محمد أسليـم: عتبة بين الكتابة والألـــم

1٬182 views مشاهدة
minou
أدب وعلوم اجتماعيةمقالات
محمد أسليـم: عتبة بين الكتابة والألـــم

«ما الإنسان في الطبيعة؟ هو عدمٌ إزاء اللانهائي، هو كل إزاء العدم، وسط بين اللا شيء والكل».
باسكــال
بقدر ما يبدو أن وضع متغيري «الكتابة» «الألم» جنبا إلى جنب يفتحُ حرية كبرى أمام الفكر، الأمر الذي يُسعده للوهلة الأولى، يُوقع هذا الوضعُ نفسُه الفكرَ في مأزق: لماذا تمَّ وضعُ هتين المقولتين – القطبين جنبا إلى جنب؟ ما مهة الفكر أمام مثل هذا الوضع الذي يظل في نهاية المطاف من إنتاجه؟ لماذا تم عزلُ هذين الشكلين للوجود ووضعُهما على هذا النحو، جنبا إلى جنب، بدل عزل كتل أخرى؟ أبينهما انفصال أم بينهما اتصال؟ أين تقع الحدود في الحالتين معا؟
كان السوفسطائيون، لدى تعريفهم للفلسفة، يشبهونها ببيضة قشرتها المنطق وبياضها الأخلاق وصفارها الفيزياء. تعريف يجده دولوز مغرقا في العقلانية، فيعمد إلى توضيحه بالمثل الحكائي التالي: يطرح تلميذ سؤالَ المعنى: ما الأخلاق يا أستاذ؟ للإجابة، يُخرج السوفسطائي الحكيم بيضة مسلوقة من معطفه، ثم يشير إليها بعصاه (أو يُخرج البيضة، ثم يهوى على التلميذ بضربة عصا، فيفهم هذا أنه يتعين عليه الإجابة بنفسه. يأخذ التلميذ بدوره العصا، ثم يكسر البيضة، بحيث يظل قليل من البياض مرتبطا بالصفار وقليل بالقشرة. كما قد يتولى المعلم نفسه القيام بذلك كله؛ كما قد لا يفهم التلميذ إلا في نهاية سنوات عديدة). وفي سائر الحالات، تبقى وضعية الأخلاق معروضة بشكل جيد، بين قطبي القشرة المنطقية السطحية والصفار الفيزيائي العميق(1).
ربما لا يخلو ما نحن بصدده من تماثل: يشكل «الألمُ» و«الكتابة» قطبين متمايزين، لكن ما أن يُطرَح سؤال المعنى – الحد حتى يبرُز هذا البياض الاستعاري الذي يتيح الحديث عن ألم الأكل وألم النوم وألم القراءة، وألم الكتابة، الخ. بقدر ما يُجوِّزُ الكلامَ عن كتابة الأكل وكتابة النوم، وكتابة المشي وكتابة الجنون، الخ.
فيما وراء هذا الانهمام، يمكن تناول مسألة «الكتابة – الألم» من منظورين مختلفين:
– الأول يتخذ من الكتابة حقلا للتأمل، ثم يقيس درجة حضور الألم فيها؛ يأخذ عينات من أعمال أدبية يشكل التشكي محورها، ثم يحللها أو يسائلها بغاية استخلاص ما يميزها عن غيرها من الأعمال. والفرضية الضمنية التي يمكن أن توجه عملا مثل هذا هي: وجود أعمال «سعيدة» أو «مغتبطة»، إن جاز التعبير، تقع على طرف نقيض من أعمال أخرى «متألمة» «متشكية» . لكن ألا تختزل حتمية الموت – التي تشكل مصدر قلق وألم دائمين للإنسان – تلك «السعادة» إلى مجرد لا شيء أمام الطارئ الأكبر الآتي لا محالة، وهو الموت؟ يضع هذا السؤال صفتي «الغبطة» و«السعادة» نفسيهما موضع تساؤل، ومن ثمة يحيلنا إلى المنظور الثاني، وهو:
– النظرُ إلى الظاهرة الأدبية ككل، دون إجراء أي تقسيمات بداخلها، موضوعاتية كانت هذه التقسيمات أو إستطيقية، ثم مساءلتها، أي النظر إلى الأدب بما هو ممارسة إنسانية تحمل آثار الجرح الأبدي الذي يحمله الإنسان. هذا الجرح الذي يرى باطاي فيه الحياة نفسها ويرى في الكتابة وسيلة لتأجيجه، «تأجيج جرح الحياة، أي تأجيج الجرح الذي هو الحياة»(2)، وبالتالي لا يتلقى هذه الكتابة إلا من فتحت عيناه أبدا على هذا الجرح: «وحده يسمعني من قلبه مكلوم بجرح لا يلتئم، بحيث لا أحد أبدا أراد أن يداويه»(3).
والفرضية الضمنية التي يمكن أن توجه عملا كهذا هي: فيما وراء التقطيعات والتصنيفات التي تجرى داخل الحقل الأدبي ثمة وحدة عميقة يمكن ولوجها والتوغل فيها من مسالك متعددة. إن نتوغل من مسلك الألم، قد تكون الكتابة نفسها ضربا من التشكي. هذا التشكي يُلمَسُ بشكل سافر في أعمال وشهادات الكتاب الذين جعلوا من الحياة وجها آخر للكتابة، أي الذين تكون كتابتهم استجابة لنداء، لا سبيل لتفاديه، نداء يَضع الحياة نفسَها موضع تساؤل، ويضع الكاتب في عتبة، في وسط، في حد، بقدر ما يقع بين الحياة والموت، بين الجسد واللغة يتوغل فيهما. من هذا الموقع بالضبط تنطلق الكتابة. تنطلق إلى أين؟ إلى الإقامة في مكان انطلاقها، على نحو ما سنرى.
والأسئلة التي يمكن طرحها ضمن هذا المنظور هي: أي شيء يسعى الإنسان إلى قوله عبر الكتابة؟ بأي معنى يمكن اعتبار الكتابة صوتا لألم الإنسان في الأرض؟

1. الكتـابـــة:
الكونُ مؤثث بعلامات لا يعدو الإنسان مجرَّد إحداها. إنه كتابٌ. والكتاب يسيج القول بحدود، لا يُقرأ إلا من الخارج، أي من مسافة. هذه العملية تتمنع على الإنسان إلى الأبد ما دام هو نفسه لا يعدو مجرد علامة داخل الكون، كلمة داخل كتاب. أمام هذا التمنع ينتج الإنسانُ كتابة، يدون حروفا عن العلامات المودَعة في الكون، لكن أيضا عن نفسه جاعلا منها عالما، لنحصل بذلك على ثلاثة كتب:

– الكتاب الأصل (كتاب الكون)؛
– كتاب الإنسان باعتباره علامة داخل الكون (كتاب العلامة)؛
– وأخيرا ما يكتبه الإنسان عن «الأصل» و«العلامة»، وهو (الكتابة)؛
وإلى العملية الأخيرة يتجه التأمل الحالي.
لماذا يكتب الإنسان؟ ماذا يكتب؟ ما معنى الكتابة؟ تقتضي كل قراءة – كما أسلفنا – وجود نص (أو كتاب) مكتمل، وهو في هذه الحالة مجموع ما يفعله الإنسانُ ويكتبه. بيد أن الكتابة لم تكتمل بعد. وبذلك تظل القراءة متمنعة، غير مكتملة، لا يمكن أن يقوم بها إلا الإنسان الأخير الذي لم يبق بينه وبين محوه (موت الجنس البشري أو الإنسان الحالي على الأقل) إلا مقدار ما يستغرقه إنجاز هذا التركيب من وقت. وعلى افتراض أن هذا الوضع ممكن، فإن ما كل إنسان يرغبُ – أو يقبل – أن يوضع فيه. وتبقى العملية مؤجلة حتى إشعار آخر. وبذلك، يظل الإنسان محروما من استخلاص المعنى، معنى ما يكتب، لأن لا باب يفضي إليه غير بوابة الموت؛ «تترك المعرفة المرءَ، في نهاية المطاف أمام الفراغ. في قمة المعرفة، لا أعود أعرف أي شيء على الإطلاق، إني أموت، وينتابني الدوار»(4).
ضمن هذا المنظور لا يمكن للكتابة أن تكون إلا صوتا للخوف والقلق على نحو ما يطرحهما هايدغر في «الكائن والزمن»: «يُسمي الخوفُ حدثا للعالم حيثُ يُطرَحُ التهديد باعتباره ممكنا»، فيما يشكل القلق وضعَ موضعَ تساؤلٍ الوجودَ البشري نفسه باعتباره مصدرا لكل معنى ولكل مشروع: «داخل القلق، يجري الموجودُ التجربة داخل عزلة مطلقة، للضياع، لكونه منبوذا في عالم الأشياء ويستطيع، بفضلها أن يلجَ، بوثبة حاسمة، “حرية متقدة”، متخلصة من أوهام الرأي، إلى وجود “أصيل”يقعُ الإنسانُ فيه كل لحظة من الزمن قبالة موته».
2. الألـــم
انتهى هايدغر من تحليل بيت شعري لتراكل (يقول فيه: «الألم حجَّـر العتبة») إلى تعريف للألم بأنه «ما يَصل في التمزق الذي يميز ويجمع، إنه لحمة التمزق، إنه العتبة؛ الألم، إذن، هو الاختلاف»(5). ضمن هذا المنظور يمكن اعتبار الألم طارئا يترتب عنه تغيير ينعكس على الذات. هذا التغييرُ يمتد في الزمن بدرجات متفاوتة، يجعلنا لسنا ما كنا عليه، يجعلنا مختلفين، يصرفنا عن إنجاز ما كنا بصدد إنجازه إلى الانشغال بكف الألم ووضع حد له. بهذا المعنى يكون الألم حدا، فاصلا، عتبة.
والكتابة بدورها طارئ يتوسط سياقين: أحدهما يهم الكاتب باعتباره فردا، والآخر يحيل هذا التفرد إلى مجرد وهم(6). يكف الكاتب عن الاستمرار على ما كان عليه، قبل طارئ الكتابة (مثلما يكف الفرد الذي أصابه كسر في عموده الفقري، على إثر حادثة سير، عن الاستمرار على ما كان عليه من قبل)؛ يصيرُ مختلفا جوهريا عن الآخر الذي كانَ إياه قبل حدوث طارئ الكتابة.
تكوِّن الكتابة حقل ألم بامتياز عندما لا ترى الحياة مجالا ممتدا، له بداية ونهاية، مجرد حكاية ذات بداية ونهاية، سعيدة أو أليمة، وإنما إقامة في عتبة. والأشخاص الذين يتولون عملية الكتابة، أي أولئك الذين ندعوهم «كتابا»، إنما يتولونها بالضبط لكونهم يجلسون في مكان اختلاف مزدوج: يختلفون عن الناس، ويختلفون عن أنفسهم. هذا الاختلاف هو سبب ونتيجة في الآن عينه للنداء الأكبر الذي لا مرد له، وهو: «اكتب».
كلنا منغمسون في الحياة، نستلم فيها أدوارا ونلعبها يوميا، دون أن نتساءل عن مصدر هذه الأدوار وشرعيتها وغايتها. ولكن الكاتب (مثل الفيلسوف) يُخضع هذا الانغماس نفسه للتأمل، ينظر حواليه بعيني أوديب، ربما بقلبه كما يقول Saint-Exupéry عندما يؤكد أن المرء «لا يرى (…) جيدا إلا بالقلب، لأن ما هو أساسي يظل غير مرئي للعينين»، فيحوِّل – يتحوَّل كل شيء إلى سؤال، سرعان ما يلقي به، عبر الكتابة، على شكل ملاحظات جريحة، تشكك في كل ما تواضع عليه بنو البشر. فالحياة، مثلا، تغدو سؤالا يتطلب جواب، على نحو ما نجد عند آرتو:
» لم يسأل أحدٌ أحدا يوما:
من أنت؟
من أين أتيت؟
ماذا تفعل هنا؟
وإلى أين أنت سائر؟«
والزمن يصيرُ مصدر قلق دائم، على نحو ما يعبر عنه بودلير قائلا: «في كل دقيقة، تسحقنا فكرة الزمن والإحساس به»(7)
وحتمية الموت تصيرُ جاثمة بكل ثقلها على الحاضر، على نحو ما يؤكد كوكتو: «حتَّى لو عشتُ مائة عام، لن يكون مقامي (في الحياة) إلا كمن أقام فيها بضع دقائق. لكن قليلون الذين يريدون تصديق ذلك، قليلون هم الذين يقبلون تصديق أننا ننشغل ونلعب داخل قطار ينحدر بأقصى سرعته نحو الموت»(8).
تحكي أسطورة أوديب قصة وقوف في عتبة: كان شخصٌ يعيش مغمَض العينين، ففتحهما، رأى ما رأى، لكن صوت القانون باعتباره مؤسسا للهوية، أرغمه على الإغماض، لتتحول الرؤية إلى حد بين إغماضين مختلفين، إلى فاصل بين هويتين: أوديب قبل تجربة فتح العينين ليس هو أوديب بعد هذا الفتح.
الكاتب هو الإنسان يرى بعيني أوديب، والكتابة هي الإبصار بهذه العين. مثل أوديب يفتح الكاتب عينيه، لكن كونه كاتبا يرتكز بالضبط على هذا «القانون» الآخر («قانون» الكتابة) القاضي بملازمة هذا الوضع، ومن ثمة صعوبة أي إغماض. ماذا لو لم يغمض أوديب عينيه؟ لتولى المجتمع نفسه العملية «المشؤومة»، لكن هذه المرة بوسمه بسمة «الآخر»، «المختلف»، «المخالف للمألوف»، الذي لا هوية له. أو ليس هذا تحديدا هو ما اقتضى سمل عينيه؟! ألم نر قبل قليل أن الألم هو «الاختلاف»؟
في هذا الموقع المتلبس، الشائك جدا، الذي يعيدنا إلى مسألة اتصال الحدود وانفصالها، تتأسس الكتابة: ألم يكرر سيلين من كتاب لآخر أن الكتابة هي «إغماض العينين، هي الرؤية من الخارج بعينين شبه مغمضتين»(9)، ومن هذا الموقع، بالضبط أسس عبقريته المتملثة في «الرسو عما في أمكنة أخرى (…) الجرح، العَوَز، القلق، الألم باعتباره مكانا للذات، والفظاعة باعتبارها وجها عموميا بعد ذلك»(10)؟
مثلُ الكلام لذي أوردناه أعلاه لآرتو وبودلير وكوكتو، يمكن أن يرد على لسان أي إنسان عادي، في حديث شفهي، ربما دون أن يسترعي الانتباه، فأحرى أن يُدوَّن أو يُحصَرُ في كتاب؛ لا ينالُ صفة المرجع. لماذا؟ لأنه شذرات تتخلل الحياة «العادية». ولكنه ما أن يُحصَر من لدن أشخاص بين دفتي كتاب حتى ينال بهذه الصفة تأشيرة ولوج حقل التداول. من أي مكان يصدر هذا الكلام؟

3. الكتابة مكانٌ للممنـوع:
كان سقراط يحمل ريبة إزاء الكتابة، يوجه لها تهمة. يسائل بلانشو هذه الريبة على النحو التالي: «كلمة مكتوبة: كلمة ميتة، كلمة للنسيان. هذه الريبة الغريبة نحو الكتابة، التي يشترك فيها أيضا أفلاطون، تظهر أي شك استطاعت توليده، أي قضايا يثيرها الاستعمال الجديد للتواصل المكتوب: ما هذه الكلمة التي ليس وراءها ضمانة شخص ثقة ومهموم بالحقيقة؟!»(11).
يعود ارتياب الفكر السقراطي تجاه الكتابة إلى كونها تعجز عن الإجابة والدفاع عن نفسها إذا ما تعرضت للمهاجمة. على عكس الكلمة المنطوقة لا تتكىء نظيرتها المكتوبة على أي شيء، لا تقدم أي ضمانة. بخلاف ذلك، يمكن مساءلة المتكلم، تفنيد أدلته، الاستماع إلى أجوبته. بتبادل الكلمات، يمتلك الإنسان قدرة إنتاج الحقيقة التي تفترض حضورَ فرد ما ليدافع عن كلامه ويستمع لمناقضه، وهو ما لا يتم في الكلام المكتوب الذي يتقدم وحيدا، في غياب صاحبه(12).
ولكن هذا الحضور الذي تعتمد عليه الحقيقة هو بالضبط ما تنبذه الكتابة في لحظة أو أخرى من لحظات تكوينها مُجَددة الصلة مع إسراف في الكلام مستحيل، مع أصلٍ مستحيلٍ استحالة (تجعل) ما من حاضر إلا ويتعرض فيها للتشظي وما من حقيقة إلا وتتعرض فيها للتناقض، تتعطل هي نفسها. ولأن الكتابة لا تنطلق من أي تعليم يقيني، موقن، لا تنطلق من أي تبرير (…) فإنها تظل غير مشروعة. لا يملك الكاتب أي شرعية عدا لزوم الكتابة، وهو لزوم «لا يقبل مرجعا ولا ضمانة (أو كفالة)، مثلما لا يكتفي بأي إشباع نسبي»(13).
تتأسس الكتابة على ممنوع الحقيقة الناتج عن غياب مزدوج: غياب المؤلف الذي، بانتقاله إلى مكان الكتابة، يرسي قطيعة مع المشافهة، ولكنه من وسط هذا المكان لا يقدم الحقيقة إلا غائبة، متشظية، متناقضة، قابلة لضجيج التأويل، لأنها «تظل هنا، حاضرة، مثل جوهر نار في أعماق الرأس. حقيقة لا تطالب بالفحص، بالملاحظة، بأن تفكَّر، بقدر ما تلتصق باللحم والعظم»(14).
يذكرنا هذا الوضع المتشظي للحقيقة التي تقدمها الكتابة بما يتم في النصوص الدينية؛ فهي تمنح الحقيقة لمتلقيها واحدة موحَّدة، كاملة منسجمة ودائمة، ولكن دوامها، أي دليل كونها حقيقة، يتوقف بالضبط على قابليتها لاختلاف التفاسير. بهذا المعنى، أمام حقيقة شرعية «اختلاف» النص الديني تنصِّبُ الكتابة حقيقة «اختلافٍ» غير مشروع، لا تشرعنه إلا الإلزامية التي يحملها نداء الكتابة.
الكتابة فعلٌ غير عادي يطرأ في سياق «عادي». إنها انتهاكٌ، ألمٌ، وُقوفٌ في عتبة الوجود، في الأصل. هي شرخٌ، ألمٌ، ولكنه ألم قدري، وإلا فمن أين لمن تلقى أمر الكتابة أن يمتنع عن الامتثال؟ نتعمد هنا عدم إيراد إحالات (ستكون عديدة جدا لا محالة) تندرج ضمن نظرية الإبداع باعتباره وحيا، في مقابل النظرية الأخرى التي تراه ثمرة حسابات واعية(15).
يُقدِّمُ الدينُ، مع ذلك، حلا يتمثل في إعفاء الإنسان من الكتابة أصلا. فهي موجودة سلفا ومكتملة. إنها هذه العلامة المتألفة من دال الكون ومدلول النص المنزل باعتباره كتابة متعالية يستحيل على الإنسان تقليدها، فأحرى مظاهاتها. بتعبير آخر، لا يمكن لكتاب آخر إلا أن يشوش على الكتاب الحاضر هنا، على الدوام، وبذلك يلغي (الدين) الكتابين الأخيرين، في تصنيفنا الآنف أعلاه («كتاب العلامة» و«كتاب الكتابة») لفائدة كتاب واحد، مُوَحَّد ومُوَحِّد، هو هذه العلامة المتألفة من دال الكون ومدلول الشريعة. ماذا يبقى للإنسان آنذاك أن يقول؟(16).
بتعبير آخر: بين الكتابة والدين يرتسم اختلاف جوهري يمكن صياغته على النحو التالي: في الحالة الأولى يُلقى الأمرُ: «اكتب»، وفي الثانية يُلقى الأمر: «اقرأ». وبين الكتابة والقراءة مسافة متعذرة الاختزال:
– في حالة القراءة، يكون الكتاب جاهزا، مكتملا، ما على الإنسان إلا فك رموزه واستخلاص معناه، أي الوقوف على الحقيقة؛ تصير المشكلة هي غياب القراءة، ومن ثمة ضرورة إنجازها.
– أما في حالة الكتابة، فيكون الكتاب غائبا، وبالتالي يكون فعل القراءة غير وارد أصلا، لأن وجودَه يتوقف على وجود الكتابة، بيد أنها لم توجد بعـدُ.
بهذا المعنى، نفهم كيف أن الشاعر «يكتشف العالم كما لو كان يُشاهد الكوزموغونيا، كما لو كان معاصرا ليوم الخلق الأول»(17)، حيث يخلق الأشياء بمنحها الأسماء التي ندعوها استعارة.
مما سبق يتضح أن الكتابة هي مجالٌ للاختلاف، والاختلاف هو الألـم بامتياز.

4. الكتابـة وُجـُودٌ على العتبة، مكانٌ للاستحالـة:
عندما وصل الأمرُ: «اقرأ»، كان الجوابُ: «ما أنا بقارئ»، لكن عندما يصل الأمر: «اكتب»، يكون الجوابُ: «أنا كاتبٌ».
لهذا الطرح في لغة النقد ترجماتٌ، منها التعارض القائم بين سانت بوف وبروست في مصدر العمل ووظيفة النقد: يرى الأول في العمل ترجمة للحياة الواقعية، ويحدد وظيفة الفن في وصف الأشياء. في المقابل، يرى بروست في العمل نفسه نتيجة أنا آخر غير الأنا المتجلية في الحياة اليومية، ومن ثمة تكون «الحقيقة التي ينالها الفنان حقيقة فردية، ليست أمامه، وإنما هي موضوعة في كل واحد منا: في الزمن المستعاد، ومن ثمة لا يكتب السارد الكتاب وإنما يترجمه»(18).
وتتمة حكاية الأمرين (اقرأ – اكتب) معروفة على نحو جيد: تمت القراءة، فاصطدمت بمأزق لزوم ترديد المختلف داخل الواحد، وهو ما جعلها لا تنتهي أبدا، تنقلب إلى شبه مونولوغ أو هذيان، إلى صمت أمام النص باعتباره كتابا حقيقيا على نحو ما يعرفه بلانشو عندما يرى أنه «يكون دائما تمثالا. ينتصب وينتظم بمثابة قوة صامتة تمنح للصمت، وبالصمتِ، شكلا وثباتا»(19).
تتمُّ الكتابة أيضا، استجابة للأمر «اكتب»، فتصطدم هي الأخرى بمأزق استحالة الاكتمال، مما يجعلها عملا مؤجلا على الدوام مثلما القراءة مؤجلة على الدوام. بهذا المعنى نفهم نعت الكتاب بـ «الآتي» أو «اللامكتمل» على الدوام.
ويبقى أن لا الذي امتثل لفعل القراءة قرَأ ولا الذي أكْرِهَ على الكتابة كتبَ. ها هي نقطة تجمع المتناقضين لتفرق بينهما في الآن عينه: القارئ يطمئن إلى صمته، يشذر معنى النص، إن جاز التعبير، فيعتبره حقيقة، لاغيا كل التشذيرات الأخرى التي تعتبر نفسها هي الأخرى حقيقة، وهو ما يلتقي بمعنى ما مع قول سارتر: «عندما يصمت الله، يمكن للمرء أن يقوِّلَه ما يشاء». بينما الكاتب، يتألم داخل كلامه، يغرق فيما يشبه المونولوغ والهذيان، يقف على المعنى متشذرا، لكنه يتألم من استحالة توحيده في كتاب.
الكتابة «مجالُ تحرك ثابت»(20)، إذ يتقدم النص، «يتقدم دائما، ولكنه لا يفعل في نهاية المطاف أي شيء سوى التقدم نحو هذه النقطة التي ولَّدَته. هذه النقطة التي لا يستطيع أن يلحق بها – بما أنها تجعله يكتب. هكذا، تجدُ الكتابة، وهي تغامر فيما هو أشد حميمية فيها، تجدُ نفسَها، نتيجة أيضا لهذا، مكانا للعودة الأبدية»(21).
كان الكلامُ السابق كله طريقة في قول ما يلي: أن يصير المرء كاتبا هو بالضبط أن يفتح عينيه، عيني أوديب، فيبصر أنه: «بيضة قشرتها المنفى وبياضها العزلة، وصفارها القلق»، هو أن يباشر سفرا مزدوجا، من عمق الجسد إلى سطح اللغة ومن عمق اللغة إلى سطح الجسد.

الهوامش:

(1) Gilles Deleuze, Logique du sens, Paris, Editions Minuit, coll. Critique, 1969, p. 167.
(2) Georges Bataille, Jean Durançon, Georges Bataille, Paris, Gallimard, coll. “Idées”, 1976, p. 210.
(3) جورج باطاي، عن دورانسون، باطاي، م. س.، ص. 207.
(4) Georges Bataille, Le coupable, p. 122.
(5) مارتن هايدغر، إنشاد المنادى، قراءة في شعر هولدرلن وتراكل، تلخيص وترجمة: بسام حجار، بيروت-البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط. I، 1994، ص. 18.
(6) محمد أسليـم، «الكتابة والموت»، ضمن جماعي، الكتابة والموت. دراسات في حديث الجثة، مكناس، سندي، 1998، صص. 115-137.
(7) Georges Bataille, La littérature et le mal, Paris, Gallimard, coll. idées, 1967, p. 59.
(8) Jean Cocteau, La difficulté d’être, U.G.E., 10/18, 1964, p. 90.
(9) Encycolpédie Hachette.
(10) نفســه.
(11) Georges Préli, La force du dehors. éxtériorité, limite et non pouvoir à partir de Maurice Blanchot, ed. Rcherches, coll. encres, 1977, p. 21.
(12) نفسـه، الصفحة ذاتها.
(13) نفسـه، الصفحة ذاتها.
Georges Péli, La force du dehors. Extériorité, limite et non pouvoir à partir de Maurice Blanchot, Recherches, coll. encres, 1977, pp. 20-12.
(14) Ibid., p. 160-161.
(15) Jean Brun, L’homme et le langage, Paris, PUF., 1985, ch. VII, «Le verbe poétique», pp. 169-189.
(16) محمد أسليـــم، ذاكرة الأدب (في الشعر والرواية والمسرح)، مكناس، سندي، 1999، ص. 72-73.
(17) Mircea Eliade, Mythes, rêves et mystères, Paris, Gallimard, coll. Idées, 1957, p. 36.
(18) Encyclopédie Hachette mulimédia, 2001.
(19) Maurice Blanchot, Le livre à venir.
(20) G. Durançon, Georges Bataille, op. cit., p. 212.
(21) نفســه، ص. 211.

————–

(حضرت هذه المداخلة، في الأصل، للمشاركة في ندوة «الكتابة والألم» التي نظمها المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب في الرباط يومي 23 – 24 فبراير 2001، بتنسيق مع الجمعية المغربية للعلاج النفسي. وقد حالت ظروف قاهرة بيننا وحضور النشاط المذكور)

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 26-08-2012 06:08 صباحا

الاخبار العاجلة