في صلة الشعر بالسحر في الإسلام: أساطيـر الأصول

1٬174 views مشاهدة
minou
أدب وعلوم اجتماعيةمقالات
في صلة الشعر بالسحر في الإسلام: أساطيـر الأصول

1كونية العلاقة بين الشعر والسحر:
يقول فرويد في معرض حديثه عن الكلمة: «لا نستهن بالكلمة! فهي أداة للسلطة (…) حقا في البدء كان الفعل، أما الكلمة، فلم تأت إلا فيما بعد. وقد حققت الحضارة تقدما كبيرا عندما تمكَّن الفعلُ من الاعتدال إلى أن صار كلمة. لكن هذه الأخيرة كانت في الأصل سحرا، كانت فعلا سحريا، وقد حافظت على الكثير من قوتها القديمة»(1).
وبالرجوع إلى الدلالة اللغوية لكلمة «شعر»، في المجال العربي القديم، نجدها تعني الفطنة والعلم(2)، لكنها تعني أيضا القافية(3)، وكان هذا المصطلح المشتق من الجذر (قفا) يُطلق على الكلمة أو البيت أو القصيدة، وعلى الضرب على القفا، ثم على تتبع الأثر. وإذا كانت الدلالة الثانية (ضرب القفـا) تعيدنـا من جديد إلى الصلة بين الشعر والعنف، فإن الدلالة الأخيرة (تتبع الأثر) تشير إلى قرابة بين الشعر والكهانة والعرافة: الكهانة والعرافة معا تدلان على المعرفة. والقيافة ضربُُ من التنبؤ بالغيب يتمكن صاحبه من التعرف على الشيء انطلاقا من مشاهدة أثـره(4).
كان الشعر يُنشَد، أي يلقى بصوت مرتفع، وكان يعتمد على الإيقاع ونظام البيت والتشابه بين أواخر الكلمات. وإذا صحَّت أطروحة انحدار الشعر العربي من سجع الكهان(5)، فإن اعتماده الوزن والبحر والقافية يثبت من جديد علاقته بالسحر.
لا ينفرد العرب بهذا الربط بين الشعر والموسيقى والسحر الذي لا يتجذر في التاريخ البشري فحسب، بل ويعرف انتشارا في سائر الثقافات. نحن هنا إزاء معتقد كوني في الأصل الخفي للموسيقى والشعر: فكلمة (charme) الفرنسية، مثلا، التي تعني سحرا تنحدر من الأصل اللاتيني (carmen) الذي يعني سجع، وكلمة (incantation) التي تعني تعزيمة أو دعوة سحرية، مشتقة من الجذر (cantare) الذي يعني أنشد أو غنَّى(6). في السياق نفسه يقول ديورانت: «الأدب في أول مراحله كلمات تقال أكثر منه حروفا تكتَب (…) وهو ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية، يتغنى بها الكهنة عادة، وتنقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة، والكلمة التي معناها الشعر عند الرومان، وهي (carmina) تدل على الشعر والسحر في آن واحد، والكلمة التي معناها نشيد عند اليونان، وهي (ode) معناها في الأصل طلسم سحري، وكذلك قل في الكلمتين الإنجليزيتين (tune) و(laye) والكلمة الألمانية(7) (lied) ». بل إن فرويد لا يتردَّد في اعتبار السحر خاصية ملازمة للغة نفسها، إذ يقول: «كل سحر الكلمات ينبع من هذا الاعتقاد بكلية قدرة الفكر، مثله مثل اليقين الراسخ بالقدرة المرتبطة بمعرفة اسم من الأسماء أو النطق به»(8).
يمكن القول بناء على ما تقدم إن الشعر السابق للإسلام كان بمثابة طقس سحري شَفَهي يستمد سلطته وخاصيته السحريتين من أداته باعتباره لغة، ولغته باعتباره موسيقى، وطريقة وسياق إلقائه باعتباره إنشادا. لقد حرَّم الإسلامُ الغناء، واتخذ إزاء السِّحر والشعر موقفا يتسم بالتعارض الوجداني الذي يحدد فرويد إوالية اشتغاله على النحو التالي:
«الحرامُ حظرٌ سحيق القدم مفروض من الخارج (من قبل سلطة ما) وموجَّه ضدّ أقوى رغبات الإنسان. والميل إلى انتهاكه يظل قائما في لاشعوره؛ فالأشخاص الذين ينصاعون للحرام يقفون موقفا متعارضا وجدانيا إزاء ما هو حرامٌ. والقوة السِّحرية المعزوة للحرام لا تتعدَّى كونها القدرة المتاحة له على إيقاع الإنسان في الإغراء، وهي تسلك مسلك العدوى، لأن المثال مُعدٍ على الدَّوام، ولأن الرغبة المحظورة تتنقل في اللاشعور إلى موضوع آخر. والتكفير عن انتهاك الحرام بعزوف مَّا يثبت أن الأساس في الحرام هو عزوف ما»(9).
2. «أقدم قصيدة في الدنيا» أو أسطورة أصل الشعر في الإسـلام:
يعود الفضل إلى الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو في إثارة الانتباه إلى ما أسماه القدماءُ «أقدم قصيدة في الدنيا». يتعلق الأمر بأبيات شعرية منسوبة لآدم، تواترت روايتها عند جملة من الباحثين القدماء(10) فقهاء ونقادا، اتخذها كيليطو مادة لإنجاز أربع دراسات (على التوالي: «أقدم قصيدة في الدنيا»؛ «شاعر أم نبي؟»؛ النبوة والنسيان»؛ «مصير قصيدة») سعى فيها إلى إثارة جملة من القضايا التي تطرحها القصيدة المزعومة. من ذلك، مثلا، قضية كون «الغرض الأصلي الذي تفرعت عنه الأغراض الأخرى، هو الرثاء»(11)، ومسائل صحة المرثية، واللغة التي نظمت بها (عربية أم سريانية؟)، ورواية هذه المرثية(12)، ليخلص من ذلك كله إلى أن «هذه الأبيات، أصيلة كانت أم منحولة، قد ارتبطت إلى الأبد بآدم، ارتباطه بالخطيئة الأصلية وبالطرد من الجنة»([13).
لا نروم تلخيص محتوى هذه الدراسات (وهل يمكن تلخيصها حقا؟)، لأنها موسومة بالخاصية نفسها التي تميز أغلب كتابات عبد الفتاح كيليطو السابقة، ونعني بها مقاربة موضوعات (بل وأحيانا حتى أحداث) تبدو للوهلة الأولى عديمة المعنى، لكن بتقدم التحليل يتم استخلاص دلالات بعيدا – بالأساس – عن استدعاء ما يحيط بالوقائع المدروسة من شروط فكرية وتاريخية واقتصادية. كأنها مقاربات تسعى إلى إعادتنا للحظة بدء ما؛ لحظة كان الإنسان في غمرة اللقاء الأول مع العالم، لا يملك شيئا عدا اللغة. إنها كتابات تحاول أن تنير موضوعا ما تجاه ما فعله الإنسان باللغة لمواجهة العالم. من هذه الزاوية لا نتردد في اعتبارها كتابة أنتروبولوجية.
بيد أننا نود الانطلاق من حيث انتهى كيليطو: إذا كانت هذه الأبيات قد «ارتبطت بآدم إلى الأبد ارتباطه بالخطيئة الأصلية وبالطرد من الجنة»، فأي سؤال كان من الإلحاح بحيث اقتضى الجواب عنه تأكيد – أو نفي – نسبة المرثية لآدم؟ تتيح قراءة المادة التي يسوقها كيليطو صياغة الفرضية التالية: كان جسد الثقافة العربية الإسلامية يتضمن، بصدد الشعر، بياضا في حاجة ماسة إلى ملء. هذا البياض عبارة عن غياب أجوبة عن سؤال كان طرحه – العلني أو الضمني – من الإلحاح بحيث وجدَ المعنيون بحقل الشعر قاطبة في وضعية بالغة التعقيد والإحراج؛ فبقدر ما كان الجوابُ في غاية الصعوبة – إن لم يكن متعذرا بالمرة – كانت الحاجة إليه ماسَّة بحيث لم يكن من الوارد عدمُ الإدْلاء بأيِّ اقتراح. هذا السؤال، يمكن صياغته على النحو التالي: إذا كان الشعر قرآنا للشيطان(14)، وكان للشعراء كل هذه الحظوة داخل القبيلة وخارجها، بما اقتضى مداراتهم وتقيتهم(15)، وكان الشعر يتمتع بوضع اعتباري ملتبس بما اقتضى ورود أحاديث نبوية متعارضة في صدده(16)، فمن أين جاء هذا الجنس الخطابي؟ من هو أول شاعر؟ ما هي أوَّل قصيدة؟
إذا استحضرنا التعريف الذي يرى في الأسطورة حكاية تروي كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، وتعلم اللغة الوصفات الطقوسية القادرة على التحكم في القوى التي تزيح عنها الأسطورة الأقنعة، ومن ثمَّ تشكل، بمحتواها، بنية دائمة ترتبط على هذا النحو بالماضي والحاضر والمستقبل(17)، أمكننا القول بدون أدنى تردد إن الأمر يتعلق في «مرثية آدم»، وما أثارته من مواقف، بـ «أسطورة في أصل الشعر»، أي بواحدة من هذه الحكايات التي تسمى «أساطير الأصول»(18)، التي توجد في سائر الثقافات، ويكتسي وجودها صبغة الضرورة لأنها تقدم تفسيرات لما يتعذر تفسيره بالأدلة العقلانية أو الحجج الملموسة، وبالتالي فقيمتها لا تتمثل في صحة ما ترويه أو خطئه بقدر ما تكمن في ما تؤديه من وظائف، وما يترتب عنها من سلوكات…
لقد أفضت الإشكالية المثارة حول معرفة – أو عدم معرفة – آدم اللغة العربية إلى تقديم جوابين متعارضين: أحدهما يقول بنسبة الأبيات إلى أبي البشرية نفسه كما هي، والآخر يقول بأنها كانت في الأصل عبارة عن خواطر «أنتجها» آدم باللغة السريانية، ثم جاء يعرب بن قحطان فترجمها إلى العربية، وبالتالي يكون هذا الجدّ هو أول من نظم الشعر.
3. 2. 1. آدم أوَّل من نظم الشعر (أو أسطورة الأصل القدسي للشعر)
نظن أن ما يمكن استنتاجه من الجزئية السابقة أمرٌ في غاية الأهمية: أن يكون آدم أول من نظم شعرا، وباللغة العربية، فذلك يُضفي على هذا الجنس الأدبي صبغة قدسية؛ فآدم يجمع بين الأبوة والنبوة. هو أبو البشرية ووسيط بين الله والبشر في آن، والنبي والأبُ كلاهما يشكل مثالا يحتذى. إذا كان التماهي مع الأب يشكل مرحلة حاسمة في تشكل شخصية الطفل، أي مخرجا ضروريا لعقدة أوديب، فـ «النبي للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث (…) وفي قول بعض الصَّحابة والسَّلف: وهو أبُُ لهم»(19). وعليه، فما يفعله الشعراء – من هذا المنظور – هو محاكاة الأب الأول، وبالتالي فالشعرُ ممارسة محللة، تدخل في التقليد لا البدعة. بتعبير آخر، إن هذه الرواية لأسطورة القصيدة الأولى تسير في خط توافقي مع الأحاديث النبوية الواردة عن الرسول من أنه كان يحب الشعر؛ فقد أثر عنه أنه كان يشجِّع شعراء الدعوة الإسلامية على هجو خصوم الدين واصفا هذا الهجاء بأنه «أسرع فيهم من نَضْحِ النِّبل»(20)، كما روي عن عائشة (رضي الله عنها): «كان الشعر أحب إلى رسول الله (ص) من كثير من الكلام»(21)…
من هذا المنظور، يغدو من الطبيعي، بل ومن الضروري، القولُ إن آدم قد نظم هذه القصيدة باللغة العربية، وذلك لأسباب أهمها أن الوزن مكونٌ جوهري في الشعر القديم، ثم لو كان آدم قال «القصيدة» على شكل خواطر لما كان له من الشعر إلا المعنى، الأمر الذي يرفضه النقد القديم المرتكز على قولة الجاحظ الشهيرة: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي…». ويأتي الرثاء موضوعا لهذه الأبيات ليعزز المقاصد النبيلة للشعر الأصلي أو القصيدة الأولى أو – على الأقل – النوايا الأولى للشاعر الأول. تلك المقاصد، فضلا عن كونها نبيلة أو قدسية، تعالج واحدة من القضايا التي أرقت الإنسان منذ القدم ولا زالت تقض مضجعه، ونعني بها مسألة الموت وما يترتب عنها من تفكير في معنى الحياة وغايتها. كما تنسجم هذه المقاصد ذاتها مع العقيدة. بناء على ذلك، سيكون شعر المجون واللهو والخمرة والغزل مُروقا عن الغاية الأولى التي «وُضع» النظم من أجلها، سيكون تمرُّدا على الأب وعدم تماهٍ معه. من هذا المنظور، يمكن فهم ذلك النوع من الأحاديث الواردة عن الرسول والتي تصف الشعر سلبا. وبكلمة واحدة إننا هنا إزاء ما يمكن تسميته بـ «أصل ربَّاني للشعر»(22).

4. 2. 2. يعرب بن قحطان أوَّلُ من نظم الشعر (أو أسطورة الأصل الدنيوي للشعر)
وبالمقابل، فتنزيه آدم من قول تلك الأبيات، ونسبتها إلى يعرب بن قحطان، هو تجريد للشعر من كل أصل قدسي، ووضع له في مستوى آخر من القداسة هو قداسة الأب الإثني لا غير. ذلك التنزيه سعي إلى موضعة الشعر في العالم وليس في لحظات الخلق الأولى التي عاش فيها آدم. إنه محاولة لجعل الشعر نشاطا دنيويا خالصا. ولا شك أن هذه الرواية ستنسجم مع الآية النبوية التي تنفي عن الرسول صفة الشاعر: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له، إن هو إلا ذكر وقرآن ومبين» (يس، 69)، كما ستتناغم مع ما الأحاديث النبوية التي تصف الشعر سلبا؛ ذكر ابن كثير في معرض تفسيره للآية نفسها أن الرسول «كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم، بل إن أنشده زحَّفه أو لم يتمه(23)، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنَّ الشعر كان أبغض الحديث إلى الرسول(24)، وذكر ابن عباس أن الشيطان لما طُردَ من الجنَّة وأنزل إلى الأرض سأل الله أن يخصَّه بمجموعة أشياء يُجَلِّي نشاطه فيها أو عبرَها، من بينها أن يجعل له قرآنا، فأعطاه الشعر: «لما نزَل [إبليس) إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني شيطانا رجيما فاجعل لي بيتا، قال: الحمَّام، قال: فاجعل لي مجلسا، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعاما، قال: ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنا، قال: المزامير، قال: فاجعـل لي قرآنا، قـال: الشعر، قال: فاجعل لي حديثا، قال: الكذب، قال: فاجعل لي مصايد، قال: النساء»(25).
أن يكون «يعرب بن قحطان أول من تكلم العربية وركب الخيل ونظم الشعر»(26)، وبالتالي ترجَم خواطر آدم من السريانية إلى العربية ناظما إياها في أبيات شعرية، معناه أنه يتوفر على صنعة أتاحت له نظم النثر أو القيام بوظيفة الكاتب على نحو ما يتصوره ابن الأثير عندما اعتبره من «ينطق على خاطرك بما لا تقدر أنت أن تنطق به»(27). لقد قام يَعرُب بعمل معاكس لذلك الذي يقتضيه الشعر أو النظم. فهذا الأخير يتطلب أن يُحَلَّ، أي يحتاج لهذه العملية التي خصص لها ابن الأثير كتابا بكامله(28). وأن يملك يعرب القدرة على ترجمة خواطر آدم ليس من لغة إلى أخرى فحسب، بل وكذلك من النثر إلى الشعر، معناه أنه كان يتوفر – كما هو الشأن مع أبطال الأزمنة الأسطورية – على معرفة كاملة بصنعة الشعر، دون أن يُعلمه إياها أيّ أحد؛ كان قادرا على نظم الشعر في كل الأغراض الشعرية التي سيرثها العرب عن الأولين. لم تكن «المصيبة» التي حلت بآدم واقتضت نظمها شعرا سوى مناسبة لإظهار تلك المقدرة. بهذا المعنى، فما يراد نقله عبر الرواية الثانية – للأسطورة نفسها – هو الرسالة التالية: «الشعر مُنحدرٌ من أصل «دنيوي».
والتفكير في أصل الشعر لدى العرب المسلمين القدماء يشبه إلى حد بعيد تفكيرهم في أصل السحر. ويندرج هذا التفسير المزدوج، لأصلي الشعر والسحر بردهما إلى مصدرين متنافرين، لدى الفقهاء المسلمين ضمن ظاهرة عامة تتمثل في التعارض الوجداني الناجم عن صعوبة تبرير بعض الأحكام.

5. أسطورة أصل السحر في الإسلام:
عندما دعا الرسول يهود مكة إلى الإيمان برسالته ردوا عليه بأنهم كانوا على دين النبي سليمان، ولكن عندما قال لهم بأن مهمته كانت بالضبط هي تأكيد رسالة سليمان وإتمامها، أجابوه بأن سليمان لم يكن نبيا وإنما كان ساحرا، إذ قال بعض أحبارهم: «ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داوود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا!»(29). آنذاك، جاءت كلمة الله لتحسم هذه المسألة، ولكن أيضا لتثير موضوعا لن يتوقف المفسرون عن النقاش حوله. تقول هذه الكلمة:
«واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان به من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاص ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون» (البقرة، 102).
يُشكل تأويل الوحي الإسلامي موضوع اختلافات تصل إلى حد التعارض الكلي أحيانا لسبب مزدوج: طبيعة اللغة العربية نفسها، ثم تنوع الاستراتيجيات الممكنة لقراءة القرآن. ومع ذلك، يمكن القول بكيفية عامة إن المفسرين، لكي يحصلوا على معنى الآيات، يقومون بمسعى مزدوج: يجزئون النص أولا إلى وحدات تركيبية يحللونها لغويا، وبعد ذلك يستخرجون موضوعات؛ ينتقلون من تحليل تركيب النص إلى استخلاص دلالته باستدعاء أو استثمار معطيات من خارج النص، تتمثل أساسا في «مخزون» من الأساطير أو المعلومات (روايات أو أخبار). بعبارة أخرى، يتم تسخير التحليل التركيبي لتحديد وجهات للمعنى تختلف فيما بينها ما لم تتناقض. وإذا كان هذا المشكل يبدو غريبا في القرآن المترجم إلى لغة أخرى، فذلك لأن أي ترجمة لهذا النصّ لا يمكن أن توجدا ما لم تنخرط مسبقا في اتجاه محدَّد من المعاني التي يمنحها النص، وإلا كانت الترجمة مستحيلة.
نود الاحتفاظ من التقسيم المقام على نصنا بعنصرين اثنين: الوضعان الاعتباريان النحويان والصواتيان لعنصرين من مكوناته؛ هما الحرف «ما» وكلمة «ملكين».
قام خلافٌ بين مفسري القرآن الكريم حول «ما» في جملة «وما أنزل على الملكين» أفضى إلى قيام مواقف عديدة، يمكن تصنيفها إلى قسمين:
رأت جماعة أولى من الفقهاء أن حرف «ما» يفيد معنى «الذي»، وبالتالي، فالمقصودُ بقوله: «واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت» هو: «اتبع اليهود، في آن واحد، ما افتراه اليهود على ملك سليمان والعلم الذي أنزل على الملكين». وفي هذه الحالة سيكون السحر علما أنزله الله على الملكين، ومن ثمَّ يصير مصدره قدسيا، إلهيا، ربانيا.
ولكن جماعة ثانية من الفقهاء رأت أن الحرف «ما» نفسَه يفيد معنى «لمْ» النافية، وبالتالي سيكون فحوى الجملة هو: «اتبعوا ما افترته الشياطين على ملك سليمان. يعلمون الناس السحر: ولم ينزل هذا العلم على الملكين»(30).
قام خلافٌ مماثلٌ حول مفردة «ملكين» في النص الذي يعنينا، إذ تمَّ التساؤل: أينبغي قراءة حرف «ل» في هذه الكلمة مفتوحا أم مكسورا؟، فانبثق عن ذلك موقفان. تبنى البعضُ (الجمهور) الموقف الأول، فقرأ الكلمة «مَلَكَين»، ليكون معناها بذلك هو «اثنين من الملائكة»، أي كائنين قدسيين، وتبنى البعض الآخر (ابن عباس وسعيد بن جبير) الموقف الثاني، فقرأ الكلمة نفسها «مَلِكَين»، ليكون معناها بذلك هو «سلطانين، أميرين»، وبالتالي رجلين أو بَشَرَين(31).
التأويلات الممنوحة للمكونين «ما» و«ملكين» لا تنتمي إلى نظام الاعتباط؛ كل تفسير يقود إلى تبني موقف دقيق تجاه مجموعة من الأساطير والأخبار القابلة لتشكيل دعامات لفهم للنص فهما معينا. القول بأن «ما» اسم موصول وقراءة «ملكين» مَلَكَين هو تأكيدٌ لقصة سقوط اثنين من الملائكة، اسمهما هاروت وماروت، وزعمٌ بأن السحر ينحدر من أصل رباني. وعلى العكس، القول بأن «ما» حرف، وبوجوب قراءة «ملكين» «ملِكين»، هو تكذيبٌ للرواية السابقة، وبالتالي تبن لأطروحة انحدار السحر من أصل شيطاني. وبذلك نجد أنفسنا إزاء أفقين للقراءة متعارضين، يقترحان نفسيهما لتفسير النص ذاته لفسح المجال، كما رأينا مع الشعر، لعبور مجموعة من الأساطير في أصل السحر يمكن تصنيفها في نهاية المطاف إلى قسمين: فئة ترد السحر إلى أصل رباني قدسي وأخرى تعزوه إلى مصدر شيطاني دنيوي.
من هذه الأساطير نختار اثنتين تحكيان كيف جاء السحر إلى العالم: حكاية هاروت وماروت، وقصة الشيطان والنبي سليمان.
5. 1. قصة هاروت وماروت (أو الأصل الرباني للسحر)
يسوق الطبري ثمان روايات لهذه الأسطورة، فيما يسوق لها ابن كثير عشرا، يتضمن السند فيها سلطات دينية كابن مسعود، وابن عباس ومجاهد، وفيما يلي إحدى هذه الروايات:
«حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي ربّ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفرَ وقتلَ النفس الحرام وأكل الحرام والسرقة والزنا وشربَ الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت، فاهبطا إلى الأرض، وجُعل بهما شهوات بني آدم، وأمِرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونُهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمنا يحكمان بين الناس بالحق – وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حُسنها في سائر الناس كحسن الزّهرة في سائر الكواكب، وأنها أتت عليهما، فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا، إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنها أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر. فقالا: كل ما ينبغي، وأهونُ الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وَقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك، فخشيا أن يُشفي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك. وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أنَّ من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض – وأنهما لما وقعا فيه من الخطيئة قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجُعلا في بابل، فهما يُعذبان»(32).
إذا استحضرنا تعريف الأسطورة المذكور أعلاه، أمكننا القول إن حكايتنا لا تروي كيف جاء السحر إلى العالم فحسب، بل وتعرض أيضا صورة لما يجب أن يكون عليه هذا السحر. بهذا المعنى، فإنها لا تقص واقعا فقط، بل وتؤسسه أيضا، ترسم معالم لكيف يجب أن يكون. وكما لا حظ ذلك جيدا إدريس شاه، فإن «أسطورة هاروت وماروت توجد في أساس مجموع السحر العربي»(33).
السحر في الحكاية السابقة قرين لإبليس، إن جاز التعبير، بمعنى أنه لا يكف عن فتنة الناس وتعريضهم للغواية. تجد هذه الفتنة أصلها عند الملكين في امرأة حثتهما على انتهاك النظام الرمزي الذي أقامه الإسلام، وذلك بأشكال ثلاثة: الزنا، شرب الخمرة، ثم الشرك بالله. في الواقع، يطابق كل فعل من هذه الأفعال الثلاثة عددٌ من الآيات التي تحظره.
بما أن الملكين نفسيهما وقعا ضحيتين لإغراء خرق النظام الرمزي للشريعة، فإنهما لا يكفان – ولن يكفا مثل إبليس – عن تعريض الناس للفتنة متمثلة في تعليم السحر. وإذن فالساحر، مثل الشاعر، هو شخص يعقد صلاتٍ مع كائنات خفية، غير مرئية، مجسدة هنا في اثنين من الملائكة، هو شخص يجرؤ على انتهاك القواعد الأخلاقية والاجتماعية للإسلام. وسيستخلص بعض الفقهاء تعريفا مماثلا من الحديث النبوي، إذ يقول «وأما السحر الوارد في الحديث فإن المراد به الأقوال، والأفعال التي تنافي أصول الدين، وتتعارض مع الأخلاق الشرعية»(34). بالإضافة إلى ذلك، أن يصير المرء ساحرا بعقد علاقات مع قوى غير مرئية، فذلك طريقة في منافسة الرسول مناظرة للنظيرتها لدى الشاعر والتي أدت بمحيط النبي إلى الارتباك في إيجاد تسمية له بين وصفه «ساحرا» ونعته «شاعرا»؛ أليست سلطة النبي، والغاية من وجوده، ورسالته، هي بالضبط ضمانُ وساطة بين المرئي واللامرئي، بين عالم البشر وعالم الله، بين عالم الإنسان وعالمي الملائكة والجن باعتبارهما فضائين محجوبين عن البشر؟
5. 2. سليمان، الشياطين والسحـر (أو في الأصل الشيطاني للسحر)
يورد الطبري سبع روايات لهذه الحكاية التي تروي كيف أن إبليس استولى على عرش النبي سليمان، لمدة من الوقت، خلالها تمكنت الجن من تدوين وصفات السحر ونقلها لبني الإنسان:
«حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داوود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داوود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبتَ، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل ثناؤه: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} – يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر – {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا}، فأنزل الله عز وجلَّ عذرَه»(35).
تتقاطع هذه الأسطورة مع سابقتها كما تغنيها بتفاصيل هامة. هكذا، فالسحر والساحـر يكونان دائما في تعارض مع النظام الرمزي الإسلامي. لم يزيف الجن رسالة الله بواسطة السحر فحسب، بل وكذلك أحدثوا خلطا بين الدين والسحر، ألحقوا تشويشا برسالة الله، من خلال إدماجها في السحر والزعم بأنه وحي سليمان. زعمٌ لن يكف عن تهديد النبي محمد إبان نشر دعوته. ألا يعيد القرآن، في مناسبات عديدة، قولة للمشركين يتهمون فيها الرسولَ بأنه شاعر أو مسحور أو مجنون؟ وإذن فالمسألة مطروحة في ذلك المستوى الذي لم يكف الأنثربولوجيون عن مناقشته، ألا وهو مسألة العلاقة بين السحر والدين.
تحدد الأسطورة الحالية أصلا ثانيا للسحر، وهو الشياطين، وبذلك سيحتل السحر الشيطاني مكانة هامة في مصنفات السحر العربي الإسلامي. من جهة أخرى، وتطابقا مع المقطع القرآني الذي يرى أن السِّحر يُنُقل بطريقة التعليم، فإن السحرة العرب سيسوقون في مصنفاتهم وصفات للسحر الشيطاني ليتعلمها بنو الإنسان.
خلاصـة:
تجد أساطير أصول الشعر والشعر في الإسلام تفسيرها في التعارض الوجداني باعتباره أحد المكونات العميقة للنفس البشري والتصرفات اللميزة للإنسان حيثما يجد نفسه في موقف يتعذر فيه قبول شيء ما، لكن يصعب أيضا التخلي عنه. وحيث يعسر، في مثل هذه السياقات، تقديم تعليلات منطقية للأحكام إزاء الشيء «المباح» و«الحظور» في آن، تأتي الأساطير لإنقاذ الموقف العسير الذي يجد العقل نفسه فيه وتبرير ازدواجية الرؤية. بتعبير آخر، إذا كان الإسلام قد اقترح نفسه بديلا للنزام الرمزي والثقافي السائد إبان ظهوره، فإن أي تغيير جذري لم يكن بالوسع إنجازه دفعة واحدة، ومن ثمة هذه المواقف المتعارضة وجدانيا إزاء الشعر والسحر لدى السعي لاستدراجهما إلى ما يمكن تسميته بـ «منظومة الحرام» في الإسلام المتألفة من عناصر ثقافية أخرى سحيقة، كالرقص والغناء والتصوير واللعب والخمر…
وبما أن الأساطير تعد من المكونات الثقافية الأكثر تجذرا ورسوخا في سائر الثقافات، فالحكايات التي تناولتها هذه الورقة ما انفكت تتجلى في واقع الشعر والسحر العربيين على السواء حتى أيامنا هذه؛ فالسحر محظور، ولكنه يُزاول علنا في عدد من المجتمعات العربية من موقع أصله الرباني المزعوم، والشعر مباحٌ، ولكن سيف التكفير يُسلط بين الفينة والأخرى على شعراء، استنادا إلى أسطورة أصله الدنيوي، أقربهم إلينا نزار قباني (سوريا) وموسى حوامدة (الأردن) وعبد العزيز المقالح وعلي المقري (اليمن) وأحمد الشهاوي (مصر)، وربما أحمد عبد المعطي حجازي أيضا…

محمد أسليـم

(مجلة شعريات، السنة 1، ع 2، خريف 2007، صص. 58-68)
——
هوامــش

(1)عـن:
– Jean – Jaques Winenburg, Sigmund Freud, Paris, Balland, 1985, p. 282-283.
(2) ابن منظـور، لســان العـرب، دار صادر، (د.ت.)، ج. 4، (مادة: شعـر).
(3) نفسـه، المادة نفسهــا.
(4) زكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1973، ص. 344-345.
[5) Edmond Doutté, Magie et religion dans l’Afrique du nord, Alger 1908, Paris, Maisonneuve – Geuthner, 1984, p. 105.
(6) Ibid., pp. 105-107.
(7) ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، تونس-بيروت، دار الجيل، 1988، ج. 1، ص. 132.
S. Freud, l’Homme Moïse et la religion monothéiste, Paris, Gallimard, (8) Connaissance de l’inconscient, 1986, p. 212.
أو (ترجمته) س. فرويد، موسـى والتوحيـد، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط.IV / 1986، ص. 157، ومنه نقلنا نص الإحالة. وسيرد مالينوفسكي على هذه الفكرة قائلا: «يعرف فرويد هذه الوظيفة للسحر باعتبارها إيمانا بـ “كلية قدرة الفكر” (Allmacht der Gedanken) (…) بيد أنني أقول إن تصحيحا يفرض نفسَه، وهو تصحيح تأخذه نظريتي بعين الاعتبار»، المرجع الآتي ذكره، ص. 339. ويتمثل وجه التصحيح – باختصار شديد – في قوله: «يظهر السحر المنظم دائما في مجالات الأنشطة التي يعرف فيها الإنسان تجربة عجزه البراغماتي». (ص. 339)، بيد أن هذه البراغماتية ستفضي بمالينوفسكي إلى منزلق اعتبار جميع الملفوظات اللغوية وصفات سحرية تؤدي دائما التأثير في الواقع، إذ يقول: «إن استعمال البشر أنفسهم للغة يقودهم إلى الإيمان بأن لمعرفة اسم ما، والاستعمال الصحيح لفعل ما، والاستخدام المنتظم لحرف ما، لذلك كله قدرة روحية تتعالى عن مجرد قيمته التبادلية. والطفل يمارس تأثيرا في محيطه تأثيرا شبه سحري، إذ يكفي أن ينطق بكلمة واحدة فيلبي الكبار حاجته » (ص، 334).
– Bronislaw Malinowski, Les jardins de corail, trad., Pierre Clinquart, Paris, François Maspéro, Textes à l’appui, 1974.
وهو ما يلاحظه تودورف، إذ يقول: «لقد كتب مالينوفسكي في معرض بحثه عن تعريف للكلمة السحرية يغطي جميع الحالات التي لاحظها في جزر الطروبرياند “كل طقس هو “إنتاج” قوة أو “توليدها” (…) غير أنه من الواضح جدا أن تعريفا واسعا بهذا الشكل يغطي ظواهر تنتمي إلى حياتنا اليومية ولا تصنف عادة باعتبارها ظواهر سحرية (…) فالطفل سباق إلى استعمال اللغة السحرية بدون انقطاع. “ينادي الطفل الأم أو المرضعة أو الأب، فيظهر الشخص. وعندما يطلب الطعام، فإن الأمر يتم كما لو كان يتلفظ بعزيمة سحرية” (…) لكن إذا كانت الكلمة السحرية هي كل كلمة تؤدي إلى فعل (أو يتبعها أثر) فلن تبق آنذاك كلمة واحدة ليست سحرية».
– Tzevetan Todorov, Les genres du discours, Paris, Editions Seuil, Poétique, 1978, p. 247-248.
Sigmund Freud, Totem et tabou, Paris, Payot, P.B.P., 1972, p. 46-47. (9)
أو:
س. فرويد، الطوطم والحرام، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط. I / 1983، ص. 51، ومنه أخذنا نص الإحالة.
(10) انظر الملحق الذي أثبت فيه المؤلف كافة روايات المرثية في المصادر التي وقف عليهـا، عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، منشورات توبقال، صص. 55-57.
(11) نفســه، ص. 31.
(12) نفسـه، ص. 37.
(13) نفســه، ص. 54.
(14) «لما نزَل [إبليس) إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني شيطانا رجيما فاجعل لي بيتا، قال: الحمَّام، قال: فاجعل لي مجلسا، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعاما، قال: ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنا، قال: المزامير، قال: فاجعـل لي قرآنا، قـال: الشعر، قال: فاجعل لي حديثا، قال: الكذب، قال: فاجعل لي مصايد، قال: النساء». الثعلبـي، قصص الأنبيـاء المسمَّى بالعرائـس، بيروت، دار الرشاد الحديثة، د. ت.، ص. 25، والإمام أبو حامد الغزالي، مكاشفة القلوب إلى حضرة علام الغيوب، تحقيق محمد رشيد القباني، بيروت، دار إحياء العلوم، 1987، ص. 62-63، وزكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1973، ص. 388… وهو ما لم يغب عن كيليطو، إذ ينقل عن المعري أن الشعر «قرآن إبليس»، لسان آدم، م. س.، ص. 38.
(15) أفرد ابن عبد ربه مبحثا لهذا الموضوع بالعنوان نفسه. انظر: العقد الفريد، تحقيق: د. عبد المجيد الترحيني، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. III / 1987، ج. 6، صص. 153-156. كما أشار ابن قيم الجوزية إلى إحجام بعض السَّاسة عن معاقبة شعراء تغزلوا بقريبات لهم: «ألا ترى أن الحجاج بن يوسف في عتوه لم يتعرض لابن نمير في تشبيبه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سببا للخوض في ذكرها، فيزيد زائد، ويكثر مكثر وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يتعرض لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وكان يتشبب بابنته»، انظر: ابن قيم الجوزية، أخبار النساء، تحقيق وشرح: د. نزار رضا، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1988، ص. 89.
(16) يسوق كيليطو حديثا نبويا يؤكد أن «من قال إن آدم قال الشعر فقد كذب»، ثم يردفه بمجموعة من الآيات القرآنية التي نفت أن يكون النبي (محمد) شاعرا. لسان آدم، م. س ، 37-38.
(17) راجع:
– Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Paris, Plon, 1958, t. 1, p. 231, Mircéa Eliade, Le sacré et le profane, Paris, Gallimard, 1967, p. 67, 82, Jean Brun, L’homme et le langage, op. cit., p. 86.
(18) في هذا الصَّدد جمع جيمس جورج فريزر أساطير العديد من الشعوب حول أصل النار، ونشرها في كتاب بالعنوان نفسه:
– James G. Frazer, Mythes sur l’origine du feu, Paris, Payot, P.B.P., 1969.
(19) ابن كثيـر، قصص الأنبياء، بيروت، دار الفكر، ط. I / 1992، ص. 232.
(20) أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، القاهرة، دار الفكر، 1972، م. س.، ج. 3، ص. 1441.
(21) محمد القرطبـي، الجامع لأحكـام القـرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، 1988، ج. 15، ص. 36.
(22) يمكن الوصول إلى هذا الاستنتاج من طريق آخر: فالشعر يعني في الأصل المعرفة والفطنة، وهناك من يقول: كان للعرب إله اسمه “أيا” مختص بالعلم والذكاء والفطنة (هل يمكن القول إنه كان مختصا بالشعر؟)، ثم يمضي إلى حد اعتباره خالق آدم وحواء: «إذن كما تذكر النصوص البابلية كان “أيا” خالق الزوجين الشابين آدم وحواء كما ورد في النصوص التكوينية البابلية العربية التي تؤكد على إعلاء شأنهما فوق كل المخلوقات، كما تذكر أيضا النصوص الكنعانية البحرينية القديمة». انظر: عدنان العطار، تقاليد الزواج الدمشقي البدوي والريفي والحضري، دمشق، دار سعد الدين، (د.ت.)، ص. 9.
(23) ابن كثير، تفسـيـر القـرآن العظيـم، بـيـروت، دار المعرفة، ج. 3، ص. 578.
(24) نفســـه، ص. 579.
(25) أحمد الثعلبـي، قصص الأنبيـاء المسمَّى بالعرائـس، بيروت، دار الرشاد الحديثة، د. ت.، ص. 25، والإمام أبو حامد الغزالي، مكاشفة القلوب إلى حضرة علام الغيوب، تحقيق محمد رشيد القباني، بيروت، دار إحياء العلوم، 1987، ص. 62-63، وزكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، م. س.، ص. 388…
(26) عبد الفتاح كيليطو، لسـان آدم، م. س.، ص. 41.
(27) ابن الأثيـر، الوشي المرقوم في حـل المنظـوم، تحقيق الشيخ عبد اللـه الشعـار، بيروت، دار الفكر اللبناني، ط. I / 1992، ص. 15.
(28) هو الوشي المرقوم في حـل المنظـوم، م. س.
(29) ابن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. I / 1992، مج. 1، ص. 496.
(30) ابن جرير الطبري، جامع البيان…، م. س.، مج. 1، ص. 499-500، وأبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، م. س.، ج. 1، ص. 28، وفخر الدين الرازي، قصة السحر والسحرة في القرآن الكريم، حققه وقدمه وعلق عليه: محمد إبراهيم الجمل، القاهرة، مكتبة القرآن، 1985، ص. 174-175، وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار المعرفة، 1981، ج. 1، ص. 136-137، ود. أحمد حجازي السقا، علم السحر بين المسلمين وأهل الكتاب، م. س.، ص. 29.
(31) أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، م. س.، ص. 29، وفخر الدين الرازي، قصة السحر والسحرة…، م. س.، ص. 177-178، وابن كثير، م. س.، ص. 136-137، وابن جرير الطبري، جامع البيان…، م. س.، ج. 1، ص. 500.
(32) الطبري، جامع البيان…، م. س.، ج. 1، ص. 503. انظر كذلك: أبو بكر ابن العربي، أحكام القرآن، م. س.، ج. 1، ص. 29، فخر الدين الرازي، قصة السحر والسحرة…، م. س.، ص. 179-180، أبو محمد عبد الله اليمني اليافعي الشافعي، الذر النظيم في خواص القرآن العظيم، الدار البيضاء، مكتبة الوحدة العربية، (د.ت.)، ص. 41-42، ابن كثير، تفسير القرآن…، م. س.، ج. 1، ص. 136-137، زكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، م. س.، ص. 95-96، ود. أحمد حجازي السقا، علم السحر بين المسلمين وأهل الكتاب، م. س.، ص. 16-17، وزهير حموي، الإنسان بين السحر والعين والجان، الكويت-بيروت، دار حواء-دار ابن حزم، ط. 3، 1994، ص. 100.
(33) Idriss Shah, La magie orientale, Paris, Payot, (s.d.), p. 96.
(34) عبد الرحمان الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1986، ج. 5، ص. 460.
(35) الطبري، جامع البيان…، م. س.، مج. 1، ص. 494، وابن كثير، تفسير القرآن…، م. س.، ج. 1، ص. 134، انظر أيضا: ابن العربي، أحكام القرآن، م. س.، ج. 1، ص. 26، والرازي، قصة السحر والسحرة…، م. س.، ص. 167.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 02-09-2012 07:14 مساء

الاخبار العاجلة