظامها للتمثُّل يكونُ مرتَّبا بحيث لا يمكنها أن تقبل أي حقيقة منافسة باستثناء عندما تضطر لذلك مؤقتا عندما لا تكون علاقات القوى في صالحها.

وبذلك فالنزعة الشمولية تتأسس على اللقاء بين إيديولوجيا مغلقة، أضفيَ عليها طابق الإطلاق، وجهاز لإنتاج السلطة، آلية اجتماعية تسعى عناصرها المسؤولة إلى أن تفرض بالقوة النظام التمثلي (النموذج) المكوِّن لها. تشترك الكنيسة والمجتمعات الشيوعية في كونهما تُرسيان استراتيجية سلطتهما على إقامة تمثل للعالم ومعناه مغلقة على نفسها كليا، وبالتالي، فهي لا تستطيع أن تتسامح مع أي تمثل منافس.

ومنطق التغذية الراجعة (أو رد الفعل)، أي المعلومة على شكل فعل (التحكم والتواصل)، عند الإنسان والآلة كما هو الأمر عند الحيوان، هو ما يوجد في قلب تصور فينر للمجتمعات. من هذا المنطلق يُحدِّدُ فينر دائرية من السببيات: يُنتج التمثل (الإيديولوجي) الجهازَ الذي يفرضُ هذه الإيديولوجيا ويُعيد إنتاجها. كذلك، بالرجوع إلى التغذية الراجعة يُشير إلى الحاجة إلى تكامل وظيفي بين التمثل والجهاز. فالتمثل بدون جهاز لا يستطيع أن يتصرف في العالم لبنائه، والجهاز بدون تمثل يَأمره ويقوده لا يستطيع أن يشتغل (ولا حتى أن يتكوَّن قطعا). والإيديولوجيا المغلقة ليست خطيرة في حد ذاتها. فهي لا تصبح خطيرة إلا عندما تنتج جهازا يُنصبُ نفسه آلية للسلطة. ويتمثل نهج فينر في العثور على ثوابت الاستبداد، بغض النظر عن محتوى كل نظام (ثوابت نظام التمثل، ثوابت الاختيارات التنظيمية، والثوابت التي تنفذها الأجهزة). بعد ذلك، يستعرض خصوصية كل ثابت من الثوابت السابقة معتبرا إياها تنويعا أصيلا على نواة مشتركة.

لنعد إلى مسألة الهويات. يمكن القول إن فينر قد عارض، بدافع من استعارة الأنتروبيا entropie، شكلين رئيسيين من الهوية الاجتماعية: الهوية المنغلقة والهوية المفتوحة. الهوية المنغلقة هي التي ترفض الحوار مع الآخر أو التي لا تقبله إلا بإرادة اختزاله في نظام تمثلها، أما الهوية المفتوحة فهي تقبل حوارا حقيقيا مع الآخر ولو أدى ذلك إلى تحوِّلها. ومع ذلك ففينر ليس رجل الأصناف المحسومة، إذ يُلوِّنُ رأيه حسب الأمثلة. فهو يرى أنَّ اشتغال النظام اليسوعي يشبه الأحزاب الشيوعية، ولكنه يلاحظ مع ذلك أن بعض اليسوعيون قد أنتجوا أعمالا علمية متميزة عندما تناولوا مجالات لا تعرِّضُ إيمانهم للتناقض مع الحقائق (مثل الرياضيات البحتة أو دراسة الزلازل)(20). وهذا المثال يوضح الفرق غير القابل للاختزال بين الأجهزة الاجتماعية والأفراد. وعندما نتموقع في منطق فينر نستطيعُ أن نستنتج منه أنَّ السلطة، أيا كانت شموليتها، فهي تأتلف دائما مع إمكانيات هيكلة (التعلم) الأفراد المستعدين دائما لتجاوز التمثلات المؤسساتية في محاولة منهم للاستقلال.

ما يطرحه فينر، انطلاقا من قضية النزعة الشمولية، هو مقدمات برنامج بحوث أوسع حول أجهزة السلطة: فهذه قابلة للتحليل باصطلاحات المعلومة والتواصل والتحكم، لأنَّ التمثلات هي ما به تشيَّدُ التنظيمات والناس موضوع تحكم هذه التنظيمات، وتُحافظ على نفسها وتعيد إنتاج نفسها. ويعني نهجَهُ أن الأسس الإعلامية للنظم الاجتماعية هي قابلة للتوضيح في مستوى كاف من العمومية لفهم العلاقة الجدلية القائمة بين التمثل والتنظيم، كما من شأن تلك الأسس الإعلامية تجنيب الانخداع بما يحكيه نظام ما عن نفسه.

لقد ظل تحليل فينر للجوانب الإعلامية للسلطة ولتحكم أجهزة بناء الهويات الاجتماعية في حالة مشروع، ولكن النهج السيبرنطيقي الذي ألهمهُ كان وراء بعض الأعمال الهامة، مثل أبحاث عالم وظائف الأعصاب هنري لابوري حول «كبح الفعل» وأعمال عالم النفس ستانلي ميلغرام حول «طاعة السلطة»(21).

ومن الجدير بالذكر أن فينر يحترس من صياغة طوباويةٍ ما. فكتابه «السيبرنطيقا والمجتمع» لا يقترح مجتمعا مثاليا كما أنه ليس كتاب وصفات جاهزة لإسعاد الإنسانية الغارقة في المعاناة. ومع ذلك فهو يوصي مجتمعاتنا الحديثة بأن تحدد لنفسها هدف استخدام الآلات «استخداما إنسانيا من أجل الإنسان». بعبارة أخرى، إنه يقترح علينا أن نصوغ الغايات الجماعية لتقدم العلوم والتكنولوجيات على نحو يخدم الفرد وينميه ويسعده. بهذا التعريف، يحذرنا أيضا من استخدام لا إنساني للبشر ما دام هذا الأمر ممكنا دائما. وهذا التعريف واسع بما يكفي ليبقى مفتوحا، كما أنه لا يذكر الوسائل التي يجب استخدامها لتحقيق هذا الهدف.

الهوية-الرسالة أو الهوية-الشعلة؟
ولكن مسألة أساسية تطرح مع ذلك وهي: هل يُختزل الإنسان والآلة والمجتمعات في الإعلام والاتصال؟ وبكيفية أدق، هل الإبدال (أو المنظومة paradigme) الإعلاميـ(ة) قادر(ة) على تحديد فضاء مفهومي قادر على دراسة الهوية البشرية في شموليتها وتفسيرها؟ حول هذه النقطة، أظنُّ أني وضعتُ اليد على تأرجح غريب لدى فينر يكشف عن فكر يبقى معلقا بدون حل. والواقع أن شاهدا الهوية اللذين يقدمهما لنا في الفصل نفسه لا ينسجمان مع بعضها البعض تماما، وهما الهوية-الرسالة والهوية-الشعلة.

ترتكز الهوية-الرسالة على أنه من الممكن (نظريا) نقل هوية شخص ما عن طريق التلغراف. نحن أمام نسخة «صلبة» من الإبدال الإعلامي الذي يُحدِّدُ الفرد بالمعلومة. ومع ذلك، فمن المرجح أنه لا ينبغي أخذ التعريف حرفيا وأنَّ الأمر هنا يتعلق بـ «تجربة فكرية» شبيهة بحكاية مصعد أينشتاين(22). علاوة على ذلك، يؤكد فينر أنّ التجربة مستحيلة تقنيا لأنه لا يمكننا أن ندمر جسدا ونعيد بناءه في آن واحد. يصلح نقل الهوية بالتلغراف للتأكيد على أن الهوية لا تتحدد بالمادة. يجتاز الجسم البشري تيارا لا يتغير من المادة التي لا تتوقف عن تجديد ذرَّاتها. ولذا ليست المادة هي ما يهم، بل الحفاظ على تصميمها وتنظيمها، أي المعلومة.

وتستضيف الاستعارة-الشعلة فارقا بسيطا إلى هذا التأكيد. فهي تأتي بعد تطوير طويل بمثابة نوع من الاستنتاج الأولي الذي يُظهر استحالة تعريف أكثر دقة قبل أن يتراجع فينر عن فكرة الهوية-الرسالة. ويستند فينر الذي كان مُعجبا دائما بعلم النفس المرضي إلى أعمال الدكتور مورتون برانس الذي درس بطريقة معمَّقة، ثلاثين عاما من قبل، حالة من ازدواجية الشخصية(23) (ما نسميه اليوم هوية متعددة)، ويستخدم هذه الحالة ليرفض تصور هوية متجانسة، مثل هوية الروح البوذية أو المسيحية، أو موناضات [كائنات دقيقة أحادية الخلية] ليبنتز. بالطبع، لقد قدَّم لنا في الوقت نفسه فرضية بلغة آلة التشعب أو التفرع الممكن بين هويتين انطلاقا من هوية مشتركة. ولكن مع صورة حيوية الشعلة متعذرة الاستيعاب يمر شكّ الحدود الممكنة لمفهوم المعلومات، على الأقل كما تصوره فينر والسيبرنطيقا في ذلك الوقت.

في هذه النقطة، كما في العديد من النقاط الأخرى، ليسَ فكرُ فينر مغلقا، بل هو في حركة ويشجع على النقاش وممارسة الخيال. مجهود نحو علم يمكن لكل تخصص أن يدلي بدلوه في الوعاء المشترك داخل تبادل حر مع التخصصات الأخرى. علم سيعرف الباحثون فيه أحيانا كيف يسمونَ فوق حدود التخصصات لتوسيع آفاقهم. علم يرفضُ إضفاء الطابع البيروقراطي على البحث وتبعيته لقوى المال، وذلك من خلال وعيه بالآثار الاجتماعية لاكتشافاته. وباختصار، فهو علمٌ مُواطن.

كبح مسألة السلطة
بعد أن عرفت السيبرنطيقا نموا كافيا، فقد تعرضت تدريجيا للتهميش من لدن المعلوماتية المنتصرة كما استحوذت التخصصات التقليدية على أغلب مفاهيمها بعد أن سارعت إلى محو جوانبها العرضية ونسيان أصلها. وسيكون من المطيل جدا هنا تحليل هذه الأمر، ولكن قد لا يكون من قبيل المصادفة أنَّ حقل التواصل الذي شغلته السيبرنطيقا قد اجتاحته تدريجيا عددٌ من النظريات الناعمة التي تقوم بالتحكم مع تجنب الحديث عنه.

في الواقع، كثيرا ما يتم نسيان اصطلاح «التحكم أو السيطرة» في تعريف فينر للسيبرنطيقا ولا يتم الاحتفاظ سوى باصطلاح «التواصل»، والحال أن السيبرنطيقا تمشي على قدمين: التحكم الذي يستند إلى منطق التغذية الراجعة، والتواصل الذي لا يمكن معالجته بالخصوص في النظم التركيبية complexité (حالة المجتمعات) دون الإشارة إلى عنصر التحكم (التحكم من خلال التمثلات والاتصالات، يمكن القول).

يبدو لي أيضا أنَّ السبب الرئيسي (هناك أسباب أخرى) «للإبعاد» المؤسسي للسيبرنطيقا يعود قبل كل شيء إلى أنَّ مقاربة فينر تفضي بشكل طبيعي إلى مسألة السلطة. فتصوره للتحكم له شحنة سياسية بارزة ويسلط الضوء جزئيا على عدم التكافؤ بين «صانعي القرار» و«المنفذين» مستوعبا إياه من زاوية التخصص الإعلامي والهُوِّيي. وهو يُنسِّبُ عدم التكافؤ ويُظهر أنَّه نتيجة ترتيب معين لمعالجة المعلومة وأنَّه يجب تكييف هذا الجهاز بنشاط لكي يبقى في الزمن. ويشير إلى أنَّ هذا التفاوت لا يشكل سوى شكل تنظيمي بين أشكال أخرى ممكنة، ومن ثمة فهو يفتح حقلا جديدا للبحث عن بدائل تنظيمية.

وفي ذلك، يبدو هذا الفكر نقيضا للطوباوية لأنه لا ينشغل بتقديم وصفات بل بالربط بين موضوع الدراسة والمنهجية. كما أنه لا يملك جوابا مسبقا ليقدمه، إذ الأسئلة في حاجة إلى الطرح والأجوبة في حاجة إلى البناء. ومن المنطقي أن مثل هذه المقاربة التي تضع في المقام الأول تحليل آليات السلطة في مكوناتها الإعلامية (وسيرورة التمثل التي ترتكز عليها السلطة) لم تكن مقبولة من مجتمع في طريق الحوسبة حيثُ تمَّ إبعاد إعادة بناء علاقات السلطة منهجيا من النقاش الديمقراطي. ولكن رغم ذلك الإبعاد، فمن العجب أنَّ الأمور قد تغيرت جذريا اليوم.

غي لاكروا
ترجمة: محمد أسليـم

النص الأصلي صدر في مجلة Treminal، العدد 61، خريف 1993، ويوجد نصه كاملا في الشبكة:

Guy Lacroix, “Cybernétique et Société”: Norbert Wiener ou les déboires d une pensée subversive.

————–
هوامش:

1. Philippe Breton, L utopie de la communication, La Découverte, Paris 1992.

فيليب بريتون هو أيضا مؤلف كتاب «تاريخ المعلوماتية» المتميز جدا، وسعى فيه فيه إلى الكشف عن مختلف الخيوط التي أدت إلى ولادة المعلوماتية، ثم إلى تطورها:

– Philippe Breton, Une histoire de l informatique, La Découverte, Paris 1987 (nouvelle édition, coll. “Point-science”, Seuil, Paris 1991).

2. أود أن أضيف، مع ذلك، أن هذه الرؤية ربما هي موضوع تركيز من لدن وسائل الإعلام أكثر من اللازم، وينبغي أن تكمل بالأخذ بعين الاعتبار تعميم وتبسيط معلومياتي يروِّجُ لرؤية إنسان قابل للبرمجة ومرن للغاية. علاوة على ذلك، فهل هذه الطوباوية هي قائمة فعلا على نحو ما يظنُّ بريتون؟ ألا يتعلق الأمر بالأحرى بشيء أكثر دقة بكثير ومتعدد الأوجه، ومن ثمة فربما بشيء أكثر خطورة، لأنه أكثر قدرة على التكيف مع التطورات الممكنة لتكنولوجيات الإعلام والاتصال؟
3. من وجهة نظري، ربما يجب البحث عن أصل هذه الطوباوية في مكان آخر، وخاصة (ولكن ليس حصرا) في جانب الذين دعوا إلى التطابق المطلق بين المنطق الرياضي والحاسوب وتفكير الإنسان، أي في جانب مروجي أسطورة البرمجة الكونية، وهو افتراض تعارضه السيبرنطيقا.
4. بعدما أحرزت تقدما كبيرا في الغرب والشرق، تمَّ تهميشها تدريجيا إلى أن اختفت تماما تقريبا باعتبارها تخصصا علميا «مؤسساتيا».

5. Norbert Wiener, Cybernetics, Hermann, Paris, et Wiley and Sons, New York, 1948

(تمَّ نشره بالأنجليزية والفرنسية).

Norbert Wiener, Cybernétique et société, ou de l usage humain des être humains .

صدر بعد انصرام عامين على إصدار «Cybernetics»، وتم تنقيحه في طبعة جديدة ظهرت عام 1954. صدرت الترجمة الفرنسية للطبعة الأولى في عام 1954 عن منشورات الضفتين، في حين صدرت الطبعة المنقحة في عام 1962، عن منشورات 10/18، وسأعتمد هنا، في الإحالات، على الطبعة الإجمالية الصادرة عام 1971 عن 10/18.
6. تعريفُ فينر بأنه فوضوي، على نحو ما يقوم به بريتون، وجعله قائد جوقة المناداة بالشفافية المطلقة، هو طريقة أنيقة لتبخيس مواقفه السياسية إلى درجة أنه من المألوف إطلاق صفة فوضويين على الذين يأخذون فكرة الديمقراطية على محمل الجد. من ناحية أخرى، فالفوضوية تدعو إلى شفافية السلطة وليس إلى شفافية الفرد.

7. Norbert Wiener, op. cit., p. 121.

8. يبدو أن الوضع لم يتغير في العمق.

9. Norbert Wiener, op. cit., p. 159.
10. Norbert Wiener, op. cit., p. 159.
11. Norbert Wiener, op. cit., p. 160 .

12. تناول هذه المسألة مجدَّدا في كتابه الأخير «God and Golem Inc» الذي صدر بعد وفاته، في عام 1964، عن منشورات معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. وقد صدرت نسخة مختصرة منه باللغة الفرنسية، شرح غابرييل فيرالدي، في العددين 22 و23 من مجلة Planète.

13. Norbert Wiener, op. cit., p. 459.

14. Dominique Dubarle, “Vers une machine à Gouverner”, Le Monde du 28 décembre 1948.

لقد عقب بروتون طويلا على هذا المقال، وتمَّ إعادة نشره في العدد 21 من مجلة Culture et Technique.

15. Norbert Wiener, op. cit., p. 451.
16. Norbert Wiener, op. cit., p. 497 et 498.

17. لا يستخدم فينر مصطلح التمثل représentation، بل يستخدم اصطلاحات نموذج ونمط أو أسلوب Pattern. وقد ارتأيتُ استخدامه لأنه في نظري يشملُ القضايا التي يثيرها فينر والتي كانت ستقتضي عرضا أطول لو أستخدم مصطلح التمثل.
18. التغذية الراجعة Feed-back والتعدد الغائي multistat يستلهمان مفهوم الاستقرار homéostasie الذي حيَّنه العالم الفيزيولوجي الكبير كانون، ويُشير إلى قدرة الكائن الحي على الحفاظ على عدد من الثوابت الداخلية (مثل الحرارة وتركيز الدم) رغم تنوعات وسطه الخارجي.
19. هذا الفصل بين المجتمعات «المفتوحة» والمجتمعات «المغلقة» يطرح مشكلة، لأنه لا وجود لمجتمع مغلق كليا، ولأنه يُفضي إلى الجمع بين المجتمعات «الحديثة» الشمولية وما يسمى بالمجتمعات «البدائية» داخل فئة واحدة. وإذا كان فينر يلمح إلى هذا التصنيف بقوة، فإنه لا يذكره بشكل واضح. كما هو الأمر في كثير من الأحيان لدى فينر وعلماء ذلك الوقت، نجد أنفسنا أمام تعابير عامة لا تغامر كثيرا، أي أمام طريق تُرسَمُ لا ينبغي أن تؤخذ حرفيا، بل ربما تقتضي التطوير على نحو متدرج.
20. أما بخصوص نصوص اليسوعيين، أي تلك التقارير التي يجب أن يرسلوها – مثل الشيوعيين – إلى رؤسائهم، فهو يعتبرها «متميزة جدا»، «بالكاد أقل من نصوص سفراء البندقية في وقت سابق»، ص. 484
21. يسلتهم أخصائي السلوك كونراد لورنز وعالم النفس جان بياجيه وعالم الاجتماع إدغار موران … السيبرنطيقا في بعض أعمالهم.
22. وهي قصة مُلاحظٌ يوجَدُ في مصعد كهربائي يسقط بسرعة تحت تأثير الجاذبية وحده.
23. يعتبر أطباء المرض العقلي الذينَ يفسرون الحالة باستدعاء اصطلاح الهستيريا أعمالَهُ هامشية، في حين يرى هو أنَّ هذا الاصطلاح لا يعدو مجرد صفة تُلصق بالفرد دون أن تكون لها أية قدرة تفسيرية.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 07-05-2014 11:52 صباحا

الاخبار العاجلة