م. أسليـم: كتاب «الإسلام والسحر»: 04 – تطـورات لاحقـــــــة

2٬013 views مشاهدة
م. أسليـم: كتاب «الإسلام والسحر»: 04 – تطـورات لاحقـــــــة

لم تفض النقاشات التي أثارها القرآن والحديث حول السحر إلى موقف مجمع عليه بين الفقهاء المسلمين بخصوص هذا الموضوع. وبذلك سترى تأملات أخرى النورَ. أهمها تلك التي صيغت في حقلي الفقه والفلسفة.

1. الفقــه
يعرف ابن خلدون أصول الفقه بأنه «النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكاليف. وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن، ثم السنة المبينة له»[1]. ويؤكد محمد أبو زهرة بأن الفقه هو «العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية»، محددا موضوع علم الفقه في جزئين: الأول: «العلم بالأحكام الشرعية العلمية»، والثاني: «العلم بالأدلة التفصيلية لكل قضية من القضايا (…) [و]الحكم في كل جزئية من أعمال الناس بالحل أو التحريم أو الكراهة أو الوجوب، ودليل كل واحد من هذه الأمور»[2].

وإذن فالفقه يتمفصل في لحظتين، إحداهما معرفية وأخرى تشريعية؛ يُنتج معرفة وأحكاما. ولذا، قبل أن يحدد الفقهاء المسلمون حكم السحر والممارسات السحرية، سيجدون أنفسهم مضطرين لتعريف السّحر، والسَّاحر، والحديث عن طبيعة قدراته وحدودها، وذلك انطلاقا من مصدري الإسلام الأولين، وهما القرآن والسنة. وهذه اللحظة الأولى هي ما يهمنا في السياق الحالي.

أ. تـعـريـف السحـر والساحـر
خص الجزيري السحرَ، في الجزء الخامس من مصنفه الكبير حول الفقه على المذاهب الأربعة[3]، ببحث أصيل عَرَض فيه مختلف تأملات المذاهب الفقهية الأربعة في الخفي ومواقفها منه. من التعريفات المقترحة للسحر، نختار اثنين: يرى الأول أنه كلمة تعبد كائنا آخر غير الله، فيما يرى الثاني أنه حدث أو ظاهرة فوق طبيعية (أمر خارق للعادة) يصدر عن علة طبيعية (سبب معتاد). وهذا السبب يأخذ أحيانا شكل كلمات فاحشة، ومن ثمة فالسحر ردة. هذه العلة الطبيعية نفسها يمكن أن تأخذ أيضا شكل مفردات دينية مثل أسماء الله أو معاني الحروف. إذا كان السحر في الحالة الأولى ضارا وشريرا، فإنه يفضي في الحالة الثانية إلى غايتين متناقضتين، ومن ثمة يمكنه أن يكون خيرا أو شريرا بحسب قصد الساحر[4].
أمَّا السَّاحر، فيعرَّف تارة بأنه شخص يقيم علاقات مع الأرواح بحيث تخبره عن الأحداث قبل وقوعها، ويُعرَّف تارة أخرى بأنه العرَّاف أو الكاهن الذي ينبئ بالمستقبل، ويُعرَّف، أخيرا، بأنه الشخص الذي يعبد الكواكب والجن، أو الشخص الذي يتخيل[5].
لا يُشغِّل الساحر سحره إلا بإقامة طقوس تأخذ أشكالا عديدة: النميمة الموجهة إلى زرع التفرقة بين الزوجين، أعمال تهدف إلى تنويم المرضى أو الضحايا، كتابة تمائم والنفث في العُقد، استعمال الخواص السحرية للكواكب، وأخيرا تسخير الجن والشياطين[6]. وأشد الطقوس فعالية هي تلك التي تتطلب من الساحر أن يسب الله، وأن يركع للجن، ويدوس القرآن بقدميه، ويحتقر الملائكة، ويخاطب الله بعبارات فاحشة.
ليست تعريفات السحر والساحر والممارسات السحرية، التي رأيناها للتو، سوى تفسيرات منبثقة عن المقاطع القرآنية الخاصة بالخفي. في الواقع، ما من فكرة من الأفكار السابقة إلا وتطابق آية قرآنية لا يفوت الفقهاءَ أن يحيلوا عليها. هكذا، على سبيل المثال، فالفكرة التي ترى أن الساحر ينوِّم مرضاه وضحاياه، ترتكز على مقطع قرآني يقول: «قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم» (الأعراف، 116)، والفكرة التي تقول إن الساحر يعبد الجن ترتكز على الآية: «ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مومنون» (فاطر، 40-41).

ب. حقيقـة قـدرات السحـرة وحـدودها
تختلف الآراء حول هذه النقطة اختلافا كبيرا. ويمكن تصنيفها إلى قسمين: بحسب البعض، يتوفر الساحر فعلا على قدرة حقيقية. بتعبير آخر، إنه يؤثر واقعيا في العالم الخارجي. زيادة على المقطع الخاص بتعرض الرسول للسحر، تؤكد العديد من الآيات القرآنية هذه القدرة تأكيدا واضحا. من الآيات التي تكثر الإحالة عليها، من قبل هذه الجماعة من الفقهاء، ما يلي:
– «ما جئتم به السحر إنه الله سيبطله» (يونس، 80)
– «إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر» (طه، 73).
– «فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم» (الصافات، 88-89)
– «قل أعوذ برب الفلق (…) من شر النفاثاث في العقد» (الفلق، 1-4).
يعتبر المقطع الأخير، بحسب هذه الفئة، تأكيدا صريحا للقدرة الفعلية التي يتوفر عليها السحرة. لو لم يكونوا قادرين على إيذاء الناس بسحرهم، لما أوصى الله المؤمنين بالبحث عن ملاذ لهم عنده. كذلك، يصرح المقطع الثالث بأن للكواكب خواصّ سحرية هي الأصل في ما يجري في الأرض، بما في ذلك تفاصيل الحياة الشخصية للناس. ولذا فمجرد النظرة البسيطة في الكوكب المطابق لرسول الله إبراهيم، تنبأ الخليل بمرضه[7].
بحسب جماعة ثانية من الفقهاء، لا يملك الساحر أي قدرة. فهو لا يؤثر في العالم الخارجي، ولكن فقط في مخيلة محيطه. والدليل المقدَّم بهذا الصدد هو مقطع قرآني يصف اللقاء بين موسى وسحرة فرعون. فبعدما سمع فرعون عن كرامات موسى، ظن أنه كان ساحرا. ولاختباره، وضَعَه في مواجهة سحرته الأكثر مهارة وحذقا. مواجهة يصفها القرآن على النحو التالي:
«وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم لمن المقربين، قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال ألقوا، فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، وأوحينا لموسى أن الق بعصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون» (الأعراف، 113-117).
يدل التعبير «وسحروا أعين الناس» على أنه رغم اشتهار سحرة فرعون بالقوة الشديدة، فإنهم لم يكونوا يملكون في الواقع سوى قدرة متخيلة. لو كان في استطاعتهم التأثير حقا في العالم الخارجي لفعلوا ذلك في تلك اللحظة الحرجة[8]. ولكن هذا لا يعني أن الساحر لا يتوصل إلى تحقيق غاياته. فهو يتأتى له ذلك، ولكن فقط عندما يكون إزاء فئة محددة جدا من الناس: وهم ضعاف النفوس، مثل المرضى، والأطفال، والنساء، وضعيفي العقيدة. أما سحر الأنبياء، فيدخل في الاختبارات التي يخضع إليها الله أنبياءه[9].
على النقيض من هذا الطرح، ترى الفئة الأولى من الفقهاء أن السحر يؤثر فعلا في العالم الخارجي. هكذا، فالشافعية والحنبلية يقولون إن الساحر يمكنه أن يقتل، ويغير مزاج الناس وسلوكاتهم ولو لم يمارس سحره، وأنه قادر على إلحاق الهزيمة بجيش بأكمله[10]. أما أهل السنة، فيرون أن الساحر يمكن أن يطير في الهواء، بل ويحول الإنسان إلى حمار والحمار إلى إنسان، ولكن هذه القدرة تأتي، في الحقيقة، من الله. إذ وحده الخالق هو الذي يؤثر عندما يتلو الساحر عزائم وكلمات سحرية[11]. بحسب فقهاء آخرين، لا يكون السحر فعالا إلا إذا تعلق الأمر بالتفريق بين الرجل وزوجته[12]. والأدلة التي يقدمها هؤلاء وأولئك هي تعرض الرسول للسحر ثم مجموعة من المقاطع القرآنية، على رأسها تلك التي تذكر ملكي بابل هاروت وماروت.
رأينا أن الفقه يقترح نفسه باعتباره قراءة منهجية في القرآن والحديث، وذلك لتقليص تعدد تأويلات النص المنزل، وجعل الحديث غير قابل لعمل المزيفين، من جهة، ولتحديد سَنن أخلاقي وقانوني ينظم السلوك اليومي للمؤمن المسلم، من جهة ثانية. والرغبة في الوصول إلى إجماع، حول تفسيرات القرآن والحديث، كما حول التشريع الذي يجب أن يستخلص منهما، تلك الرغبة تحكم عمل الفقهاء. فقد كانوا يقولون: «أجمعت الأمة على وجوب اتباع الإجماع»[13]. يمكن التساؤل: ما هي صورة الساحر عند الفقهاء؟ هل أتاح لهم منهجهم صياغة نظرية في السحر أصيلة بالمقارنة مع تلك التي رأينا في القسم الخاص بالقرآن والحديث؟
تبعثُ المعطياتُ التي رأينا على التفكير في أن الفقه فقير في مادة السحر بمعنى أنه لا يقدم معلومات حول هذا الموضوع أكثر مما يقدم تأملات نظرية تتداخل في ثلاث نقط:
أ – جميع الفقهاء يتفقون على اعتبار الساحر مرتدا. وبذلك تدرج مصنفات الفقه موضوعة السحر والممارسات السحرية في القسم الخاص بالجنايات.
ب – الحكايات والأساطير التي تم اقتراحها لتفسير آيات قرآنية، تجد نفسها مُقصاة من قبل الفقهاء، لأنها في رأيهم ليست سوى عمل من صنيع المزيفين الذين انتهزوا الحديث النبوي القائل: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»[14]، فاخترعوا سائر أصناف الحكايات لتقويل القرآن ما لم يقله.
ج – انطلاقا من هذه النقطة للقاء سيصطنع الفقهاء ضربا من القراءة، يشكل سمة مشتركة بين سائر تأملاتهم، يمكننا نعته بالقراءة «الانتقائية». فبدل فحص مجموع المقاطع القرآنية الخاصة بالسحر، يكتفون بالاستشهاد على طرحهم بالإحالة على مقطع أو مقاطع عديدة تتشابه فيما بينها، و«يهملون» ضمنيا الباقي. إنهم لا يتعاملون مع هذه الوحدات باعتبارها نسقا أو بنية، وإنما باعتبارها عناصر شبه معزولة. هكذا، فالذين يقولون إن الساحر لا يتوفر على أي قدرة حقيقية يستشهدون على طرحهم بالآيات التي تتيح استخلاص هذه الفكرة. بكلمة واحدة، إن الفقهاء يخرجون المقاطع القرآنية عن سياقاتها، يحتفظون بمعاني معزولة، ولا يقيمون روابط بينها.
وإلى أيامنا هذه، لازالت القراءة النسبية نفسها تجرى على النصوص الدينية. هكذا، فلإعطاء أساس ديني لكراهية النساء يقال: «… لهذا السبب قال الله عنهن: “إن كيدهن عظيم”» (يوسف، 28)، ولتأكيد أن الساحر لا يملك أي قدرة يقال: «قال الله: “لا يفلح الساحر حيث أتى”» (طه، 72).
يؤكد محمد عابد الجابري في كتابه بنية العقل العربي أن الفقه الإسلامي يشكل جزءا من ثلاث بنيات أو رؤيات تحكم الفكر العربي، وهي: «بنية البيان»، و«بنية العرفان»، و«بنية البرهان». يحكم بنية البيان قانونان: مبدأ الانفصال ومبدأ التجويز. المبدآن متكاملان ويدخلان ضمن ما يسمى بـ «نظرية الجوهر الفرد» التي ترى أن العالم يتشكل من وحدات، وأعضاء، ومشاعر، ومخلوقات، الخ. ترتبط فيما بينها ليس بعلاقة تفاعل وتداخل، وإنما بعلاقة تجاور. ويرى المؤلف أن هذه النظرية التي تعود إلى شبه الجزيرة العربية ما قبل الإسلام نظرية ملازمة للوسط الصحراوي الذي عاش فيه عرب تلك الفترة. وبهذه العقلية البدوية قرأوا القرآن وفسروه. هذه القراءة – حسب الجابري دائما – كانت تمنح للفقهاء امتيازا مزدوجا: تتيح لهم دحض فكرة وجود علة كوزمولوجية قد تشكل سندا للمعتقدات والممارسات السحرية، من جهة، وتسمح لهم بأن يدمجوا في طرحهم فكرة المعجزة التي يرتكز عليها الإسلام ورسالة الرسول، من جهة ثانية. ولكن، بواسطة هذا الإيمان (بالمعجزة) – يلاحظ المؤلف – تمكن فكرٌ أسطوري بكامله، والطلاسمُ، والسحرُ من الدخول إلى العالم الإسلامي[15].

2. تأمـلات نظريـة
خارج مجال الفقه، صاغ علماء مسلمون آخرون تأملات نظرية في السحر، لم يحكمها الجانب الديني أو التشريعي للمسألة، بقدر ما حكمها الهاجس المعرفي. أشهر هذه التأملات صدر عن الرازي وابن خلدون.

أ. فخـر الديـن الـرازي
إلى الرازي تعود النمذجة المنهجية للسحر، والتي سيتم تبنيها تارة وتعديلها تارة أخرى، بل وحتى نقدها من قبل لاحقيه أمثال ابن العربي، وابن كثير، وابن خلدون.
يرى الرازي وُجوب التمييز بين ثمانية أنواع من السحر[16]:
1 – سحر الكنعانيين. يعني عنده عبادة الكواكب بالخصوص. ترتكز هذه العبادة، في نظره، على الإيمان بتأثير الكواكب في العالم السفلي وتحكّم العالم العلوي في نظيره السفلي.
2 – سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية. هذا السحر لا تمارسه إلا فئة من الناس لها نفوس قوية. وعن هذه الفئة تصدر العين الشريرة، حسب المؤلف. في هذا النمط من السحر لا يشكل استخدام العزائم والبخور سوى عنصر إضافي، لأن الساحر هنا يؤثر بقوة نفسه في العالم الخارجي
3 – سحر العزائم وأعمال تسخير الجن. يرى الرازي أن الجن موجودون واقعيا، وبفضل الرياضة وإقامة شعائر دينية مرفوقة بإطلاق البخور وتلاوة العزائم، يتوصل الساحر إلى اللقاء بهم والتحكم فيهم وتسخيرهم.
4 – سحر التخيل والأخذ بالعيون. وهو ما نسميه حاليا بـ «الألعاب السحرية». في هذا المستوى، عن طريق التحكم في قوانين بصرية ونفسية، يتمكن الساحر من التأثير في حواس مستشاريه وضحاياه وليس في العالم الخارجي.
5 – سحر الأعمال العجيبة. وتعود تارة إلى تحكم الساحر في تقنيات يدوية أو ذهنية، وتارة إلى تحكمه في مخيلة المرضى أو الضحايا. من بين الأمثلة التي يذكرها المؤلف جداولُ الرسامين الكلدانيين والهنود في عصره. يقول: «ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورها ضاحكة وباكية، حتى يفرق المرء بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت»[17].
6 – سحر الاستعانة بخواص الأدوية. من الأمثلة التي يقدمها المؤلف عن هذه الفئة، يمكن انتخاب الوصفة التالية:

الوصفة 4: [للتبليـد]:
«أن يُجعل في طعامه [=الضحية] بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلد عقله، وقلت فطنته!»[18].
7 – سحر «تعليق القلب». هنا يزعم الساحر أنه يعرف اسم الله الأعظم، وأنه بفضله يحكم الجن ويسخرهم. ولشدة اعتقاد المريض أو الضحية بهذا الزعم، فإنه يسهِّل فعالية الطقوس.
8 – أخيرا، تأتي الفئة المسماة «السعي بالنميمة والتدريب». وفي هذا المستوى، لا يؤثر الساحر في الأشخاص إلا بالحيل.
انطلاقا من هذه النمذجة، سيعود الرَّازي إلى تأملات الفقهاء – التي سبق أن رأيناها – ويناقشها دون نسيان تقديم آرائه الخاصة. هكذا، للتدليل على أن للسحر فعالية واقعية، فهو يذكر بتعرض الرسول للسحر، وأسطورة تعلم إحدى النساء السحرَ على يد الملكين هاروت وماروت[19]. وبما أن للسحر فعالية واقعية، فإن من واجب المؤمن معرفته لسببين على الأقل: من جهة، لأن الله يرفع من شأن المعرفة عندما يقول: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (الزمر، 9)، ومن جهة أخرى، لأن هذه المعرفة هي الوسيلة الوحيدة التي تتيح للمؤمن عدم الخلط بين المعجزة والسحر. بما أن معرفة المعجزة واجبٌ ديني على المؤمن، فإن معرفة السحر هي أيضا واجبٌ ديني. إنها مباحة وليست ممنوعة على الإطلاق[20]. في هذا الاتجاه، كتب المؤلف نفسه مصنفا في السحر تحت عنوان «السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم»[21]. ومع ذلك، فإن الرازي يقيم تمييزا دقيقا بين معرفة السحر وممارسته. يباح للمؤمن أن يعرف السحر دون ممارسته. بل إن تمييزا آخر يقامُ على صعيد هذه المعرفة ذاتها، إذ يمنع على المؤمن معرفة الأنماط الثلاثة الأولى (سحر الكواكب، سحر النفوس، السحر الشيطاني) لما تنطوي عليه من كفر.

ب. ابـن خلـدون
يعتبر ابن خلدون أول عالم مسلم أنجز تأملا عميقا في السحر. وقد أسس تأمله على عدد من المعلومات ذات الطبيعة «الإثنوغرافية»، سجلها انطلاقا من معاينات أجراها شخصيا تارة، أو وافاه بها «مخبرون» تارة أخرى. أي أنه استعمل تقريبا الطريقة ذاتها التي سيوصي مالينوفسكي، بعد ذلك بقرون، الإثنوغرافيين باستخدامها قائلا: «يجب على الإثنوغرافي أن يكون له عينان وأذنان، أن يحضر شخصيا الطقوس، والأنشطة والاحتفالات، كما يجب عليه أن يجمع معلومات عن آراء الأهالي حول تلك الطقوس والأنشطة والشعائر»[22]. هذه المعلومات تتجاوز إطار المغرب إلى المشرق، وبالخصوص الهند. لن نحتفظ من تأملات هذا المفكر إلا بتعريف السحر، وصورة الساحر، ثم الممارسات السحرية وحكمها في الإسلام.
– فئـات النفوس، فئـات السحـر
يرى ابن خلدون أن الناس ينقسمون، بحسب القدرة التي يمتلكونها للانفصال عن الانشغالات المادية والملذات الحسية، إلى أربع فئات:
– الأولى ينتمي إليها أغلب الناس، وتتكون من الذين ينشغلون انشغالا كبيرا بإشباع حاجياتهم المادية والحسية؛
– الثانية تتكون من القادرين على التخلي عن العالم المادي والانكباب على المشاهدة الباطنية، وهم الأولياء والمنشغلون بالعلوم الربانية؛
– الثالثة تتمثل في الذين ينفصلون عن العالم المادي لدرجة التحول إلى ملائكة أحيانا، وهم الأنبياء.
– أما الأخيرة، فتتكون من الذين يمتلكون «خاصية التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب، للتصرف فيها، والتأثير بقوة نفسانية أو شيطانية»[23].
وإلى الفئة الأخيرة ينتمي السحرة والكهان. وما يميزهم عن الفئة الثالثة (الأنبياء) هو: بينما يؤثر الأوائل في العالم الخارجي بقوة نفوسهم أو بمساعدة قوة شيطانية، يؤثر الأنبياء في العالم نفسه بواسطة قوة ربانية. والحالة هذه، هناك ثلاثة أصناف من السحر، هي: السحر، والطلسمات، والتأثير في القوى المتخيِّلة.
يعرف المؤلف السحر باعتباره قوة تصدر مباشرة عن الساحر دون أن يتلقى في ذلك مساعدة من قبل أعوان. وقدرة التأثير هذه تكون عند الساحر في حالة قوة، وتنتقل إلى طور الفعل بمجرد ما يقوم السَّاحر برياضة، هي نوع من التربية الروحية، خلالها يقيم شعيرة الكواكب ويعبد الجن. ويسوق المؤلف، على سبيل المثال، معلومات حول سحرة مغاربة في عصره، يسمون البعاجين، كانوا «يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق، ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فينبعج»[24]، فيخيفون بذلك أهلها ليعطوهم من فضلها[25]. وقد علم المؤلف منهم أنهم كانوا يستمدون قدرتهم عن طريق الرياضة، وعبادة الكواكب، وعبادة الجن. وتلك القدرة لم تكن تؤثر إلا على الحيوان والمتاع والرقيق[26]. كما يذكر المؤلف أنه حضر طقوسا للسحر أنجزت انطلاقا من رسم صورة للضحية، والنفث، وتلاوة عزائم ودعوات.
ليست الفئة الحالية إلا تلك التي تحتل الصف الثاني في تصنيف الرازي، المسماة «سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية».
على العكس مما عليه الأمر في السحر، لا يستطيع الساحر، في الطلسمات، أن يؤثر في العالم الخارجي إلا بمساعدة أعوان، هم الأوراح التي تقطن الكواكب (روحانيات الكواكب)، والخواص السحرية للأعداد والمخلوقات. يصف المؤلف طقوسا، من هذه الفئة الثانية، تنجَز انطلاقا من أعداد، تنعت بأنها «متحابة»، ومن أوفاق سحرية، أي جداول سحرية، فتحقق اللقاءات بين الجنسين[27]. وقد رأينا أن هذه الفئة تحتل المكانة الأولى في تصنيف الرازي.
أخيرا، في السحر المسمى «التأثير في القوى المتخيِّلة»، بفضل القدرة على التنويم، يؤثر الساحر في عيون المشاهدين، فيرون أشياء دون أن توجد في الواقع؛ بمعنى أنه لايؤثر في العالم الخارجي وإنما في حواس الناس فقط. يعرض المؤلف معلومات جمعها من سحرة السودان، والهند، وتركيا، يقولون فيها إنهم كانوا يقتلون أشخاصا ثم يحيونهم.
– قـدرة الساحـر وحكمه في الإسلام
بحسب ابن خلدون، يمتلك الساحر قدرة واقعية، بمعنى أنه يؤثر فعليا في المخلوقات والأشياء. والأدلة التي يقدمها، بهذا الصدد، هي:
– مُلاحظة طقوس تبدَّت فعالة؛
– تواتر الممارسات السحرية في المكان والزمان[28]، أي الحجة نفسها التي سيقدمها ليفي ستروس لإظهار عدم جدوى مقاربة السحر والتطبيبات التقليدية من منظور أنطولوجي؛ السِّحرُ – في رأيه – موجود بكل بساطة لأنه يُمارَس. ولو لم يكن موجودا لما كان يُمارَس. ثم لو لم تكن لممارسات الأطباء التقليديين فعاليات مماثلة، بل وأحيانا مطابقة لممارسات زملائهم الأطباء العصريين لما شهدت الممارسات العلاجية التقليدية والسِّحرية هذا الانتشار الواسع على مستويي الزمان والمكان[29]؛
– ثم أخيرا القرآن والسنة، وبالخصوص الآية 102 من سورة البقرة، وقصة سحر الرسول[30].
أما حكم الممارسات السحرية في الإسلام، فيرى المؤلف أن الشريعة لم تقم أي تمييز بين مختلف فئات السحر وحرمتها كلها لسببين: السحر مؤذ للغير، يتدخل في الشر، ثم إنه يفسد الإيمان بما أنه يقوم على الإيمان بإمكانية التأثير في العالم دون المرور من الله.
بالمقارنة مع تأملات الرازي، تميل تأملات ابن خلدون إلى إقصاء السحر المرتكز على النميمة والتقنيات اليدوية، (الفئات الأربع الأولى في تصنيف الرازي)؛ للسحر، في رأيه، قدرة واقعية فعالة دائما، تتأتى فعاليتها من تحكم العالم العلوي في العالم السفلي (حالة الطلسمات)، من جهة، ومن قوة نفوس فئة من الأفراد (الفئتين الأولى والأخيرة في تصنيف الرازي)، من جهة ثانية. هذه القدرة، في نظر ابن خلدون، لا تُكتسب أبدا كما أنها غير قابلة للنقل؛ إنها فطرية لدى الفرد، وطرق تشغيلها وتقنيات هذا التشغيل هما القابلتان للإيصال والتلقي عن طريق التعليم والتعلم. ومعنى هذا أن صورة الساحر، كما تستخلص من تأملات ابن خلدون، صورة مزدوجة؛ الساحر تارة شخصٌ يؤثر بمفرده، وهنا نقترب من فكرة الساحر باعتباره مناهضا للمجتمع المنتشرة في العديد من الثقافات، وتارة أخرى الساحرُ شخص يشكل جزءا من مجتمع سري، وهي فكرة بدورها منتشرة في العديد من الثقافات[31]. الصورتان معا تمتحان من تأملات سابقي ابن خلدون، المستخلصة بدورها من القرآن والحديث. تجد الصورة الأولى أصلها في الأحاديث النبوية حول العين الشريرة[32]، والثانية في تأويل معين للمقاطع القرآنية الخاصة بالكواكب. والحالة هذه، يبقى أن الساحر، في رأي ابن خلدون، لا يسخر قدرته إلا في مجال الشر. بهذا المعنى، فهو يكاد يكون نظيرا للشيطان. إنه، منافس حقيقي لله، إن جاز التعبير، ولكنه لا يملك أي قدرة خارج تلك التي يمنحها الخالق. إرادة الله وقدرته، كما يصفهما ابن خلدون، تشبهان إلى حد مَّا «المانا الميلانيزية»[33] التي وصفها كودرينغتون (Codrington) في ملاحظاتـ (ه) الميلانيزية منذ عام 1891 [34]، ومن بعده موس وهوبير سنة 1904[35]. يمكن للساحر أن يسخرهما في الخير كما في الشر. ولكن، على عكس المتصوفة والأولياء الذين لا يسخرون تلك القدرة إلا في الخير، يستخدمها الساحر في مجال الشر.
من ناحية أخرى، رغم أن تأملات ابن خلدون ترتكز في قسمها الأعظم على ملاحظات، فإن معالجة هذه المعاينات تظل سجينة التأملات المستوحاة مما ورد في القرآن والحديث حول السحر. وهذا يُظهر، من جهة، أن أيَّ نظرية في السحر كانت غير ممكنة التشييد، بل غير قابلة للتفكير خارج هذين المصدرين فيما يبدو، ويظهر، من جهة أخرى، أن هذين المصدرين لم يكونا في أصل التأملات النظرية في السحر فحسب، بل وكذلك في أصل الممارسات السحرية التي ستنتشر في العالم الإسلامي
أخيرا، تشهد المعلومات التي يعرضها المؤلف، بالخصوص تلك التي تتعلق بالبلدان الإسلامية بما فيها المغرب، على شساعة التحول الذي عرفته هذه البلدان في مجال السحر خلال الفترة الممتدة من وفاة الرسول إلى عصر ابن خلدون (ثمانية قرون). لأول مرة، يعاين مؤلفٌ مسلمٌ ممارساتٍ سحرية، كانت من قبل، تنتمي إلى مجال التخمين والتأمل لا غير. زد على ذلك أن الأمثلة التي يسوقها ابن خلدون حول الطقوس السحرية، تفسح المجال للتفكير في أنه كان يتوفر على معرفة سحرية عميقة[36]. كيف وصلت الأمور إلى هذا الوضع؟ هل كان لحكم السحر في الإسلام دورٌ معين في هذا التطور؟ ما هو هذا الحكم؟ يغدو هذا السؤال هاما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المغرب تبنى المذهب المالكي رسميا منذ القرن الثامن الميلادي[37].

3. حكم السحـر في المذاهب الفقهية الأربعـة
سبق أن عرضنا ما بدا لنا أساسيا حول المعرفة التي كوَّنها الفقه في موضوع السحر. ونحاول الآن التطرق إلى الجانب الثاني، وهو الجانب التشريعي. ما حكم الساحر في الدين حسب الفقهاء؟
مع أن المذاهب الفقهية الأربعة أجمعت على اعتبار السحر كفرا، فإنها منحت الساحر أوضاعا اعتبارية مختلفة، بهذا القدر أو ذاك. وقد انتظمت تأملاتهم، هذه المرة، حول أربعة محاور: تعلم السحر واستعماله، توبة الساحر، حكم سحرة أهل الكتاب (اليهود والمسيحيون)، ثم حكم الساحرة المسلمة.

أ. تعلم السحـر واستخدامـه
ترى المالكية والحنفية، وكلاهما يشتهر بتعلقه بالسنة النبوية، أن كل تعلم للسحر، ولو لأهداف وقائية، يعدّ كفرا، بل هو ردة. هكذا، فكل فرد مارس السحر يجب أن ينفذ فيه حكم المرتد، وهو الموت بالسيف طبقا للحديث النبوي وسنة الصحابة[38]؛ فقد قال الرسول: «حدّ الساحر ضربة بالسيف»[39]، وقدم نفسه المثال عندما أمر بقتل امرأة ساحرة وشاعرة[40]. يحالُ أيضا على مصادر تقول إن أم حفصة، زوجة الرسول، قتلت خادمة لها سحرتها هي وعمرا، وتقول إن عمرا ثاني خليفة في الإسلام أمر بقتل ثلاث ساحرات[41].
يرى مذهبا الحنفية والشافعية، المشهوران بارتباطهما بالتأمل وتأويل مصدري الإسلام، أن نمط السحر الذي تعلمه الساحر، وأهداف تعلمه هما اللذان يحددان ما إذا كان كافرا أو لا. هكذا، إذا اعترف أنه سحر شخصا ما مع علمه بأن سحره قاتلٌ وجب الحكم عليه بالقوَد أو القصاص، الذي يعني انتقام عائلة الضحية (من الساحر)[42]. ولكن إذا صرح، بعد قتله شخصا ما، بأن سحره لا يكون دائما قاتلا وجَب سجنه بصفة شبه عمد. أخيرا، إذا تسبب الساحر في موت ضحية ما بشكل عرَضي، أي أنه كان يريد قتل شخص ما فأصاب سحره شخصا آخر، فإنه يجب عليه أن يقدم دية (غرامة) لعائلة الضحية[43]. أما الحنفية، فيرون أن حكم القتل لا ينبغي أن ينفذ إلا تحت شروط: أهمها التأكد أوَّلا من أن الساحر قد اقترف العديد من أعمال القتل. في هذه الحالة بالضبط، يجب أن ينفذ فيه حد القتل.

ب. تـوبـة الساحـر
بحسب الحنفية والمالكية، بما أن الساحر شبيه بالزنديق، فإن توبته لا تقبَل اللهم إذا تاب قبل أن يُكتشف؛ أي عندما يقول: «كنتُ أسحر مدة وقد تركتُ ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل»[44]. أما الحنبلية والشافعية، فلهما موقفان متعارضان؛ ففيما يرى أصحاب المذهب الأول أن توبة الساحر لا يجب أن تقبل بأي حال من الأحوال، يرى أنصار المذهب الثاني وجوبَ قبولها بمجرد ما يتخلى الساحر عن سحره، بمعنى أنه يكفيه التعبير عن التوبة فيتم قبولها[45].

ج. سحـرة أهـل الكتـاب
يرى أتباع أبي حنيفة أن السحرة المسيحيين واليهود يجب أن ينفذ فيهم حكم السحرة المسلمين نفسه، فيما يرى أتباع ابن حنبل والشافعي أنه لا يجب قتل هؤلاء السحرة بحجة أن النبي لم يقتل ساحره اليهودي لبيدا بن الأعصم. أما أتباع مالك، فيرون وجوبَ تنفيذ حكم الإعدام في جميع سحرة أهل الكتاب ما لم يتخلوا عن سحرهم[46].

د. حكم المـرأة الساحـرة
باستثناء الحنفيين الذين يرون وجوب سجن الساحرات المسلمات، ترى المذاهب الثلاثة الباقية وجوبَ خضوع الساحرة المسلمة للحكم نفسه الذي ينفذ في الساحر المسلم[47].
من خلال مختلف الأحكام التي عرضناها للتو يمكن استخلاص أن المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة تلتقي في نقطة واحدة هي اعتبار السحر والساحر من طبيعة إجرامية، وبالتالي إدراجهما ضمن الكفر، ومن ثمّ وُجوب قتل الساحر. وسببُ ذلك – في رأينا – هو أن الرهان في السحر قائم على قدرة الله، بمعنى أن الساحر يريد لنفسه أن يكون منافسا لله، إن جاز هذا التعبير. هذه المنافسة يتصورها الفقهاء بطريقتين لا تختلفان في العمق: فبعضهم يظن أن الساحر يملك قدرة تأثير حقيقية وواقعية في العالم الخارجي (المالكية، الحنبلية، والشافعية)، ويقول من ثمة بوجوب محاكمته بسبب تشغيله لقدرة الله وإرادته في مجالات شريرة؛ أي يجب معاقبته لأنه أثر في العالم الخارجي. والبعض الآخر يظن أن الساحر لا يتوفر على أية قدرة حقيقية، فيؤكد وُجوبَ محاكمته لإيمانه بقدرة التأثير في العالم خارج إرادة الله، وبالتالي – يجب محاكمته – بسبب شركه بالله. وإذن فقد ردَّ الفقه الإسلامي السحرَ إلى مشكل ديني كما سيكون الأمر بالنسبة للسحر الأوروبي زمن مطاردة الساحرات، مع اختلاف التعامل مع السحرة في السياقين الثقافين:
فقبل أن يعتلي العقل عرش أوروبا عرفت هذه الملكة إبان القرون XV وXVI وXVIIم. ضغطا لم يشهد له مثيل في التاريخ. إذ سجنت محاكم التفتيش التي انتشرت في مجموع دول أوروبا، بتزكية من الكنيسة وتحت إشرافها، لحفظ الكاثوليكية من البدع والشيطان، سجَنت وشنقت وأحرقت عشرات الآلاف من الأشخاص أكثرهم ساحرات مزعومات… كان يكفي أن يبلغ عن امرأة ما أحد الجيران أو الأقارب (ابنها، زوجها، أخوها، الخ.)، بل وحتى طفل ما فتجد نفسها في جحيم العقاب، وكانت محكمة التفتيش، في المقابل تلتزم بعدم إفشاء اسم الساعي بالساحرة المزعومة. بعد اعتقال المشتبه بها، يُطلب منها أن تعترف (بأنها ساحرة) وتزود المحكمة بأسماء شركائها. فإن أقرَّت عوقبت وإن لم تعتَرف أجبِرَت على ذلك بالقوة. ولأجل ذلك، تفننت محاكم التفتيش في استخدام أساليب العقاب الجسدي: منها، مثلا، التكبيل بالسلاسل، الضرب، وضع المشتبه بها في سجن مساحته من الضيق بحيث ترغم الضنينة على القعود فوق برازها، إنفاذ إبر حادة طويلة في مختلف أطراف الجسد بحثا عن علامة الميثاق الذي قد تكون الساحرة المزعومة عقدته مع الشيطان، إلقاؤها في صهريج ماء، فإن غرقت قيل إنها بريئة، وإن طفت فوق الماء قيل إنها ساحرة، الخ. وخلال اعتراف الساحرة المزعومة، كان يُنتزع منها إكراها أنها وقعت ميثاقا مع الشيطان، بعد أن تبوَّلت على الإنجيل وكسَّرت الصليب، وشتمت العذراء، بموجبه صارت تملك القدرة على الطيران في الهواء وإرسال الرياح لإغراق السفن وتمريض الآخرين… كما تعترف بأنها تواظب على حضور محافل السبت، حيث ترقص عارية وتضاجع التيس على إيقاع دقات طبول جماعة السحرة وبحضور الشيطان نفسه[48]…
بخلاف ذلك، لم يمارس السياق العربي الإسلامي أي مضايقات جماعية من هذا القبيل. ومع أن تفسير هذا الاختلاف في التعامل يقتضي إنجاز دراسة مقارنة بين السياقين، وهو أمر الذي لا نضعه نصب أعيننا حاليا، يمكن اعتبار العنصر السياسي كان حاسما في هذا «التساهل». ذلك أن الخلفاء والولاة والوزراء أنفسهم كانوا في أغلب الأحيان يؤمنون بتحكم العلويات في السفليات، ويخضعون الكثير من أعمالهم لأحكام النجوم. ولهذا الغرض كانوا يستشيرون المنجمين والكهان ما لم يُفرغوا البعض منهم لخدمتهم[49]، كما كان الفأل والطيرة يحضران في الكثير من القضايا التي تهم الحكم نفسه. وبدل أن نسوق حشدا من الأمثلة في هذا الباب، نكتفي بإيراد الإشارتين التاليتين: أ) «وفي سنة 279 هـ. كانت ولاية محمد بن الفضل على إفريقية (…) وقتل فيها جميع فتيانه؛ وسبب ذلك أنه كان كثير الإصغاء إلى قول المنجمين والكهنة؛ وكانوا قالوا له إنه يقتله رجل ناقص العقل. وإنه يمكن أن يكون فتى؛ فكان إبراهيم، إذا رأى أحدا من فتيانه، فيه حركة ونشاط وحدة، يتقلد سيفا، قال: “هذا هو صاحبي!”، فيقلته»[50]؛ ب) في المغرب «كان يُرسل بنطلون المؤسس الأكبر للأسرة المرينية إلى النساء الحوامل بغاية تسهيل ولادتهن»[51].
تنتمي الصور التي كونتها المذاهب الفقهية الإسلامية عن السحر إلى العقيدة الدينية ولا تنخرط في إطار مرجعي ينتمي إلى الثقافة الشعبية على نحو ما نجد في سياقات أخرى[52]. هذه الصورة تجعل من الساحر شخصا قابلا لأن يكون حاضرا على الدوام هنا؛ يكفي تعيينه وإذا به يظهر. فقد حدد صاحب السيف البتار ثلاث عشرة علامة تتيح التعرف على الساحر. يقول:
«إذا وجدتَ علامة واحدة من هذه العلامات في أحد المعالجين فهو ساحر بلا أدنى ريب، وهذه العلامات هي: 1 – يسأل المريضَ عن اسمه واسم أمه؛ 2 – يأخذ أثرا من آثار المريض (ثوب – قلنسوة – منديل – فانيلة…)؛ 3 – أحيانا يطلب حيوانا بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض، أو يرمي به في مكان خرب؛ 4 – كتابة الطلاسم؛ 5 – تلاوة العزائم والطلاسم الغير المفهومة؛ 6 – إعطاء المريض (حجابا) يحتوي على مربعات بداخلها حروف وأرقام؛ 7 – يأمر المريضَ بأن يعتزل الناسَ فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسميها العامة (الحجبة)؛ 8 – أحيانا يطلب من المريض ألا يمسَّ ماء لمدة معينة غالبا تكون أربعين يوما، وهذه العلامة تدل على أن الجني الذي يخدم هذا الساحر نصراني؛ 9 – يعطي للمريض أشياء يدفنها في الأرض؛ 10 – يعطي للمريض أوراقا يحرقها ويتبخر بها؛ 11 – يتمتم بكلام غير مفهوم؛ 12 – أحيانا يخبر الساحرُ المريضَ باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها؛ 13 – يكتب للمريض حروفا متقطعة في ورقة (حجاب) أو في طبق من الخزف الأبيض ويأمر المريض بإذابته وشربه»[53].
كما تجعل الصورة ذاتها من السحر قوة داخل-فردية ملازمة لفئة من الأشخاص، ولكن أيضا معرفة تُتَعَلَّم وتتناقل.
تجد الاختلافات – المتعلقة بتعلم السحر على الخصوص – تفسيرها في الشروط السوسيوتاريخية لنشأة كل مذهب وجغرافية انتشاره، وهي شروط لا يتسع المجال لعرضها في هذا السياق، كما في استراتيجية هذه المذاهب في قراءة النصوص المقدسة وتفسيرها أو تأويلها. وقد كان لهذه الاختلافات بدون شك تأثير في السحر العربي الإسلامي.
——–
هوامــش
[1] ابن خلدون، المقدمة، تونس، الدار التونسية للنشر، 1984، ج. 2، صص. 551.
[2] محمد أبو زهرة، أصول الفقه، القاهرة، دار الفكر العربي، 1997، ص. 8-9.
[3] عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، م. س.
[4] نفسـه، ج. 5، ص. 460.
[5] نفسـه، ص. 660-662.
[6] نفسـه، ص. 466-467.
[7] نفسـه، ص. 466.
[8] المشهد نفسه يتكرر في القرآن مرة ثانية في سورة طـه، الآيات 67-72.
[9] الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، م. س.، ج. 5، ص. 462.
[10] نفسـه، الصفحة ذاتها.
[11] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، م. س.، ج. 1، ص. 144.
[12] الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، م. س.، ج. 5، ص. 467.
[13] الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، م. س.، ج. 2، ص. 130.
[14] محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، الدار البيضاء، دار الـرشاد الحديثة، 1976، ج. 1، ص. 72.
[15] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1986، ج. 2، ص. 243-244.
[16] انظر: الرازي، قصص السحر والسحرة…، م. س.، ص. 28-43. ونجد ملخصا لهذه الأنواع في: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، م. س.، ج. 1، ص. 145-147، وفي: محمد بيومي، السحر والسحرة في الكتاب والسنة، م. س.، صص. 21-25، وأبو بكر بن محمد الحنبلي، علاج الأمور السحرية من الشريعة الإسلامية، عمان، دار عمار، ط. I، 1989، صص. 11-14.
[17] الرازي، قصة السحر والسحرة…، م. س.، ص. 42.
[18] نفسـه، ص. 45.
[19] نفسـه، ص. 48-49.
[20] نفسـه، ص. 50.
[21] ابن كثير، تفسير القرآن…، م. س.، ج. 1، ص. 145، وابن خلدون، المقدمة، م. س.، ج. 2، ص. 627.
[22] B. Malinowski, Jardins de corail, op. cit., Paris, François Maspéro, 1974, p. 238.
[23] ابن خلدون، المقدمـة، م. س.، ج. 2 ، ص. 623-624.
[24] نفسـه، ص. 627.
[25] نفسـه، الصفحة ذاتها.
[26] نفسـه، الصفحة ذاتها.
[27] نفسـه، ص. 626.
[28] نفسـه، ص. 625.
[29] C. Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, op. cit., t. 1, pp. 184-202.
أو ترجمته العربية: كلود ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، م. س.، صص. 203-223. وللوقوف على عرض تحليلي لمقارنة ليفي ستروس بين الطبين التقليدي والعصري، يمكن الرجوع إلى: ماك روكفيل، «الساحر والمحلل النفساني»، ضمن جماعي، أبحاث في السحـر، م. س.، صص. 29-48.
[30] نفسـه، ص. 626.
[31] انظر على سبيل المثال:
– F. Elorint et J. Bernabé, La sorcellerie paysanne, op. cit., p. 17.
[32] انظر، على سبيل المثال، ابن القيم الجوزية، الطب النبوي، م. س.، ص. 127-136.
[33] المانا: كلمة بولينيزية تعني سلطة فوق طبيعية. وقد أشاع هذا المصطلح مؤسسو الإثنولوجيا الدينية. ويمكن للمانا أن تقطـن أجساما جامدة لكنها على العموم خاصية ينفرد بها بعض الأفراد من بني البشر، وهم الرؤساء بصفة خاصة، والأرواح. وقد تضاءل استعمال هذا المصطلح في الأدبيات العلمية. عن:
– M. Panoff et M. Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, op. cit..
[34] G. Gurvitch, La vocation de la sociologie actuelle, op. cit., t. II, p. 57 et 72.
[35] M. Mauss, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», op. cit., pp. 101-115.
[36] انظر الفصل الذي خصصه للأعداد المتحابة، المقدمة، م. س.، ص. 631-641.
[37] للمزيد من المعلومات حول تاريخ المذهب المالكي في المغرب، راجع: عمر الجديدي، تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1987.
[38] ابن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بيروت، دار المعرفة، ط. VII / 1985، ج. 2، ص. 449، وابن كثير، تفسير القرآن…، م. س.، ج. 1، ص. 147.
[39] سنن الترمذي، الحديث رقم: 1380.
[40] شمس الدين الذهبي، كتاب الكبائر، بيـروت، دار الكتب الشعبيـة، (د. ت.)، ص. 15.
[41] الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، م. س.، ج. 5، ص. 426.
[42] نفسـه، الصفحة ذاتها.
[43] فخر الدين الرازي، قصة السحر والسحرة…، م. س.، ص. 54، وابن كثير، تفسير القرآن…، م. س.، ج. 1، ص. 148.
[44] محمد إبراهيم الجمل، السحر في ظل القرآن والسيرة النبوية، م. س.، ص. 119.
[45] نفسـه، الصفحـة ذاتها.
[46] ابن كثير، تفسير القرآن…، م. س.، ج. 1، ص. 148.
[47] نفسـه، الصفحـة ذاتها.
[48] صنفت المئات من الكتب حول هذا الموضوع. يمكن استشارة، على سبيل المثال، العناوين التالية:
– Jean Palou, La sorcellerie, Paris, PUF., (Que-sais-je?), 6ème éd. 1980, Julio Caro Baroja, Les sorcières et leur monde, Traduit de l’espagnol par M. -A. Sarrailh, Paris, Gallimard, et Josane Charpentier, La sorcellerie en pays basque, Paris, Guénégaud, 1977.
[49] في هذا الموضوع، يمكن الرجوع، على سبيل المثال، إلى: نظامي عروضي سمرقندي، كتاب جهار مقالة (أربع مقالات)، ترجمة محمد بن تاويت، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1982، المقالة الثالثة في علم النجوم (صص. 139-167)، حيث يسوق المؤلف حكايات عديدة حول استشارة منجمين من قبل خلفاء مسلمين ووزراء.
[50] ابن عذاري المراكشـي، البيـان المغـرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان وإ. ليفي بروفنسال، بيروت، دار الثقافة، ط. III / 1983، ج. 1، ص. 122-123.
[51] Mohamed B. A. Benchekroun, La vie intellectuelle marocaine sous les Mérinides et les Wattasides (XIIIe XIVe XVe XVIe siècles), Rabat, Imprimerie Mohammed V-Fès, 1974, p. 484.
[52] حول مسألة العلاقة بين السحر والعقيدة الدينية والثقافة الشعبية، يمكن الرجوع إلى:
F. E. Lorint et J. Bernabé, La sorcellerie paysanne, op. cit., p. 183.
[53] وحيد عبد السلام بالي، الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار، م. س.، ص. 77-78.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الثلاثاء 04-09-2012 03:32 صباحا

الاخبار العاجلة