الكتابة والمـوت نحو إيتيكا جديدة للحياة والمـوت

1٬335 views مشاهدة
minou
أدب وعلوم اجتماعيةمقالات
الكتابة والمـوت نحو إيتيكا جديدة للحياة والمـوت

1 فـي الكتابــة والملكيـــة[1]
يتردَّد كثيرا قولُُ مفاده أنَّ العمل الأدبي حالما يخرج إلى حقل التداول يستقل عن كاتبه ولا يعود ملكا له. رأيُُ لا شكَّ في وجاهته، غير أننا نودُّ المضيَّ به أبعد للتساؤل: هل كان هذا الأثرُ في يوم من الأيام بالفعل مِلكا لمُوَقعِه؟ سؤالُُ لا نملك الإجابة عنه إلا بالنفي؛ ففي ما وراء الأسماء الموقِّعَة للأعمال مُعتليَة أغلفة الكتب، لا يملك المبدعون شيـئا؛ كل ما يقومون به هو أنهم ينقلون لقرائهم رَسَائل مُودَعة في اللغة. إنهم ينكتبون لا غير.
وبقدر ما يَدفع هذا الطَّرح إلى التفكير في كونه طرحا مثاليا، يندرج ضمن نظرية للإبداع باعتباره وحيا، في مقابل النظرية الأخرى التي ترى الابتكار ثمرة حسابات واعية[2]، نودُّ التساؤل عمَّاذا يتمُّ عندما تتواطؤ جماعة القراء والكتاب فتنسب ما للغة إلى أشخاصٍ بعينهم. كيف يسوِّغُ هذا النَّحلُ نفسَه؟ لا ندَّعي امتلاك إجابة عن هذا السؤال، وبالمقابل نودُّ الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح يتأصَّلُ في تأكيدٍ لهايدغر مفاده أن «الكلامَ مُتَكلَّم»[3]. تأكيدُُ توصَّل إليه الشعراء عفويا، فقال رامبو: «الأنا آخر»[4]، ثمَّ تبناه محللون نفسانيون، مثل جاك لاكان عندما يؤكدُ أن «الهو» يفكر في مكان لا يمكننا أن نقول فيه «أنا كائن»، ثم يقلبُ الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود»، بحيث يصير «أوجد حيث لا أفكر وأفكر حيث لا أوجَد».
ونوَدُّ دفع هذا المنظور إلى تخومه القصوى بحيث نُظهـرُ أنَّ الملكية لا تتعدى مجرَّد وهْمٍ خالصٍ؛ فنحن معشر «بني الإنسان» لا نملك شيئا في حياتنا ولا في مماتنا. نحن غرباء عن هذا العالم، ونعيش فيه فقرا مدقعا: لا نملك أجسادنا ولا أفكارنا ولا أمكنة تحركنا ولا «ما هيتنا» إن كانت لنا ماهية أصلا:
لا نملك أجسادنا لأنني وإن كنتُ جالسا في هذا المكان، فوقَ هذا الكرسي، أمامَكم، وراءَ هذه الطاولة، وسَطَ هذين الصَّديقين، فإنني لا أدركُ من «واقعي المادي»، باعتباري كتلة جسمية، إلا شيئا يسيرا جدا. وبالتالي تبقى حقيقتي المادية متشظية داخل مختلف صُوَري التي توافيكم بها أعينكم، والرَّهينة بدورها بالمجالات البصرية المعروضة أمامكم. والأمرُ نفسُه ينطبق على كل واحد ممن يوجد داخل هذه القاعة؛ إنه شظايا تتعدَّد بتعدد الأوضاع والأماكن التي يُشَاهده منها راؤوه. ولعل هذا ما يودُّ دولوز التعبير عنه عندما يؤكد أننا: «لا نملك جيدا إلا ما هو ممتلَكُُ مُسْبقا (…) لا نملك جيدا إلا ما هو منزوع الملكيـة، ما هو موضوعُُ خارج ذاته، مُضاعَفُُ، منعكسُُ للأبصار، متعدِّدُُ»[5].
لسنا نملكُ أنفسنا لأن «ماهية» كل واحدٍ منَّا و«حقيقتَه» تظل خارج مجموع ما يكوِّنه المرءُ عن نفسه من آراء وتصوُّرات من جهة، وما يحمله عنه الآخرون من تمثلات وأفكار وأحاسيس وانطباعات من جهة ثانية. وهو مجموعُُ يستحيل على امرئ أن يدَّعي امتلاكه؛ فأنا شخصُُ «عاقلُُ» في نظر البعض، «مجنونُُ» في نظر البعض الآخر، «ساذَجُُ» في رأي قومٍ، «طيبُُ» في رأي آخرين، «شريرُُ» في نظر أناس، «ماكر» في نظر آخرين… ومهما أظهر من سلوكات لجعل الآخرين يحملون عنِّي صورة واحدة، سأعجز على الدَّوَام عن الوصول إلى ذلك. أيضا، مهما أحاول الإحاطة بالصُّورَة التي يحملها عني الآخرون سأعجز دائما عن الوصول إليها. وتبقى «حقيقتي» هي هذه الصُّورة المنكسرة – التي يستحيل عليَّ جمعها – المتناثرة في ذهني وأذهان الآخرين الذين لا يتألفون ممن «أعرفهم»، من الذين تواترت لقاءاتي بهم فحسب، بل وكذلك ممن التقيتُ بهم صدفة وتحدثت معهم ثم غابوا عني وغبتُ عنهم إلى الأبد، ومن الذين أعطَى لهم في كل لحظة باعتباري جسما مرئيا يتحرَّك في الطرقات، أو يستقلّ الحافلات، الخ. قد يَكونُ هذا ما خبره كلوسوفسكي عندما انعطفَ بمجموع عمله نحو «هدفٍ وحيدٍ، هو ضمان فقدان الهوية الشخصية، أي تفكيك الأنا»[6]، هذا التفكيك الذي يأخذ بُعدا مِرءاويا بحيث لا تغدو «الأنا المرئية هي التي تفقد هويتها تحت النظر فحسب، بل وكذلك أنا الرائي، الذي يضع نفسه خارج ذاته، الذي يتعدَّد داخل رؤيته»[7].
نحن لا نملك العالم، لأننا فضلا عن كوننا لا نعرف ما إذا كان هذا المحيط قد خلق لنا أم أننا خُلقنا له، أم أنَّ كلانا لم يوجَد للآخر، وبالتالي فنحن مجرَّد غريبين يجمعهما سَفرُُ لا يدري كلاهما وجهتَه ولا منتهاه، فضلا عن ذلك نحن لا نرى الشيء الواحد مرتين بطريقة واحدة. لقد كان هيرقليطس يقول: «لا نسبح في النهر مرتين» إشارة إلى التحوّل المزمن الذي يطبع الكون. غير أنه يمكن المضيّ أبعد لتأكيد أننا لا نرى الشيءَ الواحد مرتين ليس لأنَّ هذا الشيء يتغير دائما فحسب، بل وكذلك لأننا لا نملك هوية قارَّة، لأننا بدورنا نتغير في كل لمحة بصـر.
تأسيسا على ما هو مذكور أعلاه، من كوننا لا نملك «أجسادنا» ولا «أنفسنا»، يمكن القول إن أشياء العالم الطبيعي ليست ملكا لنا لأنها، فضلا عن تشظيها الدائم في مجالاتنا البصرية، تتلوَّن، أو نلوِّنها بالأحرى، دائما بأحوالنا النفسية ومَدَارَات أفكارنا المتقلبة باستمرار. وعليه، فإنني لا أرى الشيء الواحد بنظرتين متطابقتين، وإن كان الفاصل بينهما رمشة عين، ولن أمرّ من المكان الواحد مرتين؛ في كل مرة يكون المكان قد تغيَّر وأكون «أنا» المار منه لستُ «أنا» الذي مرَّ منه قبل لحظات. وواضحُُ أنَّ الوصول إلى هذا الإدراك يقتضي بذل مجهود جبار لإرهاف هذا الحسّ الذي يوجد داخل كل امرئ، لكنه قليلا ما يشغله.
والأمر نفسه يمكن قوله عن الزَّمن والتاريخ؛ فاللحظة أو اليوم، أو السنة الحالية، نحن لا نملك منها إلا ما نسقطه عليها من هويتنا «الوهمية»؛ إذا كان اليوم هو 19 شتنبر 1996، فماهية هذا النهار ودلالته تتشظى بتشظي أحوال بني البشر: لنشبهه بنقطة في درب أو بشمس في سماء. اليوم في «نظر» المولود الذي يخرج الآن من رَحِم أمه هو نقطة بداية الدَّرب، هو مطلع الشَّمس. المشوار طويلُُ. لكن اليوم نفسه بالنسبة لكهل في فراش الموت يحتضر هو نهاية الطريق، هو الشمس وقد مَالتْ إلى الغروب، ولم يبق منها سوى شبه هلال محمرّ. اليوم نفسه، أيضا، بالنسبة لشخص سليم البنية، في منتصف العشرينيات أو الثلاثينيات من عمره، ممتلئ حيوية وطموحا، هو منتصف الدَّرب أو أقلّ، هو الشمس وقد استقرت في كبد السَّمـاء.
بالنظر إلى ما سبق، يغدو من العبث الحديث عمَّا يُفتَرَضُ «أني» كتبـ (تـُ)ـه. ومع ذلك سأجهد النفس في منح «معنى» مَّا لوجودي هنا، فأغمضُ العينَ عن سؤال التواطؤ المطروح أعلاه، وأحاول العبث بالعبث لأقول ما يلي:

2. في أصـل اهتمـام بالمـــوت
إمعانا في المغالطة، يمكن افتراض أن الأعمال الإبداعية تتأصَّلُ في أرضية، تتجذَّرُ في تربةٍ مَّا. هذه التربة، في ما يخصُّني، تنشطر إلى إقليمين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن. الأوَّل «واعٍ» يمكن الحديث عنه، أما الثاني فـ «لا شعوري» سأتحاشى ذِكره لا لغياب مفاتيح ولوجه، ولكن فقط لكوني ما للتعرِّي أمامكم جئتُ، ولا لعرض العقد – التي لي منها نصيبُُ وافرُُ كسائر النَّاس – أتيتُ، ولا لاستدرار الشفقة حضرتُ. فإذا شفعنا فقرنا المطلق بالموت الذي نحن جميعا له منذورين كنَّا محتاجين قاطبة إلى شفقةٍ، إلى شفقةٍ كبرى قد لا يقوى على منحها إلا قـوة من خـارج هـذا العـالم.
أوَّل ما فتحتُ عيني، في مدينة القصر الكبير، فتحتها على مقابر. كانت ملاذا للعب الطفولة، لكن أيضا مسرحا لفرجة يومية موضوعها مواراة جثث تحت التراب. فرجة كانت من التكرار بحيث ما زالت الذاكرة تحفظ عن ظهر قلب، وإلى اليوم، تفاصيل عمليات الدَّفن تلك: ما يردُّده الموكب الجنائزي وهو قاصد المقبرة، كيف ينزل النَّعش، كيف يتحلق الموكب حول القبر، ما يتلوه الدافنون وهم يوارون الجثة تحت التراب، الضمير الذي كان يتيح للصبيان معرفة جنس الميت (إن قيل: «اللهم إن صاحبنا قد خلف الدنيا وراء ظهره فلا تبتله بما لا طاقة له، وألحقه بنبينا عليه السَّلام…» كان الميتُ ذَكرا، وإن قيل: «اللهم إن صاحبتنا قد خلفت الدنيا وراء ظهرها فلا تبتلها بما لا طاقة لها به….» كان الميت أنثى)، الاصطفاف لاستلام الصدقة المتألفة من كسرة خبز وحفنة تين جافّ، رحيل الموكب عن المقبرة، اختلاء فقيهٍ بالقبر وغمغمته بكلام يُفتَرَضُ أنه حديث مع الميت الذي تكون الروح قد عادت إليه دون أن يعرف أين هو، انصرافُ الفقيه، ثم تحلق الأطفال – الذين كنتُ واحدا منهم – حول القبر للتصنت على الملاك عزرائيل وهو يستنطق الميت ويعاقبه!…
ثمَّ كانت الإقامة في مدينة الرِّباط، بجوار البحر، في حي قصر البحر. موقعُُ بنتوئـه نحو الدَّاخل يتيح باستمرار رؤية جثث يقذفها البحر نحو الشاطئ بيضاء كقطع الشحم أو الصَّابون. مشهدُُ تكرَّر أمام العين مرَّات عديدة لينقش في الذاكرة، وإلى الأبد، تفاصيل أغلب عميلات الانتشال. ثمَّ جاءت سنة، فانتزع الموت من العائلة خمسة أشخاص دفعة واحدة: الجد، الأخت، عمَّة واحدة، وابنتي عمَّتين.
قد يكونُ في هذا ما يفسر جزئيا الانشغال بتيمة الموت، فكانت هذه النصوص التي تتألفُ في معظمها من مادة واقعية: ففتاة نصّ «هذيان ميت» انتحرت على مرأى من العينين، في مدينة مكناس، وتجربة النزول اليومي إلى قنطرة وِسلان تجربة حقيقية، والعجب يغمرُ صاحبها إلى اليوم من كونه خرجَ منها «سليما»، والجارُ البدين الذي يتردَّد اسمه في أكثر من مكان وتُستَعادُ تجربة انتحاره في نص «خارج المدار البشري» كان جارا فعلا، وألقى بنفسه من سَطح العمارة على نحو ما هو موصوف في الكتاب، والطفل الزبير المذكور في نصّ «ندار الموت» كان ابن جيران، ووضعَ حدَّا لحياته بلف حبل حول عنقه فعلا، والجثة مدار الحكي في نص «حديث الجثة» جثة واقعية منحت نفسها للرؤية في أحد الأسفار من مدينة الدار البيضاء إلى مكناس؛ كانت ملقاة وسط الطريق السيَّار على نحو ما هـو واردُُ فـي النـصّ…
صبيحة التوجُّه إلى «فضاء القراءة» بمكتبة الكرامة، لدَى السَّفر من مكناس إلى البيضاء، كان الموت نفسه حاضرا عند مدخل المدينة: اصطفَّ طابورُُ من السيارات تتقدَّمه سيارة أجرة منكسرة الدَّرَّاءَة، وقبالتها مباشرة تمدَّدَت جثة امرأة مرتدية جلبابا أزرق، وتحت رأسها ضاية من الدِّمَاء الحمراء. صبيحة اليوم الموالي، وهذه المرة كنتُ رفقة أفرادٍ من العائلة، كان مشهدُ الجثة نفسه يمنح نفسه للرؤية عند مخرج نفق درب ابن جدية، وبالإخراج نفسه!؛ امرأة أيضا، بجلباب أزرق (!!) مطروحة على الطريق جثة هامدة، تحت رأسها ضاية من الدماء القانية. لقد داستها سيارة!! يمكن أن يبدو هذا غير قابل للاحتمال لفرط تواتره، لكنني لستُ من السَّذاجة بحيث أزعم أنَّ الموت يترصَّدُ لي الطرقات، أو يتعقبُ خطواتي دون سائر الناس، أو أنني «ابتليتُ» بما لم يبتلى به الآخرون. هذا كلامُُ لا معنى له، إذ لستُ الوحيد الذي رأى ما رأى. لكن ما كلّ الناس جعلوا الموت محور انشغالهم. لماذا؟ ذاك شأنهم. أما أنا، فأمام كلّ موت، خبرا كان أم جثة معطاة للبصر، أتذكَّرُ أيَّ شيء نُذِرْتُ له، وأتساءل: ماذا أفعلُ هنا؟ ما معنى كل ما أفعله إذا كنتُ إلى هذا المصير آيل؟ إذا كنتُ أجهلُ متى سأموت وكيف، فمن المحتمل أن أموت بالطريقة نفسها التي مات بها صاحب هذه الجثة الملقاة أمامي أو النعش قبالتي. إن أمت هكذا فكيف سأنتقل من كائن حيّ يسير ويفكر ويحسّ، الخ. إلى جثة هامدة؟ بماذا سأحسّ عندما سأكون بصدد المحو؟ فأدعو الموت والسيِّدات الثلاث، ثم أجلسُ للكتابة (ليس بالضرورة في الموت). وواضحُُ أن جزءا مما يخسره الميِّتُ، أو يُحرَم منه، يربحه الحيّ المتخلف وراءه؛ إذا كان كل واحد منا يُحرَمُ من مشاهدَة نفسه وهو جثة هامدة، فإن الأحياء المحيطين به يربحون تلك الرؤية. ولعل هذا ما يقصده البعض بقوله: «إن المرء الحيَّ الذي يتأملُ ميتا يُحِسُّ بأنه أعلى منه. وهذا صحيحُُ لأنه بالفعل يكون أكبر منه»[8]. لكن الأحياء، بالمقابل، يخسرون ما «ربحه الميت»، وهو الأحاسيس والمشاعر والأفكار التي انتابته وهو يفارق الحياة. هذا الخسران لا يمكن تعويضه إلا بالكتابة، عبر استدعاء ثلاثي الاحتمال والمتخيَّل والاستيهام، على نحو مـا سنـرَى.
لنتخيَّل أننا في أزمنة «البدايات» والبشرية أمام كل الاحتمالات؛ المستقبل طرقُُ متشابكة. يموتُ الإنسانُ الأوَّل، يتساءل المتخلفون، حتما، عن سبب وفاته دون أن يتوصَّلوا إلى جوابٍ، ثم يموت الثاني، والثالث، فالرَّابع، والخامس، فيدرك الجميعُ أنَّ كلَّ موتٍ إن هو إلا رسالة تذكره بموته الخاصّ، أي بمصيره… يبدو أنَّ سؤال الموت قد أرَّق الأحياءَ، وأمام عجزهم عن فكّ لغزه، وولوج «الخلود» أخذوا الطريق التي نحن في إحدى محطاتها الآن نقيم. لم يكن من الضَّروري أخذها. هذا ما يبينه نيتشه وجورج باطاي، ضمن آخرين. قال الأول:
«إذا تجرَّد الباحثُ من المسبقات وتطرَّق لتاريخ العين وأشكالها عند المخلوقات الأكثر بدائية، وتتبَّعَ النشأة التدريجية للعين، توصَّلَ إلى هذه الخلاصة الهامة، وهي: لم تكن الرؤية هي الغاية من نشأة العين، بل ظهرت المشاهدَة بالأحرى لما جمعـت لـها الصُّدفـَة أدوات الرؤيـة»[9]
كما قال: «كيف جاء العقل إلى العالم؟ أتى كما ينبغي [أن يجيء]، بطريقة مجنونة، جاء بالصدفة»[10]. وطَرَح الثاني مفهوم «عينٍ صنوبرية»، تنفتحُ في قمة جمجمة الإنسان ليلِجَ بُعدَه الثاني، العمودي (في مقابل البُعد الوحيد المتعامَل معه حتّى اليوم، وهو البُعد الأفقي الذي يجعل الإنسان يحيا ويتحرَّك بموازاة الأرض، ويجعل عينيه تضعاه على اتصال بما يحتاج إليه في حركته الضَّرورية، علما بأن الإنسانَ نفسه – في نظر باطاي دائما – هو أيضا الكائن الذي يسمو عن الأرض في اتجاه السَّماء، أي أنه مُنتَصِبُُ) حتَّى يؤدي الغاية التي من أجلها وُجِدَ، وهي أن ينظُرَ إلى الشمس والسَّماء، باعتبار الأخيرة «فراغا هائلا»[11]… لستُ في حجم الفيلسوفينِ، ومع ذلك فإني أستسمح القارئ لأزعَم بأنَّ «حديث الجثة» محاولة للتعبير عن قلق عميق تجاه الشَّرط البشري الحالي. تعبير محدُودُُ جدا، بوسيلة محدودة جدا، وفي رقعة جغرافية (قِرائية) ضيقة للغاية، صرخة كطنين الذبابة التي لا يتعدى وضعي الاعتباري إياهــا.
أظهرت بعض الدراسات حول الجسد[12] أنَّ البشرية الحالية بصدد إنجاز فتوحات عُظمى في حقل البيولوجيا. فتوحات يستقبلها البعضُ بالزعيق والاستنكار إلى حدّ التنديد بها والدَّعوة إلى الإيقاف الفوري للتجارب التي منها هذه الفتوحاتُ تقتاتُ. مَدارُ هذه الإنجازات يمكن اختصاره في كلمة واحدة: محو الفرد لصالح الحياة. إن يمتْ فردُُ، مثلا، يمكنه مواصلة الحياة في جسد فردٍ آخر بزرع ما صلح من أعضاء الأول في جسم الثاني؛ سيغدو بالإمكان العثور على امرئ يحيا بدماغ شخصٍ، وكِلية إنسان آخر، وعين فردٍ ثالث، ومعِدَة رابع، الخ. والإنسانُ الذي يصلُ إلى هذا المستوى من الكشوفات قد يتوصل في يوم من الأيام إلى حل لغز الموت. آنذاك، لن يكون أي معنى لكلّ ما قيل في الموت وما كتب عنه، مُنذ القِدَم حتَّى اليوم. سيأخذ المكانة ذاتها التي تأخذها الآن سائر التفسيرات التي كان يمنحها الإنسانُ قديما لما عجَزَ عن تفسيره أو التحكم فيه، ولما توصَّل اليوم إلى ذلك نعتناها بـ «خرافات» و«ترَّهات»، وصِرنا لدى سماعها نشفـق على «سَذاجـة» الأوليـن.

3. ورشـة كتـابـة «حـديث الجثــة»
أنا سأموت لا محالة، وأنت الجالس قبالتي بدورك ستموت، والآخر القاعد بجانبك أيضا سيموت. ما في ذلك أدنى شكّ. فكلنا منذورون للموت. لكن متى سأموت؟ أين سأموت؟ وكيف؟ هذا ما أعجز تماما عن الإجابة عنه. لكن مع ذلك لنفترض أن الموت ضرَب لنا موعدا، دون سابق إعلام، للقاء في هذه اللحظة بالضبط؛ يهـوي السَّقف علينا، ثم نموت جميعا. مع ذلك، فكل واحد منا سيموت وحيدا، سيجتاز موته بمفرده. حتى وإن انعجنت أجسادُ بعضنا ببعض وزهقت أرواحنا في لحظة واحدة سيجتازُ كلّ منا «تجربة الموت» بمفرده. أكثر من ذلك، حالما يموتُ كل واحدٍ منَّا ستنقطع صلته بالعقل، والإحسَاس، واللغة، وبالتالي سيتعذر عليه أن يحكي موتَه للآخرين؛ لن يتاح لنا أن نجتمعَ ثانية في مجلس كي يحكي كل منا للآخرين تجربـة موتـه. غيـر أنَّ لهذا الجهل والحرمان ما يعوضهما. والطريق الملكية للتعويض هي الكتابة؛ إذا كان ستار موت كل امرئ قد أسْدِلَ عنه إلى الأبد، أمكَنَ – بالمقابل – تخيُّلُ آلاف الطرق والمواعيد والأحاسيس التي ستتجلى لحظة رفع هذا الستار، ونقلُها باللغة. بمجرد ما يشرع المرء في تشغيل سيناريوهات موته يجد نفسه وسط الاحتمال والاستيهام والمتخيَّل. وبقدر ما يمكن القول إن سرَّ كل كتابة رفيعة يكمن في حضور هذه العناصر الثلاثة يمكن القول إن الموت معين للكتابة لا ينضب: بمقدار ما سيكتب كلٌّ منا نصا عن الموت ستتعدَّد الرؤى والأخيلة وتتنوَّع الأحاسيسُ والاستيهامات، بل يمكن للمرء أن ينذر حياته للكتابة في الموت ولا يستنفد كتابتَه إلا موته الفعلي نفسه. ومن موقع متطرف ضمن هذا المنظور يمكن القول، دون خشية، إن الأدب بمجمله – وبمعزل عن تعدد تيماته – إن هو في نهاية المطاف إلا موت ينكتب مثلما حضارة البشرية جمعاء مجرد نشيد موتٍ ينتحب. الأدب موتُُ ينكتبُ في مستوى عميق جدا يتطلب بذل جهد أعمق للكشف عنه. مستوى يمكن معه ألا نتردد إطلاقا في نعت الأعمال التي تتخذ الموت موضوعا محوريا لها (ككتيب “حديث الجثة”) بأنها أعمالُُ شديدة السَّطحية، وشبه غرائبية.
هذا أحدُ أصُول تمحور الكتيب الحالي حول الموت. ولكتابته صُرفتْ طقوسُُ ليلية، غالبا، ما كان الأنيسُ فيها إلا الموت وسيِّداتُُ ثلاث: القهوة السَّوداء، والموسيقى، والسيجارة. لم أبلِّل شفتي لحظة الكتابة ولو بقطرة واحدة بما يسميه ابن سينا مجازا بـ«الرحيق الإلهي»:
القهوة السوداءُ تهَدِّئُ وتمنح على التركيز. حقيقة خبرها سكان اليمن القدماء الذين انحازوا للقهوة ضدَّ القات[13] مخلفين في ذلك أشعارا وشبه مناظرات، بين النباتين، لا مجال لإيراد نماذج منها في هذ االسياق. القهوة السوداءُ زادُُ للفكر والروح. متى أدمنها المرءُ تحولت وداعة الدنيا كاملة إلى تاج وحطَّت فوق جبينه. والموسيقى تطلق كيمياء الأحاسيس من معاقلها وتتحف الجليس بوجهين: وجهُُ ناطقُُ، والآخر صامتُُ؛ الصامت يحلق بالرّوح في فضاءات تنكشف فيها الحجب بين الأحياء والأموات. يدخل المرء إلى مدارات الصّوفية وأزمنة البدايات. والناطق منها يغذي الفكر، يشحذه، يوقد شرارته ويحرِّضه. ولمن أدمَن سماع شريط العجوز «كفى!. أليس صحيحُُ يا هذا!!» الذي سمعتُه وأعدتُ سماعه آلاف المرَّات أن يتحسَّسَ المسالك الباطنية التي ستنفتح له والبراكين التي ستثور برأسه من جرَّاء ذلك السَّماع. أما السيجارة، فتخفف حدَّة القلق، وتجعل الحياة قابلة للاحتمال. وهو ما انتبه إليه فرويد عندما أدرجها والكحولَ ضمن ما أسماه بـ «الملذات التعويضية» التي تجعل الحياة أكثر قابلية للاحتمال[14].
عندما يكتب المرءُ نصا ينتابُه الفرحُ، فيطوي الأوراق، يحفظ الملف، ثم يخلدُ إلى النوم، وهو مُطمئنُُ ومسرورُُ لما كتب. لكن بمجرد ما يعيد قراءته في الغد يغمره قرفُُ ويحسّ أنه غُبنَ، أنَّ مشاعر الرضى قد خدعته، أنَّ «الهو يتكلم» قد أوقَعَ به. ولذلك يمسك القلم أو يشحذ الأصابع للنقر على لوحة المفاتيح.. يحدث خروما في نص الأمس، يمحو كلمات ويغير أخرى، يسوي ما بدا له اعوجاجا، ثم يقول: «ها أنذا ظفرتُ أخيرا بالنص». لكنه لا يكون ظفر من النصّ، في الحقيقة، إلا بمحطة في رحلة. ولذلك تبعثرت جلسات كتابة النص الذي يحمل عنوان «حديث الجثة» على مدار سنة بكاملها: يُكتَب النصّ، ثم يُهمَل أسابيع أو شهرا، ثم يُخرَج ويُعَدَّل، فيُهمَل، فيعادُ إخراجه من جديد، وهكذا إلى أن حصل نوع من «الارتياح» للتراضي الذي توصَّلت إليه شظايا «الأنا» أو «الأنوات» بالأحرى. غير أن هذا التراضي ليس نهائيا. ربما هو مجرد ذريعة تبرر النشر… متى خطا الإنسانُ خطوة واحدة في هذا الدَّرب – وهو ما لا أزعم إطلاقا أني رسَّختُ القدم فيه – أدرَكَ أن ليس في التشريف والتقدير اللذين يحظى بهما الكتاب الذين انتزعوا اعتراف الإنسانية جمعاء ما يدعو للحسَد، وفهمَ لماذا ترنَّحت أمُّ أحد كبار شعراء هذا القرن باكية عندما أخبرها ابنها بأنه «اختار» أن يكون شاعــرا.

4. نحـو إيتيكـا جديـدة للحيـاة المـوت
لا يمكن لمن رافق الموت مدَّة أن يعود بخفي حُنَين. فللموت هباتُُ عظمى، أقلها إدراك حقيقة كوننا داخل السَّراب والوهم نقيم، إن لم نكن داخل الموت نفسه نقيم. وأمام هذا «الكشف» قد لا يجد المرء «حلا» سوى استشراف أفقين: الأول التهيؤ للموت، والثاني إعادة النظر في كل ما تلقاه من قبـل.
عندما لا يفصلنا عن السفر سوى ليلة واحدة، نقضي مساء غير عادي؛ نهيئ الأمتعة، ونلقي على البيت نظرات ليست كنظرات سائر الأيام. وبقدر ما تنتابنا فرحة الانتقال إلى مكان آخر يغمرنا حنين مُسبَق إلى المكان الذي سنفارقه. كأننا بذلك نستبق الوصول إلى مكان سفرنا، كأننا وصلنا إليه ببوصلة باطنية ولم نفارق مكان إقامتنا بعدُ. هكذا ينبغي معاملة الحياة. إقامة قبيل السَّفر. وقوفُُ في محطَّة لن يدوم إلا مقدار ما الوقت الفاصل بين المسافر ووصول القطار. أمرُُ أدركَه كوكتو عندما قال:
«حتـَّى لو عشتُ مائة عام، لن يكون مقامي (في الحيـاة) إلا كمن أقام فيها بضع دقائق. لكن قليلون هم الذين يريدون تصديـق ذلك، قليلون هم الذين يقبلون تصديق أننـا ننشغـل ونلعب داخل قطار ينحدر بأقصى سرعته نحو الموت»[15].
قليلا ما يُشعرُ الموتُ بقدومه عن بُعد. وحتَّى عندما يفعل ذلك، كأن يعرف المرء أنه مصابُُ بداء عُضال أو تلحق بجسده أعطاب قاتلة ميئوس من شفائها، فإن متلقي خبَر اقتراب موعد موته لا يتلقى النبأ إلا باعتباره ولوجا للموت، فيطأ بالفعل عتبة المنية قبل الأوان؛ يبدأ في العدّ العكسي لما تبقى من حياته، يغمره القلق، ويشعر بالغبن. يصرف ما تبقى من «حياته» مفكرا في الموت، فيفوِّت على نفسه الاستمتاع بحياة الوقت الفاصل بينه وبين الموت الحقيقـي. والمفارقـة الكبـرى هنا هي أنَّنا نتلقى يوميا رسائل عن موتنا، هي الأخبار التي نقرؤها أو نسمعها عن موت هذا الشَّخص أو ذاك. هذه الأنباء في الواقع لا تقول: «إن فلانا مات» فحسب، بل وكذلك تخاطب كل واحد منا قائلة: «سواءُُ أطال الزمان بك أم أقصُر، فإنك إلى المصير نفسه آيل». وكونُ الموت لا يُشعِرُ بالمجيء يجعلنا مهدَّدين في كل لحظة بالتعرض له، ولذلك ينبغِي دائما التعامل مع الأفراد والأشياء المحيطة بنا وكأننا سنفارقها بعد قليل، ينبغي التعامل معها كالمسافر وقد حان وقت إقلاعه. هذا ما أفعله شخصيا كل يوم، قبيل كل خروج من المنزل، وبالخصوص قبيل كلَّ سفـر إلى مدُن أخـرى.
يبدو أنَّ القلقَ الذي يلفّ كلَّ تفكير في الموت يعودُ -ضمن ما يعود- أساسا إلى ما يمكن تسميته بـ «وهم الوحدة والفردية» الذي يتحكَّمُ في رؤيتنا لأنفسنا وفي علاقاتنا بأشياء العالم المحيط بنا: وحدة الجنس، ثم – داخل الجنس الواحد – وحدَة الجسَد، ووحدة الفكر، الخ. علما بأنَّ هذا الوهم بقدر ما يضفي على وجود الأشياء صبغة إشكالية، إذ يجعل «لكل شيء ميزة كونه لا يكون إلا واحدا، الأمر الذي يضفي عليه قيمة كبرى، وسلبية كونه لا يُعوَّض، الأمر الذي يحط من قيمته للغاية»[16]، بقدر ذلك يعمِّق غربتنا في العالم ويجعل وطأة الموت علينا أكبر من أن تحتَمَل. في حين يبيِّنُ تأملُ ما يؤول إليه الجسد بعد الموت من تحلل، وتحول إلى ديدان، وعظام، فتراب، أنَّ الموت إن هو إلا ولوج «دورة حياتية» أخرى. بتعبير آخر، إن الموت وإن كان يعطِّلُ فينا الإحساس والحركة والتفكير، فهو لا يفنينا؛ كل ما يفعله هو أنه يولجنا في سياق حياتي آخر، في دورة الحياة كلية الحضور، ومن ثمة فلا شيء منا يضيع. حقيقة حام حولها شعراء أمثال المعري، وعمر الخيام[17]
بالنظر إلى ذلك، يمكن التغلب على قلق الموت، وتبديد ما يلحقه بالإنسان من أحاسيس الغبن، بولوج نمط وجوديّ آخر: نمط يربط فيه الإنسان علاقة حميمية بالعالم الطبيعي المحيط به تصل إلى حد القرابة واستشراف الامتدادات بينه وبين هذا العالم، بحيث أرى يديَّ هاتين، مثلا، ليس مجرد دم ولحم وعظم، بل وكذلك خمائل عشب وباقات زهور وحفنات تراب وجماعات ديدان ما يحجبها عنِّي الآن إلا كوني لم أوارَ تحت التراب بعد. يبدو أنَّ الرَّسامين السّورياليين وبعض مرضى الشيزوفرينيا قد أدركوا هذه الحقيقة: ففي لوحة أندريه ماصُّون التي يعبر فيها عن فكرة أن «لاوجود لعالم مكتمل»، نشاهد ثلاثة أجساد: جسدان شبه بشريين. شبه بشريين لأن كل ما يتيح إدراجهما ضمن بني الإنسان هو هيكلهما لا غير. أما ما تبقى منهما، فهو امتدادات في رؤوس حيوانات أو جذور نباتات. في حين يأخذ الجسد الثالث هيأة ساقين أماميتين لدابة (أهي حصان أم حمار؟)، يعتليهما شبه ساق نبتة يتوسطه هو الآخر ما يبدو سيقانَ سرطان بحريّ. وباختصار، إنها لوحة يتداخل فيها الحي بالجماد، الحيوان بالنبات بشكل يعسر معه تمييز أحدها عن الآخر[18]. ويسوق ليو نافراتيل عددا كبيرا من رسوم مرضى الشيزوفرينا رسموها تحت إشرافه، لأنه كان يعتمد الفن التشكيلي أداة علاجية، لا تخرج عن هذا المنظور؛ أبرزها اللوحات التي تحشد صورا يتداخل فيها العالم البشري بالطبيعي، والتي تنزع إلى تجسيد بعض مكونات العالم نفسه، كأن ترسم عمارة يتصدَّر واجهتا وجها آدميا يشكل جزءا من البناء نفسه بحيث يتعذر الفصل بين المكوِّنين[19]…
وفي ما وراء التفسيرات المقدَّمة حتَّى اليوم لما يسمَّى بـ «الطوطمية» من كونها ديانة بدائية يفسِّرُ فيها أفراد جماعة ما ارتباطهم فيما بينهم بالانحدار المشترك من جدّ مشترك، يكون عبارة عن حيوان أو نبات، تؤلهه الجماعة وتحرِّمُ على الفرد أكله أو قتله[20]، في ما وراء ذلك يمكن اعتبار الظاهرة نفسها خطوة للبشرية مُجهَضة في هذا الدَّرب، درب تبديد النمط الوجودي القائم على وهم «الوحدة» لصالح نموذج وجودي أرحب وأوسع قائم على كلية حضور الحياة وتناغم جزيئات الحيوات الصغرى في جسد الحياة-الأم الكبرى. كما يمكن تأويل الصورة التي يحملها الفكر السحري عن العالم باعتباره شبكة من التناسبات تترابط فيها مخلوقات العالم وموجوداته قاطبة، مما يفضي إلى سلاسل من الانتظامات للحيوانات والنباتات والجمادات والجهات والأزمة في خيوط وجودية كبرى تجعل ما من كائن إلا وهو داخل في نسيج عناصر العالمين العلوي والسفلي على السَّواء[21]، يمكن تأويلها هي الأخرى باعتبارها خطوة للبشرية – تعرضت بدورها للإجهاض – في درب تبديد وهم «الوحدة». نقول: خطوتان مجهضتان، بالنظر إلى هذا الاجتياح الذي يشهده العالم اليوم لقيم الحضارة الغربية ومنتوجاتها وأساليب تفكيرها القائمة أساسا على نزع القداسة عَمَّا صرفت البشرية آلاف السنين في «ابتكاره» من رموز وأساطير وتمثلات وزاد روحي عميق[22]. وواضحُُ أنَّ القول بالإجهاض إنما يصدُرُ من أحد موقعي تعارضٍ وجدانيّ – نحن واعون به تماما – بين الوفاء للماضي والارتباط به، أي البقاء داخل مدار ما يمكن تسميته بـ «الإنسان الماضي» [=الإنسان الذي انحدرنا منه]، وبين الإيمان بالإنسان المشرَع على كل الاحتمالات، وبالتالي الانخراط في المستقبل من موقع لا شيء في الحياة يضيع، وأن التقلبات العميقة والهدم المنهجي لإرث الإنسان الماضي [=الإنسان الذي يمضي، ينصرف] يواكبه في الوقت نفسه بناء ميراث جديد وتمثلات جديدة وبنية نفسية جديدة.
متى ولجنا هذا البعد، بُعد الوجود ضمن تمثل خارج وهم «الوحدة» أدركنا الأشياء من حولنا بمنظور أكثر عمقا وبإحساسٍ أكثر رهافة بكائنات العالم المحيط بنا وأشيائه؛ صرنا، مثلا، لا نرى في الورقة التي نكتب عليها مجرد جماد، وإنما حفيدة شجرة مبللة بندى الغاب، محمَّلة – بطريق العدوى كما في السحر[23] – بآثار مجموع كائنات وحركات وأجواء العالم الذي جاءت منه، وصرنا لا نرى في السيارة التي نـركبها مـجرد كتلـة حديـد، وإنما امتدادا لفضـاء وكائنات المنجم الذي كانت فيه قبل أن تصير ما صارت إياه، امتدادا للرطوبة والعتَمَة والباطن في فضائنا المشمس الفسيح… وعلى هذا يمكن قياس كافة الأشياء التي تحيط بنا أو تؤثت فضاءاتنا أو نستخدمها في سائر أنشطتنا اليومية.
متى ولجنا هذا البُعد فقَدَ الألم معناه، وتبدَّدَ الإحساسُ به، لأن كلّ ما يتسبَّبُ في إيلامنا سنتلقاه باعتباره إفادة لمظهر من مظاهر الحياة الكبرى التي تتجاوزنا. إن جُرحتُ، مثلا، وسالَ دمي لم أتألَّم[24]، لم أتلقَّ ذلك باعتباره تهديدا لي بالدّخول في العدم، تلقيته باعتباره بؤرة حياتية مَّا «طالبت بحقها» في الوجود فنالته، أو «أذِنَ لها» بأن توجد، كما «أذن لي» من قبل أن أولَد، فحيتْ. من هذا المنظور، لن يمكن تلقي سعي الناس واقتتالاتهم إلا بمنظور الشفقة. إنَّ هذا التصور لا يُضمِرُ تمجيدا للشر أو مدحا لإيذاء الغير بقدر ما يقوم على بذل مجهود لتلقي الألم الذي لا مردَّ له بانشراح نفسي عميق، وبالتالي متى مَنَح مشهدُُ مؤلمٌ نفسه لنا، سواء كنا أطرافا مباشرة فيه أو مجرد متفرجين، كان ردّ فعلنا هو الإشفاق على فاعل الألم ومحتمله في آن واحد، باعتبارهما مجرد أداتين في يـدٍ خفيـة، تتجاوزهما، باعتبارهما ليسـا سـوى أداتيـن في أيـدي الحيـاة كليـة الحضـور.
إعادة النظر في «وهم الوحدة» ينبغي أن تمتدَّ إلى ما يمكن تسميته بـ «التوابع». نعم لكل امرئ توابعه، وتوابع الإنسان مجموع من تربطه بهم روابط القرابة. عندما نستحضر موتنا، ما يتسبَّب في قلقنا – ربما – ليس هو المحو الذي نكون عليه مقبلين، وإنما الآلام التي ستلحق بتوابعنا، بأقرب الناس إلينا، وخاصة إذا كانوا صغارا. غير أنَّ «عشق الموتى لا دوام له؛ فالميت ليس بعائد إلينا»[25]. إلى هذا نضيف أن لا داعي للمقبل على الموت إلى الانشغال بما سيخلفه من ورائه لأن الحياة ستتكلف بجميع الأشياء من بعده. ليَكُنْ. لكن، كان بالإمكان تبديد كل انهمام بمن سيتخلفون من ورائنا لو لم يتم الإمعان في الإيمان بـ «وهم الوحدة» لدرجة تصوّر الفرد أن حدود إقليمه البشري تقف عند أقاربه وذويه، عند عائلته. بتعبير آخر، إن «وهم الوحدة» المتأصلة في قرابة الدَّم قد حال بين الإنسان – إلى اليوم – وترجمة حقيقة كون العائلة لا تعدو مجرَّد وهم[26]. وهذه الحيلولة هي التي تنسي المرء حقيقة أنه إذا لم يتزوَّج فثمة دائما شخصُُ مَّا، في مكان مَّا، يتزوج، فيعفيه من هذه الصِّلَة، وأنه إن لم يخلف عقبا فثمة دائما أناسُُ آخرون يلدون، وبالتالي فلا خوف عليه من الانقراض، الخ.، وأنَّ أبناء «الغير» أبناؤنا وآباء «الغير» آباؤنا… في هذا المستوى، ما زال يتعيَّن استخلاص دروس كثيرة من المقاصد العميقة لبعض النقط المضيئة في ميراث البشرية الروحي (الديني والفلسفي).
لا يبرِّر انهمام المرء بالأحياء من بعده إلا استباقه لموتـه، والحـال أن الموت الحقيقي – المتعارف عليه حاليا – لا يمكن استباقه إلا في المتخيَّل. هبْ أني متُّ في هذه اللحظة بالضبط: نوبة قلبية، أو انتحار، أو سقوط جدار، أو حادثة سير… ها أنذا أستعرض شريط موتي مشاهدا ما سيتم داخل أسرتي. تصعق الزوجة، لن ير الأطفال أبدا الشخص الذي ظلوا ينادونه حتَّى اليوم بكلمة «بابا»، لن يتاح لهم – وإلى الأبد – أن ينطقوا ثانية بهذه الحروف وهي تستجيب للنطق بإحضار الشخص الذي كان يحملها، يمتلئ البيت بالأقارب، يهرول أصدقاء «مخلصون» وأصدقاء «منافقون». بعض هؤلاء سيسوقه الفضول والطيع بيدين: يدُُ في كفّ الأرملة تقدم التعازي مواسية، ويد في الحجر طمعا في تهييء الشيء لـ «ملء» المكان الشاغر… سيناريو آخر للموت: ألقى حتفي أنا وربَّة البيت دفعة واحدة في حادثة سير مروعة. ويبقى الأبناء يتامى! غير ممكن! لا، متحمل جدا، فما كل الذين ماتوا في حوادث سير علموا أنهم كانوا سيلقون حتفهم في ذلك السفر بالضبط، إلا لكانوا تخلوا عنه. ما مصير الأبناء بعد موت الآباء؟ يتمزَّقُ القلب حسرة. تتفتًّت الأكباد، تغرورق العينان بالدَّمع، لكن دمعة واحدة لن تسقط حتَّى ولو استسعفتُ في استذرافها بما لم تخلق تسميته بعد. هذا ما يمكن أن يتعلمه المرء من طول معاشرة الموت. لا شيء في هذا العالم يستحق إنزال دمعة واحدة. ما الأحاسيس التي تغمرنا لدى التفكير في موتنا إلا مواربات حب الحياة… إن كل ما نخلص إليه من أفكار أو ينتابنا من أحاسيس لا ينتمي إلى الموت في شيء، ذلك أننا متى متنا صرنا كمن استسلم لنوم عميق. ما أن نغادر هذه الحياة حتَّى نصير «غرباء» عن كل ما يملأ رؤوس الأحياء؛ تنحفر بيننا وبينهم الهوَّة نفسها التي تفصل بين النائم واليقظان. ولذلك حريّ بنا ألا ننشغل للأحياء من بعدنا بتاتا. أليق بنا أن نعرض إطلاقا عن التفكير في موتنا. لعل هذا هو أشد الأمكنة إراحة للكائن المنذور للموت: يجب عليه، وفي آن واحد، ألا يكف عن التفكير في الموت وأن ينساه نسيانا تاما. وذلك يقضي عمل الكثير لتغيير التركيبة النفسية الحالية التي ورثناها عن الأسلاف، وتغيير تمثلاتنا للعالم وعلاقاتنا ببعضنا البعض، بحيث يغدو بالإمكان جعل الاستذكار وجها آخرللنسيان، والنسيان وجها آخر للاستذكـار.
قد تكون عتبة هذا التغيير صرفُ الحياة في ذهول منخطف يشبه انتشاءة الحشَّاش أو إشراق المتصوف، لكن قد تكُون أيضا محوُ البعد الزَّمني فينا على غرار الشاعر الكبير الذي «يرى أن الماضي لا وجود له»[27] و«يكتشف العالم كما لو كان يُشاهد الكوسموغونيا[28]، كما لو كان معاصرا ليوم الخلق الأول»[29]. ذهولُُ يغرقنا في العمل[30]، ويتيح لنا الإشفاق على بعضنا البعض، وتجنيب أنفسنا المساهمة في التعجيل بموتنا أو موت الغير. ولعمري ذلك ما خبرته الديانات الكبرى، وثمة تكمن حكمتها العميقة.
———-
هوامــش
[1] كان قسم من الأفكار الواردة في هذا المقال قد ارتُجل خلال توقيعين لـ «حديث الجثة»، سبق تنظيمهما في نهاية الموسم الثقافي لسنة 1996. وقد عدَّلناه لا حقا، فكانت هذه الورقات التي لا يعدو العنصر الأخير منها، في شكله الراهن، مجرد ورقة عمل غير مكتملة، سنقف عندها مليا في وقت مقبل.
[2]Jean Brun, L’homme et le langage, Paris, P.U.F., Ch. VII, «Le verbe poétique», pp. 169-189.
[3] مارتن هايدغر، إنشاد المنادى. قراءة في شعر هولدرلن، ترجمة بسَّام حجَّار، بيروت – البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1994، ص. 12 وما بعدها.
[4] في رسالة إلى إزامبارد، مؤرخة في 13 ماي 1871، تتصدَّر رسائله المنشورة في ملحق ديوانه تحت عنوان «رسائل العرَّاف، نقرأ ضمنها:
– «Je est un autre». Tant pis pour le bois qui se trouve violon, et Nargue aux inconscients, qui érgotent sur ce qu’ils ignorent tout à fait». Cf. Arthur Rimbaud, Poésies, Paris, Bookking intrnational, Classiques Français, 1993, p. 190.
[5] Gilles Deleuse, Logique du sens, Paris, ةditions Minuit, Critique, 1969, p. 328.
[6] نفسـه، ص. 329.
[7] نفســه، الصفحة ذاتها.
[8] انظـــر:
– Ruth Menahem, La mort apprivoisée, Paris, ةditions Universitaires, 1973, p. 129.
أو: – روث مناحيم، «الطقوس الجنائزية»، ترجمة محمد أسليم، كتـابات معاصـرة، بيروت، المجلد 5، العدد 19، شتنبر 1993، صص. 26-30.
[9] Friedrich Nietzshe, Aurore, trad. Julien Hervier, Paris, ةditions Gallimard, Idées, 1970, p. 135.
[10] نفســه، الصفحـة ذاتهـا.
[11] Robert Sasso, Georges Bataille, Le système du non-svoir, une ontologie du jeux, Paris, Les ةditions de Minuit, Arguments, 1978, pp. 61-64.
[12] أندريه لوبروتون، أنثروبولجيا الجسَد والحَداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، 1993، الفصل XI: «طريق الشك والحداثة»، صص. 220-252.
[13] عشبُُ مخدِّرُُ يُدمِنُ استهلاكه سكَّان اليَمَن، نساءً ورجالا، بل يستأثر وحده – حسب بعض الدراسات الميدانية – بما يناهز 30% من المدخول الشهري لكل بيت يمني.
[14] F. Mueller, L’irrationnalisme contemporain. Shopenhauer – Nietzche – Freud – Adler – Jung – Sartre, Paris, Payot, Peite Biliothèque Payot, 1970, p. 86.
[15] Jean Cocteau, La difficulté d’être, U.G.E., 10/18, 1964, p. 90.
[16] Clément Rosset, Le réel et son double, Paris, Gallimard, nrf, 1978, p. 85.
[17] الأول ببيته المشهور الذي يقول فيه: «فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد»، والثاني عندما يرى في أوني الفخار، وذرات الغبار، وعشب الأنهار… امتدادات لأجساد الموتى. انظـر: عمر الخيام، الرباعيــات، ترجمة: أحمد الصافي النجفي، بيروت، دار إحياء التراث العـربـي، (د.ت)، صص. 12، 44 و81.
[18] يمكن مشاهدة نسخة من هذه اللوحة ضمن:
– Alain Arnaud et Gisèle Exoffond-Lafarge, Bataille, Paris, Seuil, ةcrivains de toujours, 1978, p. 42.
[19] Léo Navratil, Schizophrénie et art, traduit de l’allemand par: Evelyne Sznycer, Bruxelles, ةditions Complexe, 1978.
[20] راجع على سبيل المثال:
– Sigmund Freud, Totem et tabou, Paris, Payot, Petite Bibiolthèque Payot, 1972, pp. 117-185.
أو ترجمته العربية: سيغموند فرويد، الطوطم والحرام، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الأولى 1983، صص. 131-210. كما يمكن الرجوع إلى جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، ترجمة: حسن قبيسي، البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1997، الصفحات 139، 210-213، 218-219. وعنه سقنا التعريف المذكور أعلاه.
[21] في هذا الصدد، يمكن العودة إلى:
– Marcel Mauss, Sociologie et anthropologie, Paris, P.U.F., Quadrige, 1950, pp. 53-79.
-Claude Levi-Strauss, La pensée sauvage, Paris, Plon, 1962, pp. 178-211.
أو ترجمته العربية: ليفي ستراوس، الفكر البـري، ترجمة: د. نظير جاهل، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1984، صص. 167-194؛
– Jean Brun L’homme et le langage, op. cit., pp. 82-87;
– عبد الفتاح الطوخي الفلكي، منبع أصول الرَّمل المسمى بالدرَّة البهية في العلوم الرَّملية، بيروت، الكتبة الثقافية، (د.ت)، الفصول الأولى التي يسميها المؤلف «دروسا».
[22] حول هذه المسألة، يمكن استشارة:
– Marcel Gauchet, Le désenchantement du monde, Paris, Gallimard, Bibiliothèque des Sciences Humaines, 1985.
[23] معلوم أن فريزر اعتبر السحر نوعا من العلم المزيف لأنه يسعى إلى تدجين الطبيعة اعتمادا على قوانين زائفة، أهمها: قانون «التماس أو العدوى»، والمقصود به الاعتقاد في توليد الشبيه للشبيه (تقليد المطر ينتج عنه سقوط المطر، تصوير حيوان جريح يسهل القنص الجيد…) واستمرار الأشياء التي انفصلت عن بعضها في التأثير بعضها على بعض (استخدام بعض ممتلكات شخص ما في السحر يؤدي إلى إصابة الشخص نفسه بما يراد إلحاقه به). بهذا الصدد، راجع:
– James Georges Frazer, Le rameau d’or. Le roi magicien dans la société primitive. Tabou et périls de l’âme, trad. Pierre Sayn et Henri Peyre, Paris, Robet Laffont, Boquins, 1981, pp. 41-42, 77;
– د. سامية حسن الساعاتي، السحر والمجتمع، دراسة نظرية وبحث ميداني، بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1983، صص. 89-108؛
– جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، مرجع سابق، ص. 80.
[24] رغم أنَّ الألم استجابة لمؤثرات خارجية، فإنه يبدو بالإمكان تكييفه وتقليص حدَّة الإحساس به عن طريق الفعل في التصورات والتمثلات. ويقدم تنوع الثقافات البشرية في التعامل مع الألم أدلة شبه قاطعة في هذا الباب. يحضرني في هذا المجال الشجاعة النادرة التي يستقبل بها سكان قبيلة التوبينامبا وجيرانهم (وهما معا قبائل من الهنود الحمر بأمريكا الجنوبية) في استقبال الموت: فمع أن الشخص الذي يُصطادُ يكون على علم تام بالمصير الذي يخبؤه له مصطادوه، وهو الاحتفاظ به لبضع سنين للاستفادة من خدماته ثم قتله وأكله، فهو لا يفرّ حتّىَ وإن تأتت له فرصة الفرار. ثم ليلة اغتياله ينغمس في كافة ضروب الملذات التي يهيؤها له من سيقتلونه يوم غد، إذ يشرب الخمر وينعم بممارسة الجنس… بهذا الصَّدد، راجع:
– Alfred Metraux, Religions et magie indiennes d’Amérique du Sud, Paris, Gallimard, Bibiliothèque des Sciences Humaines, 1967, ch. II: «L’antropophagie rituelle des Tupinamba», pp. 43-78.
[25] جلال الدين الرومي، مثنــوي، ترجمة ودراسة وتحقيق: د. محمد صالح كفافي، صيدا – بيروت، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، 1967، ص. 93.
[26] شكلت هذه الحقيقة إحدى المعضلات الفكرية الحقيقية في سائر الثقافات، متمثلة في تفسير مسألة منع غشيان المحارم القابعة وراء كل النظم العائلية: إذا كان البشر ينحدرون من أب واحد وأم واحدة ألسنا، بالتالي، نتيجة انتهاك لهذا المحظور؟: «ينطوي هذا المبدأ الأخلاقي على أن “الرجل الأول” لابد أن يكون قد اتخذ زوجة ليست أختا له، الأمر الذي يجعل كل أسطورة عن “الرجل الأول” أو “المرأة الأولى” متناقضة منطقيا. لأنهما إن كانا أخا وأختا فإننا نكون جميعا ثمرة زنا بالمحارم، وإن كانا مخلوقين مستقلين لم يعد ممكنا إلا لأحدهما أن يكون الكائن البشري الأول في حين لا يكون الآخر بشريا (بمعنى من المعاني)، وهكذا نجد أن حواء في الكتاب المقدَّس مخلوقة من جسد آدم وعلاقتهما علاقة زنا بالمحارم». انظر: إدموند ليتش، كلود ليفي شتراوس. البنيوية ومشروعها الأنثروبولوجي، ترجمة ثائر ديب، (د. م)، (د. ت)، ص. 82-83.
[27]Mircea Eliade, Mythes, rêves et mystères, Paris, Gallimard, Idées, 1957, p. 36.
[28] لحظة (وعملية) الخلـق الأولى للعالـم والكائنات.
[29] نفسـه، الصفحة ذاتها.
[30] بتأمل ما حققته البشرية من «كشوفات»، يمكن القول إن أفضل ما تأتى لها أمران: العملُ متمثلا في الكتابة بالدرجة الأولى، ثم اللذة متمثلة أساسا في الموسيقى والرهيق الإلهي، ناهيك عن الجنس كما كان يتمثله ويمارسه الهندو القدماء (وهنا أشدِّد على ضرورة قراءة الكتاب الرائع لمالاينجا فاتسيايانا، الكاماسوترا. فن الحب عند الهنود، ترجمة: رحاب عكاوي، لندن – بيروت، دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى 1998): الموسيقى – الصامتة بالخصوص – تهدئ الحواس، وتساعد الروح على السفر في المدارات اللامرئية، وتمحو الزَّمن، وتفتح عيني المرء على الامتدادات الموجودة بينه وبين العوالم والكائنات المحيطة به. أما «الرحيق الإلهي»، فيساعد الإنسان على الانتشاء وولوج الأبعاد المحجوبة في الدواخل، والتحول المؤقت إلى كائن مشرع على جميع الاحتمالات. لكن ما كل الناس بقادرين على ولوج هذه الأبعاد: فمنهم من يقوى على الابتلاع فيشرَب، ومنهم من لا يستطيع فيُشرَب. والأفضل للصنف الأخير أن يمتنع عن الشراب اجتنابا لتدنيس هذه «الهبة السماوية» التي خلقت ليشربها بنو البشر لا لتشرَبَهم.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الإثنين 03-09-2012 04:39 صباحا

الاخبار العاجلة