المصطفى شباك: التربية والحداثة: 02 – الإنسانية والحقيقـة

898 views مشاهدة
minou
التربية والحداثـةمترجمـات
المصطفى شباك: التربية والحداثة: 02 – الإنسانية والحقيقـة

1. الحقيقـة والسطحيـــة:
لوصف مجموع الدلالة والعمق اللذين يمتلكهما البحث عن الحقيقة في حياتنا، سأنطلق من عزل بعض المظاهر المعيشية التي لا تمت باي صلة لمفهوم البحث ومشاغله.

نعيش جميعا تجارب طبيعية ساذجة نمتلك بمقتضاها «معرفة» وحيدة عن الواقع، هي المعرفة الحسية. فنحن نمشي فوق الأرض معتقدين أنها مسطحة والحال أنها كروية، ونحن نتفيأ في المصيف المُحرق أشجارا واقية، والانطباع يسودنا بأن ظلالها مثلها لاتتحرك. وفي كل مساء تقريبا، يكون للسماء المضاءة بالنجوم فوق رؤوسنا مظهر سقف شاسع يضيئه – إلى ما لانهاية – عددُُ لا يُحصَى من النقط اللامعة التي نسميها نجوما دون أن نعرف عنها شيئا بالعين المجردة.

نحن نثق بحواسنا وحدَها ونجهل كل شيء عن الطبيعة الكروية للأرض، وحركة الظلال والجاذبية الكونية التي تحكم حركات النجوم الأبدية.
قد يقال لنا هذه ظواهر طبيعية يصعب الإحاطة بها وفهمها خارج خطاطات العلم الفيزيائي ونماذجه، بيد أنه ليس من الضروري – يواصل دائما المعترضون علينا – أن يكون الإنسان مثقفا أو عالما لكي يقوم بملاحظة بعض الظواهر الاجتماعية التي تميِّزُ حياة البشر والحيوانات على السواء وأن يحاول، بالتالي، تقديم تفسيرات بصددها متينة بهذا القدر أو ذاك.
وبذلك يحدث دائما أن نلاحظ لعب الأطفال، ورقص النحل أو القنص المركَّز الذي يقوم به قطيع من الذئاب. بيد أننا مهما نفعل، فإن ملاحظاتنا تظل غير كاملة لأنها تلقائية ومطبوعة حتما بهشاشة تحتية، ألا وهي الذاتية. ومعنى هذا أننا ننطلق في ملاحظاتنا بوصفنا آباء أو مجرد متجولين أو متفرجين وليس باعتبارنا علماء. بتعبير آخر، إننا لا نكون محللين نفسانيين ولا بيولوجيين أو إثنولوجيين في حياتنا اليومية. وحتى عندما يستقطب اهتمامنا تنوعُ الواقع وغناه ويستدعي تفكيرنا، فإن نظرتنا إليه تظل مع ذلك ملوَّنة بـ انفعال الرغبة أو انطباعات الحواس.
ومن ثمة، فملاحظاتنا تتبدَّى ارتجالية، ساذجة ومجرَّدة من كل غاية إبستيمولوجية، في حين تكون ملاحظات العلماء موجَّهَة، عالِمَة وذات غايات لأنها مسكونة بمقصِد الوصول إلى فهم وتفسير دقيقين للظواهر الملاحَظة، بمعنى أنها تريد منح معنى -موثوق وله مصداقية، لأنه قابل للبرهَنة – لما يقع يوميا تحت أبصارنا ولا ينفك عن إثارة دهشتنا.

2. الحقيقـة والمنفعـــة:
لكن كيف نعي أن أفكارنا عن العالم ليست وجيهة؟ نعيه بـ الشك والحس النقدي. طالما نترك أنفسنا نعيش بطريقة خالية من النقد، تأخذ تجاه الوجود موقفا ساذجا وطبيعيا، متمسكين بتفسير العالم الشائع كما أمدَّتنا به لغتنا الأم وتقليدنا الوطني، فإننا نظل داخل نسيان الحقيقة وفي النهاية داخل الخطإ. وما لم نجر قطيعة مع الرؤية الشائعة للعالم، فإننا سنستمر في الاعتقاد بأننا «نعرف» من نحن، وما هو واجبنا وما هي غايتنا في الوجود. نعتقد أننا «نعرف» جيدا ما تعنيه مفردات «طبيعة»، و«قانون»، و«ضرورة» و«حرية».
لنسجل أن لهذه المعرفة العادية، الساذجة والمشتركة، مع ذلك منفعة، أي معقولية عملية. رغم أننا لا نعرف أن الأرض كروية الشكل، فإننا نتوصل دائما إلى المشي بخطو واثق بهذا القدر أو ذاك كما نتمكن دائما، بطريقة ما، من الانتقال من نقطة إلى أخرى. وبذلك يزرع الفلاح البذور في خطوط المحراث الفارغة دون أن يعرف أنه لو لم تكن الجاذبية، لظلت حبات البذور معلقة في الهواء. كل ما يعرفه هو أنه رأى أباه يـزرع ويحصد، وأنه سيقوم هو الآخر بذلك.
إنه لا يتساءل مثل نيوتن: «لماذا التفاحة (أو البذرة!) تسقط بسرعة ولا تبقى معلقة في الهواء مثل القمر؟». في الحقيقة، للمعرفة الشائعة التي ورثها عن أجداده قيمة استعمال تتيح له أن يعيش ويكفل حياة ذويه. ويتدبر أمره تبعا لذلك: سنة خصبة وأخرى جافة، سنة جيدة وأخرى رديئـة…

3. الحقيقـة والـراديكاليـة:
إذا كان زمن المعرفة الشائعة مطبوعا بـ الاستمرارية أو الاتصال الذي يتطلبه كل تقليد، فإن زمن المعرفة العقلانية زمنُُ مكسور بلحظة استهلالية تتمثل في اقتحام الشك السعيد أو الشقي – لتجاربنا الطبيعية. ما أن نستغرق في التفكير حتى يطال التساؤلُ اليقينَ الشائع الذي نفهم به العالم فهما مباشرا. يعلن التصدع عن نفسه، وبفعل الشَّكّ والنقد ما كان معروفا عادة يصيرُ فجأة شيئا مجهولا وإشكاليا. إن معرفتنا السابقة تعتَبَرُ اليوم كأنها واهية وغير ذات قيمة، تعتبر كأنها غير مؤسَّسة ووهمية. باختصار، إنها مَعرفة مسكونة بالأحكام القبلية والشك. ما أن يمسنا وميض الشك حتَّى لا نعود متأكدين تأكدا تامَّا مما كان إلى عهد قريب يشكل يقيننا وقناعاتنا: غرابة العالم والأشياء، البشر والمؤسَّسات، القيم والمعتقدات، تطفو إلى الواجهة وتسائلنا. آنذاك، وآنذاك فقط، يمكن للبحث عن الحقيقة أن يبدأ.

4. الحقيقـة والتـراجيـدي:
للتمثيل عن هذا المسلك الملتوي الذي يمكن لأي منَّا أن يباشره على الأقل مرة واحدة في حياته، أقترح الرجوع إلى واحدة من الأساطير المؤسسة للمعرفة الإنسانية، وهي أسطورة «أوديب ملكا» لسوفوكليس.
في تاريخ الأدب العالمي قليلة هي النصوص التي ساهمت في الكشف عن أبصارنا بما نحن بشرُُ. «أوديب ملكا» واحدُُ من هذه النصوص، وفرادته تكمن، منذ الإغريق القديمة، في الظاهرة المؤكدة المتملثة في كونه يعلمنا – ضمن ما يعلم – معنى البحث عن المعرفة بالنسبة إلينا.
فأوديب يحل لغز أبي الهول، وينجح بذلك في الفوز بمدينة طيبة والزواج من الملكة جوكاست. ولم يتمكن أحدُُ قبله من العثور على الجواب الصحيح عن سؤال أبي الهول، والذين حاولوا ذلك أدوا حياتهم ثمنا لجهلهم وجسارتهم اللذين لا يطاقان. وحده أوديب انتصر على ظلمات الجهل وذعر أبي الهول، وهذا النصر فتح له طريق المجد، والقوة والسعادة. ها هو في آن واحد مُرشد وملكُُ وأبُُ، يتمتع بثقة تامة في نفسه. ألم يُظهر أنَّـه أفضل سكان طيبة قاطبـة؟
غير أن هذه السعادة – للأسف – هشَّة وهذا الاطمئنان عابرُُ، لأن القدَر سرعانَ ما سيصيب مدينة طيبة. يجتاحها طاعون رهيبُُ هو في الواقع علامة لغضب الآلهة. وفي غمرة الرعب يحدس أوديب ورعاياه – استنادا إلى معرفة الآلهة – أن شيئا مَّا لا يسير على ما يرام، وذلك خلافا لأوهام البشر. ولذا يجب إجراء بحث جذري عن الحقيقة. بدأ البحث عن المسؤول عن النازلة في صورة الأجنبي الملفوفة بالشكوك والشبهات، لكن دون جدوى. وشيئا فشيئا أخذت الحجب تنسدل واحدا واحدا. يرغم أوديبُ الكاهنَ الناطق باسم الآلهة على النطق بالحقيقة اللامحتملة، وها هو سبب المصيبة ينكشف داخل أوديب نفسه، بما أنه هو قاتل أبيه الملك لايوس ومدنس أمه الملكة جوكاست. والحدث على مستوى عال من الرمزية بحيث سيفقأ أوديب عينيه ليستأصل حقيقة الحواس الخادعة التي أبقته لوقت طويل داخل الوهم. بشكل مفارق، عندما يكف إطلاقا عن البصر بعينين من لحم ودم، آنذاك فقط يتمكن من الرؤية بشكل حقيقي وجوهري.
يمكننا قراءة مأساة أوديب باعتبارها استعارة رمزية تصف عشق الإنسان للحقيقة وإرادته في المعرفة، بمعنى أنَّ حالة اللامعرفة، بالنسبة للإنسان المسكون برغبة الحقيقة، ليست سوى مرحلة عابرة لا يمكنه أن يقيم فيها إلى الأبد دون أن يسلط عليه القدرُ ضربة تراجيدية.

5. الحقيقـة والإنسانيـــة:
الأرض-الأم هي اليوم مُهانة ومغصوبة في جسدها، تجتاحها كوارث طبيعية بعنف قل نظيره: أعاصير جحيمية، فيضانات، جفاف، تصحر. والأمم المقيمة فيها هي الأخرى ترتج تحت فقدان توازنات سوسيواقتصادية وسياسية غير مألوفة: حروب أهلية، أزمات اقتصادية، فقر متصاعد، تراجع شعور الاهتمام بالشأن العام، إفلاس مُثل المواطـَنـَة… ربما يجب أن نرى في جميع هذه المصائب المؤشرَ العرَضي عن مسؤوليتنا أكثر منه علامة غضب سماوي عظيم. آنذاك وحده إجراءُ تحليل نفساني معمَّم يُفضي إلى نقد ذاتي صحيح وأصيل، يمكنُ أن يقودنا إلى التكفير عن أخطائنا ومن ثمة إلى تهدئتنا ومصالحتنا مع أنفسنا، مع أمثالنا، وعلاوة على ذلك مع جيراننا البهائم، والنباتات، والمعادن. ذلك أنَّ الزمن في حالتنا هو الكاهن الوحيد، وهو لا يتساهل مع النسيان ولا العطالة.
لقد دمقرَطَ كلٌّ من المدرسة العمومية والاقتراعُ العامّ اليومَ حق معرفة الحقيقة. مجهَّزا بأدوات معرفة مُنوِّرة ووعي سياسي ملزم، يستطيع المواطن اليوم أن يحاسب الذين صوّتَ عليهم ليعرف الـ وجهة التي تسير نحوها جماعة انتمائه أو الأمة التي تربطه بها علاقات التاريخ واللغة والعقد السياسي.
ويبقى أن الإنسانية كانت ستتلاشى منذ وقت طويل من وجه الأرض، لو لم يكن هذا الارتباط السُّري والجسدي بالحقيقة الذي لم تكف البشرية إطلاقا، داخل الألم، عن فك رابطه (dé-lier) وإعادة ربطه (re-lier).

ترجمة: محمد أسليم

***

ببليوغـرافيــــا
– Sophocle,
1985, Oedipe – Roi, Paris, Bordas.
– Fink, E.,
1966, Le jeu comme symbole du monde, Paris, Minuit.
– Lévi-Strauss, C.,
1958, Anthropologie structurale, Paris, Plon.
– Vernant, J.-P.,
1974, Mythe et société en Grèce antique, Paris, Maspéro.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:54 صباحا

الاخبار العاجلة