من رأى صاحبنا هذا خيلَ إليه أنَّه أمام موظف سامي أو مقاول كبير أو أحد كبار أغنياء المدينة، مع أنه مجرد مستخدم بسيط في وكالة بنكية؛ ينتقي أغلى البذلات والأقمصة وربطات العنق والأحذية والعطور، ويسرح شعر رأسه المائل إلى الشقرة بطريقة فريدة. وبما أنَّه صاحب قوام ممشوق، بدينا شيئا ما، وعيون زرقاء، فقد كان من الصعب ألا تقع عليه الأعين وهو يسير في الشارع بمشيته الرزينة والأنيقة. ولعمري ذاك هو الفخ الذي كان يصطاد به ضحاياه النساء اللواتي كنَّ يقبلن زواجه بلا أدنى تردد. ففي أيامنا هذه، أصبحت مُعظم البنات تحرصن حرصا شديدا على انتقاء الأزواج، كأنهنَّ تخرجنَ من مدرسة قريب داروين فرنسيس جالتون (1822-1911) مبتكر مذهب تحسين النسل. والواقع أنهن جديرات بالشكر على ذلك، إذ بفضل هذا الانتقاء بدأت تختفي من حواضرنا، بالخصوص، مشاهد عدم تناسق الأزواج في القامة والجمال كما كان عليه الأمر أيام زمان، يوم كان الرجل يُختارُ لخلقه وليس لخلقته، فكنتَ تسير في الشارع فتصادف امرأة طولها حوالي مترين وهي تسير رفقة زوج قصير القامة يبلغ طوله مترا ونصف بالكاد، وكنتَ تصادفُ امرأة آية في الجمال تسير وقد ارتدت أجمل الحلي والحلل رفقة زوجها الذميم فخورة به، وما إلى ذلك. كما بدأ يختفي من مدننا، بفعل الانتقاء نفسه، صنف الإناث، بالخصوص، قصيرات القامة البدينات اللائي كانت تمشي الواحدة منهن في الطريق متدحرجة كقنينة غاز. فشباب اليوم وبناتهم كلهم ذوو قامات ممشوقة، نتجت عن الرعاية الطبية واللقاحات وجودة التغذية بالتأكيد، لكنها نتجت أيضا عن حرص النساء على انتقاء أزواجهنَّ. فالمرأة اليوم تحرص عموما في اختيار شريك حياتها على أن يكون وسيما في المقام الأول كما كان الشاعر الجاهلي يحرص على استهلال قصيدته بمطلع طللي، وبعد ذلك يأتي حُسن التخلص، وهو أن يتوفر الزوج على سيارة، وبعده استطراد أن يمتلك بيتا للسكن، وبعد ذلك فقط يأتي الغرض الرئيسي وهو أن يكون البعلُ صاحب راتب يؤهله للقيام بمسؤولية البيت. بل من نساء اليوم، من يعرضنَ عن أجزاء القصيدة كاملة ويكتفين بالمطلع الطللي لا غير، فتتولى الزوجة الإنفاق على زوجها منخفض الدخل، بل وحتى العاطل أحيانا، وذلك لمجرد أن تتباهى به أمام أهلها وصويحباتها وزميلاتها في العمل أو لتنتقم من سني العنوسة الطويلة، كأنها تقول لكل سامعةٍ:
– لم أتأخر عن الزواج لأنَّ أحدا لم يطلب يدي، بل لأني كنتُ أريد زوجا بالمواصفات التي ترونَ. ها قد تأتى لي الآن، فمتنَ بغيظكنَّ!
وهو ما أشرت إليه في إدراج لاحق كان نصه:
«تجاذبتُ أطراف الحديث مع صديقة لي، فساقنا تداعي الكلام إلى ما تطلب مني أن أبدي رأيا، فنصحتُها قائلا: «… أين المشكلة يا صديقتي؟! بإمكانك أن تشتري زوجا شابا وسيما وأصغر سنا منك بكثير. ما العيب في ذلك وكل شيء أصبح يباع ويُشترى في أيامنا هذه؟! أعرف شخصيا من اشترت زوجا بذوقها وعلى مقاسها.». وللتدليل على ذلك، سقتُ النكتة الشائعة:
«قال لها: ممكن أن نتعارف؟ أجابته: مريم، عمري 30 سنة، موظفة، عندي شقة، وما يتيسر من الإرث، فقال لها: أنا زوج مريم بإذن الله !».
وبالواحدة من هذا الصنف من النساء تحديدا كان صاحبنا يتربصُ ويسدِّدُ طلقته القاتلة، فأدمن الزواج والطلاق إلى أن حطم كل الأرقام القياسية في تجديد الفراش، بحيثُ لو أرسل صور عقود زواجاته وتطليقاته إلى كتاب غينس لتبوأ فيه مكانة محترمة…
أكثر من ذلك، لم تكلفه معظم زواجاته مليما واحدا! وفوق ذلك كله، كان يخرجُ من كل طلاق بغنيمة دسمة. لهذه الفتاة كان يزعم أنَّه ينتظر إرثا، ولتلك يدعي أنَّه ينتظر تسوية وضعية إدارية، وللأخرى يقول إنه أقرض أحدهم ووعده بإرجاع ما اقترض في غضون أسابيع، وفي كل زعم كان لا يحدِّدُ ما ينتظره إلا بمئات بملايين السنتيمات، وهو ما كان يسيل لعاب كل من انطلت عليها حيلته ووقعت في فخه… وبما أن كل واحدة تخشى أن يفلت الصيد الثمين من يديها فتتلقفه بنت أخرى، فقد كنَّ جميعا يتدبرنَ أمر توفير مصاريف ليسَ حفل العرس الباذخ فحسب، بل وكذلك تأثيث البيت بأفخر الأثاث وإلباس العريس أفخر الثياب. بل، كم واحدة اشترت له سيارة أيضا منتظرة أن تسترجع كل ما أنفقته على الزوج فور وصول ثروته المزعومة، فإذا بما لم يخطر لها على البال على الإطلاق هو ما يقع؛ ما إن تمضي فترة وجيزة على دخولها القفص الذهبي حتى يُذيقها بعلها الجهنمي صنوفا من العذاب إلى أن تسودَّ الدنيا في عينيها وتصير لا تتمنى من الحياة سوى شيء واحد ووحيد، وهو أن يطلقها هذا المارد اللعين، وتعود إلى سابق عهدها، ولو جرَّ عليها الطلاق عنوسة أبدية.
*
* *
لم يبح لأي كانَ بخطته الجهنمية للتخلص من زوجاته، وكأنه كان يحرص بكتمانه ذاك على الاستئثار بعلم أو وحي نزل عليه خصيصا. إن يذعه بين الناس يصبه البوار… لذلك تعددت الروايات في شأن تطليقاته المتواترة إلى أن ارتقت إلى رتبة الأساطير. من ذلك:
ورد في حكاية أنه كان يدس لهذه عقارا منوما في مشروب، ثم يعمد إلى التبول في إناء ويسكبه في فراش النوم حتى إذا طلع الصبح اتهم ربَّة بيته بأنها قد تبولت في السرير…
تقول رواية إنه كان يطلي الفراش بالغائط، وتقول أخرى إنه كان يعبئ الفساء في عبوات عطر، ثم يرشها في غرفة النوم…
وقيل إنَّ من كان يروِّجُ هذا التفسير الأول المتمحور حول التنويم، كان يخلط في الواقع بين قصة لصين مختلفين كلاهما أنيقٌ ووسيم: الشرطي سارقُ موظفة تمارة الذي سيأتي ذكره بعد قليل، ولصنا هذا الذي يرد في مجموعة أخرى من الروايات أنه كان ساحرا، وأنه كان يوظف نفايات الجسد في طقوسه السحرية للإيقاع بنسائه…
ويقال في روايات أخرى إنه كان يعمد إلى تلفيق تهمة الخيانة للزوجة. ويرد هذا الصنف أيضا بتنويعات، من ذلك:
أنه كان يجندُ حشدا من أصدقائه، فيفشي لهم اسم زوجته «الجديدة»، ويخبرهم بساعة دخوله إلى البيت، فما تمر بضع لحظات عن وصوله حتى يتوالى طرق الباب، وفي كل مرة يتظاهر الزوج بالقيام لمعرفة من الطارق، فإذا بهذا يصرخ بأعلى صوته:
– يا فلانة! هل أنت في البيت؟ افتحي المنزل يا فلانة، أنا فلان!
فما إن يُطرق الباب أربع مرات أو خمسا حتى يتقمصُ الزوج فورة غضب، ويتظاهر بأنه قد فقد الصواب، فيصرخ بأعلى حنجرته إلى أن يسمعه كل من في العمارة:
– أنت عاهرة وها هي الحجج القاطعة! جعلتِ من بيتي ماخورا تستقبلين فيه عشاقك في غيابي!…
وفي رواية أخرى، تتفرع عن صنف تفسيري آخر من المزاعم، يتمحور حول الجنس، يردُ أنه:
كان يدس للزوجة مهيجا يُشعل النار في أحشائها، فتثبُ عليه، وتمسك بياقته، مخيرة إياه بين أن يطفئ نارها أو تغادر البيت طلبا للسقي من أنهار أخرى، وما إن يستجيب لها حتى تستغرق في الصراخ والوحوحة إلى ينتهي صوتها إلى الجيران… وبمجرد ما يطوي أشرعة الإبحار يلوي على عنق الزوجة، وينهال عليها بالصفع واللكم وهو يصرخ في وجهها:
– أين تعلمت هذا يا عاهرة؟! أين تعلمت هذا يا عاهرة؟!
وما إلى ذلك إلى أن يمتلئ بيتهما بالجيران…
وفي صنف آخر من الروايات، يردُ أنه ما كان ليتأتى له التخلص من نسائه بتلك السهولة لولا لجوئه إلى السحر. ويرد هذا القسم أيضا بتنويعات، منها:
أنَّ أحد أبناء عمه كان ساحرا مشهورا، لا ينزل من طائرة إلا ليركب أخرى لكثرة الطلبات التي كانت تتهاطل عليه من أوروبا والشرق الأوسط، وأن قريبه هذا كان يعمل له أقوى الحروز والتمائم التي تنفر منه الزوجة الجديدة وتقلب تعلقها به إلى استعجال للفرار من المنزل.
وفي رواية أخرى:
يقال إنَّهُ هو نفسه من كان يزاول أعمال السِّحر بعد أن أدمن تصفح منتديات العلوم الروحانية في شبكة الأنترنت أو تلقى دروسها بالمراسلة من أحد المعاهد الفلكية….
ومع أنَّه لا يمكن للعقل السليم أن يصدق مثل هذه الترهات، فالكثيرون كانوا يثقون بها، ويروجونها إلى أن لقيت من القبول بين الناس ما جعل الكثيرين يهابونه، لاسيما الجيران، إذ بدل استدعاء الشرطة بسبب الفوضى الناتجة عما كان يحدث بين لصنا ورفيقاته الليليات، كانت تخرج أكثر من جارة من سكان العمارة بثياب النوم، وهي حاملة مكنسة، متجندة لضرب بنات الليل السارقات… وقد أفضى هذا التضامن غير المتوقع، هو الآخر، إلى بلبلة من التفسيرات، إذ:
زعم بعضهم أنَّه كان يسحر للجارات، وزعم البعض الآخر أنه كان يرشوهنَّ، وزعم آخرون أنَّهُ اتخذهنَّ عشيقات سريات، وزعم آخرون أنهنَّ كنَّ عضوات في شبكة عصابته، وأنَّ زواجاته وتطليقاته المتكررة لم تكن سوى رأس جبل جليد ضخم عائم من الممارسات المشبوهة…
*
* *
وإذا كانت حقيقة ما كان يفعله مع نسائه لإجبارهن على الطلاق بتلك «السلاسة» (وهذا ما يهمنا في المقام الأول)، وحقيقة سائر الروايات الآنفة، وغيرها مما كان يروج حوله، تظلان في حُكم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فالمحقق أنَّ أوَّل ما كان يفعله بعد تطليق هذه الزوجة أو تلك هو استدعاء حشد من أصدقائه ليساعدوه على حمل الأثاث الثمين الذي غنمه من ربة بيته، أو بالأحرى قايضت حريتها به، وفي مقدمته الجواهر والحلي، وغرفة النوم، والأجهزة الإلكترومنزلية، والسيارة أحيانا، ثم يتخلص منه فورا ببيعه، فيقيم حفلة باذخة في أحد ملاهي المدينة الليلية.
فور دخوله هو عصابته إلى الملهى تتجارى بنات الهوى، فيتحلقن حول موائد تكون قد أعدَّتْ خصيصا للوافدين، لأن خبر طلاقه يكون قد وصل إلى الملهى بساعات من قبل، بل وأحيانا يشيعُ منذ أن يكون مجرد مشروع، فيجلسُ صاحب المحل والبنات والحراس على أحر من الجمر لاستقبال البطل العائد مظفرا من غزوته الجديدة، وهو يحمل أعلام النصر، فتصطف جيوش زجاجات الخمر على أشكالها؛ بعضها يُشرب، وبعضُها يُسكبُ في المراحيض، وبعضها يُعاد إلى الكونتوار، على أساس أنه قد شُربَ، فيُسدِّدُ أميرُ الطلاق فواتيره، ثم يُعاد إحضار كتائب الزجاجات من جديد، والبنات يرقصن ويعرين أطرافا من أجسادهنَّ، يوهمن صاحبنا بأنه سوف يقضي ليلة فردوسية في رياضهنَّ الفيحاء، فيما لا يلوي في النهاية إلا على الريح، فيقع له بذلك ما وقع لفلاح إحدى قرى ضواحي مكناس:
باع ثلاثة ثيران بخمسين ألف درهم، ثم وضع الأموال في «قُبِّ» جلبابه، ودخل حانة لكي يحتسي بضع زجاجات جعَّة لا غير، ثم يروح إلى أهله، مع أنه لم يسبق له أن ذاقها من قبل، لكن ما إن وقعت عين إحدى بنات الهوى ممن كن في المحل بالزبائن متربصات حتى دعت جمعا من صويحباتها، فتحلقن حول مائدة القروي، وها هي أطباق الأكل ومواكب الزجاجات وعلب السجائر تزحف على المائدة صفا صفا، والبنات تعانقن البدوي وتقبلنه، وهو في حالة وجد، يصرخُ وقد كاد عقله يطير:
– ترى، أهذه هي الجنة التي وعد بها القرآن؟ أهذه هي الجنة التي يحدث عنها خطيب صلاة الجمعة! والله ما أراني الآن إلا داخل الجنة! والله إني لفي الجنة!
……………………………………………………………….
……………………………………………………………….
……………………………………………………………….
فما دقت ساعة الإغلاق إلا والثيرانُ قد تبخرت من «قُبِّ» صاحبنا، فنام في الرصيف قرب الحانة؛ لم يبق له ولا مليمٌ واحد ليستقل به سيارة أجرة ويعود إلى بيته، فعاد إلى أهله مشيا على القدمين. عندما وصل زعم أنَّ لصوصا قد تربصوا به في السوق، فاختطفوه، وسلبوه أمواله، وأنه لولا لطف الله به لكان الآن في عداد المقتولين، فتهاطل سكان القرية على بيته يباركونَ له معجزة نجاته من فتك اللصوص به…
بخلاف القروي الشقي الذي تعين عليه أن يصرف أعواما من التقتير والادخار والأشغال الشاقة لتعويض خسارته الكارثية، كان صاحبنا الزواج المطلاق ينتشي بـ «خسارته»، ويتباهى قائلا:
– والله إني لأستحق الأجر والثواب على صنيعي، ماذا كانت [ = طليقته] ستفعل بكل تلك الأموال؟! ما أقوم سوى بإعادة توزيع ثروة النساء بشكل عادل بينهن: آخذ من هذه وأعطي لتلك! أرجع لتلك ما أخذته منها هذه!
ثم يسوق حكاية اللص الأنيق الذي أكرمه برنامج «مسرح الجريمة» التلفزيوني بحلقة خاصة:
قدم اللص الأنيق نفسه لموظفة تسكن في مدينة تمارة باعتباره مفتش شرطة، وكتب معها فصول قصة زاعما أن نهايتها ستكون ركوب «العمَّارية»، ثم واظب على لقاء البنت إلى اطمأنت له وأدخلته بيتها، فإذا به يدس لها في الأكل عقارا منوما، ويفتش بيتها شبرا شبرا إلى أن وجد في خزانة غرفة النوم الخشبية مبلغ 17 مليون سنتيما أوراقا نقدية، فاستولى عليها وأطلق ساقيه للريح، بعد أن أحكم إغلاق باب الشقة على صاحبته بمفتاح تخلص منه فور ابتعاده عن الحي، وكان المنوم قويا بحيثُ مكثت «العروس» يومين كاملين في السبات العميق… ولولا صراخها بأعلى صوتها وهبة الجيران لنجدتها بتكسير باب المنزل لنفقت جوعا أو ظلت حبيسة بيتها إلى أيامنا هذه…
يعيد صاحبنا قصَّ حكاية لصه النموذجي، ثم يعلق مستنكرا:
– بالله عليكم ماذا كانت ستفعل بكل ذلك المبلغ؟! ثم، لو كانت نية ذلك اللصّ بين مزدوجتين (كذا) حسنة، وتصدقَ بالمبلغ السابق على المحتاجات على نحو ما أفعل أنا، لما ألقت الشرطة القبض عليه، ولما أعتُبر لصَّا، ولما دخل السِّجنَ….
يقول ذلك ناسيا – أو متناسيا – أنه قد حطمَّ أرقاما قياسية في سرقة أرزاق وسلب قلوب…
بعد أنخاب ليلة النصر الباذخة، يعود صاحبنا إلى سيرته الأولى: يتربصُ بإحداهنَّ، ويلقي عليها شباكه. وفي انتظار أن تقع في الفخ، يواظب على التردد على الملاهي الليلية، في كل مرة يعود إلى البيت، في جنح الليل، متأبطا رفيقتين أو ثلاثا من بنات الليل، لكن ما إن تمضي سويعة حتى تسطو «الضيفات» على أغلى ما في البيت مما خف وزنه وغلا ثمنه، الهاتف الذكي في المقدمة طبعا، ثم تطلقن سيقانهن للريح، فيهرول وراءهما، نازلا درج العمارة، وهو يصرخ:
– اقبضوا العاهرات! امسكوا العاهرات!
دونَ أن يفلح في إدراكهنَّ والإمساك بأي واحدة منهنَّ، لأنهنَّ يتبخرن في الظلام بسرعة البرق كفئران رشيقة هاربة من قط سمين…