م. أسليم، حديث الجثة: (7) نـــــداءُ المــــــــوت

1٬265 views مشاهدة
minou
حديث الجثة
م. أسليم، حديث الجثة: (7) نـــــداءُ المــــــــوت

نـــــداءُ المــــــــوت

إلى بقية روح الطفل الزبير، المقيمة بداخلي، الذي تنكر له الموت بهيـأة أبٍ ثم مَـازَحَهُ.. وببراءة الأطفال لم يجد الصغيرُ بُدّاً من استدعاء المزاح الأكبر: ثبَّتَ حبلا على السقف، ولفهُ حَول العنق، ثم قفز في الخواء لينصرف إلى حيثُ لا أبَ ولا أمَّ، لا مزاحَ ولا جدَّ، لا خواءَ ولا امتلاءَ…

قلـــتُ: أنت تعلم أنني منذ جئتُ إلى هذه الحياة وأنتَ بداخلي مقيمٌ، دون استئـذانٍ ولا سابق إعلام. تُلازمني كظلِّي، متربِّصٌ بِي للانقضاض عليَّ في أي لحظةٍ. ولأجل ذلـك فأنت كامل الاستعداد، لا تنام ليلاً ولا نهارا. كأنَّك جندي في حالة استنفارٍ قصوى. غير أنَّك، مع ذلك كلِّه، ما أريتني وجهَك يوماً ولا مكانَك فكيـف أنت؟ وفي أيِّ إقليمٍ مني تقيـم؟
قـــــالَ: أنـا صوت سـؤالك هذا. أقيم داخلك وخارجك في آنٍ. متى تحرَّكَ فيك صوت كهذا، فاعلم أن ما ذاك السؤال إلا سؤالي، ومتـى رأيت جثَّة هامدةً أو نعشا محمولا إلى مقبرةٍ فاعلم أنَّ ما تلك الجثة أو النعـش إلا جُثَّتي وهيـأتي.
قـلـــتُ: لكن، هـلاَّ أريتنـي وجهَـك؟
قــــال: وجهي وجهُك ووجهك وجْهِي. إن شئت رؤيتي فابصرْ عينيكَ وشفتيك، وخدَّيك، ووجهك، ورجليك.. وآنئذٍ اعلمْ أن تلك هي أطرافي وحُدودي.. تلك هي هيأتي وشكلي.
قــلــتُ: لكـنَّني حـيٌّ وما أنا بميتٍ. ثم إذا كان الأمر على ما تقولُ فمعناه أنني ما أحاورُ الآن إلا نفسي، أنَّني قد شطرتُني إلى سائلٍ ومسؤولٍ. فهَلْ يُعقل أن يحـاوِرَ المـرءُ نفسَـه أو يستَعْلِمَهَا عن أمر يجهله/تجهله؟ نعم، قد يفعلُ ذلك في لحظات تضارب الآراء والخواطر. لكنَّني الآن أمامَك. أمَامك أنتَ أنتَ، أيها الموت الذي ستمْحُوني وتحرمني ممـا أنـا إياه الآن. فهل يُعْقَلُ أن أمَّحِي ثمَّ أسأل نفسي عن مصدر محوي وسببه؟ ثم إنَّكَ لك صِلَـة بالكائنات جميعا، وما لِكُلِّ الكائنات صلة بي. فما أنا إلاَّ واحد من هذه المخلوقات الحيَّة التي يعُـجُّ بها هذا الوجود..
قــــال: وما دليلُك؟
قـلــتُ: كوني أتكلَّمُ وأتحـرَّك، وأمشي، وأكتبُ، وأسـألك الآن…
قـــــال: ذلـك كله وهْمٌ. فما أنت إلا صُورَتِي وصَوْتِي. ففي يومٍ ما، في ساعةٍ ما، في لحظةٍ ما، سأمحوكَ من الوُجود، سأحرمك مما أنت إياه الآن كي أُثْبِتَ من خلالك، وبالملموسِ، يقيَن وجودي للآخرين؛ فلو لم أكن أمحو من يحيطون بكَ لما علِمْتَ بي، ولما فكرْتَ في مقابلتي. أَوَ مَـا زلتَ مُصِـرّاً على رؤيتـي؟
قـلـتُ: أمَّا كَوْنُكَ صورتي وصوتي، فذلك ما أَشْكَلَ عليَّ فهمُه؛ أن تكُون ذلك، معنـاه أنَّني الآن معدومٌ، والحال أنني حَيٌّ موجُودٌ.. وأمَّا كونك تبرهن على حقيقة وجودك منْ خلال حِرْمان الأحياء من الحياة، فذاك ما لا أرى له أي معنى: فإذا كانَ عَمَلُ المحو يؤكد فعلا حقيقة وجُودك، فـإنَّ هذا الإثباتَ لا يَصِلُ إلا إلى الأحيَاء؛ إلى من يتَخَلَّفُونَ وراء كل ميت. أمَّا الأموات، فهُم ما يُغَادِروا هذه الحياة حتى ينعدم فيهِم الإحسَاسُ والفكرُ والفهمُ؛ ما يَرْحَلُوا عنَّا حتى «يقبعون في مكانٍ» ينتفي فيه كلُّ تواصلٍ وخِطابٍ. وبذلك فإن برهنتك تلك لا تصلُ ولن تَصِلَ إليهم أبداً. بتعبيرٍ آخَر، بما أنَّني حيٌّ فأنتَ غير موجُود، لأنَّ كوني الآن سجين هيأتي الحالية يجعلُني لا أراكَ ولا أعرفك ويمنعني عن إقامةِ أي صِلَةٍ بك مادُمْتَ نفياً للحياة ذاتها؛ مُقيماً في تُخْمٍ خارجَها؛ قابعاً فِيمَا ورائها. وعنْدَمَا سَتَكُونُ موجُوداً، فإنه لنْ يتاح لي إطلاقاً إدراك وجُودك ما دُمْتُ سأكون آنئذٍ قَدْ مِتُّ وأقمتُ في البياض والمحو والنِّسْيَان. وأمَّا الإصرارُ على رؤيتك، فهو ما قادني إلى مجالستك الآن ومُحَاوَرَتِكَ. نعم إنِّي أريد أن أراك قبل أن تُمِيتَنِي فتفوتني فرصةُ رؤيتك.
قـــــال: إذن فاستحضرْ صُوَرَ أبيك، وأمِّك، وجدِّك، وجدَّتِكَ، وأختكَ، وزوجتك الأولى، وجارَيْك: البدين الذي ألقَى بنفسه من الطَّابق العَاشِر منذُ بِضْع سنين، والطفل الذي وضع حَدّاً لوجوده زوالَ أمس بشنق نفسه.. أيـن كُلُّ أولئك الآن؟ هُمْ جميعا في ضيافتي مقيمون، بل ما هم الآن إلا إيَّاي وما أنا الآن إلا إيَاهُم.
قـلــتُ: لكنَّهم الآن تحت الأرض وأجسادُ معظمهم رَشِيَتْ وصارت عظاما وتُرابا، فهل أنتَ داخل القبور مقيم؟
قــــالَ: نعـمْ.
قـلـــتُ: وإذن فكيف يُعْقَلُ أن يُقيم الترابُ والقبور بداخلي، ويحَاوراني؟
قـــــالَ: ألْم أقل لـك منذ البداية إنِّي أقطن خارجَك وداخلـَك؟ أنا كلامُك هذا وسؤالُك هذا بالضبط.
قـلــتُ: لكنِّـي أريد معرفة مكان إقامتك بداخلي، والهيأةَ التي تقبع بها. هلْ أنتَ لغـةٌ وكلام؟
قــــالَ: أنا كلامُك هذا وسـؤالُك هَذا.
قـلــتُ: هـذا ما لم تَكُفَّ عن تَرْدِيدِه منذ البداية، ومع ذلك فإنَّه لم يُسهِم بأدنى قِسطٍ في تحقيق المعرفة التي أرُومُ الوصول إليها بشـأنك. فهلْ معنى تكْرارك هَذا القول أنك غير متأكِّد من وجودك؟ أنَّك تشُكُّ في نفسك؟ أنك غير واثقٍ مِنْكَ؟
قــــالَ: لا. المسـألةُ بسيطة جِدّاَ: فأهلُ القبُور الذين ذكَّرْتُك بِهِمْ قبل قليل سَتَصِيرُ جاراً لهم وتُقيم بينهم حالما تلْحَـقُ بهم في يوم ما، في ساعةٍ ما، في لحظة ما. أتَعْلَمُ هذا؟
قـلــتُ: نعَمْ. أعرفه حَقَّ المعرفـة.
قــــالَ: إذن فاعلمْ أنَّ ما مُلْحِقُكَ بهم إلا أنَا، أنا الذي نقلتُهم جَمِيعاً إلى المقابـر…
قـلــتُ: ما هذه إلا مراوغة أخْرى. وعلى افتراض أنَّهَا إجابة، فالأمر يظَلُّ ليس واضحاً بما فيه الكفاية، إذ يمكنُ للمرء، مثلا، أن يتساءل: أين الدَّليل على كونك أنتَ الذي تنقل الأحياءَ إلى المقابر؟ فـلا أحدَ عاد يوما من القُبُور ليؤكِّد لنا أنَّك أنْتَ الذي نقلتَه إليها. ثُمَّ، مع كامل عِلمي بأنني سألتحق بهِم في يومٍ ما، بعد أن أصير جثَّةً هامدةً، فإنني لا أفهم كيف سيكونُ ناقلي إليهِم أنتَ، إذْ ما أدراني أنَّك لستَ سوى فكرة مجردةٍ ابتكرها الأحياء لوَصْف وضع الجثَّة الهامدة التي يؤولُون إليهَا بعْد أن يمَّحُوا/يتعرضوا للمحْو؟ ثمَّ عندما سأموت سينعدم فيَّ الإحساسُ، والصوتُ، والفكرُ، والكلامُ، والسمعُ، والبصر…؛ سأصير عَدَماً دون أن يُسمحَ لي بأن أعرف منْ «أعدَمَنِي»، بَلْ ودون أن أتمكَّنَ حتَّى من إدراك هل أُعْدِمْتُ أم لا. فكيـف أصدِّقُ أنـك أنت الذي ستمحُونِي؟ بلْ وما فائدة معرفته؟
قـــالَ: إذن فالْقِ بنفسك من سَطح العِمَارَة، أو ابْعَجْ بطنك أو صدرك بمِدْيَة حـادة فترىَ إلى أي حدٍّ أنا موجود، وتتحقَّق من أن ليـس قـاتلك إلا أنـا.
قـلــتُ: إن أفـعلْ أكُن أنـا الذي وضعتُ حدّاً لحياتي ومحوتُ نفسي وليس أنت.
قــــال: بـلْ، سأكون أنا الَّذي أمرتُك بِه.
قــلتُ: قـد أمرتَني به منذ لحظةٍ ولم أفعله. أرأيتَ كيف أنَّ المرء يملك أحيانا زِمَامَكَ بيـن يَدَيْهِ؟
قـــالَ: بـلْ أنا الَّذي أمرتُكَ بعدم الاستجابة لي الآن. وقد آمُرُكَ به في وقتٍ ما، من حيث لن تحتسب، وما أرى من سَبَبٍ وراء المحاورة التي تَعقِدُها معي الآن إلا جهلك بميعـاده…
قلــتُ: هَا قـد أخبرتَني الآن بأنَّني سأموتُ مُنْتَحِرا. وسأحرصُ الحرصَ كلَّه علَى عدم وضع حَدٍّ لحياتي بنفسي.
قـــالَ: اعلمْ أنَّ لي مداخلَ عِدَّة تفضي بي إليكَ. وبما أنك تَسْتدْرِجُنِي لمعرفة أوان انقضاضي عليك، وكيفَ سأَثِبُ عليك، فإنـي لن أنبئك بذلك لأن ذاكَ هُو الفرق الجوهريُّ بيني وبينك. فلو أطلعتُك على ذلك لاستعددتَ كاملَ الاستعدادِ لي…
قلــتُ: إنَّ شديد حرصك على عدَم إطلاَع بني البَشَرِ علَى لحظة انقضاضك عليهم لَيُـوهِمُ بأنَّ معرفة تلك اللحظةِ هي سبيلُ المـرْءِ إلى الخلُود، والحالُ أنَّ هذا الخلود – كمَا قدْ تَعْلَمُ – ربما لا يعدو مجرَّدَ وَهْمٍ أو فكرة ابتكرَها الأحياءُ لتسمية هذا الأفُقِ من الرَّغبة والحلْم الوَاقِعِ في الضفة الأخْرَى للمأساة التي يُوجَدُونَ أسْراها ويدعونها حياةً… وإذن، فما ضيرك إن أطلعتَني علَى موعد موتي كيْ أستَعِدَّ كاملَ الاستعدَاد لـك؟ بـلْ وهل سيدفعُك عَنِّي ذلك الاستعدادُ وتلك المعرفة؟
قــــالَ: إنَّ ذاكَ لن يُفْقِدَنِي شيئا من فظاظتي وحتمية محوِي إياك. ومعَ ذلك فإنِّي أتمسَّكُ بشديد حِرصي على عَدم معرفتك لحظة انقضاضِي علَيك والشَّكْل الذي سأُنجِـزُ به ذلكَ الانقضاض.
قلــتُ: إذن فأنتَ إمَّا خائـنٌ غـادرٌ أو جبـانٌ قـاسٍ!
قـــالَ: نعمْ. إن شئتَ. لكن ما ذاكَ إلا خيانتك وغدرك وجبنك. أنسَيْتَ أني بداخلك مقيمٌ، وأنِّي الصوتُ الذي يَنْطِقُـكَ الآن.
قلــتُ: لا، إنِّي لسـتُ خائنا ولا جبـانا.
قـــال: وإذن فالـقِ بنفسِك من فـوقِ العمارة، أو اجرعْ دفعةً واحدةً جميع عُلَب الدَّواءِ المحيطةِ بِكَ الآن!
قلــتُ: لاَ.
قـــالَ: لمــاذا؟
قلــتُ: إنْ أفعلْ أكُنْ قد خُنْتُ هذه الأمانةَ المُودَعَةَ بداخلي منْ خِلال التعجيلِ بسحبِها منِّي أو إعادتِها إلى صاحِبِهَا )فيما يعود أمرُ تحديد زمن هذه الإعادة وكيفيتهِ إلى مالِكِهَا، إلى منْ أَوْدَعَهَا بداخلي(. ثمَّ إنْ أفعلْ أتسبَّبْ للأهلِ، والأقارب، والأصدقَاء، والأحبَاب في متاعبَ وأحزانَ كثيرةٍ لا طاقـة لهم بهـا…
قــــال: إنَّ ما تُسميه أمانةً أملك فيه أيضاً قسْطا ونصيبا. فمهما حرصتَ عليها، فإنَّكَ إلَّي آيِلٌ؛ مني أتيتَ وإلي تعودُ… أرأيتَ كيف تستنجـدُ بالآخرينَ! لا شأنَ لنَا بهِم الآن. فقد طلبتَني وحيدا، ولبَّيْتُ نِداءك وحيدا. ثُمَّ إني لا أرى لاكْتِرَاثِكَ هذا أَيَّ معنى عدا هذه الحقيقة المُرَّة التي تدْعُو إلى الإشفاق عليكَ: حقيقة كونك تبقَى أَسِيَر الحياة حتَّى لحظة تأهُّبِكَ لمغادرتها ووضع قدميك في عتبتي؛ حقيقة كونك تظلُّ عاجـزا عن تفكير الحياة منْ داخلِ الموت وتفكير الموْت من خَارِجِ الحيـاة. أمـا علمتَ أنَّكَ ما أن تجتاز عتبـة الموت حتَّى ينقطعَ حبْلُ صِلَتِكَ إلى الأبدِ بما تدعوهُ الآنَ أهلا وأحبابا وأقاربَ؟؛ ما تُمْحَى حتَّى تصيرَ بياضاً غير «مَعْنِيٍّ» على الإطلاق بالأشكَال والمحتويات التي يُعَبِّرُ بها كلُّ الذين تخلَّفُوا، من بَعْدِك، عن حُزْنِهِمْ على فُقْدَانِك؟… هيـا، اِلْقِ بنفْسِكَ من سطح العمارة! اجرَعْ عُلَبَ الدواء!
قلــتُ: هَبْ أنِّي فعلتُ ما أمليتَهُ عليَّ الآن. إنني أولاً لستُ متأكدا من كوْنِي أنَا الذي وضعتُ حدّاً لحياتي بمحض مشيئتي. لربما فكرةٌ ما أو رسالةٌ مَا هي التي صاغتْ نفسها وتوجَّهتْ إلى الآخرين عبر فعلي ذاك. إنَّنَا معشر الأحيَاء لا نملكُ أيَّ شيءٍ في الحياة ولا في الممات. فنحنُ نُسَاق إلى هنا سَوْقَ قطعان البهائم؛ نأتي دون أدنى استشارةٍ – على افتراضِ أنَّ هذِهِ الاستشارة ممكـنةٌ ما دُمْنَا نُسَاقُ مِنَ العَدَمِ – ونُسْحَبُ دون تبرير. يتمُّ كل شيءٍ كأننا لسْنَا سوى ذريعةٍ في قضية أو صفقَةٍ في مُتَاجَرَةٍ لا ندري من يَعْقِدُهَا، ولا مع من، ولا لمـاذا…
قــــال: إنَّ ما تُسمِيه صفقةً لي فيه أيضا قسطٌ ونصيبٌ. ففي البدءِ كان الخلُودُ والحيـاة صِنْوَيْنِ، لكنَّ خلَلاً ما حصلَ في جهةٍ ما، لسببٍ ما، فأفلستِ الحياة. ولما أفلستْ احتاجتْ إلى لسانٍ يُعبِّرُ عن حال إفلاسِهَا، فصرتُ إياهُ. لكن قبلَ ذلك (أو بعدَه؟) كنتُ أنا الآخر والخلودُ صنوين، لكنَّ خللا ما حصل في جهةٍ ما، لسببٍ ما، فأفلسْتُ. ولما أفلستُ احتجتُ إلى لسانٍ يُعَبِّرُ عن حال إفلاسي فصارتِ الحياة إياه. وبين هذا المدِّ والجزر كانَ وجودُك أنت أيها الإنسان. فعندما أُفْلِسُ تكونُ، وعندما تُفْلِـسُ الحياةُ أكون…
قـلــتُ: لكنْ مع هذا كله، فحياةُ الأفراد والجماعاتِ ليستْ بالفوضى التي قدْ يُوهِمُ بها كلامُك. فكلُّ شيءٍ يسير بنظامٍ وانتظامٍ، وأنتَ لا تتراءى لنا إلا نادرا؛ لا تَنْتَزِعُ منا البعض إلا بين فينةٍ وأخرى. و أحيانا يكونُ بمشيئة المرْء أن يتراجعَ عنك، أن يتحاشاكَ، أن يؤجلك إلى لحظةٍ أخرى، أن يَشُقَّ عليك عصا الطاعـة..
قــــالَ: ما ذاك النظـامُ إلا مبلغٌ من صفقتي. أتُرَانِي كنتُ سأكون ذا طعمٍ ومذاقٍ لو كنتُ جاثما علَى الأحياء في كلِّ لحظة. لَو فعلتُ لظلَّتِ الأرض غابـاتٍ وقفـارا، ولما تحرَّكَ الإنسانُ قيـد أنملة عن عَتَمَاتِ البدايات الأولَـى.
قلـــتُ: وإذن فمعنى هذا أنَّك أنْتَ الأصلُ في ما نَدْعُوهُ حضـارةً…
قــــالَ: نَعَـــمْ.
قلــــتُ: إذا كان الأمرُ على ما تقولُ، فلماذا تَعْمَدُ إلى تحطيم ما تبنيه/نبنيه؟ ثُمَّ، إنَّكَ لا تزُورُ بني البشر في الغالب إلا فُرَادَى!
قــــالَ: اعلم أنَّ قَتْلَ الأفراد لا يُشَكِّلُ سوى إحدى لحظتيْ سطوتـي. ففي وقت معلوم سأنقَضُّ على الحياة بكاملها وأُحِيلُ الكُرَةَ الأرضية كلها إلـى رميـمٍ.
قلــــتُ: كَيْـفَ؟
قــــــالَ: هَـا لقد ذكَّرتَني بشكْلِ ما أسميتَهُ صفْقَةً. إنَّ هذا النظام الشمسِيِّ بمجمله ليس إلا مجموعة كَلاَّتٍ وُضِعَتْ في ساحةٍ؛ ليس سِوَى أدواتٍ في شَوْطِ لعبةٍ وُضِعَ فيها القمَرُ، والشَّمْسُ، والأرْضُ، والزُّهَرَةُ، وعُطَاردُ، والمُرِّيخُ، والْمَجَرَّاتُ، كلٌّ في خَانَةٍ… فمَا الأرضُ الآن إلا كَلَّـةٌ أَحْكَمْتُ تثبيتها بين السَّبَّابَةِ والإبْهَامِ، ثم قذفتُها بأقصَى ما أُوتِيـتُ من قوةٍ في اتجاه كوكبٍ آخر/كَلَّةٍ أخرى… الأرضُ الآن ماضيةٌ بسرعة مفرطة نحْـو كوكبٍ آخر كيْ تصطدم به. وما يَحُولُ بينك وبين إدراك هذه السُّرعة إلاَّ هذا التفَاوت القائمُ بيني وبينك في الطبيعةِ والإحسَاسِ بالزَّمن؛ فبينما «أحيا» بـ «هيأة كائنٍ كُلِّيٍّ» تتيح مُعَايَنَةَ تعاقب شعوبكم وأجيالكم لا تحيون أنتمْ، بنو البشرِ، إلا بهيأة قطعان من الأفرادِ لا يُسمح للواحد منهُم معرفةَ حتَّى مَوْقِعه أو أثرهُ في الحياة الكبرى التي تتضمَّنُه وتتجاوزه… ثُمَّ فيما يكفي أن أغمضَ عينيَّ وأفتحهما، فأجدُ الأرض قد تلاشَتْ إثر اصطدامها بكَوْكبٍ آخر، يستحيلُ عليكمْ معاينةَ هذا الاصطدام، لأنَّ زمن «رمشةٍ من عَيْنَيَّ» هو تاريخُ نوعِكُم كله ومُدَّةُ إقامتكُم في الحياة…
قلـــتُ: كَيْــفَ؟
قــــال: لتقريب الفكرةِ إلى ذهنك سأحَدِّثُك الآن بلُغَةِ الحسَاب والأرقام: هَبْ أن هذه الملايير من السَّنَوات الضوئية الفاصلة بين الأرض والكوكَبِ الذي ستصطدم بـه إنما هيَ مسافة مِتَرَيْنِ لا غير، أي مسافة ما يَفْصِلُ به الطفلُ كَلَّةً عن أُخرى ثُمَّ يُسَدِّد إحداهُما صَوْب الثانية. فالأرضُ تَمَّ قذفُهَا باتجاه الكَوْكبِ الذي ستصطدمُ به قبْل مجيئكم. وما انصرم من عصور وأزمنةٍ وحضاراتٍ حتَّى اليوم، وإن كانَ يبدو لكم في غاية الطُّول والبُطء، هو في الواقع قَدْ مرَّ كلُّه ولم تجتزْ هذه الكُرَةُ رُبُعَ رُبُعَ مترٍ واحدٍ من مجمُوع المسَافة الفاصلةِ بينها وبينَ المستَقَرِّ الذي تَمَّ تصويبها نحوه!
قلــــتُ: معنى ذلك أنَّ الحياةَ لا تعدو مجرَّد عرَضٍ طارئ، أو أداةٍ في شوطٍ من لعبةٍ، كما أسميتَها، وأنَّ بقاءنا أو غيابنا لا يعني شيئاً بالنِّسبة لهـذه الحركةِ الكبرى التي تحتوينَا وتتجاوَزُنَا، تحتضنُنَا وتُقْصِينا في آنٍ .. ما اسْمُ هذه اللعبَة؟ مَا مَسْرَحُها؟ ما أطرافُها؟ ما سياقها؟ أيُّ شيءٍ اقتضى إيجادَها؟ وأيُّ شيء حتَّم إزالتها؟ بل ماذا كان قبلها؟ وماذا سيكونُ بعْدَها؟
قــــالَ: ها قدْ وضعتَ إحدَى قدميكَ في عتبتي. أما علمتَ أنَّك بطرحِك هذه الأسئلة إنَّما تسعى إلى تحقيقِ معرفـةٍ بـ«عالمٍ» غريبٍ عن كُلِّ معرفة؟ أما علمتَ أنَّ خارج هذا المَدَارِ البَشَرِيِّ – الذي وُضِعْتَ أسيراً بداخلِهِ – لا توجَدُ أيُّ معرفة؟ بلْ، أما علمتَ أنَّ ما يُدعَى معرفة إنما هو مجرد وعاءٍ ابتكرتَه لسجنِ «العالم والأشياءِ» من حوالَيْكَ، وأنَّ خارج جدران العقل الذي يلُفُّكَ بأغلالِه وقُيُودِه الآن لا يوجدُ عالمٌ، ولا شيء، ولا كُرة، ولا كَلَّة، ولا لُعبة، ولا زمن، ولا مدار، ولا قبل ولا بعد…؟
قلــتُ: أيها المـوتُ. لقد أعياني حملُك. أَوَ لم يُعْيِكَ حملي؟ إنِّي أردتُ التخلص منك فلا تُفَكِّر فيَّ ولا أفكر فيكَ أبداً…
قــــال قائل مما وراء الحياةِ والموتِ: لك أن تسلك إحدَى طرُقٍ أربعٍ:
1 – تحـوَّلْ إلى إلـهٍ أو ملاكٍ؛
2 – تشيَّـأْ أو صِرْ حيوانا، فتُكَابِدُ الوُجُودَ دون أن تَعْقِلَـه؛
3 – اغمِضْ عينيكَ وعقلَكَ معا، وضَعْ حدّاً لحياتك الآن دون أدنى تردُّدٍ.
4 – احمِلْ عصاً، ثم اخرُجْ إلى الشَّارع، فما من إنسانٍ وقعتْ عيناك عليهِ إلا وأوجِعْهُ ضرباً وأنت تُعنِّفُهُ قائلاً: «أتحسبُ أنَّ الموتَ يهمنِّي وحدي؟»…
والآن أتحسبون أن الموتَ يهمُّني وحدي؟؟
انتهَى النَّصُّ، وكُلُّ عام وأنتم بخيرٍ يا «أحياء»

الاخبار العاجلة