محمد أسليـم: نحَوَ إثنـُوبُـويطِيقَا طـُورُوبريَّاندِيَّة

1٬290 views مشاهدة
minou
سفر المأثورات
محمد أسليـم: نحَوَ إثنـُوبُـويطِيقَا طـُورُوبريَّاندِيَّة

يصعُب على من تَطأ قدماه بلاد الطُّورُوبْرِيَّاند لأول مرَّة أن يتخلصَ بسُهُـولةٍ من الانطباع الذي يستحوِذ عليه إلى أن يُوهِمه بأنهُ في إحدَى مُدُن جنوب المغرب الشَّرقي كألنيف، أو بُوذنيب، أو الرِّيصَاني. ذلكَ أن الأهَالي الطورُوبريَّانديِّين يسكنـون – مثل سُكان المدُن الآنفة – في تجمُّعَاتٍ معماريةٍ من الطّوب يحيط بالجهَات الأربع لكلٍّ منها سورٌ طوبي ضخم يتسعُ أحيانا إلى أن يأوي أكثر من 300 أسرَة ترتبط فيما بينها عَادة بقرَابَة الدَّم، ولذلكَ يحملُ كلُّ تجمُّع إسم الجدِّ الأوَّل المؤسس – الذي يضربُ عادة في عُمق التاريخ – بالإضَافة إلى إسم «غسر»، فيُقال: «غسر فلان» أو «غسر علان»… ولعلَّ المرءَ لا يحتاجُ إلى مجهودٍ فِكري كبير للوصُول إلى العَلاقة الموجُودَة بين هَذه الكلمة وبَين تسمِية «قصر» التي تدُلُّ في المدُن المغربية المشَار إليها على المسمَّى نفسِه، وهو ما كانَ من شأنه أن يشجِّعَ على افتراض إمكَان استيرادِ الطورُوبريَّانديِّين لهذا النّمَط المعماريِّ من المغرب لولا هَذا الغيَاب التّام – في اللغَة والثقافة الطورُوبريَّانديتين – لما يُشجِّع على المضيِّ في هَذا الاتجاه. بيدَ أنَّ الأمرَ لا يزدَادُ إلا تعقيدا بالنظر إلى كَثرة التشابهات:

– فالمرأة الطورُوبريَّانديَّة بدورها تلعبُ دورا حاسما في تنظيمِ الفضَاء والعَلاقاتِ الاجتماعية، وتمارسُ سُلطة قوية مِن داخِل احتجَاباتها المعمَارية واللغَوية والجسَديَّة بشكلٍ لا يجعلُ من غيابهَا المطلق سِوى الوجه الآخر لحضُورِها المطلـق.

– والبلدَة تنزوي وسَط غاباتِ النخيل كمسَاحة مَنسيةٍ من العَالم: فهِيَ آخرُ محطة كودرُون، آخرُ عمودٍ كهربائي، آخر أنبـوبُ مـاء…

لكن! الآن فقط أدركُ حجمَ الغَباوة التي كانتْ تلُفُّنِي عندما اعقدتُ في البدايَة أنني – بالتفاتِي إلى تلك التمَاثلات وغيرها – كنتُ بصدَدِ اكتشافٍ كبير؛ فقد وضَعَ أحدُ الأهالي حدّا لأوهَامي بسُهولةٍ وأناقةٍ متناهيتين: اندَفعَ أمَامي بقامته القصيرة وهُو يتعثرُ في جلبابه الصُّوفي وأمرَني بالمشي خَلفهُ، وسَار إلى أن وقفَ بمفترق أزقة ضيقةٍ يتوسَّط حيّا سَكَنيا، ثم قال لي:

– أتَـدرِي ما اسـم هـذا الحـي؟

– لا.

– اسمُه «إبط الكلب»… انظر جيدا هَذه اللَّوحَات التي تعتلي أركانَ الأزقّة: فهذا الزُّقاق اسمه «سْترَاسْبُورْغ دُ سَانْ دُنِي»، وهَذا اسمه «كَايِّي دِي سَانْ رَامُونْ»، وهَذا الدَّربُ اسمُهُ «زنقة الذبَاب»… أتستزيد؟

– لا.

– الأولُ يُفضِي بكَ إلى باريس التي لا تبعُدُ عنها الآن إلا ببضعِ مئاتٍ من الأمتار، والثّاني إلى لِشبُونة، والثّالث إلى مَدينة القصر الكبير (…) إنَّ هذا الحي مُتعدِّد الجنسيات، وهُو لم يحصل على هَذا الوضع التّوَحُّدِي إلا حديثا، وبذلك فأنت الآن في هَذه المدُن جميعا دُون أن تكون في أيِّ واحدة منهـا.

صرفتُ صاحبي، ثم قصدتُ منزلا في قعر أحَدِ الأزقة لا يحملُ اسما، وكانت امرَأة جالسَة ببابه. سألتهَا باللغـةِ المحليـَّة:

– أَتَانْ أُورُو مِيكْ نِيكْ لاَوَا؟

– أجابتْ وهي تشِيرُ إلى دَاخل المنزلِ:

– بُورُو بُورُو كِي يِّي كِي يَاوي.

دخلتُ إلى المنزل. إلا أنني لم أجد المرأةَ خَلفي لما التفتُّ. سمعتُ ضَوضاءَ تتسرَّبُ من غرفة مجاورَة لم يكن بداخِلها سِوى نافذةٍ وبابٍ، فتسللتُ، وفتحتُ النافذة فورا. أشرفتُ على سَاحة واسِعة توسَّطتْ أقواسا وسَوَاري بديعة النقوش والزَّخارف وامتلأتْ جنباتها بأفرَشةٍ فاخرةٍ وأواني بديعةٍ، تحلق حولها عشراتُ المتفرِّجين في جلبة من الغنَاء والضحِك والزَّغاريد والتصفيقات فيمَا كانت أردافُ جماعةٍ من الرَّاقصات العظام تهتزُّ بالتناوُب على عزفِ جوقين أحدُهُما مشرقي والآخر يبدو أنهُ محليٌّ شعبيٌّ. وفي ركن من السَّاحة جلسَ شيخ كان بيده مفتاحٌ سحريٌّ يتيح له التحَكم في إطلاق الضَّوضاء أو إيقافها واشتغال الكاميرَات المثبتة في أركان السَّاحة أو توقفها؛ فبينَ الفينة والأخرَى كان يتناوَلُ بحركةٍ بطيئةٍ مُتعبة كميات كبيرة من الأورَاق النقديةِ من فئة مائةِ دولار، ويوزِّعها على الأهالي لينَقِّطُوا بها الرَّاقصَات ثم ينصرفُ لغليونه مُثيرا سحبا كثيفة من حَواليه… سألتُ أقرب متفرِّج من نَافذتي، أجابني بلهجةٍ تلغرافية: «يتعلق الأمرُ بعُرس وَهمِي. الشيخ العجميُّ هو المخرج دَافيد سُول صاحب مُسلسَل ستارسكي وهوتش. هُو الآن بصددِ تصوير فيلمِه الأخِيـر».

فتحتُ الباب الدَّاخلي للغرفةِ، وكانَ أتاني منه صوتُ أغنيةٍ لمادُونا، فأفضى بي إلى ممرّ انتهى بي هُو الآخر إلى ساحَةٍ إلا أنها كانت – في هذه المرَّة – ممتلئة بكراسِي ومَوَائِدَ استدارَ حولها فتيان وفتياتٌ ورجالٌ ونساءٌ وقد جلسُوا جنبا لجنبٍ. تقدمتُ نحو باب كبير في آخر السَّاحة، فأفضى بي إلى الخارج لأجدَني وسط شارع نظيفٍ أنيق قبالته كشكٌ وبناية عالية. استدرتُ إلى الوَرَاء كي أمَوقعَ البابَ الذي خرجتُ منه، فكانت تعتلي وَاجهتَه لوحة زُجاجية كبيرة كتبَ عليها «مقهى الكوميديَا». التفتُّ شمال الشارع فتراءى لي نخيلٌ كنخيل الطّورُوبريَّاند، بيدَ أني تبينتُ فيمـا بعد أنني كنتُ في مَدينة الرِّبـاط.

*

*             *

إذا سمعتَ طورُّوبريَّانديا يحدث آخر قائلا: «لقد وَخَزَني الفِردوسُ ليلة البارحة» وظننتَ أنه يحدثه في أمُور دينية أخطأتَ، لأنه إنما يخبرُه بازدياد مَولودة جديدةٍ، والشيءُ نفسُه يحصلُ إذا رأيتَ طورُّوبريَّانديّا يقول لآخر: «إني بصددِ استجماع رُوحي» لأنه لا يقصدُ بهذا التعبير سِوى أنَّ بنتا له قد خُطِبَت منه وأنه الآن بصدَد الاستعدادِ لزفِّها لبعلها…

وإذا سألتَ طورُّوبريَّانديّا عن السِّرِّ في استعمال هَذه التعبيرات المجازية الملتوية أجابَك بمنتهى البرودَة: «كانت الأمُورُ دائما هكذا، وستظلُّ دائما هكذا»، وإن أنتَ استزدتَه معلوماتٍ أخرى كأن تسأله «كيفَ؟» أو «لماذا؟»، أجابَكَ: «هذا إفرَاط في التفكير الكثير»، وإن أضفتَ أي تعليق، شَزَرَكَ بامتعاض شديدٍ، ثمَّ كتم غيظه، وقالَ لك بمنتهى اللباقة والأدب: «أنتَ زنديقٌ». والواقع أنهُ لا يمكنُ فهم أمثال هَذه التعابير إلا بتسييقهَا، أي بوضعها في سياق اللغة والثقافة الطّورُوبريَّانديَّتَيْن:

فالمعجم الطّورُوبريَّاندي يشتملُ على أكثر من ألف مفردةٍ للدَّلالة عَلى جمال الأنثى من بني البَشر، مُنذ ولادَتها إلى مُغادرتها بيتِ والديها لتلتحلقَ ببيتِ زوجها. وهَكذا، فلإطلاق صِفة «الجمال» على فتاة مَّا ستتدخّل في اختيار المفردَة المناسبة اعتباراتٌ كثيرة جدّا كسِنِّ الفتاة، وشَعرها، وأحوال أسنانِها، وقامتها ولون بشرَتها، وحال خاطِرها لحظة إطلاق النّعتِ السَّابق… وبذلكَ تتغيرُ الكلمة الدَّالة على «جمال الأنثى» باستمرَار. ولإعطاء فِكرة تقريبيَّةٍ، مثلا، لإطلاق صفة جميلة على طفلةٍ لا يتجاوزُ عمرها أربع سنواتٍ، مقصوصُة شعر الرَّأس، وهي تضحكُ، سيقالُ: «أونـوَا»، لكن ما تبكي هذِه الطفلة نفسُها حتى يتم اختيار – بدَلا من المفردة السَّابقة – كلمةَ «لاَلاَوَا» لوصفها بالجميلَة، وما يطول شعرُ رأسِها حتى تصيرَ «أولُوبُو» إذا ضحِكَت و«إِإِيِّـي» إذا بَكت، وذلكَ للدَّلالة على الصِّفة نفسها، صِفة جميلة. ومعنَى ذلكَ أن الطّورُوبريَّانديِّينَ يتوفرُون على حِس جمالي رهيفٍ قلما توفّـرَ عليه أقوامٌ آخرون…

وهذا الحسَّ الجمالي الدقيق هُو الذي يُجبِرُ المرأة الطّورُوبريَّانديَّة على تشديدِ الحراسةِ الذّاتية على نفسها ويُعفي أهلهَا من مُراقبة تصرفاتها خارج البيتِ. فإذا حدَث أن سوَّلَتْ لها نفسُها بمجرَّد إزاحة حجاب وجهها، وهيَ بالشارع، لتعرِضَ عَينيها أمام أجنبيّ، توفر أهلها دائما على إمكانيةٍ لمعرفة ذلك دون أن يحضرُوا المشهدَ أو يشي بابنتهم أحدٌ. ولذا، فبمجرَّد ما تعود إلى البيت يباغتونها بالسُّؤال: «لماذا أفقدتِ عَينيكِ سِحْرَهُمَا؟»، وهُو سؤالٌ يُستتبَع عادة باقتلاع العين الأكثر تضرّرا من رُؤية الأجنبي. والحكم نفسُه ينطبق على سَائر أعضاء الجسَد. لكن الأمُور – فيما يبدو – بدأتْ اليومَ تتغير… وكما أسرَّ أحد الطّورُوبريَّانديِّين المرتدين لأهل مَاقِنطوشَة:

«لولا التقدّم العلميُّ والطبيُّ الذي مَكننا من استحدَاث دكاكين لبيع الأعضَاء المفصَّلة (أو قطع غيار جسم الإنسَان) لاستفحلتْ عاهاتُ العرج والقرع والعمي وسَرطان الثدي بين نسَائنا نظرا للتزَايد المتواصِل لعدد الأجانِب المقيمين بيننا»…

أثناءَ استعداد الطّورُوبريَّانديِّ لزَفِّ ابنته، لا يتردَّدُ في بيع أنفس مُمتلكاته وأحبها إلى نفسِه، كالقطع الأرضية، وأشجَار النّخيل، وقطعان الضَّأن والإبل، والدرَّاجات العادية، والدرَّاجات النارية… وبذلك يمكنكَ دائما أن تدفعَ، نظير مَهـر، ما لا يتجاوز خمسمائة دولار وتحصُلُ في المقابل على ما قيمته عَشرة ألف دُولار أو أكثر من الحلي والمجوهَرَات وأحدث الأدَوَات المنزلية التي تصحبها الزَّوجة مَعها إلى المنزل ليلة زَفافها. لكن إذا سَوَّلت لكَ نفسُك بالإثراء عبر بطاقتي الزَّواج والطلاق فاقرأ على جسدك السَّلامَ. لن تفطن إلا والقوم قد حملوكَ متوجهين بكَ إلى السَّاحة العُمُومية لالتهامكَ في حفل أنثروبُّوفَاجيا طقوسية. ذلكَ أن الطورُوبريَّاندي يحبّ بناته لدرجَة العبادة، ولا يماثلُ هذا الحب عندَه إلا ولههُهُ بدرَّاجته العادية. ألا يقولُ المثل الطّورُوبريَّانديُّ: «ارْكَبْ درَّاجَتِي ولاَ تُهِـن ابنتـِي»؟

*

*             *

إذا قلتَ لطورُّوبريَّانديٍّ: «عِرْنِي درَّاجتك» أجابكَ فورا بِمَثَلٍ يقول: «أعيرُكَ ابنتي ولا أعيرُكَ درَّاجَتِي» ليضعكَ رأسا بمواجهة الإلهين «السُولُولُو» و«الوُولُولُو» مُطهِّرَي الدرَّاجات من الدَّنس الجنسيِّ وضامني انتظام وُصُول جميع أنواع الدرَّاجَات إلى المنطقة بما فيهَا تلكَ التي ترتدُّ إلى بداية القرن الحالي، والأخرَى المبرمجة الصُّنع في معَامل فرنسا واليابَان ابتداءً من عام 2000. وفضلا عن ذلكَ، فهما اللذان يحيِّدَان جنس الدرَّاجَة الوافدة ويُمِدَّانِهَا بطاقة البقاء والخلود، فلا تتعرَّضُ أبدا لأعطاب ولا تحتاجُ إلى إصلاح أو صِباغة أو تغيير أجزَاء، وتصبحُ قادرة على حملِ إحدَى عشر راكبا فمَا فوق دفعة واحِدة، وبذلكَ يمكنكَ دائما أن تصادفَ – وأنت سائرٌ في الطريق – طورُوبريَّانديّا يسوق دراجته وقد حملَ فوق كتفيه طفلين، وأركَبَ آخرين في مِقودِ الدراجة، وصَفَّ أمامه طفلين آخرين، مُردِفا وراءَه، في الوقتِ نفسِه، زوجَتَهُ وقد شدَّت هي الأخرى إلى ظهرهَا طفلا وأجلسَت أمامها طفلا آخر تُرضِعُه من ثديهَا… دُون أن تسقط الدرَّاجة أو تتمايل على الأقلّ. والسَّبب في ذلك يعُود إلى كون طقس «السُّولُولُو – وُولُولُو»، كما يرى الطّوروبويانديون، هُو أيضا ميثاق ولاء تنشدُّ به الدرَّاجة إلى مَالكها إلى الأبد. وبذلكَ يستحيلُ على الفرد قيادة درَّاجة ليست في مِلكه، وبالتالي هذه العودَة الأبدية للدرَّاجة إلى مالكها بعد أن تُسرَقَ منه. وبذلكَ – أيضا – يمكنكَ دائما أن تشاهدَ درَّاجة تنهضُ وحدَها وتنطلق جارية خلفَ صاحبها، بعد أن يكونَ نسيها على مَقرُبة من دُكان أو مقهى، وهي تناديه باللغة المحليةِ قائلة: «آطَانْ زُورُو دَالاَ سُولُـو وُولُو وَالِيكِي! آطَانْ زُورُو دَالاَ سُولُو وُولُو وَالِيكِي!»، وترجمتها: «سُبحان الإلهين! نسيتنِي ياسيِّدِي وأنا لم أصنع إلا لتركبَنِي! سُبحَان الإلهين! نسيتَنِي ياسيِّدِي وأنا لم أصنَع إلا لتركبنِـي!»

*

*             *

إذا سمعتَ طورُوبريَّانديّا يحدِّث آخرَ ويقول له: «اركب شيطانكَ» فاعتقدتَ أنه يحدثه في أمور دينية أخطأتَ، لأنه إنما يأمرُه بركوب حماره لاغير. وإذا ناداكَ أن تعالَ «يا رأسَ الحمار» ورفضتَ الامتثال لأمره أو تشاجرتَ معهُ اعتقادا منك بأنه أهَانكَ أو شتمكَ اعتبرتَ مُنذئذٍ زنديقا. وإذا سألكَ أحدُهُم عن كيفية وُصُولك إلى المنطقة وقلتَ له: «عَلى متن طائرةٍ» أو «على متن باخرةٍ» لم يفقَه مِن كلامِكَ شيئا، وإذا فطنَ لقصدِك صُدفة بادر فورا بتصحِيح جَوَابك وإرغامكَ على تكراره على مَسَامِعِه قائلا: «قلْ: أتيتُ على متن حمار الماء، ولا تقلْ: أتيتُ على متن باخرةٍ»، «قل: أتيتُ على متن حمار الهواء، ولا تقل: أتيتُ على متن طائرة». وإذا لم تفعل اعتُبرتَ زنديقا أيضا لأن سائر وسَائل النقل ليسَت في نظر الطورُوبريَّاندييِّن سِوى فصائل حمير: فالدرَّاجَة العادية، مثلا، يُسمونها «حمار الرِّيح»، والدرَّاجة النارية «حمار الدُّخَان»، والبَاخرة «حمار المـاء»…

وراء إطلاق الطورُوبريَّانديِّين تسمية «الشيطان» مجازا على الحمار تختفي «فلسفةٌ» بكاملها قادَهم إليها تأملٌ طريفٌ وذكيٌّ في التبَاسِ التَّرَائي الذي يُسَلطه هذا الكائنُ على رائيه مِن بعيدٍ: فهو حينما يكون مقبلا يأخذ هيأة كَائن غريبٍ جدّا: رأسٌ تدلى تحته مُباشرة سَاقان طويلان دُون أن يكون لذلكَ الرَّأس صدرٌ أو بطنٌ، ولذلكَ فهُم يُطلقون عليه «اسم العُلويِّ». وحينما يكون مُدبرا يأخذ أيضا هيأة كائن غريبٍ لكنه مختلف عن الأوَّل: يتراءى بهيأة مُؤخِّرَةٍ تدلَّى تحتها مباشرة ذيلٌ وساقان دُون أن يعتليهما بطنٌ ولا رأسٌ، ولذلكَ يطلقون عليه نعتَ «السُّفلي». وعَلى أساس هذا التقابُل الأولي يُصَنِّفُ الطورُوبريَّانديُّون جميع كائناتِ العَالم وأشيائه، ويضعون كُلا منها في مَكانه المناسب بكيفيةٍ فضلا عن كونها تجعلُ من هذا التقابل أبا التقسيمات لأنَّ ما مِن كائنٍ أو شيء إلاّ ويجدُ موضعا لهُ في رأس حمار أو مؤخرتهِ، فضلا عن ذلكَ تجعلُ الحمارَ يلعبُ دَورا حاسما في تنظيم الفضَاء والعَلاقات الاجتماعيةِ ويمارس سُلطة قوية تجعله أحدَ المداخل الأساسِية لفهمِ المجتمعِ والثقَافة الطورُوبريَّانديَّين.

*

*             *

إن كنتَ أجنبيا، فإنَّكَ حالما تطأ إحدى قدماك أوَّل مدينةٍ طورُوبرويَّانديّة ينهملَ عليكَ الأهالي بعُرُوض زواج بإلحاح شدِيدٍ قد يدفعك أوَّل وهلـة إلى اعتقادِ أنَّ الأمرَ يتعلق بأزمة شبيهةٍ بتلكَ التي أعقبت الحربين العالميتين بأورُوبا، لكن هَذا الاعتقادَ سُرعان مَا سيُصادف تنحية من قبل الطورُوبريَّانديين بالدِّقة والأناقة نفسَيهما المعهُودتين فيهم: فإن قبلتَ العرضَ اعتُبرتَ على الفورِ زنديقا، وإن رفضتهُ كنتَ زنديقا أيضا، وإذا لم تقلْ أيَّ شيء فأنت – عندهُم – زنديق أيضا. وسـواءٌ أقبلتَ دُون أن تقبل أم لم تقبل وأنتَ قابـلٌ عـرضَ الزوَاج فإنكَ عندهُم زنديق!، ولن ينفعكَ أيُّ تعقيب على هذا النعتِ الذي يلصقهُ بكَ عارضوا الزَّواج، كأن تقولَ: «هذا غير مَعقول» أو «هَذا غير منطقيّ»، لأنَّ تعقيبكَ سيصطدمُ حتما بجوابٍ من الطبيعة نفسِها: سيقال لكَ: «هذا إغراقٌ في التفكير الكثير (…) أنتَ زنديقٌ!»…

*

*             *

عندَما يقولُ لكَ الرَّاهبُ: «اذهبْ، فإنَّكَ تفيضُ كَلاما»، فإنه يكونُ قد بث سَلفا في مسألةِ إقصائك أو تأهيلك. فإذا أحسستَ عقبَ هذه الكلمة بأن العُنف الجسَدي قد تحوَّلَ داخلك إلى لغةٍ حتى أصبحتِ الكلمة المناسبة لجميع المواقِفِ والسِّياقات تنسابُ منكَ انسيابَ الوحي فاعلم أنه قد أهَّلكَ للمقَام الموالي. وعَلامَة ذلك أن لا يجدَ القومُ أنفسهُم أمَام كل كلمةٍ تتلفظ بها إلا كمَا يجدُ الطّائر نفسه في قبضةِ فخ أو شراكٍ. فإذا رَفعُوا، مثلا، سِعر مواد كشفرة الحِلاقة والخبز وجدتَ نفسَك قد عمدتَ إلى إهمال اللحية وأكل الهوَاء، وإذا استعَار منكَ طورُوبريَّانديٌّ مبلغا ماليا مُهمّا ثمَّ رحَل نهائيا عن المنطقة دُون أن يُسَدِّدَ ما عليه من دينٍ وأردتَ الانتقامَ منهُ اكتفيتَ بإرسال كلمةٍ واحدةٍ لهُ مع رسُول، فمَا يتلقاها غريمك حتى تبترَ إحدَى يديه أو رجليه، وإذا ضُبِطتَ متلبسا فوق امرأةٍ أو حمار ليسَا في ملككَ قلتَ، مثلا، «إنما هذه [=المرأة] حمارٌ، وهذا [=الحمار] أبي… فلا يتردَّد القومُ لحظة واحِدة في تصديقك. والسَّببُ في ذلك كله هُو أنكَ تكونُ حينئذ تتكلمُ من عُمـق التّاريخ واللغـة الطورُوبريَّانديَّين: فاللحية عنوان مُصنفاتٍ تاريخيةٍ خاصَّةٍ بحقبةٍ تاريخيةٍ بكاملهَا، كما الأوكسيجيـنُ، والمئزرُ، والعقال، والهـوَاءُ… عناوين لمصنفاتٍ تاريخية خاصَّةٍ بحقب تاريخية أخرى، ذلك أن الطورُوبريَّانديِّين لا يكتبونَ التاريخ بتسجيلِ تعاقـب الأحداثِ والوقائع، وإنما يُدوِّنونه بأحوال الجسَد والمعِدة والطبيعَة خِلال حكم كلِّ إمبراطور: فحينمَا صعَدَ الإمبراطورُ الأوَّلُ فرضَ إهمال اللحية فأهمِلتْ إلى أن جاء الإمبراطورُ الثاني فحظرها وأمرَ القومَ بارتداء القبَّعة، ثمَّ قال: «السَّمَاءُ سَودَاء» فظلت سَودَاء إلى أن أسقطهُ الإمبرَاطورُ الثالث فقالَ: «لا. ليست السَّمَاءُ سَودَاء، بل هي بيضَاء» وأمرَ النساء بارتداء المآزر وفرَضَ على الرِّجال أن يرتدوا التنوراتِ القصيرة، ثمَّ جَاءَ الرَّابع فقال: «اذهَبوا فـأنتم العُرَاة» فنبذَ القومُ المآزر التنورَات وجابُوا الأرضَ عُراة حفاة إلى أن جاء الإمبرطورُ السَّادسُ وأمر النسَاء بارتداء التنوراتِ القصيرة والرِّجال بارتداء المآزر والخفين…

والكلمة، عند الطّورُبريَّانديِّين، مجالُ حِس لا يُضاهيه إلا الحسُّ الجمَالي. وإذا كَان هذا الحسُّ اللغوي هو السَّبب في عودَة غريمك – فور تلقفه كلمتكَ – إلى المنطقة أعمى أو كَسيحا، فإنَّ الرهافة اللغويَّة نفسَها هيَ التي سَتتيحُ لجميع الأهَالي أن يتعرَّفوا حَدسا على القصَّة بكاملها بمجرَّد مُشاهدَتهم ذلكَ الغـريم ولو لم تطلع أحَدا عليهَا، وبذلك مَا أن تسأل أحدهُم، حتى وإن كان مجرَّد طفل لم يتجاوز عُمره السنتين، عن صَاحب العَاهَة حتى يوافيكَ بتفاصيل القصَّة بشكل يجعلك تشكُّ فيما كان ذلكَ الطفلُ هـو أنتَ أم أنـك هو… يقول لك: «لقد استعارَ منك فلان بن فلانة مبلغ كذا دولار، وفرَّ من المنطقة فأرسلتَ – أنتَ – إليه كلمة مع أوَّل حمار هواء يُقلع، فما تلقّاها حتى عاد أعمى كَسِيحا…»، وهذَا ينطبقُ مع المثلين الطورُوبريَّانديِّينَ: «لا إجماعَ خارجَ الإجماعِ»، و«يستحيل أن تخدَع طورُوبريَّانديّا أو تغبنــه».

إن هذا الحسَّ اللغويَّ الدقيق هو الذي يجبر الطُّورُوبريَّانديِّينَ عَلى الاستقامة في السُّلوك، وتجنب الكذِب، والسَّرقة، والوشاية، والنمِيمة، والتطَاوُل على ممتلكاتِ الغيـر. كذلكَ، هذا الحسُّ هو الذي يُفسِّر النباهة الكبيرة للطورُوبريَّانديِّينَ في التكلم بجميع اللغَات الأجنبية فِطرة ودُونما أيّ حاجة لتعلمها أو المرُور بالمعهد العالي للغات الأجنبية، وبذلكَ يمكنكَ دائما أن تشاهد طِفلا لم يتجَاوز عُمره سبع سنواتٍ وهو يجرُّ وراءَه قطيعا كامِلا من أهل ماقِنطوشَةَ ذَوي البشرة البيضَاء يدلهم وسَط غاباتِ النخيل والمآثر التاريخية مُكلما كل سائح منهم تكليما بلغته الخاصَّة بظواهرها وبواطنها…

*

*             *

ما إن رَآني الرَّاهبُ حتى ضحك إلى أن استلقَـى على قَفَاه ثمَّ أخذَ مِخلاة فارغة وقرَأ عليها نشيدا دِينيا، وعلقَهَا على عُنق الحمَار دُون أن يضَعَ فيها شعيـرا، ثم قالَ لي: «لكَ علينا من اليَوم ضِيافة سبعـة أيام يمكنكَ بعدَهَا أن تسأَلنا عما تشاء»…

أدخَلَني مُضيفي إلى منزله وأجلسَني في رُكن ساحَةٍ واسعة تتوسَّط غُرَفا عديدة، ثم أمرنِي بلهجةٍ خشنةٍ حادة:

– الزم جلستَك هذه داخلَ مكانك هذَا، ثمَّ انظر ما يليكَ فقط، واستنشق منَ الهوَاء ما يليكَ فقط. وإن أنت استدرتَ يمينا أو شِمالا، فإنكَ تكون قد تعدَّيت حُدودك، وإن تتجاوز حُدودكَ فلن تظلمَنَّ إلا نفسك!، وما فعلتُ حتَّى نادى على مائدة كبيرة وجاء بماء غسلت به يديَّ، ثمَّ أمرني بالتهيؤ للأكلِ فيما انصرفُ هو متنقلا بينَ المائدَة والمطبخ إلى أن ملأ صفحةَ المائِدَة بالأطباق والصُّحُون الفارغة والأباريق والكؤُوس الفارغَة أيضا، فجلسَ بجانبي وقرَأ نشيدا دِينيا، ثم أمسكَ بين يدَيه دائرةً من الهواء، قطِّعَها كما لو كانت خبزَة، وانصرف يمسِكُ الكسرَات الوَهميَّة ويبلل الواحدةَ منها تِلو الأخرَى في الصُّحُون الفَارغة ثم يُعيدُها إلى فمه ويأخذُ في مَضغ الهواء بنَهَم شديدٍ وهُوَ يستضيفني قائلا: «كل ولا تخجَل. تصرَّفْ كأنك بين ذويكَ، كأنَّكَ في بيتِك»، فانصرفتُ بدَوري إلى تقطيع خُبزٍ وهميّ أبللُهُ في الصُّحُون الفارغَة، وأحشُو به فمي ثمَّ أمضغ الهواء، ولم أتوقَّفُ إلا بعدَ أن توقَّفَ مُضيفي. أثناء مُغادرتي المنزل خرجتُ مُجهداً نفسي في ترسيخ قدميَّ في الأرض كي لا أطيرَ من كثافة الهوَاء الذي امتلأ به بطني. ببابِ البيت وَدِّعُنِي مُضيفي بحرَارة كبيرة وهُوَ يسألنـي:

– ألم تجـدْنِي كريما؟

أجبته دون أن أكلِّفَ نفسي عناءَ أي تفكير:

– بَلَـى. بَلَـى.

– وإذن، فبلغ ذلك لأهلك وذويك؛ قل لهم كنتُ بين قوم لا مثيلَ لهم في الضيافة والكـرَم…

– حَاضِـر. حَاضِـر، كلكم «حاتم طائـي».

فانصرفُ وهو يضحكُ إلى أن استلقى عَلَى قَفَاهُ…

حيرني كثيرا أمر اللهجة الصارمة التي حدثني بها مضيفي، لاسيما عندما أدركتُ من خلال ما قدَّمَه لي أنني كنتُ مُنزَلا عنده منزلةَ «استجماع الرُّوح». إلا أن حيرَتِي سرعان ما تبدَّدَتْ لما التفتُّ إلى تصرُّف نسائه وبناته طيلة وُجُودي في البيت: فبالرَّغم من توَاجدنا جميعا داخلَ محل واحد وسَاحة واحدةٍ، فإنهن كنَّ بدورهن لا ينظرنَ إلا ما يليهن ولا يشممنَ من الهواء إلا مايليهنَّ، وإذا اضطرَّت إحداهن إلى المرُور أمَامي لم تفعل ذلكَ إلا وهي تقفزُ في الهواء كأنها تتخطى حبلا خفيا يمتدُّ أفقيا من عيني إلى نقطةٍ بالحائط المقابل لهمَا، وذلكَ حتى لا يقعَ بصري على أيّ قطعةٍ من جسدها الذي لم يَكن يسترُه سِوى ثوبٍ شفافٍ يُسَرِّبُ الداخل بكلّ تفاصيله…

سألـتُ مُضيفـي:

– لماذا لا تمرّ نساؤك وبناتكَ إلا قافزاتٍ في الهواء؟

أجَابني بدُون تفكيـر:

– إنهُنَّ محتجبـاتٌ.

– إني ما أرَى الغاية التي تريدُون نيلهَا بهذا الشَّكل إلا مُنقلبة إلى ضدِّهـا!

– أنتَ زنديـــقٌ!

– نعـم، نساؤكنَّ محتجباتُ الوجوه، لكنهنَّ سافراتُ المؤخِّراتِ.

– تُولَدُ المرأةُ عندنا ثيبا وتموتُ بكـرا!…

الآن فقط أدركُ حجم الغباوة التي كانت تنطقُنِي وأنا أستدرجُ مضيفي إلى هذهِ المسَاحة من الكلام! فقد كانَ تحقيق أيّ تواصُل مَعه في تلكَ اللحظة مُستحيلا ما لم أعتبر تعدُّد الواجهاتِ التي كان يُراعيها مُضيفي امتثالا لسُلطة نسائه؛ فهو كَان – في آن واحدٍ – يسعى إلى وقايتي من الأنثروبُّوفَاجيا الطقوسِية، ومنحي وضعا اعتباريا محدَّدا داخِل الخريطة الإثنية المحليَّة، وإصدار حُكم في حقّي باجتياز «طقس التّطهير» بشقيه الدِّيكي والكلبي:

يتعلقُ الأمرُ في «طقس التطهير الدِّيكي» بتحويلِ الأجنبي إلى ديكٍ من قبَل السَّاحر رئيس المدينة، وذلكَ لتطهيره – حسب الاعتقاد الطّورُوبريَّانديِّ – من الدَّنس الجنسيِّ المحتمل أن ينشره هَذا الغريبُ في المدينة. بتعبير آخر، إنَّ هذا الطقسَ هو أيضا طقسُ «سُولولو – وُولولو»، لكنَّ موضوعه الآن ليسَ درَّاجة عادية وإنما رَجُل أجنبي ساقته الأقدارُ ليقيم بينَ الأهَالي. ويكمن سرُّ هذا الطقس في الوُصُول بالوافد الجديدِ إلى مَقام التوفيق بين حجمِ اللذة الجنسية الإنسانية – التي لا تُستَأصَلُ منه – ومُواضعاتٍ حيوانية، هيَ هيأة الدِّيك في هذه الحالة. بعبارةٍ أخرى، يجبُ أن ينتهي الطقسُ بالأجنبي إلى تمكنه من الحصُول على الإشباعِ الجنسيِّ نفسِه الذي يناله في هيأتِه البشرية، لكن في زمنٍ أقل، في زمنٍ بحجم المدة التي يَستغرقهَا الدِّيكُ في نيـل لذته من الدجاجة.

وللإشارة، فإن الثقافة الطُّورُوبريَّانديَّة غنية بطقوس مِن هذا النوع، يمارسها الطّورُوبريَّانديُّون أنفسُهم على أبنائهم وبناتهم وحيواناتهم، كـ «طقس التطهير الدِّيكي»، وطقس «التطهير الحِماري»، و«طقس «التهير الذُّبَابيّ»…، وكلها تستهدف غايَة واحدة هي إحدَاث تحييدٍ جنسي لدَى الذكور والإناث…

ففي طقس «التطهير الحماري»، مثلا، يتعَلق الأمرُ باستئصال الدَّنَس الجنسي المحتمل أن ينشرَه هذا الحيوانُ في المدينةِ، وذلكَ بتحييد جنسه. ولهذا السَّبب، ما من أنثى تصلُ إلى المدينةِ إلاّ ويتمُّ تحويلها – عبر الطقس السَّابق – إلى ذَكَر، ولِذا يستحيلُ أن تجدَ أتانا واحدة بينَ عشراتِ آلاف الحمير الذين تعُجُّ بهم المدينة. قلتُ للرَّاهب:

– لماذا تنعدمُ إناث الحميـرِ بالمدينة؟

– تلكَ طريقتنا في تطهيـر نسَائنا وأطفالنا.

– لكن ألا ترى أنَّ ذلك يجبـر البهَائم على تعاطِي اللواط؟

احمرَّت وجنتاه كأنّه ضُبط متلبسا، فأجابَ مرتبكا:

– إنَّ ذلكَ عندنا أيسرُ من الحبلِ والولادة…

وقد أظهرَت باحثة أوروبيةٌ، من خِلال نتائج استطلاع سِريّ للرَّأي، أجرَتهُ في الموضوع، أن طقوس التحييد تؤدِّي إلى نشأة تمثلاتٍ غريبة، لكنها شديدة الدَّلالة، لدى الجنسين بشأن كل ما يتعلقُ بالجنس. من هَذه التمثلاتِ، مثلا، أن الفتاة تظلّ إلى قبيل سنّ البلوغ تعتقدُ أن الرَّجُل لا يتوفر على قبعةٍ، وأنه يملك – بالمقابل – عضوا مماثلا لضريح المرأة. أما الحملُ عند هَذه الأخيرة، فيتمُّ بمجرَّد مُداعبة رجل إياها، أو مُعانقته إياها، أو نومِه بجانبها، أو اشتهائِه إياها، أو تفكيره فيهَا… وإلى حُدُود سِن العشرين يظلّ الفتيان الطّورُوبريَّانديُّون يتصوَّرُون المرأة على الشّكل التالي: إنها تملكُ، مثل الرَّجل، قبعة، وتحمل بمجرَّد نومها بجانب رجُل أو اشتهائه إياهَا أو إطالته التفكير فيها، أمَّا وضعها للجنين فيتم من العجز وليس من الضَّريح. وقد بينت البَاحثة في الدِّراسة السَّابقة أن هذه التمثلاَت ترتكزُ على استيهام خَصَاء مُزدوج يخصي فيه كلُّ جنس الجنسَ الآخر أوَّلاً ليُخصِي نفسَه بعد ذلك كترتّبٍ حتميّ لانتفاء عُنصر المغايرة الفيزيولوجيةِ عَلى مُستوى التمثل. وقد افترضت الباحثة إمكان استفحال سُلوكات اللواط والسِّحاق وَوطء الحيوَانات بين الطّورُوبريَّانديِّين بالرغم من عدَم جهرهم بذلكَ، ودَّعمَت افتراضها بالتنبيه إلى طوفَان ذَوي البشرة البيضاء، من أهل ماقِنطوشَة، الذي يجتاحُ المنطقة دَوريا…

أمَّا إنجاز الطقس، طقس «التطهير الدِّيكي»، فيستغرقُ 22 مَرحلة أهمّها على الإطلاق المرحَلة الأخيرة، وتتمُّ على النّحو التّالـي:

يجلسُ السَّاحرُ رئيسُ المدينة، بعدَ أن يكون قد حوَّلكَ إلى ديكٍ، وهو يمسكُ بيدِه عدَّادا أوتوماتيكيا، ثم يطلقُ صفيرا مُعطيا لكَ بذلكَ إشارة الانطلاق نحوَ دَجاجة، تكون قد وُضِعت مُسبقا في مُتناولك، لتقضي وطَرَكَ منها في وقتٍ محددٍ لا يتجاوز عموما نِصف دقيقةٍ إلى دقيقةٍ واحدة، وذلكَ بمعدل 60 مرة في اليَوم ولمدة شهر بكامِله، أي المدَّة التي يجمعُ الطّورُوبريَّانديُّون على ضرُورتها للترويض. وتستمدُّ هَذه المرحلة أهميتها مما يستتبعُها من تقنيناتٍ صارمةٍ تتعلق برُخصِ التغيبّات، ومدَّة الإجازات المسمُوح بها، وإمكانياتِ الانتقال… فمثلا، إذا كنتَ تقيم أصلا في مدينةٍ تبعُدُ عن منطقة الطّورُوبريَّاند بـ 4000 كيلومتر، فإنه لا يرَخّص لكَ بالتغيُّب إلا مرَّة واحدة في كلّ ستة أشهر. أمَّا مدة الغياب، فتحدَّد عموما في تسع إلى عشر ساعاتٍ: ثمانية للسَّفر بالطائرة ذَهابا وإيابا، وسَاعة واحدة أو سَاعتين للإقامَة بين أهلكَ ونِسائك…

*

*             *

في بداية اجتيازي لـ «طقس التَّطهير الكلبي» أحسستُ أنَّ وضعي قد تحسَّن نسبيا في المدينة، إذ لم يعُد أيّ واحدٍ ينعتني بـ «الزِّنديق»، وانكشفت الحجُبُ بيني وبين النسَاء فأخذن يتوافدنَ على بيتي بالقوافِل ويجالِسنَني في مقاهي سرِّية ويُشاركنني التّدخين والسُّكر وسَائر حماقاتي… غير أنّي فطنت فيما بَعد إلى أنَّ ذلك الوضع كان مشرُوطا بمواضعَات:

عندما كنت أغرقُ في النوم، كانت تقصدني أسرَاب تقصدُني لنهب جسَدي. في اليَوم الأول أصبحتُ بلاذيلٍ، في اليَوم الثّاني بلا أذن، في الثالث بلا رِجلٍ، بلا عين، بلا أنف، بلا رأس… ولستُ أدري ما إذا كنَّ يأتينني من تلقاءِ أنفسهِنَّ أم أن رجالهن همُ الذين كانوا يبعثون بهنَّ إلي للإيقاع بي. كلّ ما أعرفه هُو أنه لم يكن لي الحقّ حتى في الإشعَار بالنهبِ الذي كانت أعضائي تتعرَّض له، فأحرى الاحتجاج على ذَلك. كان عليَّ أن أتراءى في كل يوم كلبا بالهيأة التي سَوانِي عليها السَّاحرُ رئيسُ المدينة مُنذ المرحلة الأولى مِن مرَاحل الطقس الاثنين والعشرين، وكان ذلك يستوجب مني ضربَ حرَاسةٍ ليلية مشددة على جسدي وأنا نائم.

سألتُ أوَّل امرأة ضبطتُها، وقد عرفتُ من ملامِح وجهها أنهَا لم تكن إلا المرأة التي كانت تجلسُ قربَ الباب القعري يومَ قادني الطورُوبريَّانديُّ القصيرُ إلى الحيِّ المتعدِّد الجنسيات: «لمـاذا تنهبين ذَيلـي؟»، فاندفعَت أمامِي بقامتها القصيرة وهِيَ تتعثرُ في مئزرها الطويلِ وأمرَتني بالمشي خلفهَا إلى أن وقفتْ بمفترق الأزقةِ نفسه الذي سبقَ للطوروبريَّانديِّ القصير أن قادَني إليه، ثمَّ سألتني:

– أتدري ما اسـمُ هذا الحـيِّ؟

– لا.

– اسمه إبِطُ الكلـبِ…

عرفتُ أنها ستأمرني أن أنظرَ إلى اللَّوحَات، وستقولُ لي إنَّ الحيَّ كان هو الحيّ المتعدد الجنسيَاتِ، وإنه يُفضي إلى مُدُن باريس وبرشلونة والقصر الكبير…، وإنني كنتُ بهذه المدُن جميعا، ولذلكَ صَرفتها وقصدتُ المنزل الكَائن بقعر الزّقاق الذي لا يحمِلُ اسما، فكان الطورُوبريَّانديُّ القصيرُ جالسا ببابه. هَممتُ بسؤاله، لكنه بَادَرَ بإجابتي قبلَ أن أتكلمَ – وكأنه كَانَ على اتصالٍ سريّ بما يجري في دِمَاغي – وهوَ يُشيـرُ إلى داخل المنـزل:

– بُورُو بُورُو كِي يِّي كِي يَاوِي.

دخلتُ إلى المنزل. سمعتُ الضوضَاء. فتحتُ النافذَة. أشرفتُ على السَّاحة الواسِعة. في رُكن مِن السَّاحة جَلس شيخ كانَ بيده مفتاحٌ سحريٌّ لإطلاق الضَّوضَاء أو إيقافها. سألتُ أقربَ مُتفرِّج من نافذَتي. أجَابَ بلهجة تلغرافيةٍ. فتحتُ الباب الدَّاخلي للغرفة. تقدَّمتُ نحوَ البَاب الكبير الموجُودِ في آخر السَّاحَة، فأفضَى بي إلى الخارج، فإذا بي وسَط مدينة الرِّبـاط. انصرفت أتأمَّل حُشودَ أجسَاد المارَّة بالشارع فالتفتُّ لأول مرَّة إلى أن أعدَادا غفيرة منهم كانت مِثلي مُركبة مِن أعضَاء مجزأة بينها تنافرٌ صاخبٌ.

لما كانت أعضَائي تتعرَّض للنهب ولم يَكن لي الحقّ حتى في مجرَّد الإشعَار بسرقتِها،  فأحرَى الاحتجاج على ذلك، كان الحلّ الوحيد أمَامي هو شراء أعضاء من السُّوق السَّوداء، منَ الدّكان السِّريِّ الوحيد الذي يبيعُ الأعضَاء الحيوَانية والبشريَّة مجزّأة. لكن في الدُّكان كان بالإمكان العثور عَلى أعضَاء كلِّ الحيوانات باستثناء أعضاء الدِّيكِ والكلبِ، وبذلكَ لم يكن أمَامي أيّ خيار آخر عَدا تعويض أعضائي المنهوبَة بأعضاء حَيواناتٍ من أجناس مجاورَة للهيأة التي كنتُ بها، وهَذا هُو السَّببُ في كوني الآن أمشي بحافر حمار وذيل كبش وفرو عِجل… لذا، إذا رأيتم – أينما كنتم – شخصا بهيأة مُرَكبة كأن يكونَ له حافِر بَغل أو رأس هِرٍّ أو أذن حمار…، فاعلمُوا أنه بصدَدِ اجتياز «طقس التطهير الكلبي»، وأنه إمَّا على أبوَاب الأنثروبوفاجيا الطقوسِية أو على مَشارف التثبت في النسابة الطورُوبريَّانديَّة بعدَ أن يجتاز «طقسَ المرأة المعَلقة في الهوَاء». أمَّا هُم، فكيفَ حَصلوا على هَيآتٍ مماثلة؟ بل أيتعلقُ الأمرُ فعلا بحُصُول على تلكَ الهيآتِ أم أنه لا يعدُو مجرَّد تجلٍّ للعبةٍ طوروبريانديَّة تستقـرُّ في أعماقنا جميعـا؟

الاخبار العاجلة