نجيمة بلانطاد: حرب النساء. السحر والحب في الجزائر / عرض محمد أسليـم

1٬751 views مشاهدة
minou
قراءات ومراجعاتمقالات
نجيمة بلانطاد: حرب النساء. السحر والحب في الجزائر / عرض محمد أسليـم

ربما يستقطب البحث في موضوع السحر والخفي عموما، داخل المجال العربي، العنصر النسوي أكثر من نظيره الذكوري[1] وإذا كان في النتائج التي تتوصل إليها هذه الأبحاث بصفة عامة ما يبرر هذا الانشغال، حيث يتم الحرص على إبراز الوضع الدوني للمرأة في المجتمعات العربية ما لم يُنظر إلى تعاطي المرأة للسحر باعتباره نوعا من اللجوء إلى سلطة خفية يتيح للمرأة الدفاع عن نفسها والاسترجاع السري لما ينتزع منها علنا[2]، فإن الكتاب الحالي[3] لا يخلو من طرافة؛ فصاحبته قصرت موضوع بحثها كليا على النِّسَاء، والنتائج التي توصَّلت إليها قد تبدو متطرفة إن لم تظهر معادية للمرأة: فالمرأة المغاربية تعيش – حسب المؤلفة – حالة حرب متواصلة ضحيتها الرَّجُل، والمرأة تمتلك بواسطة السِّحر سلطة إعادة تشغيل العالم بكيفية تجعله يشتغل بـ «المقلوب»، حيث تأخذ المرأة وضع المتسلطة القادرة وحدها على نفح الرَّجُل بالحب أو الكراهية ويأخذ الرَّجل وضع الخاضع الدَّليل الممتثل دون أن يملك أي سلاح للدفاع عن نفسه. ومعنى ذلك أن المؤلفة تنحاز، بشكل ما، إلى زمرة الباحثين الذين يرون في قلة الاعتبار الذي تناله المرأة في المجتمعات المغاربية مجرد مظهر لسلطتها المطلقة إما باعتبارها حقيقة أو بوصفها استيهاما[4].
1. مملكــة الصَّمــت
في البداية كانت تنوي الباحثة إنجاز بحثها الميداني في باريس حيثُ توجدُ مجموعة من السَّاحرات المنحدرات من منطقة القبائل الجزائرية، فيهنَّ متخصصات في أداء طقوس سحرية لإرغام أبناء المهاجرين الجزائريين على عدم الزَّواج بفرنسيات، إلا أنها اضطرَّت أمام صمتهن للنزُول إلى الجزائر. فقد كان ثمن تقديم نفسها لإحدى تلك السَّاحرات، باعتبارها باحثة في السحر، أن ألقتْ هذه السَّاحرة عليها سيلا من الشَّتائم وتهديدها بالانتقام منها سحريا إن تجرأت على معاودة تلك الزِّيارة[5]. وهو وضع يشبه إلى حد ما التجربة التي اجتازتها جان فافري أثناء بحثها الميداني في الموضوع نفسه بمنطقة بوكاج المايان. فخلافا لما اعتقدت في البداية، استنادا إلى العديد من الأخبار والتقارير الصحفية المتعلقة بقضايا السحر في المنطقة المذكورة، لم تجد الباحثة لدى وصولها إلا صمتا مطبقا. وبتسربها إلى أوساط السحر فقط تمكنت من الحصول على الأخبار التي كانت تود الحصول عليها، وبالتالي صاغت القاعدة التالية: «في إثنوغرافيا السحر يجب [على الباحث] دائما أن يحتل موقعا ما»[6]. في الجزائر، لم تجد الباحثة الوضع مختلفا إلا بلباقة طرق الصَّدّ؛ كان ثمن لقاء قصير جدا مع ساحرة في عين الحمَّام هو تسديد مبلغ 500 دينار (حوالي 500 درهم) ونصف كبش و25 كلغ من السَّميد. وفي محاولة أخرى مع ساحرة ثانية، اكتفت هذه بأخذ 20 دينارا مقابل الاستشارة، لكنها امتنعت عن الكلام!… لكن الصُّدفَة ستسوق ساحرة ذات شهرة تغطي مجموع منطقة القبائل الكبرى، فضلا عن كونها شاعرة ومُطببة أيضا، ستقبل مساعدة الباحثة مقابل ثمن زهيد: معرفة أوضاع المرأة بفرنسا. ومع ذلك، يبدو أن هذا الحل لم يكن نهائيا: فللا فاظمة لم تُفِد إلا في صياغة الفصل الأول من الباب الثاني، المتعلق بطرق ترشيح المرأة لتلج الوضع الاعتباري لـ «ساحرة» وأشكال تدخلاتها، وبذلك اضطرَّت الباحثة إلى الاتكاء أساسا على ملاحظاتٍ جَمَعَها باحثون غربيون، مثل دوفلدير M. Devulder وجنفوا H. Genevois بصفة خاصة، بين 1951 و1978، وهي عملية تفسَح المجال لملاحظة هذه المفارقة القائمة بين الممارسة الاجتماعية والخطاب العلمي بشأن الموضوع: حيثما أفلح «العامة» أخفقت النخبة الباحثة، ذلك أن الناس العاديين البسطاء تدبروا أمر التوفيق بين المعتقدات الوثنية والإسلامية، بين الرغبة والعقل، لشرعنة السحر وممارسته بما يمد الباحث بزخم من المعطيات الميدانية القابلة للجمع والتحليل والتأويل، لكن هؤلاء الباحثين أنفسهم يحجمون عن ارتياد هذا العالم. ففي حدود ما أعلم، لم يتناول هذا الموضوع إلا كتاب أكاديمي واحد هو «التطبيب والسحر» [7]، وكتابان تعميميان هما «الطب والسحر في المغرب»[8]، ثم «كلمات المشعوذ»[9]، وبضعة بحوث جامعية لم تجد طريقها للنشر، منها
أطروحة خديجة أميتي «العرافة: دراسة سوسيو-ثقافية…»[10].
تفسح الملاحظة السابقة المجال لأسئلة كثيرة أهمها: كيف ينجح باحثون أجانب في جمع معطيات ميدانية، في موضوع مَّا، من مجتمعات غريبة عنهم بينما لا يتوفق بعض أبناء هذه المجتمعات نفسها في جمع معطيات مماثلة مع أن الأمر يتعلق بثقافتهم الأمّ؟ لفهم مجموعة من الممارسات الحالية في مجتمعٍ مَّا، إلى أي حدٍّ يجوز الجمعُ بين الإقرار بوجود تحوُّلٍ اجتماعي سريع، داخل هذا المجتمع، والارتكاز على معطيات ميدانية قد يكون بعضها – بحكم عامل التحول نفسه – دَخَلَ إلى حيز تاريخ الممارسات والمجتمع المدروسين، فضلا عن أن تلك المعطيات قد جمَعَها أجانب؟

2. نــار الحــب
عندما تيأس الفتاة القبائلية من الزَّواج، بعد طول انتظار خاطب يتضح في النهائية أنه لن يأتي أبدا، فإنها تتوجَّه رفقة أمها لاستشارة ساحرة كي تتولى مهمة استحضار الزوج المنتظر. هذا الاستدعاء يتم عبر طقوسٍ تنصبّ أساسا على تجميل الفتاة وإظهار محاسنها الجنسية، ولذلك يتمحور أغلبها حول الاغتسال، والافتضاض الرَّمزي للبكارة، ثم الجماع الرَّمزي. في أحد هذه الطّقوس، مثلا، تأخذ السَّاحرة صابونة، ثم تنشد:
«صابونتها تلمَـع
حبها كالبدر ليلة اكتماله
أو كالشَّمـس وهي تلمَع»
ثم تأمر الفتاة بالاغتسال في الحمام بهذه الصَّابونة مع إنشاد الكلمات التالية:
«مائي كالنهر
جاريا سيأتي فلانٌ إلـيَّ
كما تجري مياه المجاري الهائلة»[11]
والكلمة هنا قوة سحرية تنقل الماء والصابونة وجسد الفتاة من أشياء عادية إلى أشياء ذات سلطة لن يملك الشَّابُ أمامها إلا الهرولة إلى الفتاة طلبا ليدها بسبب نشوة الجماع الرَّمزي الذي أجرته الفتاة معه في الحمَّام. والمرأة هنا هي التي تأخذ المبادرة وتضاجع الرَّجل وليس العكس. وبمجيء الزَّوج ستتصرف الأنثى على نحو يبديها كأنها لم تُخلَق إلا للجنس؛ ستعرض نفسها باعتبارها جسدا يشتعل رغبة وشهوة. تقول الأسطورة القبائلية: «في البداية كانت النساء هن اللواتي تأخذن زمام المبادرة الجنسية وتغتصبن الرِّجال، ولم ينقلب الوضع إلا عندما بنى هؤلاء المنازل وقرَّوا أخذ الوضع الأعلى في الجماع»[12]، وهي أسطورة تتجلى اليوم في سُلوك شائع بين النساء القبائليات اللواتي تتسلقن أسوار المنازل بحثا عن مغامرات جنسية مع رجال جاراتهن: «إذا كانت العاهرة غائبة في البنية القروية فذلك يرجع إلى وجود “إِيجْطَّالِينْ فْلْسْوَارْ”، أي متسلقات جدارن البيوت»[13]. هذا السُّلوك يجد تفسيره في الفكر المتوسِّطي الذي يرى أن المرأة هي التي تشتعل بالرغبة الجنسية وتُهيِّجُ رَغبةَ الرِّجال. لكن كيف يتم الانتقال من وضع الاشتعال رغبة إلى وضع الكبت؟ أيفيد ذلك أن الإشباع الجنسي لا يتحقَّقُ داخل مؤسسة الزَّواج؟ وإذا كان الأمر كذلك فما السَّبب؟ ولماذا الاستمرار في التهافت على هذه المؤسَّسة؟

3. فــخ الحـــب
إن التركيز على الجنس في الطقوس الشَّائعة يظل مجرد فخ (أو ذريعة)، ذلك أن وضعه هامشي في مجتمع القبائل. وبعض طقوس هذه المرحلة (مرحلة البحث عن زوج) تُصدِرُ فلْتاتٍ في موضوع الدَّور الذي ستضطلع به الفتاة بعد حصولها على الزَّوج، وهو دور الخصاء. فعندما تقطع السَّاحرة خيطا بمُديَةٍ بين فخذي الفتاة أو تكسِّر بيضة بين أسنانها، فإنها تفتض بالتأكيد بكارة الفتاة بكيفية رمزية، لكنها إلى جانب ذلك تُخصِي الزَّوج المنتَظَر، إذ ورَاء التمثل الثقافي السَّائد حول رمزية قوى الحديد الخيِّرة يختفي عمقٌ يتعلَّق الأمر فيه بشيء مخالف تماما: «ذلك أننا نجد أنفسنا أمام تمثل للمرأة الخاصية (la femme castratrice). فالمدية تتدخَّل دائما في المواقف الدَّامية حيث يُعتَدى على اللحم الحي؛ الحبل، القضيب، الفرج، وحيت تُشَغَّلهَا [=المدية] المرأةُ في كل مرَّة»[14].هذا الخَصَاء سيعود ليطرح نفسه بشكل سافرٍ ومقصود، بعد زواج الفتاة، عبر مجموعة من الطقوس الموجَّهَة نحو خَصاء حقيقي للزوج؛ ففي أحد هذه الطقوس تقيس الزَّوجَة ليلا طول ذكر زوجها بخيط سداةٍ، وهي تنشد سرّاً:
«قستُ طول قضيبك بخيطٍ
لا جَعَلَك الله تتزوج امرأة غيري
ما لم يبعُد رأسي [=ما لم أمت]»[15]
أو:
«هـذا الرَّجل
منـي وإليَّ
حياتـه ملك لي
حياتـه ليست ملكا لأي امـرأة سِـوَاي»[16]
وبعد تحضير مجموعة من المواد تتجه إلى مقبرة لدفنها في قبر قديم وهي تقول: «دفنتك كما دُفِنَ الموتى تحت الأرض»[17]. وخلافا لطقوس ما قبل الزَّواج (الماء، الصابون، التُّفاح، الجماع، الخ.) تتحول المواد في مرحلة ما بعد الزَّواج إلى أعضاء حيوانات أو قاذورات تُدَسُّ في وجبات طعام الزَّوج دون أن يعلم (خليط من سرطان، ومخالب قِطٍّ، وثنيات حِمار، وأجزاء من أجسام السلحفاة والأفعى والقنفذ، غمس منديل الجماع في كأس حليب أو قهوة ثم مناولة الزوج إياه، سكب ماء اغتسال الزَّوجة في القهوة ومناولتها إياه أيضا…)، وكلها طقوسٌ تحقِّق فعاليتها بشكل يجعل الزَّوج لا يستعيد قدرة مجامعة امرأة أخرى إلا بعد اجتياز سلسلة طقوس تنتهي باقتلاع ضرسٍ من جثة امرأة بعد نبش قبرها. وبعد تحليل مختلف التمثلات الخاصة بأسنان المرأة في الميدان المدروس انتهت الباحثة إلى اعتبـار أن ما يحرِّكُ هذه المعتقدات هـو «استيهام الفرج المُسَنَّن [ الذي له أسنان] (le fantasme du vagin denté)» و«صـورة المرأة الخاصية»[18].
كيف تتعايش الرغبة في الحصول على حُبٍّ قسري من الزَّوج مع إخَصائه في الآن نفسه؟ يجد هذا السؤال جوابه في الغاية النهائية للمرأة القبائلية من الحصول على زوج من جهة، وفي المرتكز النفسي الذي يسند هذا السُّلوك من جهة ثانية، وهما نقطتان تنفتحان على الجنس والحب باعتبارهما مفهومين وممارستين داخل المجتمع المدروس:

4. الحـب باعتبـاره مجــالا للغيـاب والمــوت
يتجه نمط التربية السَّائد في القبائل بمجمله إلى نطع الطفل بقيم الاستقامة والتحلي بالرُّوح العائلية واجتناب النِّساء ونطع الفتاة بقيم الطَّاعَة والخضوع والتَّهذُّب والاتصاف بنكران الذَّات، ولذلك يتم تغييب الجنس بصفة كلية فلا يتعرف عليه الأطفال إلا في سن متقدمة عبر مشاهدة الحيوانات أو مغامرات فردية يكون ثمنها قاسٍ جدّاً، لدى الأنثى بالخصوص. ويوازي هذا التعذيب فراغ المعجم المحلِّي من الكثير من المفردات الجنسية، خاصَّة منها المتعلقة بالأنثى؛ مثلا لا توجد كلمة لتسمية البكارة ولا أسماء لتعيين الأعضاء الداخلية للفرج، وبالمقابل توجد الكثير من التعابير المجازية للدلالة على الافتضاض («الطّبْلْ يقْرْضْ»: تمزَّق، و«طرّْزْ»: انكسَرَتْ، و«تْفْلْقْ: انفجَرَتْ…)[19]. ومنح الجنس وضعا اعتباريا مثل هذا يحوِّلُ الزَّواج إلى مؤسسة تقنية (canalisation) للغرائز الجنسية، وبذلك لا تعترف الثقافة السَّائدة وقواعدُها بالممارسات الخارجة عن هذه المؤسَّسة، وتلحق بكل فرد ضُبِطَ متلبسا في هذا الوضع عقابا يصل حدَّ القتل عندما يتعلق الأمر بالمرأة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، عندما تصير طقوس الزَّواج لا تستهدف قرابة عائلتين بقدر ما تستهدف وضع حدٍّ لاستمرار شرِّ وجود امرأة تجنبا لاحتمال تلطيخها شرف عائلتها، إذ «تعتبر ممارسة الجنس مع امرأة أخرى كذلك ممارسة جنسية مع زوجها وأبيها وإخوانها. إنها حطٌّ من قيمتهم وإلحاق عقوبة بهم وتحويلهم إلى نساء (…) وإذا مارست ابنةُ رجلٍ ما، أو أخته، الجنسَ مع رجلٍ آخر، فإن الأول يعيش الحدث السَّابق باعتباره اغتصابا جنسيا تعرض له هو نفسه من قِبَل الفاعل»[20].
ما هي تمثلات الشّرَف؟ كيف يتم جعل المرأة مقياسا لهذه القيمة؟ ماذا يتم في حالة تمثيل المرأة الإيجابي للشَّرَف؟ أين تقع هذه القيمة في حالات مغامرة الزَّوجَة خارج بيتها؟ عن هذه الأسئلة لا تقدِّم الباحثة إجابة، وقد يكون مرد ذلك إلى أن بحثها ينخرط في إطار التحليل النفسي الإثنولوجي، خاصة أنها جانبتْ تقديم ميدانها، من حيث الوَسَط والتنظيم الاجتماعي والحالة الاقتصادية، وإظهار الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها السِّحر على شاكلة ما أنجَزَه باحث جزائري انتهى إلى نتائج مخالفة[21].
إن المرأة القبائلية وإن كانت تقدّم نفسها في بداية حياتها الزَّوجية كما لو أنها لم تخلق إلا للجنس، من خلال تركيزها على تجميل نفسها، فإنها لن تلبث أن تقود هذا السلوك إلى مساحة الغياب لتدخل إلى مرحلة الممارسة غير السَّوية للجنس بحكم استمرار العائلة الموسَّعَة وقاعدة السَّكن الأبوي ونسيج العلاقات الذي تخلقه داخل الأسرة والقيود التي تطبع بها الفضاء. ستدخل الزَّوجَة في حرب مباشرة مع أم الزَّوج أو أخته أو زوجة أخيه، وستغيب إيديولوجية الزَّوج (le couple) بما يلازمها من عواطف محبَّة وعطف، وستجد الزَّوجَة نفسها تعيش في غرفة واحدة مع أبنائها وزوجها، وبذلك تتحول ممارسة الجنس إلى لعبة سرية تسرَق خفية من رقابة الأبناء وتغيب فيها المداعبات الجنسية والعرَاء…: «ما من قبائلي كبير إلا ويحتفظ بذكرى واعية عن كونه كان شاهدَ سَمَاعٍ لجماع أبويه»[22]. إلا أن الحبّ وإن كان يُقصَى إلى مساحتي الغياب والصّمت بشكل يُصَعِّبُ حتى الحصول على معلومات بصدد حياته اليومية، فإنه لا يلبث أن يتحدَّث من داخل هتين المساحتين وبطرق ملتوية أهمها الشِّعر ومداعبات النساء بعضهن بعضا في غياب الرِّجال. يتعلق الأمر في الحالة الأولى بأشعار تنظمها نساء مجهولات، مثلما هو الشأن في عروبيات نساء المغرب[23]، وتُنشَد خفية من الرِّجال. في هذه الأشعار يتم التركيز على الحب الجسَدي والتعبير عن الرغبة المحرقة عبر رموز تثير الجمال الجسدي؛ الجسد الذكوري في هذه الأشعار «يشبه قضيب الليمون»، و«شابٌّ ذو قامةٍ قَصَبية»… وجسد الفتاة «جوهرة منقوشة بدقة» أو «لويسيَّة»[24] ذهبية صغيرة»… لكن المواقف المذكورة في هذه الأشعار لا تُقَدِّم إلا وصلا مستحيلا لا يمكن تحقيقه وكأن الحب الحقيقي غير ممكن إلا في الغياب؛ حب امرأة ماتت أو امرأة يستحيل الوصول إليها، كأن الفرد لا يحظى بقيمة إلا في غيابه[25]. وتأتي هذه الأوصاف بمثابة نقيض للحياة الزوجية التي تُصَوَّرُ كلها خيبة وحسرة ومرارة ويُصَوَّر الزوج فيها بأبشع الصفات: «لعبَ لكِ الأحدَبُ الماكرُ كالغليون والأسوَدُ كالغرابِ دوراً خبيثا»، «بليدٌ مُدَّعٍ بشعٌ تَزوَّجَك… لك بمثابة زَوجٍ كلبٌ مُقْعٍ على ركام من العظام…»…
أما في الحالة الثانية، فالأمر يتعلق باجتماعات تخلق النساء فيها بينهن فضاءً حراّ ماجنا يأخذ فيه الجنسُ وضع السيِّد: «الكلمات، القهقهات الضاحكة الكبرى، والمداعبات الجنسية، هي خاصيات هذه اللحظات المفضَّلة التي يسمح فيها التعبير بشكل حُرّ وبطريقة تلقائية جدا عن الرَّغبة المقموعة غالبا.. تخلق النساء زمانا ومكانا يتلذَّذنَ فيهمـا باستيهاماتهـن وأجسادهـن يعبـرن عـن الجمـاع، بل ويلعبنـه. وفي ذلك تنكشف الاستيهامات الكونية للاغتصاب والشبق والعبور من جنس لآخر…»[26].
وخارج هتين الحالتين تنعدم أي إمكانية لتحقيق إشباع جنسي بيولوجي خارج ثلاثة مجالات؛ زنا المحارم، اللجوء إلى السحر لتحقيق رباط خارج مؤسسة الزواج، ثم الخيانة الزّوجية.
وإذا كان المجالان الأول والأخير يقودان مباشرة إلى الموت، فإن المجال الثاني لا يضمن التحقق والاستمرارية لأن الحب فيه يُتَاخم الجنون بسبب استبداد المرأة. واختيارها لهذا السبيل يضعها في حلبة قتال مع أهل الرجل وأقاربه. وبخصوص المجال الأول، تذكر المؤلفة أن أغلب حالات انتهاك قاعدة منع غشيان المحارم تتم بين الأب وزوجات أبنائه أو بين الزوج وأخوات زوجته أو بين الزوجة وإخوان زوجها، وأخيرا بين الإخوان والأخوات[27]. وقد سبق لنوال السعداوي أن أكدت وجود كافة هذه الحالات في عموم العالم العربي[28].

5. الحب باعتبـاره تجليا لغيرة النساء وجنسيتهن المثلية ونرجسيتهن:
عندما يصل عمر الطفل إلى ما بين سنتين و6 سنوات (أي مرحلة ما قبل عقدة أوديب) تنبذه أمه كي تفرَّغ كليا لتربية مولود جديد. وتعبيرا عن غيرته وقلقه يُظهِرُ الطفل عَرَضَ ما يُسمَّى بالانسدال المستقيمي(Prolapsus rectal)[29] المصحوب بإسهالٍ وبكاءٍ لا ينقطع، وهو عرضٌ يُخجِل وسط الطِّفل ويقلقه لأن الصَّبي يكون، في اعتقاد أهله، قد جسَّد غيرَتَه و«تحَوَّل» إلى أنثى. ذلك أن الكبد هو موضعٌ للطعام السَّائل، ومن ثمة فهو أنثى، والأمعاء موضعٌ للطعام الصَّلب، ومن ثمة فهي ذكَر. والطفل بفقدانه خلَليا السائل الغائطي، أثناء الانسدال المستقيمي، يكون قد حَوَّل، عبر صيرورة سيكولوجية (الغيرة)، صلابته الذكورية إلى سيولة، والسيولة خاصية تميز النساء عن الرِّجال. وتعبيار عن القلق والخجل من هذا العرَض يُفرط الوسَط في عقاب الطفل، لكن هذا العقاب يدور في حلقة مفرغة؛ يُعَاقبُ الطفل كي يكفَّ عن البكاء، لكنه بقدر ما يُعَاقَبُ يزيد في البكاء، يُعَاقَبُ لأنه يبكي ويبكي لأنه يُعَاقَبُ. وفي هذا السياق المؤلم المتميز بالنَّبذ سيتمكن الطفل من الحصول على مكانته.
لكن عندما يُرفَقُ الانسدال المستقيمي بالدَّم، فإنه يُقَالُ عنه: «يقطر كمُخَتَّنٍ»، وبذلك تتمُّ مماثلته أيضا بقضيب (في حالة الطفلة ستصير هذه ذكرا). ومعنى ذلك أن للشَّرج، في التمثل الثقافي السَّائد، قدرة مزدوجة في أن يأخذ -على التوالي – صورة الفَرج حينما يتقعَّر، وصورة القضيب عندما يَتَحَدَّب، وبالتالي هناك تقاربٌ بين الغيرة والمثلية الجنسية. وفي هذا التَّماثل تقاطعٌ مع التحليل النَّفسي الذي يجمع بين القضيب الغائطي (Bâton fécal) والقضيب [أو الفلُّوس] (Phallus). إلا أن المثاقفة المحلِّية تضيف الانسدال المستقيمي لتُعطي، بذلك، الخطاطة التالية:
قضيب غائطي = انسدال مستقيمي = قضيب، وهو تغيير ليس جوهريا.
تسمح هذه المعطيات، في رأي المؤلفة، باستنتاج، وفي آن واحدٍ، أن الغيرة تعتَبَرُ مكونا ضمنيا في الثقافة القبائلية وبافتراض وجود مكوِّن مثلي جنسي في العلاقات النسائية مع ما يلازمه من نرجسية. بالنسبة للفرضية الأولى يصعب إثباتها واقعيا، لكن وجود الاستيهامات الخاصة بها لا يدَعُ مجالا للشك في حضور المثلية الجنسية. إذ أهمية المنطقة الشَّرجية في المثلية الجنسية الذكورية توجَد في السِّحَاق المتخيَّل (saphisme imaginaire) القبائلي مادامت رغبَةُ النساء في رؤية خروج الانسدال المستقيمي لدى منافساتهن تُظهرُ أن علاقتهن فيما بينهن تمرُّ عندهُنَّ أيضا عبر الشَّرج. فالمرأة التي تقع ضحية خدعة أو أذى امرأة أخرى تقول عن هذه الأخيرة: إنها «دسَّتْ لها أصبعا في دُبُرِها»[30]، وبذلك فالعلاقة الجنسية المثلية الاستيهامية تُعاشُ بين هته النساء على الطريقة السَّادية الشَّرجية.

أما بخصوص النرجسية، فإنها تفسَّرُ بغياب حرية الاختيار؛ مادام المجتمع لا يسمح للفرد باختيار موضوع حبِّه، فإن هذا الفرد يجد نفسَه مُجبَرا على ألا يحبَّ إلا نفسَه. وفي حالة المرأة، فإن حاجتها عندما تتزوج لا تكون منح الحب لزوجها بقدر ما تكون الحصول على حبٍّ من هذا الأخير بالقدر الذي تحبُّ به نفسَها. أما حبها الحقيقي، فلن تطوره إلا فيما بعد، وسيكون موضوعه أبناءها الذكور الذين لن تُسلِّم فيهم بأي حال من الأحوال، ولن تقبَل أن يُحبُّوا زوجاتهم. ويتيح فحص مختلف المراحل التي تمرُّ بها المرأة التمييز بين أربع مراحل: بداية الزَّواج، والولادة إلى حدود بلوغ الأبناء سن المراهقة، تزويج الأبناء، إدارة الشؤون المنزلية. وإذا كانت المرحلة الأخيرة تتميَّز بإعادة إنتاج المرأة للنظام السَّائد، من خلال ممارسة سلطتها على زوجات أبنائها وعقابهنَّ بالشكل الذي عاقَبَتها به أم زوجها، في مرحلة بداية زَواجها ومرحلة ما قبل وصول أبنائها سن المراهقة، فإن إعادة الإنتاج هذه ليست سوى تتويج لمرحلة الانتصار؛ مرحلة تزويج أبنائها. ففي هذه المرحلة، المرأة هي التي تختار زوجات أبنائها، و«الويلُ كلُّه لمن سوَّلت له نفسه معارضة اختيارها أو طرق تصرفها»[31]. أما في المرحلتين الأولى والثانية، فهي تكون منصرفة لشؤون أخرى: القبض بيد من حديد على زوجها، وذلك ليس حُبّا فيه وإنما خشية أن تسطو عليه امرأة أخرى لأن ثقافتها علَّمتها أن الزّوج يمكن أن يكون في أي لحظة موضوع حب امرأة أخرى[32]، ثم ممارسةُ الجنس الاجتماعي مع زوجها، بدلا من الجنس العاطفي والبيولوجي، وذلك بمثابة تعبير منها عن نرجسيتها وحاجتها إلى نيل اعتراف اجتماعي: «يتم كل شيء كأن ما من امرأة إلا وتسعى إلى قدرة لقول: “انظروني، إني متزوِّجَة”، وهو تأكيد يتضمن نفيَه بالضرورة، هو “انظروا، إني لستُ عانسا ولا مُطلَّقة”»[33]. وبعبارة أخرى، إن «ما يهم هو ما يُرى وليسَ ما يُفعَل»[34].
———
هوامش
[1] ما استطعنا الوقوف عليه من هذه الدراسات، بالإضافة إلى الكتاب الذي نحن بصدده، ينحصر في ما يلي:
– نادية بلحاج، التطبيب والسحر في المغـرب، البيضاء، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1986، (200 ص.)
– أسماء بنعدادة، «ظاهرة السحر في المجتمع المغربي. المرأة والسحر»، الجــواهــر، السنة الخامسة، العدد 19 اكتوبر-نونبر 1990، صص. 41-43.
– Fatima Mernissi, «Femmes et marabouts», Lamalif.
– Fatima Amiti, La voyance, étude socio-culturelle d’une catégorie de femmes marocaines dans un milieu citadin Rabat – Salé, thèse pour le Doctorat de 3 ème cycle, Paris V, 1982.
إذا كانت هذه القلة قد تدعو إلى الاستغراب، فإن لها ما يبررها في غياب بنك للمعطيات على غرار ما تتيحه استشارة المينيتيل مثلا.
[2] تفسيرات من هذا القبيل نجدها أيضا في بعض الدراسات التي تناولت ظاهرة محاكمة الساحرات التي عمت أوروبا في القرون XV، XVI، وXVIIم، إذ يقول أحد هذه التفسيرات: «رغم السمات التي تختص بها [الساحرة]، فإن تمثل هذه الساحرة نفسها لا ينفصل عن الشبكة المركبة من الصور التي تقرنها، صدفة أو قصدا، بأفراد أو وحدات متمردة ضد نظام قائم، لكنها ضامنة أيضا لوجوده». ينظر في هذا الصدد:
Nicole Jacques-Chaquin, «La sorcière et le pouvoir – Essai sur les composantes imaginaires et juridiques ed la figure de la sorcière», in Les cahiers de Fontenay, La sorcellerie, N° 11-12, sept. 1978, pp. 7-48.
[3] Nedjima Plantade, La guerre des femmes, Magie et amour en Algérie, Paris, La boîte à documents, 1988.
[4] بهذا الصدد، يمكن الرجزع إلى:
– Gilbert Grandguillaume, «Père subverti, Langage interdit», Peuples Méditérranéens, N° 33, Oct.-Déc., 1985, pp. 163-182..
وقد ترجمناه ضمن كتاب: جلبير غرانغيوم، اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي، مكناس، الفارابي للنشر، 1995، صص. 107-133.
[5] حرب النساء…، م. س.، ص. 11.
[6] Jeanne Favret -Saada, Les Mots, la Mort, les Sorts; la sorcellerie dans le Bocage, Paris, Ed., Gallimard, 1977.
[7] نادية بلحاج، التطبيب والسحر في المغـرب، م. س.
[8] Docteur Mustapha Akhmisse, Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc ou l’Art traditionnel de guérir, Casablanca, Imprimerie Eddar El Beida, 1985, (256 p.).
[9] Omar Mounir, Paroles de charlatan, Casalanca, ةditions EDDIF, 1992, (199 p.).
[10] Fatima Amiti, La voyance, étude socio-culturelle d’une catégorie de femmes…, op. cit.
[11] حـرب النسـاء…، ص. 24.
[12] حـرب النسـاء…، ص. 148.
[13] نفســه، الصفحة ذاتها. ويبدو أن هذه الممارسة تتأصل في ممارسة عربية قديمة، إذ يقول الغزالي: «وكان أصحاب رسول الله (ص) يسدون الكوى والثقب في الحيطان لئلا تطلع النسوان إلىالرجال». انظر: الإمام أبو حامـد الغزالي، إحياء علـوم الديـن، بيروت، دار القلم، (د. ت.)، ج 2، ص. 43.
[14].حـرب النسـاء…، ص. 45.
[15] نفسـه.
[16] حـرب النسـاء…
[17] حـرب النسـاء…، ص. 54-55.
[18] حـرب النسـاء…، ص. 57.
[19] حـرب النسـاء…، ص. 137.
[20] حـرب النسـاء…، ص. 137.
[21] Aïssa Ouitis, Possession, Magie et Prophétisme en Algérie, Paris, l’Arcantère, 1984.
[22] حـرب النسـاء…، ص. 146.
[23] جمع محمد الفاسي مجموعة من هذه الأشعار، ونشرها تحت عنوان رباعيات نساء فاس [العروبيات]، البيضاء، دار قرطبة، الطبعة الثانية 1986، (112 ص.).
[24] قطعة نقدية ذهبية من فئة 20 فرنك فرنسي.
[25] حـرب النسـاء…، ص. 141-142.
[26] حـرب النسـاء…، ص. 147.
[27] حـرب النسـاء…، ص. 147.
[28] Nawal Saadaoui, La face cachée d’Eve, les femmes dans le monde arabe, Paris, Ed. des femmes, 1982, p. 68.
[29] الانسدال المستقيمي: هبوط المعي المستقيم عن موضعه السَّوي.
[30] حـرب النسـاء…، ص. 157.
[31] حـرب النسـاء…، ص. 160.
[32] حـرب النسـاء…، ص. 152.
[33] حـرب النسـاء…، ص. 165.
[34] حـرب النسـاء…، ص. 1

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الإثنين 27-08-2012 02:46 صباحا

الاخبار العاجلة