هوامش في السحر: 04 – حب هذه وحب تلك (أو بين الحداثة والتقليد)

2٬549 views مشاهدة
هوامش في السحر: 04 – حب هذه وحب تلك (أو بين الحداثة والتقليد)

1.تجليات السِّحر
كان شهران قد انصرما عن استقراري في المنزل الذي ستدور فيه الوقائع التالية، دون أن أعرف بالضبط من كان يقطن الغرفة المجاورة لغرفتي. إذ كان يتردَّد عليها يوميا دركيّ وثلاثة جنود وشخص مَدَني، كلهم عزَّب، بالإضافة إلى فتيات. ذات يوم جاء أحدهم ليستعير مني شريطا موسيقيا، ثم دعاني لشرب فنجان قهوة.
وجدتُ الغرفة مفروشة بكيفية عادية، على طريقة ما يسميه الشباب بـ «البريتش»: سريران، جهازٌ موسيقي، وعلى الحائط عُلقت صورُ بعض نجوم الأغنية العالمية؛ مايكل جاكسون، ماضونا…، ثم ملصقات أفلام هندية. وبمجرد ما علم الحاضرون أنني أهتمّ بالسحر، طرحوا عليَّ السؤال نفسه: «هل السحر موجودٌ أم لا؟»، ثم طلبوا مني تفسير هذا الحدث الغريب الذي عاشوه في البيت، رواه أحدهم على النحو التالي:
«منذ بضعة أيام، كنا مستلقين على الفراش، بعد إطفاء مصباح الإنارة، فإذا بنا نسمع صوت شيء ما يسقط على الأرض ثم ينكسر. في الصباح، وجدنا صحنا قد انشطر إلى ثلاث قطع. وما لم نفهمه هو “كيف أمكن للصحن أن ينكسر وهو موضوع على الأرض؟” تساءلنا طويلا، لكننا لم نجد له أي جواب مقنع. وأخيرا، استخلصنا أن ذلك تمَّ بسبب من سحر».
تدخَّلت فتاة كانت حاضرة، وخاطبت الشاب الذي روى الحكاية قائلة: «ألم تعرفوا بعد الشخص الذي ألقى عليكم السِّحر؟ إنها هي (؟) بالتأكيد»، لكن فتى آخر قاطعها. ألحُّوا جميعا على معرفة رأيي: «بماذا تفسر هذا الأمر؟». أمام تردُّدي، حسَم أحدهم النقاش قائلا:
«إنـه السحر (الـذي كسَّر الصَّحن) ومـا يثبـت ذلك (= وجـود السحر) هو أنَّ الجن موجودون. والقرآن يؤكد ذلك. ثم إنهم (الجن) يشيرون إلى وجودهم من خلال مسِّهم بعض الناس. كيف تفسِّر (مخاطبا إياي) كون عمَّتي بها مسّ منهم، وعندما تنتابها أزمة وتدخل في غيبوبة، تأخذ في الحديث بالفرنسية مع أنه لم يسبق لها إطلاقا أن دخلت المدرسة؟ وظاهرة ما يسمَّى بـ “خطيف العرائس” هي، أخيرا، دليل آخر على وجود الجن؛ ففي ليلة العرس، قبل أن يدخل العريس على زوجته لأول مرة، لا تترَكُ هذه العروس أبدا وحيدة خشية أن يختطفها الجن كما يقع في بعض الأحيان».
كان هدف السؤال الملحُّ تحديدُ مكاني. والتردد الذي أبديتهُ ربما دلَّ، في نظر محادثي، على أنني صاحب موقف محايد تجاه مسألة وجود السحر، على أنني كنتُ مستعدَّا – في نظر محادثي دائما – لاتخاذ موقف واضح ومحدَّد فيما يخص الإيمان بالسِّحر. والتدخل السابق كان يرمي إلى حثِّي على الاعتقاد. ولأجل ذلك تمَّ تقديم عدة أدلة: دينية، «عقلانية» مزعومة، ثم أخرى تنتمي إلى نظام الملاحظة والتواتر، من خلال مثال موضوعُه معتقدٌ شائعٌ في البلدان المغاربية، إذ تروي باحثة تونسية بصدده:
«في تونس، تروى حكايات كثيرة عن “العروس التي “استأذت” ليلة دخلتها وهي في أتم زينتها غارقة في بياضها مخضبة بحنائها ونقشتها (…). “استأذت” “من تحت أيديهم” لأن أمها وعدت الولي الفلاني “بزردة” إن أزال عرقلة ابنتها وزوجها.. ولكنها في غمرة الزفاف نسيت وعدها فسلط عليها أحد ملوك الجن يصرع ابنتها ويفقدها وعيها كل ليلة…»(1).
ولكن ربطَ هذه الأدلة بالسؤال الأولي (كيف أمكن لصحن أن ينكسر وحده؟) جعلها تضع دفعة واحدة، وبكيفية مسبقة، السحرَ والجن في خانة واحدة. إذا كان السحر يتجلى عبر أفعال وأشياء غير قابلة للفهم، منفلتة من قوانين العلية، فلأن الجن كانوا في أصل تلك الأشياء والأفعال. وباختصار، بحسب مخاطبي، لقد تلقى الجنُّ أمرا من ساحر مَّا، فزاروهم (المخاطبين) لأمر ما. وبذلك كان مدارُ السؤال معرفة من هو هذا الساحر وأي شيء يريده.
2. لو كان في وسعك القيام بشـيء ما…
لحظات بعد اللقاء، التحق بغرفتي أحد الشباب، اسمه أحمد، وهو المعني بالقضية الحالية، كي يسألني عما إذا كان بوسعي أن أفعل شيئا ما لفائدته؛ قال:
«إننا (هو وخليلته) نتفاهم جيدا طوال النهار، لكننا في الليل نختصم كثيرا. هل يمكنك أن تكتب لي حجابا لوضع حد لهذا الوضع؟ (…) وهل هذه الأشياء (=الحجاب أو السحر عموما) فعالة لدرجة التفريق بين شخصين وقلب الحب الذي يربطهمـا إلـى كراهية؟».
بعـد ذلك بأيام، دعاني أحمد إلى الغذاء معه. كانت برفقته فتاة عسكريـة. أسرَّ لي بقسم من مَشاكله، فقال إنه من الصعب عليه كثيرا مزاولة العمل في تلك الأيام، لأنه كان ينوي السفر، لكن أحد أصدقائه تعرض لحادثة سير، فاضطر هو لتعويضه. والحادثة سبق أن تنبأت بها عرافة، كان أحمد نفسه قد استشارها، لكنه استهان بتحذيرها وها هو يتحمل عاقبة تلك الاستهانة:
«أنا الذي سهَّلتُ على ذلك الصديق استعارة السيارة. والآن فقط فهمتُ ما قصدته العرافة لما حذرتني قائلة: “رد بالك مع الطوموبيل شما توقع لها شي حاجة» (اعتن بالسيارة. لا يجب أن يلحق بها سوء). فقد رأت كل شيء (=كل ما سيقع) في بطاقات اللعب».
لما سمعت رفيقته العسكرية هندٌ هذا الكلام آخذت أحمد على الإيمان بهذه الخزعبلات (التخربيق)، واستغلت الفرصة لمؤاخذة المغاربة على الاستمرار في الإيمان بالسحر، وبما تقوله بطاقات العرافات، الخ. وراء هذه المؤاخذة كانت ثمة رقابة: فباسم العقلانية اتهمت أحمد، وعبره جميع المغاربة، بأنه “متخلف”. لهذا السبب، ربما، لم يحدثني أحمد، بعد ذلك إطلاقا، عن الحجاب.
لكـن بفضل سوء التفاهم هذا، توصلتُ إلى معرفة ما كان أحمد يقصده بسؤاله: «هل هذه الأشيـاء فعالة لدرجة التفريق بين شخصين وقلب الحب الرابط بينهما إلى كراهية؟». فقد زارني صديق له، فانتهزتُ الفرصة «لأستلَّ» منه بعض المعلومات حول موضوع الزيارة التي سبق أن قام بها أحمد للعرافة. قلتُ لزائري: «مسكين أحمد، غارق في المشاكل هذه الأيام»، وكنتُ أنتظر أن يحدثني عن حادثة السير التي تعرض لها صديق أحمد، لكنَّ محادثي عقب على كلامي بجواب مغاير تماما، إذ قال:
«لعن الله المال. فقد صـار الناسُ اليـومَ عميـا من جراء تهافتهم عليه. إنه (= أحمد) هو الذي خلق مشاكله بنفسه؛ فمنذ سنتين كان مرتبطا بفتاةٍ افتضَّها، هي سعيدة، واليوم ها هو مع بنت أخرى، هي هند. إنها مشكلة حقيقية. أخطر من ذلك، فهو مرتبط الآن بالاثنتين. لقد حاولنا (= أنا وباقي أصدقاء أحمد) كثيرا إقناعه بضرورة التخلص من إحداهما، لكن عبثا. لم يشأ. إنه عاجز عن الحسم».
وإذن، فقد أخذت الأمور في الاتضاح:
– كان أحمد في ذلك الوقت مرتبطا بهند، الفتاة العسكرية. وفيما بعد سيتضح أنَّ وراءَ إقامته بالمنزل الحالي تقف هذه العلاقة الجديدة.
– يمكن فهم سؤاله المذكور أعلاه، بطريقتين مختلفتين: فمن زاوية علاقة أحمد بهند، كان السؤال طريقة للتساؤل عما إذا كان سحر سعيدة من الفعالية لدرجة أن هندا أخذت تكره أحمد، وأن – من المحتمل – أن تهجره ما لم يقم بعملية لإبطال السحر. ومن زاوية علاقة أحمد بصديقته السابقة (سعيدة)، يصير السؤال نفسه قابلا للترجمة على النحو التالي: «هل أنت متمكنٌ من السحر بحيث تسحر سعيدة لدرجة تجعلها تكرهني وتهجرني نهائيا؟». في الحالة الأولى، خشية أن يفقد هندا، كان أحمد يود استدعاء السِّحر لكي يبطل السحر الملقى عليه. في الحالة الثانية، قلقا من سعيدة، كان أحمد يودّ استدعاء السحر كي يتخلص منها. والمعنيان يتداخلان. وما طلبه أحمد، وهو حجاب، يعبر عنه جيدا: فلكلمة حجاب معنى «ستار» أيضا؛ بهذا المعنى، بمعزل عن الثنائية سحر رباني – سحر شيطاني، كان أحمد يريد بكل بساطة القيام بشيء ما لجعله «محجوبا» عن – أو «غير مرئي» من قِبل – صديقته القديمة والحب الذي تحمله تجاهه في آن واحد. ولاعتقاده بأن الأدلة المذكورة أعلاه (أدلة وجود السحر) قد أقنعتني، فقد طلب مني أن أصنع له حجابا. ويبدو أن طلبه يرتكز على الفرضية التالية:
– بما أنه (= الباحث) يهتم بالسحر، فبإمكانه أن يزاوله. كان سيقيم معي علاقة مشابهة إلى حد ما بالعلاقة التي سبق لإحدى العرافات أن ودَّت إقامتها معي، وهي علاقة تبادل أو «مقايضة»(2): يزودني بأخبار مقابل أن أبطل سحره. لكن رفض هند تصديق فعالية العرافة والإيمان بالسحر، وضعَ أحمد في موقع شبيه بموقف العديد من المخبرين الذين يوقفون حكاية سحرهم فجأة. كأنه صنفني ضمن الفئة التي تنتمي إليها هند من حيث الذهنية، فاستخلص أنه لن ينال مقابلا عن حكايته، ومن ثمَّ لم يحدثني ثانية عن الحجاب.
3. حــب هـــذه:
صديقُ أحمد نفسُه الذي سبق أن أخبرني – تبعا لـ «سوء تفاهم» – عن مشكلة أحمد الحقيقية (كونه يحب فتاتين في آن واحد)، تحدث لي عن فتاة سبق أن قدَّمها لي ذات يوم في غرفتهم. تلك البنت كررت الباكالوريا، وهي الآن بصدد تحضير شهادة الكفاءة في الحقوق وتودُّ الحصول على كتب في هذا الميدان. سألني مخبري عما إذا كنتُ أتوفر، صدفة، على كتب في هذا الميدان، كما أطلعني بأنه سبق أن تحدث عني للفتاة المعنية: «قلتُ لها إنكَ تتوفر على مكتبة كبيرة…»
في اليوم الموالي جاء أحمد بدوره يسألني عما إذا كنتُ أتوفر على كتب في الحقوق. ولما تهيأتُ للبحث عن اثنين كنتُ أتوفر عليهما بالصدفة، صرفني عن ذلك قائلا إنه لاداعي لإزعاجي (لم يعد يرغب بتاتا في المجلدين). يوما بعد ذلك، جاء أحمد ليخبرني بأنه طرد «ذلك الأحمق الذي كان يزعجُك (طالبا منك كتبا) ويتكلم كثيرا (كاشفا عن أسرار الآخرين) مجانا:
بعد ذلك بأيام، جاءت فتاة تطرق بابي، طالبة مني أن أستقبلها لبضع لحظات، إن أمكن، في انتظار أن يعود جيراني (أحمد وأصدقائه) الذين أتت عندهم. وما أن دخلت إلى الغرفة حتَّى أخذت تطرح عليَّ أسئلة كثيرة حول بحثي، ما أقرأه من الكتب، ثم طلبت مني أن أعيرها كتابا، مُطَمئنة إياي بأنها ستعيده لي في المرة المقبلة. فهمتُ أنها كانت تودُّ إقامة علاقة مَّا معي، تركتُ لما سيأتي من الأيام أمرَ تحديد طبيعة تلك الصِّلة وخلفياتها. بعد أيام، طرق بابي حسنُُ، وهو المدني الوحيد الذي كان يقطن الغرفة المجاورة، ودخل في نقاش مع الفتاة المذكورة، لن أفهم مداره إلا بعد انصرام وقت طويل. قال لها حسنُُ إنه كان بصدد محاولة الحصول على جواز سفر، أما هي فقالت له إنها قد حصلت على رخصة عمل خارج المغرب، وأنها كانت بصدد إعداد جواز سفر كي تغادر المغرب.
بمجرد ما غادرنا حسن، جاء أحمد ليعبر لي عن غضبه من رؤية الفتاة عندي. عاتبني على استقبالها، ورأى من «غير المعقول» أن أدخل غرفتي فتاة لا أعرفها. ودون أن ينتظر أي تبرير من جهتي، خاطب الفتاة بلهجة غاضبة:
«اخبريني أوَّلا، ماذا تفعلين هنا؟ لماذا تزعجين هذا الرَّجل؟ ألا تخجلين من تدخين سجائره والحال أنه مجرد طالب فقير؟ ليس لك الحق في دخول هذه الحجرة».
دافعت الفتاة عن نفسها:
«أفعل ما طاب لي. أنت الآن رفقة خليلتك الجديدة، التحق بها في غرفتك. لم أعد أحبك. أنا حرة في أن أفعل ما أشاء وأذهب أين أشاء. ليس لك الحق في التدخل في شؤوني».
التحق أحمد بغرفته. ارتدى زيَّه العسكري ثم عاد ليقدم العتاب نفسه للفتاة، لكن هذه المرة بلهجة شديدة القسوة. أحدث فضيحة تطلبت تدخل صاحبة المنزل وطرد الفتاة المعنية. وما أن انصرفت الفتاة حتَّى قدَّم أحمد هندا لصاحبة المنزل باعتبارها خطيبته، ثم زعَمَ أنه لم يسبق له بتاتا أن عرف الأخرى وأن حسنا هو الذي أتى بها إلى المنزل، وأنَّ ذلك لم يكن سلوكا جادا لأن أحمد كان يقدم له خدمات (بإيوائه وإطعامه) بيما كان هو (=حسن) يحضر دائما فتيات إلى المنزل. في المساء عادت الفتاة المطرودة مصحوبة برجلين، عسكريين فيما يبدو، خاطبا أحمد بلهجة صارمة وبصوت مرتفع.
أعاد حسن على مسمعي الكلمات نفسها التي سبق أن قالها لي أحمد:
«(أحمد) هو المسؤول عن كل هذه الفضيحة. طالما نصحناه بهجر إحدى البنتين، لكنه لا يريد ذلك. إنه غير قادر على الحسم. أخطر من ذلك، فهو يضرب موعدا للفتاتين معا في وقت واحدٍ. إنه هو الذي أعطى موعدا لهذه الفتاة (= جليلة) في هذا المساء، مع أنه كان يعلم أن هندا ستكون معه…»
في المساء نفسه، جاء أحمد مرفوقا بهند كي يقدما لي اعتذاراتهما لكونهما أقحماني، بشكل من الأشكال، في فضيحتهما، لكن أيضا لكي يؤاخذاني مرة أخرى على استقبالي الفتاة الأخرى. عاهدتهما على عدم استقبالها مرة أخـرى. في ما بعد زارني أحمد وحيدا كي يحكي لي قصته مـع تلك الفتاة، وهو أمر لم يكن باستطاعته القيام به في حضور هند:
«تلك البنت (سعيدة) تزعجني عندما تأتي لزيارتي في المنزل. فهي ترى أنني الآن رفقة فتاة أخرى ومع ذلك تستمر في تعقبي والبحث عني. صحيح أنها تقوم بذلك لأن لي مشكلا معها يعود إلى وقت طويل، سأحكيه لك فيما بعد. لكنني أقول لها دائما: “أنا لازلت أحبك، لكنني الآن مرتبط بهذه البنت (هند) لأغراض شخصية. وبمجرد ما أسوي هذه الأغراض سأفترق معها. وآنئذ يمكنك زيارتي في المنزل. حاليا، أنت تعرفين مكان عملي، لماذا لا تأتين للبحث عني فيه؟”، ولكنها امرأة لا تفهم».
وإذن فقد كانت هذه الكلمات، بالنسبة لأحمد، طريقة ليبرر بها ضمنيا المؤاخذة التي آخذني بها. رغم أنه مرتبط بهند، فإنه كان يعتبر سعيدة دائما خليلته، وبالتالي كان يتعين عليَّ ألا أتحدث معها وألا أستقبلها في غرفتي وألا أرتبط بها بأية صلة. والفضيحة التي أحدثها أحمد كانت طريقة ليكشف لي بأن شكوك كانت تخامره حول علاقتي بسعيدة، الأمر الذي لم يكن سوى محض تخيل. وإذن، فمن الآن فصاعدا صار من المتعين على سعيدة ألا تطأ قدماها غرفتي. أيام بعد ذلك، فرَّ حسنُُ بعد أن سرق جهاز الموسيقى الذي يملكه الدركي(3). وبذلك لم يعد في إمكاني أن أتلقى أخبارا أخرى عن العلاقة التي كان يرتبط بها أحمدُُ مع رفيقتيه، خصوصا وأنه انغلق على نفسه ووضع مسافة بينه وبيني منذ أن واعدتني هندُُ بمساعدتي في العثور على منصب شغل. والقناة الإخبارية الوحيدة التي بقيت لي هي الجار الآخر، خالد، الذي كنتُ بصدد إجراء بحث حوله هو الآخر. ولكن الأخبار التي كان يزودني بها لم تكن سوى ملاحظات تكاد تكون على هامش المشكلة الحقيقية التي كان يعاني منها أحمد. فقد لاحظ خالد، مثلا، أن أحمد، بعد انصراف حميد، صار أكثر انفتاحا عليه ومختلفا جدا. كما أخبرني بأن أحمد كان في خصومة كبرى مع هند وأنهما ربما سيفترقان في الشهر الحالي، وبعد ذلك سيرحل أحمد.

4. حـُـبّ تِـلـك:
في هذا السياق، زارني شخصان قدما نفسيهما باعتبارهما مرتبطين بعلاقة خطوبة: جليلة طالبة بكلية الآداب، ويونس تلميذ في الباكلوريا. لقد علما بأن غرفة صغيرة بالمنزل الذي أقطن به كانت فارغة، فجاءا يطلبان مني أن أتدخَّل لفائدتهما لدى صاحبة المنزل كي تكريهما إياها. كانت جليلة تطقن مع والديها في الرباط، وكانت ترغب في اكتراء هذه الغرفة لكي تقضي فيها النهار تراجع دروسها وتدخن بكل حرية. وبما أنني كنتُ مهتما بالحصول على مزيد من الأخبار حول سحر أب جليلة الذي كنتُ قد حرَّرتُ بضع صفحات حوله في الصيف المنصرم(4)، فقد تدخَّلتُ لدى ربة البيت، وأقنعتها بقبول الشرطين اللذين وضعتهما جليلة، وهما: الترخيص لها باستقبال الشاب الذي يرافقها، لأنه خطيبها – حسب زعمها – ثم تمكينها من استقبال صديقاتها أيضا. وبذلك اكترت جليلة الغرفة الشاغرة.
بعد مضي بضعة أيام، اكتُشِفَ أنَّ جليلة كانت صديقة لسعاد صديقة أحمد، وأنَّ استقرارها في ذلك المنزل لم يكن سوى ذريعة ليُتاحَ لسعيدة أن تواصل المجيء إليه. وبذلك حصلتُ على رواية سعيدة حول أحمد. ففي رأيها كان أحمد مسحورا بما لا يدع مجالا للشك، والدليل على ذلك، في رأيها، هو الحجج الأربع التالية:
أولا:
«عندما ألقاه حاليا – تقول سعيدة – يؤكد لي أنه لا زال يحبني، ثم يطلب مني أن أصبر لفترة قليلة أخرى، لأن له علاقة مصالح بهذه الفتاة (هند)، وبمجرد ما سيسويها، سيهجرها ويعود إلي»؛
ثانيــــــا:
«عندما كان أحمد مرتبطا بي، كان ذا شخصية قوية، إذ كان يقلق لأقل سبب. وذات يوم ألقى بمنفضة السجائر على وجهي، وهو في سورة غضب. لكن السحر القوي نال منه الآن لدرجة أنه صار سهلا لدرجة أن الأخرى (هند) تتحكم فيه تحكما كليا؛ فهي تشتمه، بل وتجرؤ على ضربه دون أن يقوى على القيام بأدنى رد فعل»؛
ثالثـــــــا:
«قالت لي هند – تؤكد سعيدة دائما – أنهم (أحمد وأصدقـائه) عادوا ذات يوم متأخرين إلى الغرفة، فوجدوا فيها شيئا يشبه عظام الزيتون، مشتتا في كافة أنحاء البيت، مع أنهم لم يأكلوا زيتونا قط في ذلك اليوم. تساءلوا عن مصدر ذلك الشيء، لكنهم لم يعثروا على أي جواب. وفي ليلة أخرى، انكسر صحنُُ كان فوق الأرض، دون أن يمسه أي أحد…»؛
أخيــــــرا:
«لأحمد حساسية شديدة تجاه السحر (دغية تيشد فيه السحور (يقع بسهولة في شراك السحر)). وأنا نفسي – تواصل سعيدة – كنت شاهدة على واقعة جرت له أيام كان لازال يحبني: ففي تلك الفترة ألقت عليه امرأة أرملة سحرا فأخذته، لدرجة أنه صار يتردد عليها في كل الأوقات خفية. ولكي لا أفطن لذلك، فإنه كان يختلق أعذار شتى؛ «هذا المساء سأكون في الحراسة، غدا سأسافر إلى المدينة الفلانية في مهمة ستستغرق اليوم بكامله”، الخ… لكن حميدا كان يطلعني على الحقيقة، بل وأعطاني عنوان المرأة نفسها، الأمر الذي أتاح لي أن أراه بأم عيني وهو يخرج من منزلها. وذلك أكد الشكوك (شكوك كونه كان مسحورا) التي كانت تراودني في تلك الأيام؛ لأنه كان يستيقظ في الليل وحده، ويأخذ في الصراخ، ويعاني من آلام في الرأس لدرجة أنه كان يخبط رأسه على الجدار دون أن يحس بأي ألم».
لاسترجاع أحمد، قررت سعيدة القيام بثلاثة مساعي:
– أن تقيم في المنزل نفسه الذي كان يقيم فيه أحمد وخليلته الجديدة هند؛
– أن تلجأ إلى القانون، وذلك بأن تحبل من شخص آخر، ثم تودع شكاية ضد أحمد متهمة إياه بكونه أب الجنين. آنذاك – تؤكد سعيدة – لن يكون أمام أحمد أي خيار ثالث: فإما يتزوجها، أو ينفذ فيه حكم 5 سنوات سجنا؛
– أن تلجأ إلى السحر كي يفترق الإثنان (أحمد وهند). ولأجل ذلك، فهي تحتفظ بحفنة تراب من موطئ قدميهما.
وبما أنها تمكنت من الحصول على نسخة من مفتاح غرفة جليلة، فقد اختارت المسعى الأول.
بحسب سعيدة، يتضح الدليل، على كون أحمد كان مسحورا، في أمرين: الأول تجلي ظواهر غير قابلة للفهم، ثم التحول الذي طرأ على شخصيته. والظواهر غير القابلة للفهم ليست سوى تلك التي رأى أحمد فيها علامة على انهماك سعيدة في إلقاء السحر عليه (الصحن الذي ينكسر وحده…). وبذلك فأحمد الذي يعتقد أنه مسحور من قبل سعيدة، هو في رأي سعيدة مسحور من قبل هند. والاثنان معا يستندان في طرحهما على حجة واحدة: ظهور أشياء غير قابلة للفهم في غرفة أحمد.
والتحول الذي طرأ على شخصية أحمد، والذي تعتبره سعيدة دليلا ثانيا على سقوطه ضحية للسحر، ذلك التحول يؤكده أحمد بدوره. لكن فيما تظن سعيدة أن أحمد صار ضعيف الشخصية وفي غاية الطيبوبة بسبب قوة السحر وشدة فعاليته، يعتقد أحمد أنه صار، بالأحرى، قاسيا وفظا – في تعامله مع هند بالخصوص – بسبب السحر الذي كانت سعيدة تلقيه عليه.
من جهة أخرى، تعتبر سعيدة واحدة من الفتيات القلائل اللواتي يعربن صراحة عن رغبتهن في اللجوء إلى السحر وليس إلى فعل شيء ما، أو الكتابة، أو التفوسيخة لإبطال السحر.
ما أن استقرت سعيدة في المنزل، بعد أن حصلت على نسخة مفتاح غرفة جليلة، حتى كفت نهائيا عن الحديث عن رغبتها في السحر. لقد فكرت في حل آخر: هو أن تصير صديقة لهند، وتكشف لها على نوايا أحمد الشريرة، وتوحي لها بالانتقام منه. عندما صارت سعيدة صديقة حميمية لهند، تمكنتُ من الحصول على المعلومات التالية بشأن هذه الأخيرة:
ابنة نقيب (capitaine) في الجيش، كانت هند ترمي من وراء ارتباطها بأحمـد إلى شيء واحد، وهو الحصول على عقد زواج قصد تفادي الفضيحة التي يمكن أن تترتب عن كونها فقدت بكارتها دون أن تتزوج. ذلك أن «اللذة خطـأ لا يغتفر للمرأة، بقـدر ما يمكـن للرجـل أن يتسلى دون أن توضـع بكارته، أي شرفه، موضع تساؤل»(5). فما أن تحصل على عقد زواج بأحمد وتتزوجه رسميا حتى تغير تصرفها معه بكيفية لن يجد معها بدا من تطليقها.
وكان من شأن سعيدة وهند أن تنتقما فعلا من أحمد، كل بطريقتها. سعيدة، مثلا، كانت تتردد على غرفتي مرفوقة بجليلة، كما لو صارت خليلة لي. أما هند، فتنوي التصرف على هذا النحو (التردد على رجال غرباء لا يعرفهم أحمد) بكيفية ترغم أحمد على طلب الطلاق.
وقد انتقمت الفتاتان فعلا من أحمد. كانتا تقضيان ليالي في مسامرة رجال غرباء، وكانت هند تزعم أنها تقضيها في بيت والديها. في أثناء ذلك، كنت أعرف فتاة أخرى صارت صديقة حميمية لهما، فأخبرتني بأن رفيقتا أحمد كانتا تقضيان ليالي مجتمعتين رفقة رجال أجانب. ومن ثمة، فما كانت تقصده سعيدة، لما فكرت في اختيار حل المجيء إلى حيث يقطن أحمد، ثم السكن في غرفة مجاورة له، هو أن تؤزمه، وذلك بأن تصيِّر خليلته الجديدة (هندا) «عاهرة» وأن تتصرف هي نفسها أمامه كما لو كانت عاهرة دون أن يقوى على إبداء أي رد فعل. ويبدو أن سعيدة نجحت جيدا في الحل الأول.
لكن ما أن باشرت سعيدة الحل الثاني حتى وجدت نفسها مطرودة نهائيا من البيت، ومنبوذة من قبل هند. فقد اغتنمت فرصة غياب هند، فقضت ليلة مع أحمد في فراش واحد، ناوية أن تتقدم بشكاية لرجال الأمن بعد انصرام شهر واحد عن ذلك التاريخ؛ تقول لهم إنها حبلى من أحمد، ومن ثمة تجبره على الزواج بها. غير أن شخصا ما – لست أدري من كان – أبلغ هندا النبأ بعد انصرام بضعة أيام فقط عن الواقعة. فكان رد فعلها مزدوجا: أقامت خصومة كبيرة مع أحمد، ثم أعقبتها بخصومة أخرى مع سعيدة. الأمر الذي دفع أحمد إلى التدخل لدى صاحبة المنزل بطريقة كانت من الفعالية بحيث أقنعها بطرد ليس سعيدة فحسب، بل وكذلك جليلة شهرا بعد ذلك، ثم طردي أنا نفسي من البيت. فبعد أن علم أحمد عبر قناة – لم أتمكن أبدا من معرفتها – أن جليلة كانت حبلى (الأمر الذي كان صحيحا: فجليلة كانت حبلى، ولم تكن تتوفر على مال للقيام بعملية إجهاض، فكانت تحضر كل ما كان يقال لها من أعشاب وبخور كي تسقط الجنين)، بعد أن علم أحمد ذلك أخبر صاحبة المنزل بالأمر، وحثها على طرد جليلة، عامدا إلى إفزاعها: قال لها: «إن لم تفعلي، اعلمي أنه أمام أقل حدث ستأتي الشرطة وتستنطق كل من يسكن في هذا المنزل». وبما أن صاحبة المنزل كانت لم تتوصل من جليلة بما قدره شهرين واجب كراء، فإنها وجدت في ذلك فرصة ممتازة لتكسير باب غرفة الفتاة والاستحواذ على ما كان فيها من أثاث. وبذلك اختفت سعيدة وجليلة قبل أن تتمكن سعيدة من إلقاء ما كانت تنوي إلقاءه على أحمد من سحر.
5. بيـن الحداثــة والتقليــد:
يبدو أن ما يثوي خلف سحر أحمد، إنما هو مسألة التعارض الوجداني بين الحداثة والتقليد، مرموزا إليهما، على التوالي، بالفتاتين هند وسعيدة. فهند بنت موظفة، متعلمة، متفتحة، ومن ثمة فهي رمز للمرأة العصرية كما تقدمها الأفلام، والمجلات، وعدد لا نهائي من الحكايات الرائجة حول المرأة الأوروبية(6). باختصار، إن تعلق أحمد بهند هو أيضا انخراط في قانون اللغة الفرنسية، التي يقول ج. غرانغيوم عن سلطتها في المغرب العربي:
«لا تحضر اللغة الفرنسية في المغرب العربي باعتبارها راسبا للهيمنة الاستعمارية فحسب، بل باعتبارها انفتاحا على عالم مختلف، هو عالم الحداثة، بالتأكيد، لكن أيضا عالم التحرر والانعتاق الأخلاقي، المرتبط بحضارة الاستهلاك: بهذين القناتين تفرض اللغة الفرنسية قانونها»(7)
لما قال لي صديق أحمد: «لعن الله المال. فقد صـار الناسُ اليـومَ عميـا من جراء تهافتهم عليه»، فإنه كان يقصد أن هندا كانت لا تستوفي شرطين أساسين يجب أن يتوفرا في الزوجة الصالحة، بحسب التقليد: فهي لم يسبق لها أن تزوجت، ومع ذلك فقدت بكارتها، ثم إنها تسمح لنفسها بالتصرف مع أحمد كالند للند.. بكلمة واحدة، بما أن هندا قد انتهكت قانون التقليد، فإنه لا يتعين على أحمد أن يتزوج بها اللهم إذا خرق هو نفسه ذلك القانون، وهو ما كان بصدد فعله. ولكونه تجرأ على ذلك، فهو ضحَّى بالأخلاق، بقانون التقليد لصالح المال: فهند امرأة موظفة قبل كل شيء. وبالفعل، فبما أن رتبة أحمد في الجندية لا تتعدى درجة عريف (caporal)، لا يتقاضى – حسب ما قيل لي – إلا حوالي 800 درهما، أي ما يناهز 50% من أجرة هند التي كانت برتبة رقيب أوَّل ((Sergent chef. ولربما كان أحمد يظن أنه بزواجه هندا ، سيعيش معها حياة «ميسورة» بهذا القدر أو ذاك. أكثر من ذلك، بما أن أبا هند جندي بدوره، برتبة نقيب، فإنه كان سيقوم بدون شك – في رغبة أحمد – بتدخل لدى رؤساء أحمد كي يرقى بسرعة. هذا هو ما كان يعني به أصدقاؤه: «لقد صار الناس اليوم عميا من جراء تهافتهم على المال». لكن أحمد، في الحقيقة، لم يكن أعمى بالقدر الذي كان يُزعَم. واعيا بأنه لن يظل مرتبطا بهند إلا باختراقه الأخلاق وقواعد التقاليد، فإنه تمسك بعلاقته بسعيدة التي، خلافا لهند، كانت ترمز لهذه الأخلاق والقواعد التقليدية. فهي أهدت له بكارتها، ثم كانت تعتبر نفسها دائما أدنى منه، وبما أنها لا تزاول أي شغل، فإن ذلك يرشحها لأن تكون ربة بيت. بهذا المعنى، إن التمسك بسعيدة هو أيضا انخراط في قانون اللغة الأم التي يقول جلبير غرانغيوم عن التشريع الذي تحظى به:
«اللغة الأم، سواء أكانت عربية أو بربرية، هي لغة التأصل (…) داخل هذه اللغة تجري تدريجيا عملية التنشئة الاجتماعية للفرد، والتي تدخله تدريجيا في جماعات متشابكة تمثلها العائلة، العشيرة، القرية أو المدينة، ثم الأمة. داخل هذه اللغة يُنقَل للفرد القانون الأول الذي يملي عليه تصرفاته، هي الحاملة للمنوعات الأولى، وانبثاقها هو ما يشكل الكلي الأول»(8).
لتلخيص هذه النقطة يمكن طرح أن أحمد عندما كان يظن أنه كان مسحورا، فإنه كان في الواقع يحاول تفسير تعارضه الوجداني بين نمطين للحياة مختلفين، بين قانونين، بين التقليد والحداثة، مرموزا إليهما بالفتاتين. وعلاقته مع كلتا الفتاتين علاقة متعارضة وجدانيا: فهو يحب في الحداثة، مجسدة في هند، هذا الولوج لطريقة في العيش جديدة، فردية، تتيح ولوج دورة الاستهلاك، لكنه يكره هذه الحداثة ذاتها لكونها منحت للمرأة حق ممارسة الجنس قبل الزواج، وحقّ المساواة مع الرجل، والاستقلال عنه ماديا، ومن ثمة تخصيه بمعنى من المعاني وتلطخ رجولته وشرفه: «هكذا، عندما تخرج المرأة (من البيت)، تذهب إلى المدرسة، إلى الشغل في المعمل، فإنها تنتهك عددا كبيرا من المحرمات(tabous (9.». كذلك يحب أحمد في سعيدة، هذا النمط للعيش الجماعي الذي يمنح للرجل حق تأكيد رجولته، وأن يكون أعلى مرتبة منها، وبالتالي وصيا عليها، أن يسجنها في الفضاء المنزلي، لأنها تتقمص بشكل ما الوضع الاعتباري للمرأة على نحو ما تحدده التقاليد، والذي يرسخ في ذهن المرأة « أنه يجب عليها أن تشتغل وتصعد جميع طاقاتها الجنسية في أشغال البيت، أنه يجب عليها أن تخدم (الغير)، أن تخضع وأن تطيع»(10). ولكن متى فعل أحمد ذلك أقصي من شبكة الاستهلاك (بسبب ضحالة مورده الاقتصادي)، ومن ثمة فهو يكره هذا العالم التقليدي. ونظرا لتعذر ترجمة للتوفيق بين العالمين في الواقع المعترف به من لدن الجماعة بسبب الرقابة المزدوجة: رقابة الحداثة ورقابة التقليد، فإن أحمد استدعى السحر لكي ليفتح منفذا لرغباته واستيهاماته. بهذا الصدد، يقول فرويد:
«يمكن القول إن الإنسان السعيد لا استيهامات له، إذ وحده الإنسان غير المشبع هو الذي يخلق استيهامات. والرغبات غير المشبعة هي بواعث الاستيهامات، وكل استيهام هو تحقيق لرغبة، الاستيهام يأتي ليصحح الواقع الذي لا يمنح إشباعا. والرغبات التي تمنح للاستيهام دافعه تتنوع بحسب جنس وطبع وظروف حياة الذات التي تستسلم لاستشباحها، لكن يمكننا تصنيفها دون بذل مجهود في اتجاهين أساسيين. فهي إما رغبات طموحة، تصلح للإعلاء من شأن الشخصية أو رغبات إيروتيكية»(11).
بين الرغبة في السحر (سحر سعيدة من أجل تحويل حبها إلى كراهية) والرغبة في إبطاله (إبطال السحر الذي كانت سعيدة تلقي به على أحمد لوضع حدّ لعلاقته بهند) ليس ثمة أهمية كبرى. في الحالتين معا، تنخرط رغبة أحمد في خطاطة السحر العربي الإسلامي التي شيدها الفقهاء انطلاقا من السورة II، الآية 96، بمعنى أن تلك الرغبة كانت تعيد استثمار أساطير الإسلام المتعلقة بالسِّحر، وذلك بإعادة إنتاج هذه الأساطير أو «نسخها» بكيفية مطابقة بهذا القدر أو ذاك. ورواية سعيدة في قضية أحمد تنخرط هي الأخرى في الخطاطة نفسها، إذ يحضر في هذه الرواية، على التوالي، وبكيفية مقنعة، موضوع سحر التفريق – الذي أشارت إليه الآيات المشار إليها أعلاه – بكل الأساطير المرتبطة به (أساطير أصل السحر، أسطورة تعلم السحر من قبل امرأة)، ثم مسألة سحر الرسول. كانت سعيدة مقتنعة بأن السحر هو الذي يقف وراء فراقها مع أحمد. والقرآن يصف الملكين هارون وماروت باعتبارهما متخصصين في هذا المجال ماداما يعلمان الناس السحر. وعندما كانت سعيدة تصف هندا بالساحرة، فإنها كانت تقول: «ادَّاتُه لي»، «تقبطت به» (أخذته لي، استحوذت عليه)، وبصياغة مجاورة تمَّ التعبير قديما عن السحر الذي وقع الرسول ضحيته، إذ كان يقـال: «أخِّذَ رسول الله».
تعتبر سعيدة البطلة الوحيدة في متن الأخبار التي دوناها، خلال إنجاز بحث ميداني في السحر، التي أعربت صراحة عن رغبتها في معاملة الخصم بالمثل، أي في إلقاء السحر على الساحرة التي استحوذت على خليلها، ومن ثم زرع الفرقة بين الاثنين. كيف نفسر هذه الرغبة في خرق قانون الإسلام الذي يحظر التعاطي للسحر؟ أيمكن الوقوف في هذه الرغبة على ثنائية سحرية ما شبيهة بتلك التي نجدها في محافظة بوكاج المايان بفرنسا؟(12).
في التأكيد السابق، تمَّ تبرير الرغبة في انتهاك قانون الإسلام عبر اتهام الآخر (الساحر)، أي جعله مسؤولا عن فعل الخارق. يتعين فهم تأكيد سعيدة على النحو التالي:
«أعرف جيدا أن السحر ممارسة يحرمها الدين، ولكن إذا لجأت إليه، فذلك لأن الآخر (هند) أجبرني على ذلك اللجوء، الآخرُ أول من انتهك قانون الإسلام. وبما أنَّ آثار هذا الانتهاك قد لحقت بي، فقد وجدت نفسي مرغمة على أن أخرق بدوري القانون نفسه من أجل الدفاع عن نفسي (ضد المنتهك الأول). وإذا كان لابد من عقاب إلهي، فإن هذا العقاب ربما لن يطالني، سيطال الآخر بسبب انتهاكه وانتهاكي في آن واحد».
وهذا الاستدلال حاضر عند سعيدة وأحمد، على السواء، مادام هو أيضا طلب فعل «شيء ما» كي يتخلص من السحر الذي ألقته (سعيدة) عليه. لكن، في ما وراء التبرير، ثمة أيضا مسألة العلاقة بين القانون والانتهاك. إذا كان القانون هنا فذلك تحديدا لكي ينتهَك، وإذا كان ثمة انتهاك ما فبسبب وجود قانون ما. بهذا الصدد يؤكد فرويد أنه:«في جميع الحالات، ما هو ممنوع منعا صارما يجب أن يشكل موضوع رغبة»(13)، كما يؤكد جورج باطاي بأنه «لا يوجد ممنوع غير قابل للخرق»، وأن «الممنوع موجود هنا أساسا كي ينتهك»(14). أمرُُ سبق أن انتبه إليه، بشكل من الأشكال، العرب القدماء، «تنظيرا» وسلوكا. من ذلك الإشارات التالية:
أ – فقد ساق ابن قيم الجوزية في كتابه «الأذكياء» البيت الشعري التالي،:
وزادني كلفا في الـحــب أن منعـــتْ
أحـبّ شـيء إلى الإنســان مــا مُنِعـــا
وعلق عليه قائلا:
«فطباع النفس مختلفة، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها ويضمحل عند إبائها وامتناعها، وأخبرني بعض القضاة أن إرادته وشهوته تضمحل عند امتناع امرأته أو سريته وإبائها، بحيث لا يعاودها، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع فيشتد شوقه كلما منع، ويحصل لـه من اللذة بالظفـر نظير ما يحصل له من اللذة بالظفر بالضد بعد امتناعه ونفاره، اللذة بإدراك المسألة بعد استصعابهـا وشدة الحرص على إدراكها»(15).
ب – في السياق نفسه – تقريبا – أورد صاحب الأغاني الحكاية التالية:
«كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها، فامتنعت عليه، وتهدَّدها بالهجاء والفضيحة، فاستغاثت بالنور امرأته، وقصت عليها القصة، فقالت لها: واعديه ليلة، ثم اعلميني، ففعلت، وجاءت النوار، فدخلت الحجلة(16) مع المرأة، فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية، فأطفأت السراج، وغادرت المرأة الحجلة، واتبعها الفرزدق، فصار إلى الحجلة، وقد انسلت المرأة خلف الحجلة، وبقيت النوار فيها، فوقع بالنوار وهو لا يشك أنها صاحبته، فلما فرغ قالت له: يا عدو الله، يا فاسق، فعرف نغمتها، وأنه خُدع، فقال لها: وأنت يا سبحان الله! ما أطيبك حراما وأردأك حلالا»(17).
ج – وهي حكاية أوردها التيفاشي بدوره – جاعلا بطلها الشاعر بشارا بن برد – على النحو التالي:
«كان بشار بن برد الشاعر من أكابر الزناة (…) وكان يبلغ امرأته كثرة زناه فتسبه وتلعنه، فيحلف لها بالأيمان المغلظة إنهم يكذبون عليه. فعمدت إلى عجوز بلغها أنها تقوِّد له، فوهبتها شيئا وقالت لها: (صفيني له على أني أحببته، واجمعي بيني وبينه في بيتك حتَّى أوقفه على كذبه). فسارت القوَّادة إليه وقالت له: (يا أبا معاذ، وقعَ لي شرطُك امرأة محتشمة صفتُها كيتَ وكيْتَ)، فقال لها: (ويحَك، عجِّلي عليَّ بها)، فقالت له: (إنها في منزلي، وهي امرأة مخبورة في النكاح ولها شهرة فيه وبعلها غائب. فساعة دخولك ضَع يدَك واقضِ لها غرضا ثم اجلسا بعد ذلك وتحدَّثا ما شئتما). ثم ذهبت به وسبقت امرأته لمنزل القوادة ومكَّنَته من نفسها، فلما صارَ في نصف الشغل جمعت رجليها وركلته في صدره فألقته على قفاه وقامت وهي تقول: (وأين أيمانك الفاجرة يا فاسق؟)، فقال لها: (اذهبي فوالله ما رأيتُ أبرد منكِ حلالا ولا أحرَّ منكِ حراما)»(18).
بصدد المقارنة بين الثائي السحري القبائلي والثنائي الماياني (نسبة إلى ريف بوكاج المايان الفرنسي)، تسجل نجيمة بلانطاد:
«إذا كان الصراع، في البوكاج، يقع بين ساحر ومبطل للسحر، فإنه في منطقة القبائل يأخذ طبيعة أكثر “تجريدا” بمعنى أن مبطلة السحر لا توازن بينها وبين الساحرة، وإنما بينها وبين عناصر السحر. لا يتعلق الأمر بـ «جسدٍ بجسدٍ» يفضي إلى تأثر ساحر ما به جسديا، وإنما بمعركة تقابل بين سحرين، أي بين لغة رمزية ضد لغة رمزية أخرى»(19).
لكن في المغرب، يبدو أنه ليس ثمة ثنائية سحرية ما. حقا، إن مبطل السحر لا يقيس نفسه بالساحر، لكنه كذلك لا يقيس نفسه بعناصر السحر. فهذه الأخيرة ليس لها أي فعالية خارج قدرة الله وإرادته، وهو أمر يؤكد السحرة ومبطلو السحر على السواء. بهذا المعنى، من يجرؤ على الموازنة بين نفسه وعناصر السحر فإنه يجرؤ على الموازنة بين قدرته وإرادة الله. يميز المسحور دائما بين الساحر وسحره (أو عناصر السحر). وإذا كان ثمة ثنائية ما فهي لا تكون إلا بين المسحور والسّاحر. وما يكرهه الأول ليس عناصر السحر، وإنما السّاحر فقط الذي تجرأ على تشغيلها. ولإبطال السحر، فهو ينخرط في حركة مزدوجة: إحداهما ضد الساحر، والثانية «ضد» عناصر السحر. تدور الحركة الأولى حول أخذ مسافة تجاه الساحر، ما لم تأخذ أحيانا شكل تصفية حساب تصل إلى حد المنازلة البدنية. أما الحركة الثانية، فهي تدور حول تحييد (neutralisation) أو إبطال مفعول عناصر السحر، وليس القضاء عليها. والكلمة المستخدمة هنا شديدة الدلالة، إذ يقال «حيّد السحور» أو «زوّل السحـور» ولا يقال أبدا «خرب السحور» أو «قضا على السحور». وسواء أتولى عملية إبطال السحر المسحورُ نفسه أم تكفل بها اختصاصي (الشوافة أو الفقيه)، فالفعل ذاته يرتكز على مبدأ إزالة السِّحر نفسه. يستدعي مبطل السحـر إرادة وقدرة الله كي تتدخل وتعمل في العناصر المتمثلة في الطقـوس المنجـزة.
———-
هوامـش
(1) حياة الرايس، جسـد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطـة الجـان، القاهرة، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1995، ص. 25.
(2) محمد أسليم، «خطابات السحر (من يوميات بحث ميداني)، جريدة الاتحاد الاشتراكي، (الملحق الأسبوعي)، 23 يوليوز 1988.
(3) ما علمته بعد أن ولجتُ فضاء هؤلاء الجيران هو أن أحمد وحميدا هما اللذان كانا يؤديان ثمن كراء الغرفة. كان الدركي فكان يقيم رفقتهما مقابل وضع جهاز موسيقاه. أما حسنا، فلكونه سبق أن أسدى خدمات كبرى لأحمد وحميد، عندما جنديا يعمل في مأوى (كان يمنحهما وجبات غذائية مجانا)، فإنهما آوياه مجانا بعد أن سُرِّح من سلك الجندية بسبب استهلاكه الحشيش.
(4) حالته هي التي نعرضها في هذا الكتاب تحت عنوان «الأب المسحور، بين سندان الزوجة ومطرقة الخليلة».
(5) Abdellah Ziou Ziou, «Femme/Transe/Folie», in Fatima Mernissi (dir), Femmes partagées. Famille-travail, Casablanca, Ed. Le fannec, 1988, pp. 135-144.
(6) في هذا الصدد، يمكن الرجوع إلى:
– Soumaya Naamane-Guessous, Au-delà de toute pudeur, Casablanca, ed. EDDIF, 10ème édition, 1997.
(7) Gilbert. Grandguillaume, Arabisation et politique linguistique au Maghreb, Paris, Maisonnioeuve & Larose, 1983, p. 25.
(8) Ibid., p. 26-27.
(9) Abdellah Ziou Ziou, «Femme/Transe/Folie»…, op. cit.
(10) Ibid.
(11) Sigmund Freud, Essais de psychanalyse appliquée, trad. Marie Bonaparte et E. Marty, Paris, Gallimard, idées, 1933, p. 73.
(12) Jeanne Favret -Saada, Les Mots, la Mort, les Sorts; la sorcellerie dans le Bocage, Paris, Ed., Gallimard, 1977.
(13) Sigmund Freud, Totem et tabou, Paris, Payot, 1972, p. 83-84.
(14) نقـلا عن:
– Robert Sasso, Georges Bataille: le système du non-savoir. Une antologie du jeux, 1978, Ed. Minuit, p. 71.
(15) ابن قيـم الجوزيـة، الجـواب الكافـي لمـن سـأل عـن الدواء الشافـي، تحقيق سعيد محمد اللحام، تقديـم ومراجعـة الشيخ بهيـج غـَزاوي، بيروت، دار إحياء العلوم، الطبعـة الثانيـة 1989، ص. 309.
(16) الحجلة: ستار كالقبة، أو ستر يضرب في جوف البيت.
(17) أبو الفـرج الأصفهاني، الأغانـي، شرحه وكتب هوامشه سمير الجابر، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج. 21، ص. 363. (والتشديد منـا).
(18) شهاب الدين أحمد التيفاشي، نزهة الألباب فيما لا يوجَد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، لندن – قبرص، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 1992، ص. 129-130. (والتشديد منَّا)
(19) Nedjima Plantade, La guerre des femmes. Magie d’amour en Algérie, Paris, La boîte à docments, 1988, p. 118.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 13-09-2012 06:53 مساء

الاخبار العاجلة