محمد أسليم: كتاب الفقدان: – 5

1٬219 views مشاهدة
محمد أسليم: كتاب الفقدان: – 5

رَأْسٌ بِسِعَـةِ اٌلكَـوْنِ

الآنَ وقد فَرَّت بي اللغَة إلى حيث كشفتُ لكم عمَّا كشفتُه من شخصي فإنني أشعرُ بندم وخجلٍ شديدَين أنا موقنٌ بأنهما يمثلان العقبتين الوحيدتين اللتان تحولانِ بيني وبين استئنافِ حياتي السَّوية. فقَدْ عوفيتُ من مرَضي منذ زمن طويلٍ، لكن كلما عزمتُ على الظهُور بينكم أقعَدَنِي وِزْرُ التصرّفات التي كانت تحركني كدُمية لما كنتُ مريضا. ثم إنَّ ما كتبته عن نفسي قد انطبعَ على جسَدي إلى الأبد بحيث لن يستحيلَ عليَّ محوه فحسب، بل وسيجعل مني كذلكَ قبلة لفضول النّاظرين الذين – إنْ أخرُج – لن يَكفوا عن مُطاردتي بأبصَارهِم منتظرين أن أتمايَل في مشيتي كالسَّكران، أو أصرُخ في الأشياء قاطِبة وأنا أسألها: «منْ أنا وماذا أفعل هنا؟»، أو أحَوِّلَ طوابير السَّيارات إلى جوقةٍ صاخبة، أو ألح في الطلب من بعضهم بأن ينفتحَ كي أحُلَّ فيه لأريه إلى أي حدِّ ليس هُو إلا أنا ولستُ إلا إياه… وحيث إني واثقٌ من أنَّ أيَّ شيء من مِثل هذه التصرُّفات لن يصدُر عني على الإطلاق فالقومُ لشدَّة وُقوعهم ضَحايا أقوالي وكتاباتي السَّابقة سينتهونَ إلى اعتبار عين سِوَايَتِي هِي عينُ جنوني، وبذلكَ فإن أبتسِم يخيَّل إليهم أن ابتسامتي قهقهة، وإن ألفف أحدَهُم بنظرة وديعَة مُتوسِّلة يُطلق ساقيه للرِّيح حَاسبا نظرتي إليه تمهيدا لشنِّ عُدوان جسَدِيٍّ عليه…

– لكنْ، يا مستر يَعقوب، من أجبركَ على كتابَة ما كتبتُهُ؟

– بل أأنا الذي كتبتُ ما كتب أم أنَّ أحمدَ آخر أو محمدا آخر هما اللذان كتباه؟

– أم ترى كتابة مَّا هي التي استغلتْ طيبوبتكَ فقادتكَ إلى هَذه الورطة…

– إن كنتُ أنا الكاتب فهو المجنون، وإن كان هو الكاتب فهي المجنونة…

– من هي؟

– الله أعلم!

– والحالة هذه، هل يُعقل أن أتحمَّل عواقبَ جنونه أو جنونها؟ هل يعقل أن أقعَ ضحية كتابة لم أكتبها قط؟

– لكن من سَيصدِّق هَذا الكلام؟

– لا أحَد.

وإذن، فلنواصل حَديث العشب، ولنَعُدْ إلى مبدأ كلامنا:

الآن وقد فرَّتْ بي اللغة إلى حيث مَا أتراءى لكم عَليه الآن، حَانَ الوقتُ لكي أظهر لكم أنني لستُ ساذجا بالقدر الذي خيِّلَ إليكم حتّى اليوم. فأنا مَعشرٌ اتخذنا من لحم وعظم من يخاطِبكم الآن قلعةً احتمينا بها منا لنلقِّنكُم من الدُّروس ما أعماكم عَن استخلاصه كثرةُ توالدكُم كالحشرات وانشغالكم بتفاهاتٍ كالحلاقة، والجماع، والأكلِ، والشُّربِ، وإفراغ البطن في مَراحيض… انصِتوا جيدا حفظكم الله وَرعاكم:

إياكم ومغبَّة محاولة فهم ما كنتُ كتبتُه لكم وتراءيتُ لكم به! فهو لا يُفهَم لأنني نفسي لا أعرفه، فأحرى أن يعرفه هو أو تعرفه هي. كلُّ ما أدريه هُو أنني كتبتُ ما لا يعدو مجرد أمانَة نقلتُها إليكم كما نقلني من نفضتُ يدي من مَعرفته. وإن لم يكن بد من الفهم فافعَلوا مثلي: اغرسُوا أشجارا في رُؤوسِكم، واتخِذوا من الليل نظارَتين. اخلعُوا عقولكم والقوا بأنفسِكم في بحر الكَلام. وآنئذ سَوف لن تفطنُوا لأنفسِكم إلاَّ وأنتم تضحكونَ بالدُّموع، وتموتون وأنتم أحيَاء، وتعيشُون في حِداد دائم، وتنكشفُ عنكم حُجُب الوَهم فترون المنازل قبُورا، والملابسَ أكفانا، والأجسَاد عظاما، وتضعون حِدادا مزمنا، وتبكونَ يوميا على مَوْتَى ما رأتهم عيونكم قَطُّ، وتجيبون عَن السَّائل ب: «لا» و«نعم»، ويلقاكُم المرءُ في الطريق فيسألكم: «ألستَ فُلانا بن فلان؟»، فتجيبُونه: «نعم أنا هُو فلان بن فلان. إني أعرِفُنِي جيِّدا لكنَّني افتقدتُنِي منذ زمن طَويل، ومُنذ أن فقدتُ نفسي وأنا أبحثُ عنِّي في كلِّ مكان دُونَ أن أجدَني، فهللا دللتني عليَّ؟»، ثمَّ تتركون السَّائلَ مشدوها وتواصِلون سيركم باحثين عنكُم دون أن تعثروا عليكُم…

آنئذٍ ستنحَلُّ عُقَدُ ألسنتكم فيصرخُ كلكم في وجه كُلّكُم:

«لقد أعياني طول المقَام بينكم فلا أنا استرحتُ ولا أنتم.

فيا رَحَّال! افرغ هذه القمَامة منا وأرِحنا جميعا!»…

آنئذٍ سوف ترَون أن للكلام وجها وظهراً وبطناً وقلباً، وأنَّ الكلمَات كالبشر فيها الحدباءُ والصَّلعاءُ والعوراءُ والعوجَاءُ، فما ينتهي أحدُكُم من تقليب إحدَاها وإرسالها، بعد أن يطمئنَّ إلى أنها ليسَت إلا هي، حتّى ترتدَّ إليه سائلةً:

«من أنا؟

ماذا أفعل هنا؟».

والآنَ من أنا؟ وماذا أفعل هُنا؟

يا أيها الناسُ!

إني غريق تتقاذفه أمواجُ الفكره المتلاطمة.

فشُدُّوا بيدي، عافاكم، أو هاتوني عَصا كي أتحَسَّسَ بها التمثلَ الصَّحيحَ لنفسِي وللعَالم.

*

*             *

كلاَّ!

لاتشفقوا عليَّ أو تهرعوا لنجدتي. فأنتم إلى الشَّفقة والنجدة أحوجُ أيهَا الخونة! لئن تعطوني عَصا لأكسِّرَنَّها على ظُهوركم جميعا لأنني لم أصدِر أيَّ كلمةٍ أو حَركةٍ حتى اليوم إلا بعدَ تقليبها على أبعادها الثمانية مرارا وتكرارا حاسِبا ألف حسابٍ لما ستخلفه في نفسِي قبل أن تخلفه فيكم. فهلْ تقومون أنتم بهذا؟ هه؟ تكلموا! لماذا أنتم صامتون؟!

إنني لأتحدَّى العالم أجمعَ بأنّني أعظم وأنبلَ وأذكى رجُل عرفته البشرية على الإطلاق، بل أثرى رجُلٍ على وجه البرية بما أملكُه من ثروات فكرٍ وأزمنةٍ طائلة. وأؤكدُ لكم منذ الآن ثم أؤكدُ بأنَّ شخصية مِثلي إن هي إلا فلتة لم يَجُدْ بهَا التاريخ إلا مرة واحدة مجسدة فيَّ بالضبط. وعمَّا قريبٍ سأقدِّم لكم الدليل الملمُوس على ذلكَ. سَأصوغ لكم تمثلا صحيحا للعالم يضعُكم في عُمْق زمَن قادمٍ لاريبَ فيه ما أنتم وحضَارتكم، منظورا إليكما منه، إلا بقايا هياكل وجماجم مُترسبة تحتَ طبقاتِ عصرٍ حجري بائد. تمثلا ستدركون عبره أن النظَام الشَّمسِيَّ برُمَّتِهِ لا يعدو مجرد دُولابٍ صغير وسط آلة أعظم أو نفاية صَغيرة قابعة داخل قمامة مُلقاة في صَحراء المطلق. وسأنطَلق في ذلكَ من وضع تصميمٍ لمعمل دَجَاجٍ يشتغلُ من تلقاء نفسه بطريقة تصِل حُقول الحبُوب بالسَّكَاكِينِ، وبيض الدَّجاج بآبار النفط، وعَلفه بأمعائكم…

حذار ثم حذار أن ترتكبوا مغبَّة السُّخرية من هذا الوَحي الذي ألقيه عليكم! فأنا لا أنطق باعتباري فرداً، بل بصفتي حشداً من البشر لا يتلفظ بالكلِمة الواحدة إلا بعد حصول إجماع بَين الأشخاص واللغات القاطنة فيَّ. وكمْ هي كثيرة ومتشدِّدَّة الأقوام والألسن المقيمة بداخلي، بحيث إنَّ اختِصامها وتسَارعها إلى سبق بعضها بعضا يُوَلِّدُ بداخلي حُرُوبا لا أنجو من قساوتها إلا بالصَّمت. وهَذا هو السَّبب في صومي عن الكلام شُهورا وأعواما. فافهمُوني إذن ولا تزعجوني بنباحِكم عندما أكونُ صُمّاً بُكماً بينكم لأنَّني أكون حينئذٍ غارقا في الإنصات إلينا. ولستُ في ذلك إلا وفيا لما أوصَاني به أبي قبل موتِه. أقصدُ أبي الحقيقي وليسَ شبه الخروف ذاك الذي كانَ يؤتاني به، رفقة امرأة، لما كنتُ نزيلا بمستشفى الأمرَاض العقليَّة، ثم يقال لي: «من هذان؟»، فأعجزُ عن الجواب، فيقَالُ لي: «إنما هَذا أبوك وهَذه أمك!» إلى أن فطنتُ للمؤامرة التِي كانت تحَاكُ ضِدِّي فأسقطتُ رؤوس مُدبِّرِيهَا جميعا…

*

*             *

كانَ أبي عالما كبيرا، لكنَّ فرط عِلْمِهِ رماهُ في أصقاع الجهل العُظمى. فقد كان يلتهم أسْبوعيا رُكاما من الكتب ويتماهَى مع كلِّ ما يَقرأ إلى أن التبَسَ عليه الأمرُ فما عاد يعرفُ هل المصَنفُ قسمة مفقودة منه أم أنه قسمة ضائعة مِن الكتاب… فقالَ لي ذات يَوم: «أبنيَّ أينَا الآخر: أأنتَ أنا أم أنا أنت؟»، وقالَ مرَّة أخرَى: «في أي فقرةٍ نحنُ مِنَ الكتاب يا بُنَيَّ؟»، ثم فَصَّلَ ذلك كلَّهُ في يوم آخر فأسرَّ لي:

«- أبُنَيَّ، لقد قرأتُ من الكتب ما لا يحيط به عَدٌّ ولا حَصْرٌ، لكن ذلك كله ما أفادني بشيء. فهنا، في رأسي، تقبع آلاف المخطوطات والكتب والرسائل، لكنها لا تتناسل ولا تخلفُ كتبا أخرى. وهذا ما يجعلها حزينة مقدار حزني ويمنعني من أصير عالما كبيرا. فأنا أحفظ عن ظهر قلب – دون قَصْدٍ أو بذل مجهودٍ – كُل ما قرأته حتى الآن، وبمقدرتي أن أقيء النصوص والفقرات كما يقيء المرء الطعام، لكنني عاجز تماما عن تبين الصلات فيما بينها حتى عندما يتعلق الأمر بكتابين أخوين أو بكتاب أبٍ وآخرين ابنين له. فهل أدركتَ الآن معنى أن تصير عالما؟».

– نعم، لقد أدركتُه الآن يا أبي. أن تصبحَ عالما هو أن لا تفطن لنفسك إلا وقد تحولتَ إلى شريطٍ كل ما يستطيعُ القيام به هو الترديد الآلي لكلِّ ما سَجَّله فيكَ من أنتَ جاهِله دون أن تضيفَ إليه شيئا أو تنقصُه منه. وعليه، فمن اعتقدَ منكم أن ما أكتبُهُ الآن عِلمٌ أو وحيٌ فهو خائنٌ، لأنَّ العِلم – كمَا قال أبي – لا يخلُو أن يكون أحد اثنين: إما أنه مُعْتَقَلٌ بداخلك أو أنَّكَ مُعْتَقَلٌ بداخله. لا أحد يفلتُ من الآخر أو يفر منه. فلو كتبتُ عِلما لجازفتُ بقطع رأسي أو رجلي كَي أرفقه بالنّصِّ. هيا، إذن! اذهبُوا إلى المكتباتِ والأكشاك، واطلبُوا كتبا مرفوقة بقطعٍ من أجسَادِ أصحَابها. إن وجدتمُوها فتعالوا اقطعوا رأسِي وإن لم تجدوها فايقِنوا أن أكثر النّاس علما أشدهم شبها بالقِرَدَة، وأن لا عِلمَ يروُجُ بينكم إلا عِلْم القِرَدَة، وأن كتبكم لا تبدي من النصوص مقدار ما تخفي من اللصُوص.

وبعدُ،

فإنِّي أنا، وأنا لسْتُ أنا،

أحلمُ بأشرطةٍ ما أن تُسْمِعكم ما سُجِّل فيكم حتى توسعكم ركلا ولكماً وهي تسألكم معنفة: «ما مَعنى هذا؟ ما معنى هذا؟»، كلما عَجزتم عن الإجابة زادتكمْ ركلا ولكما إلى أن تفيقوا من سُباتكم العميق فتدركوا أنَّ الكون برمته إن هو إلا رُكَامٌ من الأجوبة المحتملة عن سُؤال لم يُصَغْ بعد، وأنكم لم تُسَاقوا إلى هُنا لتأكلوا وتشربوا وتنَاموا وتتناكحوا وتتوالدوا وتموتوا كقطعان البهائم، بلْ جيء بكم خصِّيصا لكي تجيبوا عن السُّؤال التّالي: «ما هُو السؤال الذي كان الكون، وكنتم معَه، جوابا محتملا عنه؟». فعن أيِّ سُؤال يجيب وُجود هذا الكون؟ بلْ من سَيطرح هذا السؤال وعلى من سَيطرَحه؟

وقبلُ،

فحين تُدرِكُونَ أنَّ يقينَ وُجود هذا الكَون لا يعدُو مجرد وهم راسخ في أذهانكم، وأن سَفينةَ نوح رمزٌ كونيٌّ، وأن لأجسادِكم أبعادا لا تنكشفُ إلا بإدمَان السِّياقة ومُعاشرة القطط، وأنَّ السَّمعَ وهْمٌ، والبصرَ عاهة، والمشيَ وقوفٌ، والكلامَ صمتٌ، واليقظةَ نومٌ، والحياةَ موتٌ… آنذاكَ فقط سَتكونوا قد طرَحتم نصفَ السُّؤال المطرُوح عليكم.

*

*             *

عندما لم يُجْدِنِي نفعا الكتابُ الذي ألَّفتُه لسجن العَالم وحَركَات النّاس فطنَ أفرادُ عائلتي إلى مرضي فوضَعَنا المرَضُ في مقام تواصُلٍ مُستحيل: فما من كلمة كان يُلقى بها إلي إلا وكانت تهوَى على رأسي ككيس رَمل أو إسمنتٍ وتصدِّعُ جمجمتي كضربة مطرقة قاسِية. وبدلا من الإجابة عما كان يلقى إلي كنتُ أشردُ في مكوناته التي كانتْ لا تبدو لي – مهما قلَّت – إلا عالما شاسعا، أتيهُ فيه أحقابا وسنينا. وهكَذا، ففيما كانَ الآخرُون ينتظرونَ مني إجابة كنتُ أغرقُ في التأمُّل صَارفا ساعاتٍ طويلة فلا أفهم بَعضا من كلامِهم إلا بعدَ مُرُور نصف اليَوم أو أكثر خِلاله يكونوا هم قدْ تراشقوا في شأني بكلامٍ كثير. بعد ذلك فقط أجيبُهُمْ عن قول الصباح فيكون السياق قد فاتني، فيحدجُونني بنظراتٍ غريبة مُعاتبة متأسِّفة. ولم أفطن للفرْق الذي كان قد انحفرَ بيني وبينهُم إلا بَعد انصرام أشهرٍ سبعة قضيتها كاملة في استقبَال كائناتٍ كانت تنزل إليَّ من أكوان أخرى خصِّيصا لتفاوضني حَول الصِّيغَة الأليق لإعادةِ تشكيل هَذا الكون وتأثيثه بعد الإطاحة بِكم وحَجبكم منه. والحق أنَّه لو لم يقع خلافٌ بسيطٌ بيني وبين تلك المخلوقات لحظة الحسمِ في الترتيبات النهائية لإقامتنا القيامة، استغلَّته أمي فأمسَكتني من يَدِي ملحقة أضرَارا بليغة بحساباتي الدقيقة، لا زَالت آثارها حاضرةً في دمَاغي بشكلٍ قرُوح مُتموِّجَة، لو لم يقع ذلك لكنتُ تمطَّطتُ ومَا كنتم الآن سِوى أفاعي تائهة في فيافي جسَدي أو أسماكَ ضالة في طُوفان فكري…

من اعتقد أنَّ أمِّي قد خلَّصَتْهُ مني فقد ارتكبَ معصية كبرى لأنَّ والدَتِي ماتت وتكَلَّسَتْ عظامها في القبر قبل أن أولَدَ، ولأنَّ سُكان الأكوَان الأخرى مَا احتجبُوا إلا لإحضار أدواتٍ نسَوها في كوكب عُطارد. عما قريبٍ سنستأنفُ مفاوضاتنا، ونوقِّعُ ميثاقا نحجبُ بموجبه الشَّمس، ونجف البِحار، ونحِلَّ محلَّكم كائنات ذوَات أعين سَبع، وأرجل خمس، ليسَ فيها ذكر ولا أنثى ولا خنثى، لا تَعرف نوما ولا كلاما ولا طعاما ولا شرابا، لانشِغالها بفرحها المنتشي الدَّائم…

*

*             *

لما انصرمَت الأشهُر السَّبعة أَفَقتُ من النّوم، وقلتُ:

«أنا في وضع لا يخلو من أحد أمرين: فإمَّا أن هؤلاء الذين يحيطون بي يملكون من الذكاء والعبقرية ما يتيح لهم أن يستوعبوا في وقت وجيز أضعافا مضاعفة مما لا أستوعِبُهُ إلا بعد انصرام أوقات طوال».

ولما توصَّلْتُ إلى هذه الحقيقة التفتُّ إلى كلِّ من كانوا يحيطونَ بي أو ينشغلون لمرضي، ثمَّ قلتُ لهم بخشوعٍ وابتهالٍ:

«ما أنتم إلا آلهة، فسبحانكُم ثم سبحانكم!».

… أو أنهم من البلادة والسذاجة وقصر النظر بحيث بدل استكشاف أبعاد الكلمة الواحدة التي لا يُضَاهِي شساعتها إلا الكون، بدل ذلك يعمدون إلى سجنها داخل علب ووزنها بموازين. »

ولما أشرَقت في ذهني هذه الحقيقة عدتُ فالتفتُّ إليهم وقلتُ في زَهو وكبرياء: «سُبحاني ثم سُبحاني، فلا أنا إلا أنا!».

إلا أنني الآن فقط أدرِك حجم البلادة التي كانت تُنطِقُنِي:

أمَا كنتُ بحقيقتي وكلماتي تلكَ قد وضعتُ نفسي في الطَّريق المسدود لِوضْعِي ضرورة أن يكون الله بيني وبين كلّ من كانت تَربطني بهم علاقة بحيث إمَّا أكونه أو يكونوا إياه؟ والآن وقد انقشعَت عَن ذهني تلكَ الغيُوم، فهَل من الضَّرُوري أن يكُونَ أو يُكَان؟ إذا لم يكن من الضَّروري، فمن وضَع في ذهني ذلك اليَقين؟ ومَا معنى أن يُوضع؟

*

*             *

لما تعاظمَ وحيي وصارت مدرَّجاتُ عقلي أصغر من أن تَسَعَ عُشُرَ عُشُرَ عُشُرَ عُشُرٍ مما يحُط فيها كل ثانية من أسرَاب الأفكار والأحاسِيس والخواطر، أطلقتُ ضحكة مُدوية وصَرخة عظمى ثمَّ احتميتُ بأمِّي. بَكت كثيرا، ثمَّ أمسكتني من يدِي، وأخرَجتني مِن المنزل وهيَ تترنحُ قائلة: «تعَال مَعِي يا وَلدِي، فقد مرضتَ!»… توغلتْ بي في طرقاتٍ ومسالك مجهُولة. سألتها: «إلى أين؟». بَخلت عليَّ بمجرد إجابة، غير أنني سرعان ما علمتُ وِجْهَتَهَا، شُلَّتْ قدماي وطار قلبي خفقانا: لقد دبَّرَتْ مؤامرة ضدِّي بتواطؤ مع أبي وإخوَتي للتّخلص مني خشية أن يكتشفَ الناس في الخارج ذكَائي الخارق – الذي عَجَز أهلي عن مُجاراة ما أمْلاه عليَّ من أقوال وسلوكاتٍ – فيتبنونه نمطا للتفكير والوجودِ وينبذون كل من يعجز عنْ مواكبته. أمي الآن ماضيةٌ بي إلى غابة أو مكان قفر لكي تتركني فيه وتنسلَّ خفية، ثم تطلق ساقيها للريح قافلة للمنزل. أحَاول التخلصِ من قبضتها، أحَاول انتشال يَدِي من يدها بعنفٍ وأنا أصرُخ بأعلى صَوتي: «أعيدِيني إلى المنزل، فأنا لستُ يُوسُفَ! أعيدِيني إلى المنزل، فأنا لستُ يَعقوبَ!»، غير أنها كانت لاصقة بي كقدر مَسعور. فبقدرِ ما كنتُ أحاولُ سحْب يَدِي بقوة كانت هيَ تضاعِف من قوة إمساكها بي، وبقدر ما كانَ شلل قدمي يُسقِطنِي على الأرضِ كانت هي تُنهضني بقوة وتجبرُني على استئنافِ المسير إلى أن تحلق حولنا حشدٌ من أهل الفضُول فكان ما كان من نبوءاتي وخطبِي المشرقة التي رَسَّخَت في ذهني الحقيقة الآتية:

كان أهلي يُريدون فعلا التخلصَ مني، لكن ليسَ لفرط ذكائي، وإنما ليأسهم من إمكانِ إعادتي إلى مُستوى من التفكير والتَّواصُل مماثل لمستواهم، إذ لما يئسوا من ذلك ما عادوا يَرونَ فيَّ أكثر من كيس خسَارة يلتهمُ الطعَام ويُعيد إخراجه دُونَ أن ينتجَ شيئا، فأرادُوا التخلصَ مني. آنذاك أيقنتُ بأنني لم أكنْ أعظم وأنبل وأذكى رجُل عرفتهُ البشرية، بل كنتُ مجرَّد طفل صغير يرزح تحت قبضة أمٍّ شرسة قاسية. ولذلكَ أخذتُ أحاولُ عبثا التخلص منهَا وأنا أتوسَّل إليهَا مُبتهلا: «يا أمِّي! عمَّا قريبٍ سأتحولُ إلى حُقول زَرع وأشجار فواكه. يَا أمي! عمَّا قريب سيَنزَرِعُ ويَنغَرسُ كل ما أكلته، فأعيديني إلى المنزل!»، لكنها بدَلا مِن أن تعيدني إلى البَيتِ لفظتني كنفاية في صَحراء سأعرفُ فيمَا بعد أنها كانت تدعَى «مستشفى الأمراض العَقلية»، ثم انسلَّت إلى الدَّار هَادئة دُون أن تَكترث لمقامِي في الجحيم التي زجَّتْ بي فيها…

في المسْتشفى هَوَى عَلي من عُلب الأقراصِ، وآلام الحقن، وسياطِ الممَرِّضين، واستِنطاقات الأطباء، وترنحات اللغة ما جعَل البقية المتبقاةِ من عَقلي تتعطّلُ، ورأسي ينتفخ إلى أن صَار أكبر مِن أن يقوَى جسَدي على حمله لأنه أصبحَ بسِعة هذا الكون. ولذلكَ هَويتُ على الفِراش حيث قضيتُ لستُ أدري كم من شهور أو أعوام في التسَاؤل عبثا عن سَبب مَرضِي: «متى كان مَبدأ ما أنا غارقٌ فيه الآن؟ مَن أنزلني إلى قرارةِ هذه البئر؟ بل أمولودٌ أنا أم مازلتُ جنينا في بَطن أمِّي؟…» ولم يكن ينتشلني من أسئلتي تلكَ إلا وقع حَوافر تنتهي إلى غرفتي فيُحيط بسَريري قومٌ يُقدَّم لي اثنان منهم شِبهُ خرُوفين ثم يُوَجَّه إليَّ السؤال: «أتعرفُ من هَذين؟»، فأتفرَّسُ في وجهَيهمَا مليّا دون أن أتوصَّل إلى جواب، فيُقَالُ لي:«إنما هذا أبُوكَ وهذه أمُّكَ!». وآنذاك كنتُ أصرُخ بأعلى صَوتي:

«لكن، أيها الخونة! إلى أين أنتم فارين بقلمي بعد كلّ ما حكيتُه لكم عني؟ أتنتظرون أن أحدثكم عن كيف فطنتُ إلى المؤامَرَة التي كانت تُحَاك ضدِّي وأسقطتُ رؤوس مُدَبِّرِيهَا، وعَن حركاتِي ونبوءاتِي وفتوحاتي المقدسة في المستشفى؟ كلا، كلا! أبدا، أبدا! لن يفر بي القلم هذه المرة! لقد عوفيتُ من مرضي وأقلعتُ عن الهذيان منذ زمن طويل. ألم أحمل القلم منذ لحظات خصيصا لكي أقول لكم إنني قد استعدتُ عافيتي العقلية والنفسية منذ وقت طويل، وما يحول بيني وبين استئناف حياتي السوية والظهور بينكم إلا وِزْرُ التصرفات التي كانت تعبث بي وتحركني كدُميةٍ عندما كنتُ مريضا فضلا عن أنَّ ما كتبته عن نفسي قد انطبع على جسدي إلى الأبد بحيث لن يستحيل علي محوه فحسب، بل وسيجعل مني أيضا قبلَة لفضول الناظرين…؟. فلا تحاولوا التعرُّفَ عليَّ أو مطاردتي بأبصاركم. أنا الآن محتجبٌ لا أخرجُ إلا بهيأة امرأة. أَوَ لابُدَّ من التعرُّف عليَّ؟ هيا إذن. انصِبُوا حَوَاجِزَ في الطرقات وفتشوا النسَاء واحدةً واحدةً. لن يجديكم ذلك في شيء، لأنني قلبتُ موازينكُم وحطمتُ أقانيمكم مُذْ كنتُ في بطن أمِّي. فبين النساء منذ الآن رجُلٌ، وبين الرَّجُل الذي أنا إياه توجدُ مجموع النسَاء. وضوحا أكثر؟ لا امرأة ولا رجل! فما من أنثى إلا وفيها شيءٌ مني، وما من ذكر إلا وفيه شيءٌ منها، ما يفرِّقُ بينهما سوى لِحْيَةٍ أحملها في وجهي وتحملها في حِجْرِهَا. لذلكَ، وفي انتظار إعادة تشكيل هذا الكون وتأثيثه بعد الإطاحة بكم وحَجبِكُم منه، أنا لا أضاجعُ الآن إلا الأشباح التي تنزلُ عَليَّ خِصِّيصا مِن أكوان أخرى»…

الاخبار العاجلة