الكتابة والموت: 10 – بـوعلـي الغـزيوي. هوية «حديث الجثة» في الإبداع المغربي

1٬370 views مشاهدة
الكتابة والموت: 10 – بـوعلـي الغـزيوي. هوية «حديث الجثة» في الإبداع المغربي

يضم كتاب «حديث الجثة» بين جنباته عدة نصوص مختلفة الأبعاد، ومتميزة الطرح والممارسة، هي على التوالي:

– «ساعـة الاحتضـار» (ص. 7-14)
– «عودة ميـت» (ص. 15-22)
– «هذيــان ميــت» (ص. 23-30)

– «صوت الموتــى» (ص. 31-41)

– «احتواءات وتنكـرات» (ص. 43-50)
– «حديــث الجثـة» (ص. 51-70)
– «نـداء المـوت» (ص. 71-80)
– «خارج المـدار البشـري» (ص. 81-94)
– «فتنة الآلهـة أو الموت واقعيـا…» (ص. 95-102)
والكتاب حاول البحث عن هذا الهم الذي يقود الإنسان إلى عالم اللامرئي، هذا العالم الذي يكتنفه الغموض والإبهام، فراحَ الكاتب يعتصر أوردته الفنية للبحث عن هذا الجسد المقموع، والمغلوب على أمره، لتحديد بطاقة تعريفه، وذلك بالاستناد إلى مجموع العناصر الضابطة لمقومات الموت، وبالاحتكام إلى الصورة المستحيلة التي قد نستنبطها من النصوص.
والذي نستشفه على مسار الكشف اللاوجودي والتعليل لنواميس الجسد هو أنَّ الهوية للظاهرة الإنسانية تتمثل في طابعها التوليدي الذي يفضي إلى تطابق مادة التعريف وموضوعه. والمصادرة التي نطرحها بادئ ذي بدء لنحاول فيما يلي تركيز قواعدها هي أنَّ هذا الكتاب ينثر بين نصوصه نهاية لا نريدها، ولا نشتهيها. غير أن هذه الرغبة الغير تجاردية المرعبة، يسودها شيء غريبُُ حقا، لكنه إنساني على كل حال… بيد أن هذا الطرح الوحيد هو ما يجعلنا نستشف أن السارد توخَّى الموت التي أحبها واشتهاها وتحدَّث عنها بحياد تام. هكذا تنقلب الأنا إلى عبارات سادية، إذ صارت موافقة لكل أمنياتها الدفينة، وكل الترنيمات الشبقية، حيث يستعيد السارد تلك التهويمات السادية حتَّى يصبح نقدا يسبغ على الموت الميتافيزيقي بعدا يوميا، وهذا ما أراده الكاتب بطرحاته «جثة الموت» حيث يتجهَّز بشبكة كاملة من العلاقات التي لا تقبل الموت، بل يحاول أن يدمجها في السلك الديبلوماسي اليومي، لأن الأنا «المريضة» لا تسأل عن نهايتها كما يقول ألبير كامو في أسطورة سيزيف، ومثل الإليس العاشق عند كازوت الذي يسأل: «ماذا تريد؟». فهذا اللقاء بين الأنا السرمدية والأنا الفانية هو الذي دفع بالكتاب إلى تحديد عدة مفاهيم لهذه الأنا الساردة، ومن بين هذه التحديدات صرخة جورج باطاي وأنطونان أرطو، حيث يقول هذا الأخير:
«كفانا من الأحكام الغيبية!». فهذه الصرخة هي التي جعلت محمد أسليم يقسم هذه الأنا بين الشعور واللاشعور، بل يأتيها أيضا بمصاحبة تربط بين الدال والمدلول، كما يقول جاك لاكان[1]. هذه المصاحبة هي التي تنزع عن الجثة دورها البطولي، وتفرغها من قصدها. فمن يستقبلها ثانية؟ هذا هو فحوى مضمون الرسالة المسروقة عند إدغار ألان بّو، في نظر جاك لاكان.
وإذا قبلنا أن محمد أسليم حاول أن «يسبغ معنى وجمالا على الموت – المحو»[2]، فإن علينا أن ننظر هذا الزخم السردي باعتباره مفصَّلا تاريخيا حاسما في تطور الوعي الحضاري عند العرب.
كما أن من المستحيل أن نفصل محمد أسليم عن ظاهرة أساسية تتمثل في تنوع دراساته التي يبقى أحد مظاهرها كونها طبعت كتابه الحالي بطابع ديني خالص. وسواء أكانت هذه الظاهرة بارزة أم مبهمة في الأذهان، فإنه لابد من التأكيد عليها، سيما وأنها انعكست في شتى نصوصه التي ذكرناها، ونراها بالخصوص في النصين المعنونين بـ «نداء الموت»، و«فتنة الآلهة أو الموت واقعيا».
والسؤال المطروح: لماذا هذا الاهتمام بالموت؟ هل المبدع العربي يحتضر أم يموت؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف يموت؟ وما هي أسباب الموت؟ لماذا يتعذب هذا الجسد؟ كلها أسئلة تدفعنا إلى ولوج عالم الموت. هذه الحالة لم تكن إطلاقا تخطر ببال كتاب جيل الستينيات، أما اليوم فقد أصبحوا موتى العصر، كما يقول بارت[3].
يتحدث أسليم بشبقية عن الموت، لكن هناك مجال أمامنا نموت فيه ومن أجله: إنه مجال الإبداع حيث نرحل معه ونعتبره أعظم سقف فني نتنفس فيه. فنحن ضد موتنا، وضد الأشياء، وضد الصفقة، وضد الآخر، كما يقول فرانسوا مورياك، لأننا لا نكون سعداء، ولا نملك كلمة؛ إننا نتصيدها متأخرين، بل ونقوم مقام الامبراطور هولاكو، لأن التاريخ الإبداعي العربي أصبح اليوم مجرد حالة بلهاء، والنصف الحقيقي للموت لازال يعمل فينا؛ فهو عبارة عن كميات متراكمة من الحقائق الوعظية والسلفية. لكن كيف يقاوم هذا الجسد؟ وهو المفهوم الأعمق لكل استمرار إبداعي، هو التاريخ الأسلم مع الغرب.
إن أسليم يحاول جاهدا أن يخلخل النصوص المسالمة والمهادِنَة، ويضع فرديتنا خارج الزلزال، هذه الفردية الجافة التي أثقل كاهلها قحط الستينيات وقحط السبعينيات. فاليوم لابد أن يخلق حياته الجديدة وأن يعي موته، فـ «قد قررنا معاقبة الموت»، على حد تعبير أندريه بروتون.
لم أجد مفردة مناسبة لوصف كتاب «حديث الجثة»، لكن هذه الحالة كانت أبعد ما تكون عن الغيبوبة: ولربما كانت الموتُ هي الكلمة المناسبة لوجودنا النحن؛ فهو المعادل غير الموضوعي، يمزق الكون، والجسد، واللغة. ومع أن الكاتب حاول أن يمارس موته في اليومي، وخارج الصفقة، وكل قناعة آدم، فإنه لا يسعني أخيرا إلا أن أشكر الأخ العزيز أسليم عن هذه البادرة الجديدة والإضافة النادرة إلى الإبداع المغربي. ولنا عودة إلى الموضـوع.

هوامـــش
[1] حوار مع جاك لاكان، في الآداب الفرنسية، دجنبـر 1966.
[2] قولة لميشال فوكو، وضعها صاحب «حديث الجثة عتبة لكتابه». انظر: حديـث الجثـة، ص. 3.

[3] الفكر العربـي المعاصـر، العدد 3، 1980

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 09:04 مساء

الاخبار العاجلة