أشباه قصص – سجينة مرحاض القطار!

1٬269 views مشاهدة
minou
أشباه قصصسردمؤلفــــات
أشباه قصص – سجينة مرحاض القطار!

خرجتُ اليوم في سفر استغرق مائتي وعشرين كيلومترا ذهابا وإيابا. كل شيء فيه كان «ملخبطا»: الشعور، والمزاجُ، والمشاهد المعروضة على البصر من النافذة: اختلط حابل الحقول بنابلها؛ على يمين السكة ويسارها، لاحت مرارا مساحات شاسعة مترامية الأطراف من الحقول الصغيرة والمتوسطة، بعضها أخضر يوحي بفصل الربيع، بعضها أصفر يوحي بأن موسم الحصاد قد انتهى للتو، بعضها امتلأ عن آخره بقصب سكر، بعضها بذرة بيضاء في منتصف العمر، بعضها بدأ حرثه للتو. لا أعرف لماذا عندما وقع بصري على النوع الأخير توهمتُ أننا قد غادرنا فصل الربيع للتو، ودخلنا أسابيع الصيف الأولى، فاستغربتُ من استعجال بعضهم حرث حقوله في مستهل فصل الصيف!
في رحلة الذهاب، قبيل الوصول بحوالي أربعين دقيقة، علا صوت خبط بالأيدي داخل إحدى مقصورات العربة التي كنتُ راكبا فيها. توالى الخبطُ غير مصحوب بأي صوت، انتابني فزعٌ، قلتُ قد يكون أحد قطاع الطرق صعد إلى القطار حاملا سلاحا أبيض، وشرع في سرقة المسافرين أو حتى في ضرب من رفض تسليمه نقوده وهاتفه، وتهديد كل من يهم بالصراخ أو الاحتجاج أو مغادرة مقعده بغرس السلاح الأبيض في جسده. كان لي ألف عذر في أن أفزع ما دامت مقصورتي كانت فارغة إلا مني، لأن اليوم يوم جمعة، وأفضل أوقات السفر عندي هو هذا التوقيت بالذات لأنَّ معظم الناس يفضلون تأجيل موعد سفرهم إلى ما بعد صلاة الجمعة في المساجد، ولكن لصوص اليوم لا يتورعون عن سرقة المساجد أنفسها، فأحرى أن يتهيبوا من السرقة في يوم مبارك. انتهى زمن كان المرء إذا خشي على ماله وضعه وسط مصحف، لأنَّ اللصَّ لا يتردد في سرقة كل شيء باستثناء القرآن الكريم خشية عذاب الله الأليم!…
من أعذار فزعي أيضا تواتر أخبار تعرض مسافرين للسرقة تحت التهديد من لدن عصابات مدججة بالأسلحة البيضاء والحجارة، تربصت أكثر من مرة بسائقي السيارات والشاحنات في عدد من الطرقات، وبركاب حافلات النقل الحضري في بعض المدن، وبمسافري القطار ذات رحلةٍ بين المحمدية والرباط: تنكرت جماعة لصوص في هيأة مسافرين، وما إن ابتعد القطار عن مدينة المحمدية ببضعة كيلومترات حتى أشهر المجرمون أسلحة بيضاء في وجه الركاب وأرغموهم على تسليم أموالهم وهواتفهم وحليهم وسائر ما خف وزنه وغلا ثمنه مما كان بحوزتهم، حتى إذا نالوا ما شاءوا أوقفوا القطار بالضغط على مقبض الاستغاثة، ثم غادروه وتلاشوا وسط الحقول قبل أن يصل مسؤولو القطار لمعرفة من المستغيث وسبب الاستغاثة!
تواصل الخبطُ، وقفتُ، اتجهتُ صوب مصدر الصوت ملازما منتهى اليقظة والحذر، اتضح أنه كان في أحد طرفي العربة، اقتربتُ منه، وها هو سر الضرب ينكشف:
دخل مسافرٌ إلى بيت النظافة، ثم تعذر عليه فتح الباب، فارتأى أن يستنجد بالمسافرين بتلك الطريقة، هرعتُ إلى الباب، فتحتها، فإذا بالسجين امرأة مسنة ذات سحنة بدوية، لابسة جلبابا أخضر… عدتُ، وقفتُ بباب المقصورة المجاورة للمرحاض مباشرة، كانت شبه مملوءة بمسافرين من الجنسين، وجهتُ لهم اللوم:
– أَوَ لم يزعجكم ذلك الخبط القوي مع أنه كان يصدر من جواركم؟ لماذا لم يقف أي أحد منكم ليتبين سبب الخبط؟ لقد كانت امرأة سجينة داخل المرحاض، بعد أن تعذر عليها فتحه!
وقف بعضهم، أبدى تعجبه، في حين واصل البعض الآخر جلوسه، وكان القاسم المشترك في رد فعلهم جميعا هو: فغر الأفواه والنظر إلي في ذهول…
حاولتُ فهم موقف ركاب المقصورة، لم أفهم منه أي شيء:
يمكن إدانة لامبالاة الناس بما يحدث من حولهم، وهو سلوك بدأ ينتشر في مجتمعنا، وأحدث مثال عنه لامبالاة مسافري حافلة الدار البيضاء بمشهد اغتصاب فتاة من لدن شباب مراهقين داخل حافلة للنقل الحضري على مرأى ومسمع من كل من كان داخل المركبة، لكن يمكن اعتبار هذه اللامبالاة أحد مؤشرات بداية انتشار النزعة الفردية في مجتمعنا. فلكل واحد عذره ومن حقه أن يخشى على نفسه، وبذلك تكون بداية انتشار قيم الفردية في مجتمعنا أمرا محمودا في نهاية المطاف ومؤشرا على بداية تطورنا وتحضرنا بمعنى الكلمة، لاسيما أن الفرد عندنا مطحون ومُحاصر اجتماعيا وعائليا، وما إلى ذلك، كما كتبتُ في إدراج سابق:
الفردُ أسَاسُ المُجتمع ونواتُه وأدَاةُ تقدّمه وتحرّره وَتغييره، لا يرى النُّورَ في الأسْرَة العَربية إلا صُدفةً، أو استثمارًا اقتصاديا وسِيكوُلوجيا، ومن ثمَّة فهو مُنعدمُ الوُجُود، مَسْلوب الحرّية والإرادَة، مُجرَّد حبَّة في طاحُونَة التقليدِ وإعادَة الإنتاج الرَّهيبَة، الفائقة الطَّحْنِ والمُتعدِّدَة الأرْحية.
ولكن باستحضار المآسي والمشاكل، بل وحتى الكوارث، التي استفحلت جراء انتشار وسائل الاتصال الحديثة، وفي مقدمتها الهاتفان الثابت والمحمول، يبدو أن هذه التقنيات تساهم في إعادة إنتاج رقابة الجماعة على الفرد، بل وتمد الجماعة بوسيلة رهيبة لتشديد الخناق على الفرد، فتساعد، على سبيل المثال، على استمرار العائلة الموسَّعة بشكل جديد، افتراضيّ، حيث يُسَهِّل الهاتف دوام اتصال مجموع أفراد العائلة، يوميا ببعضهم البعض، مع ما يوازي ذلك من رقابة، وممارسة للسلطة والتسلط، وتدخل في الشاذة والفاذة من حياة الفرد، وخصومات، وصراعات، وما إلى ذلك. ولا ينفع الفرد أن يغترب ويستقر في بلد آخر يبعد عن وطنه بمئات آلاف الكيلومترات، لأن وسائل الاتصال الجديدة تنقل الكلام والصوت والصورة بسرعة الضوء فتحاصره مكالمات الأب، والأم، والأخ، والأخت، والعم، والعمة…، هذا يملي، وذاك يأمر، هذا ينهى، وذاك ويحظر.. ما جعلني لا أخلص إلى أي نتيجة سوى اعتبار عدم اكتراث أولئك المسافرين لاستغاثة المرأة حبيسة المرحاض كان مجرد واحدة من دزينة «اللخبطات» التي عمتْ سفر هذا اليوم الذي كان كل شيء فيه معوجا، ولم يكن باعوجاجه سوى شريط مصغر يلخص على نحو ما مجمل ما يجري في مجتمعنا حاليا بالفعل! لا قيم جماعية نبيلة ولا أخرى فردية مُحرِّرة، لا تقليد ولا حداثة ولا هم يحزنون!

الاخبار العاجلة