محمد أسليـم: كتاب الفقدان: (2) ضَوضَاء التَّمَثـُّـلاَت

1٬297 views مشاهدة
محمد أسليـم: كتاب الفقدان: (2) ضَوضَاء التَّمَثـُّـلاَت

ضَوضَاء التَّمَثـُّـلاَت

لِفَرْطِ ما انغرسَتْ قدَمَايَ في وحَل الجنون صَار حديثي مَع الآخرينَ صعبا جدا ما لم يكن مُستحيلا، وذلكَ لا لكون ما أريدُ تبليغه غَيرُ واضح في ذهني، وإنما فقَط لأنَّ قناة اللغة صَارَت غير مُتسعَةٍ بما فيه الكفَاية لنقل ما أجهد نفسي عبثا في محاولة إيصَاله عَبرها إلى الآخرينَ…

أمجنونٌ أنا أم متصوف؟ لقد قال المتصوفة منْ قبلي شيئا مثل هذا خِلال حديثهم عن الإشرَاق، والاتحاد، والحلول… هل أمرُّ من التجربة نفسها؟ شَيْء من هذا يُوجَد دُونَ شكّ، لكنني لا أعتقدُ أني مُتصَوِّفٌ، لأنَّ التجلي الذي يأخذه اضطرابي الدَّاخلي في سُلوكاتي الخارجية يجعلني أقرَب إلى المجانين المتسكعين في الطّرقات والشوَارع مني إلى رجَال الدِّين والمتصوِّفة. لكن مَا أدرَانِي؟ فقدْ أكونُ صرتُ متصوفا دُون أن أعلم بذلك، وقد يكون اتّساع المسَافة الزمنيَّة الفاصِلة بيني وبين أزمنة الزُّهد والاختلاءِ بالنفس ومَا يستتبعُها مِن انقلاب في الضَّوابط والقيم هُو الذي أقرَّ في ذهني التصَاق علامة الجنون بجسَدي بدَل علامة الماوراء…

سأردِمُ الهوة الفاصلةَ بيني وبينَ أقطاب الصُّوفية بحيث أجدُني متصوفا عندما ألتحقُ بهم، من خِلال عَملية الزَّحف التقدُّمي نحوي، وأجدُهُم مجانين من خِلال عملية التقهقر الآتي نحوهم. إن يتعذَّر هذا أو ذاك أركُنْ إلى هويتي الصَّلبة في انتظار أن يُسْعِفَنِي الذهن في الخرُوج من قعرِ هذه البئر التي لا أدري منذ متى وأنا قابعٌ فيهَا:

«لقد نزلَ عليَّ وحيٌ تعذّرَت عليَّ طريقة تبليغه!»

لكن مَا هذه العلامة للاتجاه الممنوع المنتَصبة أمامي مجبرة إيايَ على التراجع إلى الوراء؟

*

*             *

لاشكَّ أنَّ شيئا ما في حياتي قد أصِيب بعطبٍ، فأصبحتُ نسيجا لم يُسَلّ منه سِوَى خيطٍ واحد ومع ذلك تحوَّلَ إلى غلالة مهترئة. نعم، لقد تعطلت حياتي إثر فقدانِ خيط واحد فآل باقيها بمجموعِه إلى مجرَّد رحلة بحث عن الخيط المفقود.

من أينَ كانت البداية؟ أمن عيادة الطبيب أمْ من بيت الفقيه؟ أمِن نُزول الكائنات السَّماوية عليَّ أم من محاولتي تقليد مَا لا يُقَلَّد؟ أمِنْ غرقي في طوفَان الفكر أم من فشلي في وضْع حد لحياتي؟… قدْ يكون الأمر كذلك وقد لا يكون. لكنْ، من أوقعني في شِرْكِ هذا الصَّباح الذي أعياني إشراقه وتصلُّبُه في مُزَاحَمة المساء؟

لقد سُلَّ مني المساءُ وتحوَّلَ الزمن في تمثُّلي إلى صباح مُطلق يقع في الخامسة منْ عمري، وبالضبط في مطلع فجر يوم عيدٍ ديني عندما رنَّ في أذني صوتُ إيقاظ أمي إياي كجرس حُلو. وجَدْتُ أفراد أسرَتي كلهم مجتمعين حول مائدة زُيِّنَتْ صفحتها بفسَيفسَاء من الحلوياتِ والمشرُوباتِ والأرغفة. قلتُ: «يا له من صبح سعيد!»، لكن مَا تهيّأتُ للاستمتاع بتلك السَّعادة حتَّى حَاصَرني وجهُ أمِّي في الخيال وهي جثة هامدة ملفوفة في قطعة كتان أبيض، محمولة إلى المقبرة… نعم. لقد أفلتتْ من قبضتي سُلطة تحجيم الزمن وتقطيعه وفقَ المقاييس التي تواضعَ عليها الآخرون، وشُدَّ عقلي إلى نقطة الخمسة. لا يتجاوزُ عمري الآن خمس سنوات. لقد وُلِدْتُ كهلا، وبتوالي الأعْوام أصغرُ، ولذلك فسَوف يأتي يومٌ أحبو فيه حتى إذا بلغتُ أشُدِّي بدأتُ الرضاعة. فكيف أستعيدُ الأعوام التي أوصلتني إلى المحطة الحالية قبل أن تنسحب؟ بلْ وهل انصرفتْ حقا؟ إلى أين؟ متى؟ كيفَ؟…

كانت السَّاعة تشير إلى العاشرة والنصف صَباحا عندما وصلتُ إلى الحي الذي كنا نسْكن فيه. لازلتُ أذكر ذلك جيدا. كنتُ ساعتها أتأبط كتاب جغرافيا ودفتر فيزياء غِلافه أحمر اللون، وكنتُ قضيتُ ساعتين في الدراسة بالثانوية.. عندما رفعتُ رأسي نحو العِمَارة كان أوَّل ما فاجَأني هُو انفتاح كل نوافذها، فقلتُ: «ياله من صُبح سعيد!»… أثناء صُعودي الدرج أثارني صوتُ موسيقى كان يخرج منْ باب شقة إحْدى الجارات التي لم يخطر ببالي في أي يوم مِن الأيام حتى مجرَّد مدِّ يدي إليها لمصافحتها، فأحرى الدُّخول إلى بيتها. إلا أنَّ قوة ما كانت تجذبني في تلكَ اللحظة إلى الموسيقى، فدخلتُ منزل الجارة دُونَ طرق بابٍ ولا استئذان أو سبق إعلام. اهتديتُ بسُهولةٍ إلى الغرفة التي كان يوجدُ فيها الجهاز. أغلقتُ الباب خلفي وجلستُ أستمع… ها أنا الآن جالسٌ في بيت الجارة أستمع. عندما يرتفع الصوتُ أحِسُّ أنَّ الموسيقى تهاجمني كأسرابٍ منَ الوُحُوشِ المفترسَة. تتسَرَّبُ إلى جسَدِي من أذني بعُنف شديد وتأخذ في الدوران. تدورُ، وتدورُ، وتدورُ. تتجولُ بسُرعة مذهلة في كافة أقاليم جسَدي. تدخلُ من الأذن مُصَعِّدَةً تدفقها تارة في مجاري الدَّم، وتارة في أنابيب الأمعاء، فتحيلني إلى مُومياء، فرَاغ، مُطلق، عَدَم، قطعة مُوسيقى، دُولاب كبير وسط جهَاز الأوركيسترا الأكبر… وعندَما تتوقف، يغمُرُ الرَّأس صُداعٌ ودُوَارٌ. كأن رأسي يرتج تحت ضرْبات مطرقة صلبة تهوى عليه. صداعٌ ودوارٌ لا ينقطعان.

على مَقربة من اليومِ الأربعين أطللتُ على مَشارف الوَحي فنطقتُ. تكلمتُ بكلامٍ نوراني مشرقٍ في حُضور كائناتٍ نزلت عليَّ خِصِّيصا منْ كواكب أخرى لتتفاوض معي بشأن الصِّيغة الجديدة لإعادة تشكيل الكَون: المواقع التي يجبُ إعطاؤها للشَّمس والقمَر، الكواكب والمجرَّات التي يتعينُ أن تُحذَف، والكائناتِ الجديدة التي يجب أن تخلق، والحسْم فيما إذا كان من الضَّرُوري الإبقاء عَلى الكائن البشري في النظام الكوني الجدِيد أم لا… استيقظ أخي مَرعُوبا. قفز من فِراشه متجها نحو الغرفة المجاورة حيث كانَ والِديَّ نائمين، لكن قدميه تعثرتا على أهدَاب الغطاء فسقط. تكسَّرت أسنانه. تحولتْ صَفحة الغرفة إلى لوحةٍ من الدِّماء السَّيالة… في الصباح الباكر أمسكتني أمي من يدي وقالتْ وهي تبكي: «تعال معي يا ولدي فقد مرضتَ!»، ثم اتجهتْ بي صوبَ فقيه لم أفهم ما مَعنى أن يمتثل بي أمامه ولا نوعية الرَّابط الذي يمكنُ أن يوجد، أو المفترض أنّه موجُود، بيني وبين جمهرة زائريه من نِسوة وأطفال وصبيان. أردت أن أخبره بحقيقة أمْري، فأقولُ له: «ياسيدي! إنه لا يَشكو من مَرض ولا جنون أو سحر. إن هو إلا رسولٌ تلقَّى وحيا تعذَّرَتْ عليه سُبلُ تبليغه…»، لكن ثقل حجم الخجَل الذي كان سيهوى عليَّ لو ضحك الفقيه وزُواره من قولتي هَذه جَعلني أفضِّلُ الاستسلاَم والاحتماء بالصَّمت الرَّهِيب…

عندما رَخَّصَ لي الطبيبُ بمغادرة مُستشفى الأمرَاض العقلية شدَّدَ على ضرورة التزامي بالتناول المنتظم لوصفة دواءٍ تتكونُ من عقاقير ثلاثة لم أعد أذكر أسماءها. لكنني لاحظت أنني بقدر ما كنتُ ألتزمُ بنصيحة الطبيب كان وَحْيِي يزداد انتظاما، ومُطلَقِي اتساعا، وتمثُّلاتي حِربَائية. فعندما أتناولُ الأدوية يوحَى إليَّ أن أتأبط مِذياعا وأخرُج للتجول في الطبيعة، فما أصل إلى الحديقة العُمومية حتى أجدَ نفسي أتفسَّحُ في رحَاب الجنّة. انعكاسُ خضرة الأعشاب على عيني، وتَصَادُعُ (لا تَصَاعُدُ) رَهَافة إحسَاسي بتعدُّد ألوان الأزهَار، وهُدُوء الناس، ووَداعتهم، كلُّ ذلك يجعلني نسيما عَطرة هادئة تهبُّ في صباح مُطلق يقعُ في الخامسة من عمري، وبالضبط في مطلع فجر يوم عيدٍ ديني عندما رنَّ في أذني صوتُ إيقاظ أمِّي إياي كجرس حلو…. يا لرعب هذا الصَّباح المطلق! خلصوني من رُعب هذا الهدوء بوضع مُكَبِّرَي صوتٍ بحجْم جزيرتين: أحدهما في القطب الشَّمالي والآخر في القطب الجنوبي، ثمَّ أحيلوا الحياة إلى أغنية صاخبة راقصة. سأخلع جثتي وأوزعها على الفنّانين والمبدعين قاطبة كي أجنبهم عَنَاء البحث عن المطلق. فهللاّ أعطوني ضَجيج عَالمهم واضطرَابَاته؟!

*

*             *

اتخذتُ اليوم قَرارا لارجعة فيه. من الآن فصَادِعا سأقطع صلتي بالصَّيدلياتِ، والعُلب، والقنينَات، والحقن. لن أتناولَ دَواءً بعد اليوم. لارْكَاكتِيلُ Largactil تهوى عليَّ بأكياس ضخمة من النوم، والهالدُول Haldol تزيِّن مشاهد الخارج في عيني، والأرْطَان Artane تهدئني فتُحوِّلني إلى مُرَكَّبٍ من هِرّ وديع وكائن لم يُخلَق بعد، كائن مُبَرْمَجٌ لنهاية القرن المليار بالتقويم الضوئيِّ. أتوهَّم الحديقة جنة، والنّاس ملائكة، والمزابل لوحَاتٍ جميلة الألوان عطرة الرَّوائح. ولحظة استمَاعي إلى الموسيقى، بعدَ تناول الأدوية، أحسُّ بأنها تخرج من جسَدي ولا تعبرُ إلى أذني من الخَارج على شكلِ ذبذبات صوتية. وبقدْر ما يفتنني هذا الإحساسُ الذهولي يخيِّم على من يحيطونَ بي اشمئزاز وقلق شديدان. متى اشتغل جهازُ مُوسيقى لم أستطع مُلازمة مكاني. أنهض وآخذ في الرَّقص بحركاتٍ بهلوانية لا تنقطعُ لأن الكون بكامله يتحول في تمثلِي إلى أوركيسترا فيما أتحوَّل إلى مجرد جهاز فيها…

لقد حدثَ ذات مرة خللٌ في تمثلي هذا لسبب لازلتُ أجهله لحد السَّاعة، فقصدتُ مفترق طرق وأنا أدفع عربةً، صُدِّعتُ فوقها وأخذت أرقص دونَ توقف إلى أن تسبب ذلك في عرقلة لعمَلية السير تكوَّن على إثرها، في الطريق، طابورٌ من الحافلات، والشاحنات، والسيارات، والدراجات النارية، والهوائية. تعالت منبهات الصَّوت بشكل جنُوني. نفخ في الصُّور. هو ذا يوم القيامة! إلا أنه فيما كانَ أصحاب تلك المنبِّهات يعنونَ بإرسالها: «افرغ الطريق كي نتمكّنَ من مُواصلة السير…» كنتُ أتوهَّمُ المقام مقام احتفال، والسَّيارات والدراجات لُعَباً أو أجهزة يتوقف أداؤها على سرعتي في الرَّقص أو بطئي فيه، ولذلك واصلتُ الرقصَ الرَّقص تاركا السيارات ترسِلُ منبهاتها وترسِلُ…

وذات مرة عُدتُ إلى البيت مفزوعا وأنا أطلب النَّجدة لأن قدميّ تحولتا في تمثُّلي إلى تمسَاحين: «أعباد الله! خلّصوني من هذين التمساحين!»، كنت أصرخ مُستنجدا فيما اكتفى أفراد أسْرتي بالتحلق حولي وهُم يلحون عليَّ بالسؤال المستغرب: «أيُّ تمسَاحين؟! أيُّ تمسَاحين؟! أينَ هُمَا؟! أينَ هما؟!»…

وفي مرَّة أخرى، استقيظتُ صَباحا فما نظرتُ وجهي في المرآة حتى خُيِّل إلي أن شعْر رأسي لم يكن إلا فَرْوَ ذئبٍ أو عجلٍ ألصقهُ بِجُمْجُمَتِي خلسةً أحد العقلاء الذين يتربَّصُون بي، متسللين إلى غرفتي، مختبئينَ في صفحات الكتب، والأقلام، ومنفضَات السَّجائر، وعلب أعواد الثقاب، وما إلى ذلك.، ولذلك أخذتُ أصرخ في وجْه إخوتي ووالدَيَّ: «أتظنون أني من الغبَاوة أو الجنون بحيث تعبثونَ بجسدي وأنا نائم دون أن أفطن إلى ما تفعلون؟! من ألصق هذا الفرو برأسي؟ من ألصَقَ هذا الفرو؟»، وأمام استغرابهم اللا مبالي، أخذتُ أقتلعُ شعري بوحشيةٍ لا تُصَدَّق…

وبالأمس فقط توهَّمْتُ الزقاقَ الضيق الذي يفصلُ منزلنا عن المنزل المقابل صَدْعاً أو انشقاقاً حدثَ في منزلنا، فاستولى عليَّ رعبُ الإحساس بوشك البيت على الانهيار. أخذتُ في الجري والقفز جيئة وذَهابا، فوق الزقاق، من منزلنا إلى المنزل المقابل دون توقف وأنا أطلب النّجدة. ولما التحق بي أبَوَيَّ لتخليصي من تلك الحال، قلت لهما وأنا أدُسُّ يديَّ في قفازين وهميين: «اركَبوا، فبعد خمس دقائق سنقلع! الحيوانات زاحفةٌ علينا!». لقد خُيِّلَ إلي أنَّ المنزل كان مَركبة فضائية فيما كنتُ رُبَّانها!…

لما أدركتُ أن مَا من مرَّةٍ يقع خلافٌ بيني وبين الآخرين إلا ويكونوا هُم الصائبين وأنا المخطئ لفَّتني غيومٌ من مَشاعر الغبن والخجل، فصرت أتحاشى التّحدث إلى جميع الناس أو مجالستهم بما فيهم حتّى من كانوا أعز أصدقائي سابقا. رَسَخَتِ الفكرةُ التالية في ذهني: إنَّ الناس قاطبة على عِلم بالحرب الشَّعواء الدائرة رحاها في عقلي صَباح مَسَاء. ولذا، فكل لقاء مع أحدِهم لن يكونَ إلا امتحانا لي. قلتُ: «في مَصلحتك أن تتحاشاهم وتتجنب الاختلاط بهم، ولو اقتضى ذلكَ منك صُنع علب وقوارير لحفظ نفايات جسدك»، ثمَّ بذلتُ مجهودا دينصوريا لتحقيق ذلكَ، لكنني لم أن أنجح. آنذاك قلتُ لنفسي: «عليكَ يا أحمد أن تغتنم فرصة اختفائك لتصحِيح صورتهم عنكَ. عليكَ أن تلزم منتهى اليقظة والحذر حتى لا تفلت منك أدنى كلمة أو حَركة يستنتجُ منهَا مُمْتَحِنُكَ أنَّك إنسانٌ غير سويٍّ». ولأتمكن من ذلك، أفردتُ مِلَفّا لكل شخص تربطني به صلةٌ مَّا، دوَّنتُ فيه كلَّ ما أعْرفه عنه. وهكذا صرتُ كلما اضطررتُ للقاء بأحدهم تهيأتُ للمواجهة بقراءة بطاقته، والتدرُّب على القياس الدقيق للمسَافة التي يجب أن تفصل يديَّ ورجليَّ وعينيَّ وأنفي وفمي عن يديه ورجليه وأنفه وفمه، وتثبيتِ لهجة كلامِي ورنة صَوتِي، ونظرتي، وابتسامتي، لأنظرَ إلى عينيه بالطّريقة ذاتها التي شاهدت الآخرين يستعملونها، وأسعلَ كما سمعتهم يسعلون، وأمتعضَ كما رأيتهم يمتعضون، وأصطنعَ الغضب كما شاهدتهم يَصْطنِعُونَ… وبعدَ ذلك فقط أجالسُه. وفور توديعي إياه أعود إلى الملف نفسه وأدَوِّن فيه الملاحظات التي استخلصتها من ذلك الاجتماع تأهُّبا لأيِّ لقاء قد يضمني وإياه مستقبَلا. إلا أنني سرعان ما اضطررتُ لإحراق تلك الملفات كاملة لأن عَددها تكاثر بحيث صار فضاء غرفتي أضيَق من أن يسعها، وصرتُ لا أجد مسَاحة كافية حَتى للجُلوس، فأحرَى للنوم، فضلا عن أن تلكَ الملفّات حوَّلَت المنزل إلى شبه دائرة للأمن الوَطني أو ملحقة لجهاز المخابرات المركزية، بما تتضمَّنه من معلومَات دقيقة عن قامَات سائر الأشخاص الذين كانتْ تربطني بهم صِلة مَّا، وأوزانهم، وألوان بِشرَتهم، وملابِسهم، وأوقات خرُوجهم من المنازل، ومُؤسَّسَات عَملهم، وهواياتهم، وخصُوماتهم، وأقوالهم، وما إلى ذلك. لكن، أما وسِعتني هَذه الشرطة المرابطة في دَهاليز عقلي وصُروح الكَلمات المتناثرة في أقَاليم لحمك وعظمك؟!

*

*             *

«يجبُ عليَّ أن أفكِّرَ وأفكِّرَ حتى أُخرِجَ نَفسِي من هذهِ البِئرِ التي أقبع في قعرها».

هذا هو الخيط الوحيد الذي لازال يُسْعِفني إلى حد ما في الارتباط بالحياة وإلا فأنا أتوقع أن أضع حدا لوجُودِي في أية لحظة، يحثني على ذلك اشتباك خَيطَي الحياة والموت في جسَدي بشكلٍ مُقْعَدٍ… لكن لماذا لم أفعل ذلك؟ بل لماذا لا أقلب المعادلة فأقول: «يجبُ عليَّ أن أفكِّرَ وأفكِّرَ حتى أتوصَّلَ إلى وضع حدٍّ لحياتي؟». أعتقدُ أن هَذَا الوضع هو قرارة المأزق الذي انزلقت إليه: إنّني، وفي آن واحدٍ، حياة مُستحيلة الموتِ ومَوتٌ مستحيل الحياة. ما الحل؟ انصِتْ إلى المستر نيتشه، فقد قيلَ إنَّ بيدِه الحلّ والعقد. قال:

«إنَّ أحسن شيء في العالم ليسَ بمتناولك. أحسن شيء في العالم هُو أن لا تولَد، أن لا تكون، أن لا تكون أي شيءٍ. ثانيا: الأنسب لك هو أن تموت في أسرع وقت».

يالنفس الدَّوامة!، بل أما علمتَ ياسيد نيتشه أن الحلَّ الذي تقترحه عليَّ يفترض مني أن أكون في أحد وضعين اعتباريين:

أ – فإما أكون، مع بقائي سجين شَرْطي الحالي، الشرط البشريِّ، شرط الموجود، معَ بقائي داخل المدار الإنساني، أكون قد أُتِيحَ لي أن أتَنَقَّلَ بين العدم والوجود، وأعقدَ مُقارنة بينهما أخلصُ من خلالها إلى أن الموجودات «تعيش» في وضع «أفضَل» من المعدُومات، وبالتالي فالتحاقي بالعدَم سينقلني إلى وضع أفضل مما أنا عليه الآن. غير أن هذا الوَضع وضعٌ مستحيلٌ بقدر ما هو غير معقول: فعندما أقولُ «الوضع الاعتباري للعَدم أفضل من الوضع الاعتباريِّ للوجود»، أعمدُ إلى إلصاق حُكمٍ بالعدم من خارجه، أقيمُ قطيعة مع هذا العَدَم ثم أحكُمُ عليه بما هُو غريبٌ عنه تماما… أما علمت أن الوضع الاعتباريَّ للعدم هُو وضعُ المحو، وأنه ليس فيه إحسَاسٌ ولا تفكير ولا حُكم ولا لغة؟!

ب – أو أن أكون ليسَ خارج شَرْطي الحالي، شَرط الموجُود أو الشَّرط الإنساني فحسب، بل وكذلك خارج العَدَم، أي في وضعٍ اعتباريٍّ يقع ما قبل الوُجود والعَدَم معا. وضعٌ يتيحُ لي مُعَاينتهما أو العيش ضمنهما مَعا، مع بقائي مستقلا عنهما أو مُتعاليا عنهما، وبالتالي يُتَاح لي الحكمُ على وُجُودِي بأنه أفضل من عَدم وجودي. لكن هذا الوضع الاعتباري بدوره غير معقول، إذ كيفَ أكون في وضع مُتعال عن الحياة والموتِ معا، وضع يقع فيما وراءهما، ثمَّ أقول إن أحسن شيء في العالم / الحياة هو أن لا أوجَد أو هو أن أمُوت؟ أليسَ الأليقُ بي آنذاك هو أن أقول: «إنَّ أفضل شيء هو أن أظل في معقلي هَذا، معقل الآلهة، غير منشغلٍ بالحياة ولا الموت؟». لكن، هل الله يتكلمُ ويكتب؟ كفَى هذيانا يا أحمد! بل أأحمد أنت أم محمَّد؟ عفوا، عفوا! آهٍ عفوا! إنما أنتما مريضان يَهذيان!

*

*             *

في زخم اضطرابي الدَّاخلي وعزلتي عن العالم الخارجي تُوَاسِينِي القنَاعة الوديعة التالية: «إن اضطرابي لا يعُودُ إلا لكوني لستُ هنا إلا نتيجة خطأ ارتكبه من لستُ أعرفه، وهو يُؤدِّي ثمنَ زلته الآن بجنوني. فأنا في الأصْل لستُ إنسانا. وكل القرائن تدل علَى ذلك: فما أقف وأخطو بضع خَطوات حتّى ينشطِرَ جسَدِي عمُوديا إلى قِسمين مُتساويين: نصفٌ يخطو بقدمٍ، والنصف الآخرُ يخطو بجُمجمة. قدَمٌ تخطو، وأخرى تفكر. نصفُ الرَّأس يسيُر، ونصفُ الرِّئة يعقلُ… والتصاقُ هيأة الجسد بشكلها الحالي يُولِّدُ بداخلي قلقا مستمرّا. إنني، مثلا، مقيَّدٌ بالأكل من الفم والحال أن سُرَّتي وأذني تضَايقَانِي لحظة الأكل بطلباتٍ ملحاحة كيْ أحشوهما لقمات الطعام قائلتين لي:

«هذا هُوَ منفذ العَالم».

هذا من جهة،

ومن جهة أخرى فأنا أقلق كثيرا من كونِي أجدُ نفسي مجبرا على الأكْل فيما لا أرَى لهذه الوظيفة أي معنى. فهِي عبث مادام يمكن اختزالها في نهاية المطافِ إلى مجرَّد محاولة يائسة لابتِلاع عالم خارجي (ماء، فواكه، خضَر، حبوب، أعشاب، وما إلى ذلك) غير قابِل للابتلاع أصلا لكونه يتسرَّب باستمرَار إلى الخارج فيحيلُ العملية إلى مجرَّد دَوَرَان في حلقة مفرغة. إن ذلك يجعل مني مجرَّد حلقة في دورة تحتويني وتتجَاوزني. ثم إن هيأتي الحالية تجبرني على المشي على القدَمين بينما أحتاج أنا، بشكل جِدِّي ومِلحاحٍ، حال تمسكي بالسَّماء، إلى أن أسبحَ في الهواء وأتدحرج  – في سيري على الأرض – على ظهري لتظلَّ عيناي في وضع التقابل مع السَّماء، كالأفعى، خاصَّة أنَّ تأملي للأوضاع التي اجتازها الإنسان العاقل منذ فجر وُجوده إلى اليوم، حيث انتقل منَ المشي على أربع قوائم إلى الانتصَاب والسير على قدمين، ذلك التأمُّل أوصلني إلى نبوءة أن الوضع الجسَدي للإنسان المقبل سيكون حتما هُو وضع الانبطاح. اقترابٌ من الزواحف. وضعُ الأفعى إن شئتم. وبهذا المعنى، عندَما أعاني اليوم من كونِي لا أستطيعُ أن أزحفَ كالثعبان إنما أكونُ قد استبقتُ تطوُّرَكم وانتقلتُ مسبقا من بين أحضانكم لأتأصَّلَ في أعمَاق الأزمنة السحيقة القادمة. الأزمنة التي لن تصِلوا إليها إلا وقد تكلَّسَت عظامُكم وتحوَّلت إلى مَعادن وطبقات حجرية أو جَليدية…

وعينيَّ هاتان اللتان أحْكِمَ إلصاقهما بصفحَة رأسِي «الأمامية» تقيّدان وِجهة امتثال ذهني للانعكاسات الخارجية وتوافياني بأحْجام مغلوطة لأشياء العالم الخارِجي لأن معادلة:

مهما تكن س إنسانا، فحجم دماغ س = شكل عينيها وموقعهما

تلك المعادلة لم تنجَز بالدقة نفسها التي تم بها إنجاز معادلة:

مهما تكن س قطا، (حجم دماغ س = ي) = (شكل عينيه وموقعهما = ي)

ولذلك يستحوذ عليَّ قلقٌ عميقٌ كلما شاهدتُ قططا تتجوَّلُ في الطرقات أو مُنهمكة في التهام ما بدواخل القمامات….

إني أريد عينا ثالثة لضبطِ الشكل الذي تلتقطُ به هذه الكاميرا المحكمة التثبيت بصفحة رأسي أشياءَ العالم الخارجيِّ. أريد عقلا آخر يُمَكنني من قراءة نصَّين مكتوبين بلغتين مختلفتين، في موْضوعين مختلفين بكَيفية تتيح لي استيعابهما معا، كأن يكونَ النصّ الأوَّل مكتوبا باللغة العَربية والثاني بلغة لاتينية. سيكون ذلكَ أقل إتعابا للعين والذهْن وأكثر اسْتغلالا / اقتصادا للوقت بالإضافة إلى كونه سيتيحُ لي إعَادة توطيد صِلتي بأمِّي الأفعَى من خِلال حَركاتِ عيني اللولبية: فنهاية السَّطر اللاتيني سَتسلم عيني مباشرة إلى بِداية السَّطر العربي، ونهاية هذا الأخير سَتسلمها مباشرة إلى بداية السطر اللاتيني…

لكن رغم انتصابِ هيأتي الجسَدية الحالية حاجزا أمام هذا وذَاك، فقد سَجنتُ نفسي داخل مجهودٍ يومِي لرُؤيَة ما لا يرَاهُ الآخرون، وسمَاع مَا لا يسمعونه، والإحساس بما لا يحسونَ به، من خلال عيني وأذني هاتين لا غير. وقد تأتَّى لي من ذَلكَ مَا يستحيلُ تدوينه. يلزمني البحرُ مدادا والشَّجَر قرطاسا…

هَكذا، فعندما أكون سائراً في الشَّوارع والطُّرُقات لا أرَى النَّاس قاماتٍ من لحم وعظم أحكمتْ إلفافَ نفسها وسط ما يُدْعَى «ملابس»، بل أراهُم هياكل عظمية تثير الرُّعب والاشمئزاز بما ينتشر في وجوهها من حُفر ويعُمُّ بنيتها من التواءات. وعندَما تدوسُني سيارة أو دراجة فإنّي لا أعتبرُ صادمتي هي قطعة الحديد. أعتبر صادمي هو جزءٌ من جَسَدِ السَّائق الذي يكونُ قد تحوَّلَ إلى حَدِيدٍ: ذلك أن لجسَد الإنسان هيآت وأحجاما تتحوَّل بتحول الأوضاع والمقامات التي يكونُ فيها. فعندما يسوق المرءُ حافلة يتمطّط جسده فتصير حُدُودُ جسم الحافلة هي حُدود بَدنه، وعندما يركبُ دراجة يتقلص جسده فتتضاءل حدوده – مقارنَة بالحافلة – إلى حدُود الدراجة… وعندما أعاشر قِطا يتحولُ جسدي إلى شبه جهَاز تواصل لاسِلْكِي بسبب ما يرسله من ذبذبات وروائح لا يفطن إليها إلا الهرُّ، وإلا فكيف يمكن تفسير مُواء فرحة الاستقبال الذي تخصُّني به قطتي كلما فطنت إلى أنني عُدْتُ إلى البَيت فيما أكون عائدا إليه فعلا، لكن لا زالتْ تفصلني عنه مئات الأمتار؟

أخيرا، فأنا جهازٌ لم يضبط بنفس الطريقة التي ضُبِطَ بها الآخرون. عقلٌ لم يُبَرْمَج كباقي العُقول: فمشيتي المتمايلة التي يعتقد هؤلاء النّاس أنها بسببٍ من السُّكر أو الجنون إنما تعود إلى كوني لا أملكُ تقطيعا للفضَاء (الذي لا تقطيع له أصلا)، ولا إحساسا بوجُود ما يُسمى بالجهَات الأربع… أنا أعيشُ ضمن نمطٍ وجوديٍّ يُشبِه، على وجه التقريب، حَالَ من اتخذ من مجهر ضُبِط في الأصل لرؤية الأشيَاء الواقعة علَى بعد 10 كيلومترات أو أكثر، نظارتين لمشاهدة الأشيَاء التي لا تبعد عنهُ سوى ببضعة أمتار. تخيلوا ذلك أو ترقبوا أن يحُلَّ بكم مرضٌ عُضَالٌ تمكثونَ على إثره شهرا بكامله طريحي الفراش، مُغمضي العيون، لا يصلكم طعامٌ ولا كلام، ثم تُشْفَوْنَ منه فجأة. تخيَّلُوا ذلكَ، ثم غادِرُوا على الفور مَنازلكم ولاحظوا وقع أشعة نور الشمس علَى صَفَحَاتِ أعينكم وأليافِ أدمِغتكم… افعلوا ذلك، أرجوكُم، لتصدِّقُوا كوني الآن أعيشُ لحظة الانخراط الأول في الطبيعة، غارقا في طوفان الفكر وسَديم الأزمنة، كوني أحسُّ الآن أني ومكتبي هَذا معلقين من الأرجل علَى سقف الأرض، ولذلك فنحن نتوقعُ أن نهوَى على السَّماء في أيِّ لحظةٍ. لذلكَ، ها أنذا عاضٌّ على الطاولة بأسناني، لا أستطيع مغادرتها ولو لمجرد لحظةٍ واحدة…

الاخبار العاجلة