هكذا قرأت نص عطر لعبد الحميد الغرباوي

1٬442 views مشاهدة
minou
أدب وعلوم اجتماعيةمقالات
هكذا قرأت نص عطر لعبد الحميد الغرباوي

يتناول هذا النص موضوعا بسيطا: فالحكاية كلها يمكن اختزالها في فكرتين أو ثلاث: امرأة تتظاهر بالوقار ويصدقها الناس، لكن حقيقتها شيئا آخر. لكن الكاتب تناوله بصياغات تذكر بلغة الأساطير.
فالتركيز القائم على وصف المرأة باستعمال ضمير المؤنث المفرد الغائب (ها) 14 مرة في النص، وضعني باعتباري قارئا أمام ما يشبه الحديث عن بطل أسطوري، تماما كما تفعل الحكايات القديمة. كأن البطل متعال عن أن يرد كلام في النص على لسانه، بل غياب الحوار هذا إحدى السمات الرئيسة لهذا النص، حيث لم يرد الحوار إلا مرة واحدة في نهاية النص، أخذ شكل جملتين: واحدة تلفظت بها صاحبة البيت والأخرى بطلتنا. غياب الحوار هذا، قد يمثل اختيارا من لدن الكاتب، متمثلا في الانهمام بنقل معنى ما للقارئ أكثر من الانشغال باستيفاء مكونات النص القصصي على نحو ما يحددها عمل النقد؛ فالتخييل والحوار، والوصف، الخ. إنما هي من صياغة النقد لا الإبداع، صاغها النقاد لا المبدعون. ومن المبدعين من يستحضرها وهو يكتب ومنهم من يضع الامتثال لنداء الكتابة فوق كل اعتبار…
آخر ما ورد في القصة – الحكاية كلمة «خنز» التي تعني «قذارة» و«تعفن»، وكان بإمكان الكاتب مواصلة الحكي، إلا أنه اختار التوقف عند هذه الكلمة – المعنى. لو واصل الحكي لكان ما نقرأه الآن مجرد وحدة من وحدات المعنى التي كان سيتشكل منها النص الأكبر. لا أحد أجبر الكاتب على التوقف، لكنه اختار أن يفعل ذلك. وهذا أحد ما يميز الكتابة الأدبية عن باقي الكتابات: للكاتب الحرية في أن يمنح المعنى دفعة واحدة، في نص واحد، أو يمنحه متشذرا في مجموعة من النصوص. يرى بول فاليري أن «ليس الأدب أداة لفكر كامل ولا لفكر منظم»(1). ثم قبل كل شيء، أليست الكتابة إعادة تشكيل للعالم؟ فالشاعر العظيم «يرى أن الماضي لا وجود له»(2) و«يكتشف العالم كما لو كان يُشاهد لحظة الخلق، كما لو كان معاصرا ليوم الخلق الأول»(3).
الكتابة فعل حرية؛ عندما يلج الكاتب عتبة الكتابة، بصرف النظر عن جنس ما يكتب، فإنه يكون قد ولج فضاء يتيح له إعادة تسمية الكائنات والأشياء (فيسمي البحر شجرة، وعين المرأة سماء، مثلا)، ونسج صلات بينها ليس على نحو ما اعتدناه في ما نسميه بالحياة العادية. على هذا النحو يستطيع تشظية الأحداث، وتعظيم التافه أو تتفيه العظيم، وتأبيد لحظة وتلحيظ – إن جاز التعبير – آلاف السنين دون أن يخشى الاتهام بالحمق لسبب بسيط هو أنه داخل هذا المطلق من الحرية إنما يخضع لمواضعتين: مواضعة تاريخ الأدب ومجتمع الأدباء ومجتمع التلقي المتشكل من مجموع قرائه المحتملين… قد يكون مفيدا دراسة الأعمال الأدبية باعتبارها استجابة لحاجات عميقة ليس من زاوية منتجي الأعمال الأدبية، بل وكذلك من زاوية متلقيها. لو كف الناس عن قراءة الأعمال الأدبية لما استمر شخص واحد ربما في تدوين ما نسميه أدبا. أي حاجيات تشبعها الكتابة في مجتمعات القراءة بحيث حرصت عليها آلاف السنين، لا سيما أن الأدب يقول كل شيء دون أن يقول أي شيء أو يقول الأشياء قاطبة ويفلت من التحدد باعتباره قولا منتهيا؟ يمكن تشبيه الأدب بظنين فعله موجود وملموس والكل يعرفه لكنه يبرع في إخفاء قرائن الإدانة، وبذلك يستحيل، أو استحالت إدانته، على الأقل، إلى اليوم. نعم، قتل أدباء بسبب كتاباتهم ومثل بشعراء، ونفي ولازال ينفى كتاب، ولكن الكلام هنا عن الظاهرة الأدبية ككل لا تحققاتها الجزئية. لا يوجد مجتمع واحد في كوكبنا يتضمن قانونه الجنائي فصلا أو فصولا بتجريم الكتابة الأدبية، مع أنه يكفي أن يتنكر أحد طرفي الحادث الأدبي (الكاتب والمتلقي) للمواضعة الضمنية القائمة بينهما، فيستحيل التواصل أو يزج بأحدهما في معزل للأمراض العقلية. يكفي عدم الاعتراف بالمجاز والاستعارة أو أخذهما مأخذ الحقيقة، وها نحن أمام بلبلة حقيقية، وفوضى الأسامي، ووظائف الأشياء(4)…
لا تضع هذه الأفكار أبدا نصب عينها التنقيص من الأدب، بل ما تريده هو العكس تماما؛ الإشاذة بهذه الممارسة النبيلة التي ربما كان معناها العميق التنبيه الدائم إلى احتمالات الوجود الأخرى، إلى لا حتمية ما نعيش. وهنا قد يكون الأدباء فلاسفة أخَـر، يتحدثون فلسفة أخرى…
يمكن طرح فرضية أن كل كاتب، في ما وراء تعدد نصوصه وكتاباته ومواضيعه وتشعب رؤاه وتناولاته، إنما يقول شيئا واحدا لا يمكن الكشف عنه إلا بدراسة أعماله الكاملة. من هنا، يمكن افتراض وجود صلة بين النص الحالي و«معطف وعشر سنتات» ونصوص أعماله الأخرى(5).
كل من قرأوا روايات وقصص الماركيز د ساد يعرفون الوجهة التي كان سيمضي بها ببطلتنا هذا الكاتب الملحد المتمرد المادح للرذيلة والمحارب للفضيلة(6). لو كان هو كاتب هذا النص لوضع على لسان صاحبة العطر كلاما يقع على الجهة الأخرى المعاكسة تماما للجهة التي تلفظت بها في النص الحالي. لجعلها تعتز بنجاحها في خديعة المجتمع بعطرها، ولوصفت المعجبين بها من أهل الحي بالغارقين في بؤس فضيلتهم ولوصفت لنا نفسها بالغارقة في سعادة رذيلتها؛ لقدمت لنا – أو لمحاورتها – بغاءها باعتباره فردوسا لا يدخله إلا الملاحدة ومناهضو الأخلاق ومنتهكو المعيار الاجتماعي من لصوص ومجرمين وما دخل في بابهم.
ما أن وردت كلمة «خنز» حتى توقف الحكي، وتم الإعلان عن نهاية القصة، وبذلك يُفهَمُ أن كل الكلام الذي أورده الكاتب منذ بداية النص إنما تدرج لوصول هذه المحطة؛ كان النص بمثابة سفر انطلق من محطة واجتاز مسافات، ثم انتهى في هذه المحطة الأخيرة التي بقدر ما تفصح عن مقصدية الكاتب من نصه تأذن للقارئ بالانصراف من قراءة النص – الحكاية إلى فعل ما شاء، تحرره. نعم، تحرره لأن النصوص الأدبية والكتابة عموما، في نهاية المطاف، إنما هي سعي للإمساك بالقارئ أو السامع، صرفه، ولو مؤقتا، من مشاغل العالم الواقعي إلى عالم آخر مواز له، متصل به ومنفصل عنه، متولد منه ومتحرر منه بدرجات متفاوتة. وسيكون مفيدا بدون شك إجراء الإنتاجات الأدبية من هذه الزاوية؛ زاوية الأدب باعتباره طاقة مولدة للإصغاء، وتصنيف الأدباء وكتاباتهم بمدى قدرتهم على الإمساك بأكبر عدد من المتلقين، والوقوف على الآليات الأدبية وغير الأدبية التي تسهم ليس في توليد هذه الاستجابة، بل وكذلك في تحديد حجمها. معروف أن من الأعمال الأدبية ما يشهد إقبالا واسعا في عصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات في حقبة معينة، ثم يعرف عزوفا وهجرانا في حقب متوالية، كما من الأعمال من يصمد رغم تعاقب السنين واختلاف ظروف التلقي وأوساطه، فينجح في توليد الإصغاء لدى كل متلقيه. ضمن هذه الفئة من الأعمال، تندرج أيضا الإنتاجات الأدبية التي تترجم إلى لغات عديدة…
توقف الحكي في النص الذي بين أيدينا يشكل حادثا غير متوقع لدى القارئ، وبالتالي يدخل القراءة والقارئ في تجربة لا تشترك فيها كل الأعمال الأدبية بالضرورة، ونعني بها إرغامه، بمعنى ما، على إعادة النظر في المعاني والتمثلات، بل والمعرفة بعالم القصة وشخوصها، لتحول التحرر المفترض أن يتولد بمجرد الانتهاء من القراءة إلى شبه أمر بإجراء قراءة أخرى، إلى أمر بمراجعة التلقي الأول لمحمول النص. لقد ظل القارئ طوال النص يحمل تصورا عن الناس والمرأة والعطر، لكن ما أن ينهي القراءة حتى يضطر لمراجعة تصوره، لنصير أمام ما يشبه نصين، أحدهما ظاهر والآخر خفي. الظاهر هو هذه الكلمات المسطورة التي تصير فيها الكتابة وسندها، ورقا كان أم رقما، دالا ذا مدلول واحد، والخفي هو ما يقوم به كل قارئ بعد الانتهاء من القراءة، والذي لن يكون متماثلا بالضرورة، إذ ما ننتقل إلى هذا المستوى حتى تتقلص دائرة تجانس ما يحدث في أذهان المتلقين، إذ قد لا يلتقوا إلا في نقطتين: ما يمكن تسميته بالكليات التي يمكن أن تشكل حقل تداخل بين الفلسفة والأدب، وربما كانت هنا هي مسألة الظاهر والباطن، العرض والجوهر، ثم خداع المظاهر، وبؤس الرذيلة. فيما عدا ذلك، سيختلف القراء حتما في الحكم على مجال تحرك البطلة وسلوكها، من ملتمس للأعذار للمرأة، مرورا بالمدين والشاجب إياها، إلى معجب بذكائها ونجاحها في التمويه على مجموعتها الاجتماعية، كما سيختلف النقاد في النظر إلى ما صنعه الكاتب بموضوعته معنى ومبنى.
بقيت الإشارة إلى أن الأفكار السابقة لا تزعم أبدا الإحاطة بعالم هذا النص، على قصره. إنما هي قراءة ضمن قراءات أخرى ممكنة، ربما كان أشدها خصوبة تلك التي تعيد تناول النص من زاوية اشتغال لفظة «عطر» فيه. معلوم أن العطر إذا كان من الأشياء السحيقة التي اشتركت – ولا زالت تشترك فيها – الثقافات البشرية كاملة، في ما وراء توزيعها الجغرافي، فهو أيضا شأن ديني، استعملته معظم الديانات، أو الكبرى المعروفة على الأقل، في شعائر الاتصال بالعالم العلوي من آلهة وملائكة. إضافة هذا المعطى إلى نظيره المتمثل في تركيز النص على العطر، بحيث شكل بؤرة للحكي، يتيح التأكيد، بكل اطمئنان إلى انعدام البراءة أو الصدفة في استعماله من لدن الكاتب. ألم يكن بإمكانه استبدال العطر بمفاتن المرأة الجسدية أو حليها؟

محمد أسليــم

(نص المساهمة في أشغال تكريم القاص عبد الحميد الغرباوي، منتديات ميدوزا، من 01 إلى 30 شتنبر 2007، ونشرها المؤلف ضمن مجموعته القصصية «عطر.. معطف.. ودم، الرباط، منشورات سعد الورزازي، 2005»)
———————–
هوامـش
(1)Paul Valéry, Ego scriptor, Paris, Gallimard, 1992, p. 160
(2)Mircea Eliade, Mythes, rêves et mystères, Paris, Gallimard, Idées, 1957, p. 36.
(3) نفسه، الصفحة ذاتها
(4) كم سرني، بعد تحرير الكلمة الحالية العثور على ما يشبه هذا الكلام، وإن في سياق آخر، إذ يقول صاحبه «وبانفلاش اسم الشعر كجنس أدبي وانتهائه الى هامش قصي بعد أن كان هو المتن والكتابة والكتاب، دخلت القصيدة أرضاً بابلية بامتياز، أرض النص الجديد، الأرض التي انهار فيها البرج وتبلبلت الألسنة». انظر: أحمد عبد الحسين، « سحر قصيدة النثر»:
http://www.aqwas.com/nathr.htm
(5) صدر للكاتب الأعمال التالية:
– عن تلك الليلة أحكي، عيون المقالات، البيضاء، 1988.
– برج المرايا, المركز الثقافي العربي، بيروت – البيضاء، 1992.
– عـري الكائـن، الاتحاد الأخوي، 1994.
– أيمن والأفعـى، البيضاء، 1996.
– نـون النسـوة، منشورات الرهان الآخر، 1999.
– ميناء المطر الأخير (رواية مشتركة مع إدريس الصغير)، دار الثقافة، البيضاء، 1995.
– سعد الخبية: رواية، دار الثقافة، البيضاء، 1998.
– تفاحة نيوتن
(6) لأخذ فكرة عما يكتب هذا الروائي، يمكن قراءة نص «موت السيدة فيركان»، انطلاقا من الوصلة:
http://www.aslimnet.net/traductions/articles/sade.htm

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 02-09-2012 07:00 مساء

الاخبار العاجلة