د. التهامي محمد الوكيلي: سحر الملكين ببابل «هاروت وماروت»، وسحر الشياطيـن. قراءة في كتيب «الإسلام والسحر» لمحمد أسليم 2/1

1٬393 views مشاهدة
minou
حول أعمالنامقالات
د. التهامي محمد الوكيلي: سحر الملكين ببابل «هاروت وماروت»، وسحر الشياطيـن. قراءة في كتيب «الإسلام والسحر» لمحمد أسليم 2/1

وأنا أتصفح الكتيب 16 في سلسلة كتاب الجيب، والذي يحمل عنوان «الإسلام والسحر»، من تأليف محمد أسليم، أثار مضمونه مجموعة من الملاحظات من ذلك النوع الذي تتوارد على ذهن القارئ لأول وهلة، دون أن يكون لديه عزم مسبق على إجراء نقد قائم على قراءة متأنية وممنهجة.

وحتى لا أطيل، أدخل إلى صميم الموضوع مباشرة لأسجل أهم تلك الملاحظات كالآتي:

1. من حيث المنهج:
يناقش الأستاذ أسليم قضية العلاقة بين الإسلام والسحر من خلال منهجية تقوم على بسط الآيات القرآنية التي ترد فيها كلمة سحر أو ساحر أو سحرة أو أي اشتقاق آخر، والتطرق إلى الخلاف القائم حول تفسير هذه الآيات، والذي ينتج عنه تعدد وتنوع في المواقف، ثم طرح بعض الأحاديث النبوية التي وردت في الموضوع، بدءا بالرواية التي تحكي عن إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرور السحر اليهودي على يد لبيد بن أعصم، من بني زريق، وقد كان يهوديا أو من المنافقين المعروفين، ثم أخذ يحلل الرواية ذاتها ليخرج منها بالبنية الفكرية والعملية السلوكية التي قامت عليها عملية العلاج، وذكر فيما ذكره قبل ذلك أن السحر يتعلمه الناس – بالدليل القرآني – على يد الملكين ببابل «هاروت وماروت».، واستعرض بعض الأحاديث الصحيحة في العرافة والسحر، وأتبع ذلك ببقية من المناقشات تناولت، على الخصوص، بعض التأملات الفقهية، وبعض المعلومات المتاحة حول مكونات السحر العربي الإسلامي، كما سماه السيد أسليم، والسحر الدفاعي والهجومي، قبل أن يجعل تمييزا بين أنماط مختلفة من السحر المستمد من التعامل مع المحرف والمقلوب من الرسالات المنزلة، فتطرق إلى سحر الحروف، وسحر الأسماء، وإلى ما أسماه بالسحر القرآني، وسحر الدعوات.
هكذا، تناول المؤلف موضوع السحر من منظور يبدأ بالمنطق القرآني، أو الديني، ثم ختمه بالنجوى أو بما ينبغي تسميته «استحضارا» لقوى خفية بواسطة الكلام المنطوق، أو استحضار لقوى عقول ساذجة في العالم الموازي في انتظار من يستدعيها لتدخل من خلال قوى عقله إلى عالم الفعل.
وهذا الطرح يجعلنا نلح على السؤال حول المصدر الأول، أو المصادر الأولى للسحر، ما دمنا نتحدث عن الإسلام والسحر، وما دمنا نعلم – بالدليل القرآني – أن الإسلام هو «الدين» الواحد الكامل الذي أنزله «الديان» جل وعلا على عباده بواسطة أنبياء ورسل كان آدم عليه السلام مفتاح ظهورهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، خاتم ذلك الظهور.
إن الحديث عن الإسلام إذن يستدعي أن نتفق، في البدء، عن مدلول الكلمة وبعدها العقدي، وهو البعد الذي قلنا إنه يبدأ – في الوجود الفيزيقي – بآدم وينتهي بخاتم الأنبياء، والرسل (ص)ـ ومن ثم فإن السحر باعتباره – كما قال المؤلف وهو على حق – «نقيضا للدين». ينبغي أن يكون ظهوره في الخندق المقابل منذ ظهور أولى قبسات هذا الدين إلى الوجود الموضوعي. فقد جاء آدم – هابطا – إلى الأرض ومعه كلمات تلقاهن من ربه فتاب بها عليه، وهن عبارة عن تعاليم مضادة للغواية الت يوقع فيها آدم وزوجه بلا أدنى شك، وبالتالي فإنهن (أي الكلمات التي تلقاهن آدم عن ربه) كن أولى النبوءات المبشرة بالإسلام، وكن بطبيعة الحال مناسبات لما كان عليه العقل في تلك المرحلة الأولى من «النشأة الأرضية» من بدائية وحيوانية. ذلك أن الإنسان رد بتلك السقطة «إلى أسفل سافلين»، أي إلى الوجود المادي الكثيف والدنيء مقارنة مع الوجود السابق الذي كان في «أحسن تقويم» وفي عالم فردوسي ليس فيه أدنى شائبة من الشوائب الدنيوية التي يعرفها الجميع ويغطس فيها حتى أدنيه !!
أردنا القول إذن، إن التطرق إلى الإسلام والسحر، كان ينبغي أن ينطلق من كون الإسلام هو الدين كله، بكل النبوءات والرسالات التي أسست له فوق الأرض ومهدت لكماله وتمامه على يد محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الطرح يجعلنا ننظر إلى السحر، نقيض الدين، بصورة أكثر عمقا وبعدا وتتجذر في التاريخ الإنساني، ولا غرو في ذلك، فقد بدأت أولى قبسات الدين تظهر على الأرض علي يد أب الإنسانية آدم، وفي الوقت ذاته ظهرت أولى لفحات السحر، على يد الشيطان، الهابط الآخر، وكان أول ضحايا تلك اللفحات النارية القاتل من بني آدم، باستلامه لإملاءات الشيطان وتزويقاته وانخداعه بإغراءاته حتى فتك بأخيه مسجلا بذلك سبقا غير مسبوق في عالم الإجرام الأرضي.
بل إن السحر سبق ذلك بعهد بعيد، فالشيطان عندما كان في حالة الأبلسة (أو الحال الإبليسية) في العالم العلوي، ثم في حالة الأبلسة (أو الحال الإبليسية) في العالم العلوي، ثم في العالم الفردوسي بعد أن دخل إليه لإغواء آدم وزوجه، كان قد سبق له أن برر عصيانه الأول لربه، عندما قال له اسجد لآدم مع الملائكة فأبى واستكبر، بتعليلات سبعة مشهورة (انظر الملل والنحل – الشهرستاني) كن بمثابة الجذور الأولى للغواية وللابتداع… وما السحر إلا هذان العنصران بالذات: الغواية والبدعة، أي الإتيان بما يحول الفكر عن الله عز وجل وعن دينه، ثم الزيادة والنقصان والقلب والتغيير والتخويف فيما جاء به الدين حتى ينقطع الحيل وتنفصم العروة الوثقى بين العبد والدين، وبالتالي بينه وبين ربه عز وجل ويلهى عن ذلك بزخارف دنيوية زائلة.
ولم لا يعرف شيئا عن تلك التبريرات السبعة الإبليسية نقول: إنها تدور حول سبعة أسئلة جاب بها إبليس حول الحكمة من خلقه وهو المعروف عند الله مسبقا بعصيانه؛ والحكمة من طرده من الجنة بعد عصيانه أمر ربه، ثم من إعادته إليها ليغوي آدم وزوجه بوساوسه وإملاءاته؛ والحكمة من إنظاره بعد كل ذلك إلى يوم الدين ليقعد لبني آدم كل مقعد فيغويهم ويقطع دابر إيمانهم بكل الوسائل والحيل التي أتاحها الله سبحانه له لحكمة يعلمها عز وجل !!
وإن المتأمل لهذا الموقف الإبليسي لا يسعه إلا أن يجد له علاقة أبوة وتأسيس مع السحر، لأن السحر أولا وأخيرا ليس سوى نقيض للدين، وبالتالي فهو قائم على التغيير والقلب التحريف لكل ما جاء به الدين من تعاليم ودروس، وأيضا، لكل ما جاء به من منطوق ومكتوب ومفهوم ودل عليه من مادة فيزيقية في مختلف مراتبها الوجودية، (الصلب، السائل الغازي، الأثيري، الإشعاعي، الضوئي، الكهرومغناطيسي، الطاقي…، الخ)، ولذلك جاء السحر على مر العصور قائما على أسس ومفاهيم وتطبيقات وطقوس لها علاقة بهذه العناصر جميعها. ولذلك أيضا، نجد السحر قائما على المنطوق (التعازيم، والدعوات، والقراءات المقلوبة أو المحرفة للكلم الإلهي… الخ.) وعلى المكتوب، وعلى المادي العنصري (السيمياء) وعلى طقوس لها علاقة بالعناصر الأربعة الأساسية في الطبيعة (النار والماء والهواء والتراب) وعلى أرضيات أخرى متعددة ومختلفة لها علاقة باعتقادات قديمة كثيرة كعبادة الأشجار والنبات (البخور) وعبادة الكواكب (السحر المبني على التنجيم وعلى حركة الأفلاك والأبراج) وعبادة الحيوانات (الدم والقرابين والحيوانية…) وعبادة الأشخاص من البشر ذوي الكرامات (الأدعية المستحضرة لقوى عقول الأئمة وشيوخ الطرائق القدامى الهالكين، ويقال لذلك خطأ تحضيرا للأرواح…) وعبادة الهواء والفضاء الكوني (اليوغا والزن والطاو)…، الخ.
ها قد رأينا إذن، بأن المناقشة التي أوردها المؤلف حول موضوع الإسلام والسحر، جاءت مبتورة لأنها اعتبرت الإسلام في خاتمته المحمدية فحسب، فكان السحر الذي هو نقيض الدين لم يظهر إلا مقابل الرسالة والنبوة المحمديتين. بينما ظهوره كان موازيا ومواكبا لظهور أولى نبوءات الإسلام على يد أول الأنبياء، آدم عليه السلام.
ملاحظة أخرى حول المنهج الذي أخذ به مؤلف كتيب «الإسلام والسحر»، ألا وهي ذكره لورود أطروحات أو مقولات عدة، يعدها أحيانا ثمان أطروحات، أو ثلاث عشرة، ثم لا يf0كر منها بالتفصيل سوى واحدة، لأن هذه الواحدة تخدم الوجهة التي يسير فيها فهمه أو التي يريد أن تسير وفقها أفهامنا نحن القراء. وهذا في نظري فيه نوع من العسف، إذ الموضوعية تقتضي، مادام المؤلف قد وقف على طروحات مختلفة حول نفس الموضوع، أن يسوقها لنا تباعا، ثم يختار منها بعد ذلك ما يراه مناسبا أو أجدر بالاعتبار، فيتيح لنا بدورنا فرصة التطلع إلى المسالة المطروحة من جوانبها المختلفة، أو من بعض هذه الجوانب على الأقل، وهكذا يرفع عنا وصايته الفكرية، ويعاملنا، بالتالي، كعقول ناضجة قادرة على تلمس طريقها وسط ما يعترض طريق هذا البحث من شبكات طرقية متشعبة وملتوية أو يحكمها الفصام والتوازي، ذلك أنه ملزم بحكم الموضوعية والنزاهة العلميتين بأن يطلعنا على مضمون بحثه بالكامل، ثم يأخذ بأيدينا بعد ذلك إلى حيث يريد لنا أن نسير، فيكون في وسع كل منا آنئذ أن ينساق أو يتراجع أو يختار ما يروقه ويناسب فهمه من السبل.
حسنا، إذا كان المؤلف لا يرغب في إطلاعنا سوى على ما يراه هو أهلا للإفشاء ويرانا أهلا للكشف عنه، فلم لا يقتصر منذ البداية على أطروحة واحدة أو أطروحتين، وهكذا نسلم نحن من ضغط الأسئلة وننساق مع فهومه بكل دعة، ما دمنا – كقراء – قد أوليناه – كباحث ودارس – ثقثنا المفترضة والعرفية بمجرد فتحنا لدفتي مؤلفه؟ !
ملاحظة ثالثة في نفس الإطار، مفادها أن المؤلف حين تحدث عن الىيات القرآنية التي ذكر فيها اسم السحر أو الساحر أو السحرة، عد لنا هذه الآيات فإذا مجموعها العام 61 آية كريمة ضمن 47 سورة، وهذا رقم يسير كان من الأجدر أن يجعل صاحبنا يتنازل فيستخرج لنا تلك الآيات فنقرأها معه دون أن يحيل كلامنا إلى مصحفه ليبحث وينقب. وقد كان من الأفضل والأمتع والأفيد أن نجد نصوص هذه الآيات واضحة بموازاة مع الاستنتاجات التي بسطها المؤلف حول مضامينها، التي يقول هو عينه إن تفاسيرها متعددة ومختلفة وكذلك الأفهام المحيطة بها، الشيء الذي كان سيجعل وجودها واضحة بالنص في غاية الإفادة. فهل كان الرقم 16 عزيزا على العد، مع العلم أن مجموع آياته ما كان ليستهلك من الكتيب أكثر من ثلاث صفحات أو أربع؟!

2. من حيث المضمون
(كانت أول ملاحظة نطت إلى الذهن وأنا أطالع أوزلى الصفحات، قول المؤلف في بحر الفقرة الثانية من أول فصل تحت عنوان «القرآن والسحر».
«… مما يظهر أن الخفي كان – وما زال – يشكل موضوع انشغال جدي من قبل القرآن والفقهاء المسلمين على السواء».
وهذا قول غير سليم بالمرة، فكيف ذلك؟
إن القرآن ليس مؤلفا ككل المؤلفات ولا نتاج عقل محدث يقع له الانشغال كما يقع للعقول المخلوقة، بل هو قول حق منزل من عند العليم الخبير ذي مطلق العلم ومطلق الخبرة، وبالتالي فإنه (أي القول القرآني) يذهب مباشرة إلى المعاني والأشياء التي ينشغل بها العقل الإنساني والشيطاني والملائكي على السواء فيجردها كحقائق وليس كأي كلام يحمل الجد والهزل معا. وهذا يدل على فساد القول بـ «الانشغال الجدي من قبل القرآن».
ثم إن القرآن بالصفة الربانية المذكورة والمنزهة عن النقص وعن التشبيه وعن المحاكاة لا يجوز أن يكون على صعيد المساواة مع انشغال الفقهاء واجتهادهم وتفسيرهم المتعدد والمختلف، الصائب والخاطئ، المكتمل والناقص… ومن ثم، فإن عطف الحقيقة القرآنية على الاجتهاد الفقهي الإنساني غير وارد بتاتا وغير جائز، وهو العطف الذي استعمله المؤلف (القرآن والفقهاء المسلمين على السواء) كما لو كان الأمر متعلقا بأطروحات متساوية على الصعيد القيمي متكافئة أو متقاربة على صعيد الحمولة العلمية والمعرفية، مع العلم أن ما جاء به القرآن هو العلم الحق، وما يجيء به الفقهاء يحتمل كل أنواع الضعف والهوان !!
(يطرح المؤلف إشكالية الفهم اللغوي للمنطوق الديني (القرآني) ويعزو ذلك إلى «طبيعة اللغة العربية» ذاتها، وإلى «تنوع الاستراتيجيات الممكنة لقراءة القرآن»، ولذلك يختلف المفسرون وتختلف التفاسير حول الآية الواحدة.
وقد كان على المؤلف أن يحاول معنا حل هذه المعضلة فيقترح علينا نمطا معينا من التفسير أو من الفهم، فنعلم بذلك أي المناحي نأخذه في فهم الآيات المتطرقة إلى موضوع السحر والسحرة والمسحورين ! فيقترح علينا نمطا من التفسير أو من الفهم، فنعلم بذلك أي المناحي نأخذه في فهم الآيات المتطرقة إلى موضوع السحر والسحرة والمسحورين !
كان عليه مثلا أن يحيلنا على «اللسان العربي» (أو لسان العرب) حتى يتسنى لنا أن نقرأ القرآن بنفس اللغة والفهم اللذين كانا سائدين في فترة نزوله بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلاله إلى الناس كافة، وفي طليعتهم: العرب حاملو الرسالة.
كلنا يعلم أن اللغة العربية التي كانت مستعملة من لدن القرشيين في الجاهلية وف يصدر الإسلام تكاد لا تمت بصلة للعربية المائعة التي نعجز الآن حتى عن توحيد مصطلحاتها ومعاني كلماتها الأكثر بساطة فيما بيننا نحن العرب. وهذا يقتضي منا لكي نفهم كلام الله المنطوق باللغة العربية (الذكر الحكيم) أن نعود إلى «لسان العرب» فنستنطقه لنعلم المفاهيم التي كانت سائدة حول الموضوعات التي تناولها كتاب الله العزيز، وعلى الخصوص، حول المعاني اللغوية التي كانت للكلمات ساعة النزول. ولو أردنا أن ضرب مثلا على ذلك لقلنا، على سبيل المثال، إن كلمة «نساء» دلت في بعض الآيات على جمع «نسيء» وهو الشيء المتأخر زمنا، أو الحديث، أو آخر الحوادث، كما أن لفظ «بنون» دل في بعض المواقع على جمع «بنيان» وليس جمع «ابن»، وإن كلمة «المد» تدل على نفس المعنى، وإلا لما جاءت في مواقع مختلفة معطوفة على بعضها، لأن الشيء لا يعطف على نفسه بتاتا، إذ في هذه الحالة يتحول إلى مثنى (نقول: كتابان أو قرآنان، ولا نقول كتاب وقرآن بنفس المعنى).
إذن، فاللسان العربي الفصيح الذي كان سائدا في فترة النزول هو الأجدر بالتعلم وبالإتقان وبالدراسة في كل الشعب التعليمية التي لها علاقة باللغة العربية وآدابها وعلومها، تماما كما يتعلم اليهود العربية والمسيحيون اللاتينية ويتقنونها كمرحلة أولى للاطلاع على كلام الله في منطوقه الأصيل المنزل، وبالفهم الذي أراد الله عز وجل نشره بين الناس بحيث يكون سلسا بالنسبة لأذهانهم ويتسرب بالتالي إلى أفئدتهم فيلامس المشاعر والعواطف، وفي نفس الوقت، يتغلغل إلى أعمق مراتب الفكر في عالم العقل.
كيف إذن نفهم القرآن وفيه كلمات كثيرة العدد والعدة غائبة عن أفهامنا بمضامينها اللغوية شديدة الدقة؟ !
لقد طرح المؤلف هذه الإشكالية، إذن، دون أن يقربنا من حلها أو من بعض الحلول المتاحة أو المفترضة.
طرح المؤلف مسألة «الملكين ببابل» (هاروت وماروت) فأخبرنا بأن المفسرين يختلفون في قراءة ملكين من ملائكة (بالنصب) أو ملكين من الملوك (بالكسر)، بينما هو يعلم أن وجودهما في حيز غير مرئي (باطني) ينفي عنهما صفة الملك، وبالتالي فإنه يجعل تعليمهما الناس السحر من باب الابتلاء والاختبار للأسباب التالية:
إنهما يقولان لمن يصل إليهما بغرض التعلم «إنما نحن فتنة فلا تكفر». وهذا ليس بالمعنى الذي يفيد: «اذهب ولا تتعلم فنحن سنفتنك»، وإنما بالمعنى الآخر الذي يفيد: «إن ما نعلمه يفتن الناس، ولا ينبغي أن يتعلمه إلا العباد المتمكنون أي القادرون على عدم استعماله بتاتا إلا فيما هو أهل له وأخذه بالتالي من باب العلم بآيات الله في الوجودين الظاهري والباطني وفي خلقه».
إنهما يقولان لمن يطلب العلم عندهما: إن ما نعلمك إياه فتنة فاحذر استخدامه لذته أو لأي مصلحة دنيوية كيفما كان نوعها. ذلك أن استخدامه للمصلحة الأخروية جائز ويقتضي اعتباره جزءا من العلم الذي يتيحه الله لمن يشاء من عباده وبالقدر الذي يشاؤه (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).
إنهما يخاطبان أناسا علماء متضلعين ف يعلوم أخرى تمهد لتلك المرحلة من التعلم، ذلك أن المرء الذي استطاع أن يتخطى حجب الظاهر وينتقل إلى عالم الباطن، ويلتقي بالتالي بالملكين حيث هما منذ أن كلفهما الله سبحانه بهذه المهمة، لابد أنه امرؤ محنك وعالم بفنون الانتقال بقوى العقل عبر الحجب الكونية وعبر «الفجاج الأرضية». ولذلك فلا يعقل أن نعتقد أن مثل هذا الرجل ليس سوى جاهل بسيط يجد نفسه بالصدفة أو بفعل ساحر آخر وجها لوجه مع الملكين هاروت وماروت بأرض بابل الباطنية، وليس الظاهرية بالعراق المنظور والمعروف والملموس !!
وبناء عليه، فإن الملكين لا يريدان بقولهما المذكور في القرآن ثني القادم عليهما عن التعلم، بل يرغبان بتكليف من الله عز وجل في تذكيره بحقيقة العلم الذي يعلمانه، وبكونه فتنة، وبالتالي، بأنه سيمكن المتعلم من قوى وقدرات خارقة قد تجعله يعجب بنفسه ويستكثر مواهبه فيتعالى بها على الخلق ويتحول بذلك عن الطريق القويم الذي أوصله أول الأمر إلى حضرة الملكين.
هناك إذن طائفتان من المتعلمين:
– طائفة تدخل إلى بابل الباطنية بالوسائل الدينية المعروفة، وفي مقدمتها البصيرة والفراسة والالتزام بحدود الله مع ممارسة التركيز العقلي المصحوب بتلاوة الذكر الحكيم والذكر بأسماء الله سبحانه وتعالى غير مقلوبة ولا محرفة ولا مخلوطة بأسماء غير سبحانه.
وهذه الطائفة تتعلم عموما فوق السحر إذا أرادت ذلك من الملكين مباشرة، وتسمع قولهما المعروف (إنما نحن فتنة فلا تكفر) والنصح هنا بعدم الكفر يدل على إيمان الوارد الراغب في التعلم).
– وطائفة من الظلماتيين وممارسي طقوس العقائد غير الدينية، وهؤلاء يتعلمون مباشرة من الشياطين، الذين م كفار أساسا (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) و(ما يفرقون به بين المرء وزوجه…)،وبالتالي فإن عملهم ليس ربانيا كالأول، بل شيطانيا ماكرا وظالما ولكنه أضعف من أن يصمد أمام العلم المستمد من الملكين ببابل هاروت وماروت.
وهكذا، نجد أنفسنا بإزاء حرب بين الطائفتين، وهي حرب باطنية لا يعلمها إلا الله سبحانه وهؤلاء، وصراع بين علم رباني قائم على الإيمان والاحتساب، وآخر شيطاني قائم على الكفر وعلى القلب والتغيير والتزييف والتحريف. ولا نحتاج إلى القول بعد ذلك إن كلا منهما يبرر وجود الآخر. وهذا الوجود أساسه كامن في الوجود الواجب لخطي النور والظلمات، ولظاهرتي المعجزة والكرامة، ولعنصري الدين والسحر، ولمقامي الإيمان والكفر… وقس على ذلك كله.
يكفينا إذن أن نتذكر أن الملكين يقولان «إنما نحن فتنة فلا تكفر» وهما يخاطبان عالما سار إليهما بوسائل دينية محض، ليتحول إلى جندي مجهول من جنود الله العاملين في السر على إحقاق الحق وعلى إبطال مفعول الباطل، بينما الشياطين تعلم الناس الأواخر وتمنيهم وتعدهم بالغرور ولا تقول مطلقا نفس قول الملكين المذكورين.
هذه إذن بعض الملاحظات حول بعض ما جاء في كتيب الإسلام والسحر، أدرجناها حتى تكتمل الفكرة التي سعى المؤلف – مشكورا – إلى بلورتها فأصاب تارة وأخطأ تارة أخرى دون أن يعدم أجر الاجتهاد، وسنعود في مقال لاحق إلى نفس الموضوع لنبين جوانب أغفلها هذا الكتيب… وللحديث صلة.

(نشرت هذه الدراسة، في الأصل، ضمن الملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني، يوم 5-6 2000، العدد: 7443)

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 08-09-2012 10:28 مساء

الاخبار العاجلة