المصطفى الغربي: ما وراء الفرنكوفونية من أجل كفاءة عبرثقافية وتعددة اللغات

1٬624 views مشاهدة
المصطفى الغربي: ما وراء الفرنكوفونية من أجل كفاءة عبرثقافية وتعددة اللغات

 

ترجمة: محمد أسليم

«الأمي في عصرنا الحاضر هو الشخص الذي لا يعرف لغة واحدة»

العاهل المغربي الملك الحسن الثاني

يدور الجدل اللغوي والثقافي في المغرب، كما في باقي المغرب العربي، في السنوات الأخيرة حول مسألة ذات أبعاد ثلاثة: ثقافية، واقتصادية، وسياسية. يتعلق الأمر في هذه المسألة بالفرنكوفونية.

ومصطلح الـ «فرنكوفونية نفسه يفتح بابا للبس. فلماذا لا يتم الحديث عن الأنجلوفونية أو الإسبانوفونية كمكان للقاء الثقافي، كفضاء اقتصادي وسياسي، وبدلا عن ذلك يتم الكلام عن الفرنكوفونية؟ ما هي الرهانات الحقيقية المختفية وراء هذا الاستعمال؟لقد أظهرت دراسة إحصائية للساكنة المكونة للقمة الفرنكوفونية أنه يجب الحديث بالأحرى عن العربونية، أو على الأقل يجب اعتبار اللغة العربية لغة تواصل كبير داخل هذه المجموعة المتعددة القوميات ومعاملتها قانونيا ومؤسسيا باعتبارها كذلك. هل الحال حقا كذلك؟ إذا كان الجواب عن السؤال الأخير يفرض نفسه من تلقاء ذاته، فإن عناصر الإجابة عن الأسئلة الأخرى التي سنحاول تقديمها لا يمكن أن تكون سوى تقديرات يجب بالضرورة أن تناقش بتجرد مما لا زالت تثيره من عواطف تقف عائقا أمام التحليل الموضوعي والمنطقي، خاصة وأن الأمر يتعلق بموقف يتسم بكثير من التعقيد.

ومع إنجاز لهذا التحليل، فإننا سنحتفظ بحقنا في هذه الذاتية التي تغطي دائما كل خطاب يحشر صاحبه -ويجعله طرفا- في سجال مماثل للسجال الذي نحن بصدده.

1-الفرنكوفونية

إشارات جغرافية وتاريخية

لقد ظهر مفهوم «الفرنكوفونية» في القرن XIX للدلالة على «فكرة لغوية وعلاقة جغرافية في آن واحد»[1].

ومنذ ذلك الوقت ترددت هذه «العبارة» في خطب رسمية: خطاب الجينرال دوغول في برازافيل سنة 1944، وبعد ذلك خطاب الرئيس ليوبولد صيدار سنغور، والحبيب بورقيبة، كما ترددت في مؤتمرات جهوية مثل الـ (U.A.M) والـ (O.C.A.M) والـ (A.C.C.T)[2].

وهكذا نرى أن مفهوم «الفرنكوفونية» -كما ينبه إلى ذلك المهدي المنجرة- لا يمكن فصله عن سيرورته التاريخية المرتبطة وراثيا بالفترة الاستعمارية وبمرحلة الانعتاق من الاحتلال، التي لم تنته بعد، كما لا يمكن فصله أيضا عن التحولات الإيجابية التي تحملها فترة التحرر، هذه، على المدى المتوسط أو البعيد»[3]. وسنعود إلى هذه النقطة.

ومن وجهة النظر الجغرافية، تغطي «الفرنكوفونية» فضاء لغويا يتألف من 35 بلدا يصل مجموع سكانهم إلى 290 مليون نسمة لا يتكلم منهم باللغة الفرنسية سوى 91 مليونا (1.9% من مجموع سكان العالم). ومن مجموع هؤلاء السكان لا تتجاوز نسبة الذين يتقنون الفرنسية 1.4 % (أي 62 مليونا من أصل 290 مليونا). وإذا حذفنا من هؤلاء سكان فرنسا وكندا وبلجيكا، فإنه لن يبق سوى 12 مليونا من «الفرنكوفنيين» موزعين على 32 دولة ويمثلون 6% من مجموع سكان ما يدعى بالقمة الفرنكوفونية.

وحتى لو أجرينا عملية مونطاج لنصل إلى عدد الـ 36 مليونا من الفرنكوفونيين، وهو الرقم الفعلي الذي يتم تقديمه بكثرة، فإننا لن نحصل آنذاك سوى على ساكنة تناهز حوالي 0.7 من مجموع سكان العالم[4].

يرتبط مفهوم الفرنكوفونية في المرغب العربي بتاريخ فرنسا الاستعماري. في أصل الصراع الثقافي، إذن، حدث تاريخي يجب على صيرورة هذه البلدان أن تديره –وهو ما يبدو أنه يجري في المغرب بوجه خاص، بكيفية إيجابية، وذلك ليس بإخفائه (بالـ «نسيان») وإنما بإرادة عازمة لتجعل منه شرطا ضمن شروط أخرى للتطور الاقتصادي والتكنولوجي.

ويجب علينا الإقرار بأننا نتذكر أن الاستعمار قد أدخل لغته بالـ «إكراه»، وأنه بدل ما في وسعه لخلق نخبة من الأهالي لترسيخ الثقافة الفرنسية في البلاد، وإنتاج ظاهرة مثاقفة، محدثا بذلك –في النسيج الاجتماعي- جماعة محظوظة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي تعمل على حماية مصالحه وتأييد الاحتلال الأجنبي ونشر نمط للحياة والتفكير غريب عن الحضارة العربية الإسلامية.

لكن ما يجعل من الوضع اللغوي –المغاربي على الأقل- وضعا صراعيا ليس هو هذه الحقيقة التارخية التي يمكن لعبقرية الشعب المغربي المتعود على الاتصال بثقافات وحضارات من جميع الأصقاع أن تجعل منها بسهولة حقيقة مثمرة، وإنما هو تصور بعض «مداحي الفرنكوفونية» لما يجب أن تكون عليه علاقة اللغة الفرنسية بالـ «فرنكوفونيين»: «علاقة روحية واستلابية».

«يقودنا مفهوم المثال الجماعي أو مفهوم التقاسم إلى فحص تطور روحي لكلمة فرنكوفونية يمكن أن ننعته بتطور «صوفي». فهو يتميز بما يبديه من عظيم إجلال تجاه لغتنا التي لها نوع من التفوق بالمقارنة مع جميع باقي اللغات المستعملة في العالم»[5].

إن هذا الموقف هو ما جعل مثقفين مغاربيين، من مشارب مختلفة، يرون أن «الفرنكوفونية» في هذه الحالة لا يمكن أن تكون إلا أداة لـ «الاستعمار الثقافي الفرنسي» في سبيل اتجاه إخفاء محو فرنسا المتزايد من الساحة الاقتصادية والسياسة والثقافية العالمية.

لقد ذهب البعض حتى إلى اعتبار الـ «فرنكوفونية دولة –مفهوما»[6]. وهذه الدولة –المفهوم» ليست بشيء آخر غير فرنسا، هذه الدولة التي تستخدم اللغة الفرنسية لغرض تحقيق تفوق اقتصادي، أو أساس يقوم عليه سوق عالمي يتدفق فيه المنتوج الفرنسي. أيضا قد تكون «أداة للعلاقات الدولية»[7] تخدم هيمنة فرنسا سياسيا واقتصاديا أمثل مما تخدم «تمكاسك» و«تقدم» الدول الأعضاء، على الأقل السائرة منها في طريق النمو. وداخل هذه الـ «فرنكوفونية نشاهد أحيانا وجود تنافس بين فرنسا وكندا باعثه الوحيد هو الرغبة في تملك سوق ما أو المحافظة عليه»[8].

نحن، إذن، بعيدون جدا عن وجود حوار بين الثقافات يخدم تنمية ما تمتاز به لغات الدرل السائرة في طريق النمو من «تفردات» و«خصوصيات» بمنأى عن كل شكل من أشكال الـ «التتبيع السيكولوجي»[9] (Satellisation psychologique) أو غيره.

الفرنكوفونية بهذا المعنى هي بكل بساطة الـ «ثقافة الفرنسية»، هي الـ «فرنسة» والإدارة النضالية النضالية التي يراد إيصالها إلى الآخرين قصد معاكسة توسعية اللغة الأنجليزية. وهكذا يتضح أن الوزن القليل الذي يعطي للغة العربية أو لأي لغة غفريقية أخرى إنما يعود إلى كون صرح الفرنكوفونية الكبير قد تم تشييده بلغة واحدة كبيرة، وبذلك فهو يحجب جميع اللغات الأخرى.

ويبدو أن هذا المنطق هو امتداد (مغلوط تاريخيا) لمنطق بداية القرن الحالي حيث كانت توضع اللغة العربية في المقام الثاني بعد الفرنسية التي صارت آنذاك لغة المدرسة والإدارة والترقية الاجتماعية. وإذا كان هذا المنطق للمقصورية- لكي لا ننعته بمنطق الإقصاء [10]- بعث على الدهشة والاستغراب فذلك يعود إلى أن الاعتقاد الذي يرى ضرورة اضطلاع اللغة الفرنسية بدور استراتيجي في تقدم البلدان التي يجمع بينها استعمال هذه اللغة، هو اعتقاد جد متجذر في الأذهان. ولو لم يكن هذا الخطاب الذي يؤسطر العلاقة مع اللغة الفرنسية يدخل في حسابه ترقية اللغة العربية (وهو ما يعنينا) في مشاريع التعاون[11] والتربية والتنمية لربما كان الصراع المتواصل حاليا حول وضع هذه اللغة صراعا أقل حدة.

وإذا كان السجال يتمحور حول اللغة العربية، فذلك يعود إلى كون هذه اللغة بدورها لغة ناقلة للعلوم والتقنيات، من جهة، وإلى أنه من بين سائر اللغات في «لقمة الفرنكوفونية» تعتبر اللغة العربية هي اللغة التي تشهد في الوقت الراهن نهضة سريعة وواعدة.

2-السياسة اللغوية والنظام التربوي التعريب توجه أساسي

تعلك اللغات الأجنبية ضرورة من أجل التقدم

وكرد فعل تجاه هذه الوضعية التي عرفتها دول المغرب العربي على امتداد عشرات السنين فقد تشكل تيار ثقافي وإيديولوجي للدفاع عن اللغة العربية. وبذلك فقد شكلت هذه اللغة طوال عهد الحماية رأس حربة للمطالبة بالاستقلال. وما أن تم الإحراز عليه حتى صارت [اللغة العربية] توجها رئيسيا لاستعادة الهوية والأصالة العربيتين. ويطابق هذا التيار توجها سياسيا عبر عنه العاهل المغربي بوضوح في عدد من الخطب ننتقي منها مختارات في مايلي:

مقتطفات من خطب العاهل المغربي الملك الحسن الثاني

«وإننا لنحمل رسالة منذ القدم وهي الدفاع عن العربية والإسلام، كما أنه لابد للمواطن المغربي في هذا الجناح من العالم أن لا يظل كذلك الجندي المغربي الأصيل الذي يدافع عن حضارة وإطار عيش، وعلى فضيلة…هي دينه ومواطنته كمسلم وكعربي وكإفريقي»…«إن التعريب قاعدة انطلاق لا رجعة فيها للإصلاح سواء في التعليم العام أو في التعليم الخاص، وفاء لنص الدستور الذي أكد أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.

على ألا يكون للتعريب مخلا بجودة البرامج وغير موف بالمستوى المطلوب. ومن هنا تبرز ضرورة تقوية البرامج الدراسية وتغيير أساليب التلقين وانتهاج الوسائل العصرية الحديثة، مع تقوية حصص اللغات الأجنبية حتى يكون تلامذتنا وطلبتنا في مستوى يؤهلهم لامتلاك لغات أخرى تساعدهم على فتح آفاق جديدة في تكوينهم وبالتالي ليتمكنوا من مسايرة التطور العالمي العصري».

-(من توجيهات صاحب الجلالة لأعضاء الحكومة أثناء انعقاد مجلس وزاري مصغر لدراسة قضايا التعليم يوم الخميس 30 نونبر 1978-)

«وما هو منطلقنا في اختيارنا؟ منطقنا يرتكز على عاملين اثنين: فالمغرب دينه الإسلام ولغته العربية كما هو منصوص عليه في الدستور. فعلينا، إذن، أن ننطلق من هذين المنطلقين حتى نحافظ على أصالتنا وحتى نبقى متشبثين بديننا، وحتى نبقى عاملين بالسنة والجماعة وأن نشد بقوة وعزم على وحدة مذهبنا ألا وهو المذهب المالكي. علينا أن تربي أبناءنا في حفظ كتاب الله الكريم وأن نربيهم في العلم والأخذ من سنة نبيه الكريم».(…)

«فإذا نحنن رأينا المغرب على الخريطة نرى أن مدينة الرباط هي وسط بين إنجلترا وبين السينغال، وهي وسط بين بلجيكا وبين موريتانيا، وهي وسط بين ألمانيا وموريتانيا ومالي. وهذا في ما يخص شمال جنوب. أما في ما يخص شرق غرب، فنجد أن الشرق الأقصى للبحر الأبيض المتوسط من طنجة إلى ذلك الحد الأقصى نفس المسافة من طنجة إلى سواحل القارة الأمريكية.

هذا شيء قار لا يعتبر ولن يتغير. وما اختار الله سبحانه وتعالى هذا الاختيار عبثا، بل اختاره للمغرب لشيئين: ليكون المغرب امتحانا ومحنة. إن الامتحان يتطلب التجنيد المستمر، والمحنة دائما يجعل الله سبحانه وتعالى في طيها نعمة.

نشرئب إلى أوروبا ويلزمنا بأن لا نترك خلفنا إخواننا وشركاءنا في تاريخ المغرب، وهم الأفارقة. ومن ثم، حتى إذا انتهينا من الصلاة وقلنا السلام عليكم وولينا وجهنا إلى اليمين ولا ننسى ما علينا أن نكتنزه وأن نتعلمه من تكنولوجيا ومن علوم تمكننا من أن نخوض المعارك المقبلة مسلحين غير منقوصين.

فلهذا، وكما أقول دائما، هناك ميدانان يجب الإصلاح فيهما وتفقدهما كل خمس أو ست سنوات ألا وهما ميدان التعليم والميدان الفلاخي.

فالفلاحة ووسائلها وأهدافها وما يحيط بها من مشاكل اجتماعية وبشرية وجماعية، وما يحيط بها كذلك من الحفاظ على التوازن بين القرى والمدن تقتضي منا كل خمس أو ست سنوات أن نعيد النظر في أهدافها وفي أساليبها.

وبخصوص التعليم، من واجبنا كذلك أن لا نقول سننظر في إصلاح التعليم وننام على ذلك الإصلاح مرتاحين ومتكئين لأن كل إصلاح للتعليم إلا وينتظره إصلاح من بعد في كل خمس أو ست سنوات، لأننا لا نتعلم لأنفسنا، بل نتعلم لأن نروج في السوق العالمية العلمية. فعلينا، إذن، أن نأخذ دائما بعين الاعتبار المناخ الجهوي والقاري والعالمي».

-(من خطاب لصاحب الجلالة بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الثالثة، الجمعة 10 أكتوبر 1986).

«إن تكوين الإنسان سيظل أحد اهتماماتنا الرئيسية الثابتة. وسيتم إعداد خطة لإصلاح التعليم وتكوين الأطر بغية جعل طرق تحصيل المعارف ملائمة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين. وبطبيعة الحال، فإن هويتنا وأصالتنا سيحافظ عليهما ويعمل على إغنائهما، وسيكونان محط عناية خاصة من جانبنا الشريف».

-(من الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى السيد الوزير الأول في موضوع إعداد مخطط مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية).

نرى، إذن، أن التعريب كان يتسطر كبرنامج أولي كان على الحكومات أن تنجزه تدريجيا بإعادة تنظيم المشهد اللغوي والثقافي لفائدة اللغة العربية، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى الحد من استعمال اللغة الفرنسية في ميادين الحياة الاقتصادية المنتجة بالبلاد[12].

وفيما يلي فقرات منقولة من مخططات التنمية ومن نصوص حكومية تترجم توجيهات العاهل المغربي في مجال غايات التعليم وأهدافه العامة بالمغرب.

مخططات التنمية والنصوص الحكومية

الحكومات:

«يجب على اللجنة الوطنية للتربية والثقافة أن تثير مشكل التوحيد (في التكوين)، هذا، وتقترح حله على الحكومة».

«لقد أدى هذا الاختلاف في التكوين، كما قلنا، إلى نشأة عقليتين مختلفتين في أغلب الأحيان: عقلية قديمة، وأخرى «عصرية».

«إن هدف التوحيد هو إعطاء توجه لجميع المغاربة يتلقون فيه تكوينا إسلاميا يمكنهم من التشبع بالحضارة الإسلامية، لكن دون إهمال دراسة وتعلم لغة أجنبية أو لغتين باعتباره الوسيلة الوحيدة حاليا للوصول إلى الثقافة التقنية والعصرية».

يجب أن يتم التعريب بطريقتين:

أ-تكييف برامج التعليم العصري قصد جعلها مطابقة في الزمن لحاجيات العالم العصري.

ب-تكييف برامج التعليم قصد جعلها مطابقة في المكان للواقع الجغرافي والتقني والفكري للبلاد.

وبما أن التكييف قد تحقق وإعداد الكتب المدرسية قد بوشر، فالمشكل الذي يطرح نفسه هو مشكل اللغة أو لغات التدريس. بعبارة أخرى، هل سيكون تعريب التعليم تعريبا كليا أو جزئيا في المغرب؟

نوعان من الاعتبارات يجب أن يلفتا انتباهنا:

1-اعتبارات ذات طبيعة تاريخية وجغرافية:

لقد كانت لإفريقيا الشمالية –والتارئخ موجود ليثبت هذه المسألة –جسرا بين الشرق والغرب. وإذن، فيجب أن يؤدي محتوى تعليمنا وشكله إلى تكوين الشخصية المغربية التي تستمد عناصرها المكونة من شكلين من الحضارة الشرقية والغربية:

أ-الثقافة باللغة العربية ستحكون العنصر الأساسي للمغاربة من أجل امتلاك الحضارة الإسلامية.

ب-تعلم لغة أجنبية واحدة على الأقل سيكون وسيلة لإتقان التكوين العام.

وإذن، فعلينا مراعاة تعريب أكيد، لكن أيضا تحقيق امتلاك صلب للغة أو لغتين أجنبيتين.

2-اعتبارات ذات طبيعة علمية:

يرتبط التعريب مباشرة بتكييف البرامج.

في انتظار ذلك، وخلال المخطط الخماسي 1960-1964، ترى اللجنة الوطنية للتربية والثقافة حل المسألة بالشكل الآتي:

1-المواد العربية الإسلامية:

من المناسب أن تعطى مكانى راجحة للتعليم باللغة العربية، ومن المستحب تدريس تاريخ المغرب منذ الابتدائي باللغة العربية.

2-المواد العامة:

لا يمكن تدريس بعض المواد حاليا باللغة العربية وخاصة في أقسام الثانية (رياضيا، علوم طبيعية، فيزياء، كيمياء) لأن:

أ-أساتذة فرنسيين بالخصوص هم الذين يدرسونها؛

ب-المغاربة (عدا بعض الاستثناءات القليلة) الذين يدرسونها تلقوا تكوينهم باللغة الفرنسية؛

ج-المصطلح العربي، العلمي بالخصوص، لم يتم ضبطه بعد. إلا أنه من المناسب ملاحظة أن تداريب التكوين –المستعجلة في هذا المجال- التي يخضع لها معلمو اللغة قد أعطت نتائج مشجعة.

يجب أيضا ملاحظة أن مركز التعريب يحدد لنفسه غاية ضبط لغة العمل العربية، ومصطلحات الأساس التقنية، وكذلك اللوازم التربية العصرية، وكل ذلك عناصر ضرورية للتعريب الفعلي للمقررات وتكوين الأطر التعليمية.

3-اللغات الأجنبية:

ستنتج اللغة الفرنسية اكتساب المواد المذكورة أعلاه والتي يستحيل امتلاكها باللغة العربية في الوقت الراهن. ومن ثم، ضرورة البحث عن منهج جديد –وضبط هذا المنهج- لتدريس اللغة الفرنسية ولغات أجنبية أخرى.

حينئذ، سوف تدرس اللغات الأجنبية باعتبارها:

-أولا، أداة قاعدية للمبادلات البشرية وامتلاك معارف: الفرنسية.

-ثم، انطلاقا من أقسام الدرجة الثانية، لكن في السلك الأول بالضرورة، باعتبارها أداة من أجل الحصول على ثقافة عامة ومعرفة الحضارات الأجنبية.

وسيكمل المغرب دراسة اللغات الأجنبية بالأنجليزية والإسبانية والإيطالية والروسية.

وفيما ستدرس اللغتان الأولى والثانية في جميع المؤسسات الثانوية ستدرس اللغات الألمانية والإيطالية والروسية في أهم مؤسسات التعليم الكبرى فقط.

وسيتم توجيه التلاميذ وإرشادهم، ومن ثم فلن تفرض عليهم أية لغة.

أخيرا، ترى لجنة التعليم الثانوي ضرورة التفكير أيضا في تدريس اللاتينية والإغريقية ولو في مؤسسة واحدة بالمغرب نظرا لأهمية هاتين اللغتين في الأبحاث المعلقة بتاريخ العالم العربي الإسلامي وحضارته.

تلك باختصار هي أهم شروط تأسيس المدرسة الوطنية الموحدة.

هناك، إذن، ثلاث واجبات محتمة:

أ-تكييف البرامج الموحدة بغاية تحقيق التعريب التدريجي

1-للتعليم الأصيل

2-للتعليم العصري

ب-إعداد الكتب المدرسية

ج-ضرورة دراسة اللغات الأجنبية التي تعد الفرنسية أحد أسسها»

-من المخطط الخماسي 1960-1964-

«لقد تم تحقيق تعريب التعليم الابتدائي منذ أكتوبر 1967. صارت اللغة العربية لغة تدريس لجميع المواد، وخلال السنوات الخمس. غير أنه يبقى تعليم باللغة الفرنسية معفى من العربية في أقسامه الثلاثة الأخيرة بقدر 8 ساعات و 45 دقيقة. وهدفه هو أن يتيح للتلاميذ المقبولين في الدرجة الثانية أن يتلقوا في هذه الأخيرة تعليما باللغة الفرنسية من أجل المواد العلمية والتقنية»…

«إن التعريب يتقدم في أقسام الدرجة الثانية. فقد تحقق في شعب التعليم العمومي المعربة والأصيلة وكذلك في التعليم الحر الإسلامي، مما يمثل أكثر من 28000 تلميذا. بالإضافة إلى ذلك، فعدد الدروس التي تلقى باللغة العربية في ارتفاع متواصل. غير أن التقدمات السابقة تظل مرتبطة بتقدم مغربة الأساتذة المكلفين بتدريس المواد العلمية».

-من المخطط الثلاثي (1965-1967) الفصل الخاص بالتعليم والتكوين المهني وتكوين الأطر-

«وتحقيقا لهذا الهدف السامي ستعنى الحكومة كل العناية بجودة التعليم، وستحرص على أن يقوم تعليمنا على احترام المبادئ الأساسية التي جاء بها القرآن المجيد والسنة النبوية الغراء. كما ستعمل على الوحدة المذهبية المتمثلة في التمسك بمذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وصيانة شخصية بلادنا وأصالتها والتفتح على كل نافع جديد وإتقان اللغات الأجنبية حتى يتسنى لشبابنا أن يساير ركب التطور وتتمكن بلادنا من مواصلة الدور الطلائعي الذي ما فتئت تقوم به ساعية لتقديم ما يمكنها من مساعدات إلى الراغب فيها من الدول الشقيقة والصديقة».

-فقرة خاصة بالتربية والتعليم صدرت في النص الحكومي، النص الثاني المقدم إلى الرلمان والمتعلق بالدخول المدرسي: 1985/1986.-

وزارة التربية الوطنية

«لقد كان على التعريب أن يتحقق في التعليم العمومي العصري لأن باقي أنواع التعليم كلها معفاة من اللغة العربية. وقد تمت محاولة عدة تجارب. وحاليا تعرب التعليم الابتدائي كله تقريبا: ففي القسمين الأولين تدرس اللغة العربية وحدها، أما في الأقسام الأخرى فتدرس جميع المواد باللغة العربية، وبشكل مواز يتم تدريس اللغة الفرنسية بقدر بضع ساعات في الأسبوع، وذلك حتى تتاح –خلال مرحلة انتقالية- دراسة المواد العلمية في أقسام التعليم الثانوي والتعليم العالي.

لقد ترتب عن التعليم المتسرع وعن ضغط تعميم التعليم ما نعرفه من نتائج. ففي التعليم الثانوي تم تعريب بعض القطاعات بصفة كلية. إلا أن الحاجز الأكبر الذي يقف أمام تعريب هذا التعليم هو الغياب شبه التام لأساتذة اللغة العربية. وهذا العامل يقود التعريب الكامل للتعليم الابتدائي إلى طريق مسدود. وفي التعليم العالي بدأ التعريب في كليات الآداب والحقوق. وقد تم خلق مركز للتعريب قصد إعداد الكتب المدرسية ولوازم التدريس باللغة العربية.

المغربة وتكوين الأطر

لقد وضع كل من تعميم التعليم المكثف والتعريب المعجل وزارة التعليم أمام ضرورة عدم التشدد في عملية التوظيفات.

ومع ذلك، فقد تم بذل مجهود كبير في تكوين أطر الدرجة الأولى: فقد كونت 17 مدرسة جهوية 11000 معلما. لكن يبقى هناك نسبة كبرى من المعلمين المفتقرين إلى التجربة وحتى غير الأكفاء.

ويمكن اعتبار تعليم الدرجة الأولى قد تمغرب كليا. لكن مستخدمي التأطير لا زال فيه هؤلاء المعلمون الشباب في حاجة للمتابعة والإرشاد.

أما في تعليم الدرجة الثانية، فالمدرسون أجانب في أغلبيتهم. ويلاحظ وجود نفور من مهنة التعليم لدى الوطنيين، الأمر الذي يلحق ضررا، في الدرجة الثانية، بتحقيق هدفين: التعريب والمغربة.

لقد ألحق كل من تعميم التعليم، وتعريبه، وتوحيده ومغربته، والتصرفات غير المتروية مضرة خطيرة بالأطفال وعائلاتهم وبلدهم.

كانت تلك الأهداف مشروعة، غير أنها كانت تحتاج إلى أن تواصل ببعد نظر وموضوعية ورصانة وفي إطار تخطيط محكم.

والخلاصة أن حالة التعليم في المغرب قد تطورت كثيرا من 1956 إلى 1966. وإذا كانت المشاكل قد تغيرت، فإنها تظل مطروحة وبالحدة نفسها».

«ويظل تعريب التعليم الهدف الأساسي الذي يجب تحقيقه منذ الاستقلال. لكن من السهل تبني مبدأ ما فإنه من الصعب تطبيقه بدون وسائل.

إن الوسيلة الوحيدة لتعريب التعليم أطر وطنية مؤهلة. والحالة هذه، سيكون من المستحيل، وخلال سنوات طويلة، إيجاد الأطر الوطنية الضرورية لتدريس المواد العلمية باللغة العربية، وبخاصة في العليم العالي والتعليم الثانوي.

ولمواجهة التمدرس، فإن الحاجيات في التعليم الثانوي تصل إلى حوالي 1600 أستاذ في السنة، يضاف إليها 4630 منصبا بيد مدرسين أجانب يحاجون بدورهم لأن يعرضوا.

والحالة هذه، فإن المدارس العليا لأساتذة لا تخرج حاليا سوى 400 أستاذا في السنة. وبذلك فليس من المستحيل توفير المناصب الضرورية لتدريس العلوم فحسب، بل تبقى أيضا العديد من مناصب تدريس اللغة العربية شاغرة في كل سنة.

يبدو، إذن، أنه لا مفر من استعمال لغة أجنبية، كأداة عمل، في تدريس الموارد العلمية لفترة انتقالية.

وهذا الإجراء لا يتناقض مع الأطر، يمكن لأطر وطنية أن تدرس المواد العلمية باللغة الفرنسية. وبينما سيتاح تعريب جميع المواد ستكون إعادة هؤلاء الأساتذة إلى وضع سابق أمرا سهلا».

-من ندوة صحفية عقدها بالرباط، يوم الأربعاء 6 أبريل 1966، (الدكتور بنهيمة) وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة والشباب والرياضة-

«فالقولة الملكية الكريمة: «إن تعريب التعليم يجب أن يكون قاعدة انطلاق لا رجعة فيها للإصلاح» لا تنطلق من مجرد منظور عاطفي أو موقف وجداني، وإنما ترتكز على مفاهيم علمية عقلانية، راسخة وثابتة.

وبعد استعادة اللغة العربية لدورها في المدرسة كأداة أساسية للتلقين، يصبح دور اللغات الأجنبية أكثر وضوحا وأيسر تقلبا من طرف الرأي العام، أي من لدن المشرفين على قضايا التربية والتعليم.

فبالقضاء على العقدة النفسية المترتبة عن إحلال لغة أجنبية مكانة اللغة الوطنية، أصبح من السهل إقرار اللغة الفرنسية منذ المدرسة الابتدائية، ولغات أخرى بعد ذلك، كأدوات تفتح، ووسائل ربط بيننا وبين دول إفريقية، انفصمت عراها مع اللغة العربية من جراء الاستعمار.

فالمغرب الذي مثله جلالة الملك بدوحة تمتد جذورها في إفريقيا، وتتطلع فروعها شمالا في اتجاه أوروبا، لابد من أن يمتلك شبابه وأطره لغات حية من إعادة ربط الصلاة مع البلدان علميا وتجاريا واقتصاديا.

وهكذا، وبعد أن كانت فئات من المغاربة تطالب باستمرار بازدواجية اللغات أصبح كل إطار مغربي، منذ السلك الثاني من الثانوي، يمتلك لغتين أجنبيتين إضافة إلى لغة الوطنية مصداقا لمقولة صاحب الجلالة: «يتعين علينا أن نعلم أبناءنا لغتين أو ثلاثا، لأن لغة واحدة لا تكفي، ولأن الأمي في عصرنا الحاضر هو الشخصية الذي لا يعرف إلا لغة واحدة».

-مقتطف من مقال للدكتور عزالدين العراقي (وزير التربية الوطنية سابقا)، «الحسن الثاني رائد مسيرة التربية والتعليم»، مجلة الرسالة التربوية، ع 18/19، دجنبر 1985، صص. 54-57-

«وتعزيزا لجانب تدريس بعض المواد العلمية والتقنية وتقوية لملكة التلميذ اللغوية ولإقداره على مواجهة التعليم العالي والاندماج فيه بنجاح…قررت الوزارة تدعيم اللغة الأجنبية وتقوية جانبها، وذلكم بالزيادة في حصصها وتحسين طرق تدريسها».

-مقتطف من خطاب للدكتور محمد الهلالي (وزير التربية الوطنية سابقا) ألقاه بمناسبة الدخول المدرسي والجامعي: 1987-1988/ 13 أكتوبر 1987-

«لقد شهد التعليم الابتدائي في السنوات الأخيرة تطورات مهمة تنفيذا للأهداف المرسومة في الخطة التنموية، الأمر الذي رفع نسبة التمدرس (…) وأتاح كذلك تعريب المواد العلمية الدراسية وفسح مجال اللغات الأجنبية، واقتضى باستمرار مراجعة البرامج والمناهج والكتب المدرسية».

-مقتطف من الخطاب الذي ألقاه وزير التربية الوطنية بمناسبة أشغال اللجنة الوطنية المكلفة بإعداد مسار مخطط تنمية قطاع التعليم خلال 1988/1992، مجلة الرسالة التربوية، ع 21/22، دجنبر 1987، صص. 29-32.-

«نظرا للتحولات التي طرأت (عدد الأفواج في تزايد مطرد منذ الاستقلال) فقد حان الوقت لمراجعة سياسة التربية والتعليم في المغرب وإرسائها على أسس اجتماعية. ومن الهام أن تحظى هذه السياسة باتفاق الجميع وتطابق متطلبات العصر وظروف التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

من هذا المنظور، ستشارك المدرسة المغربية في تحديد خاصيات المواطن المسؤول من خلال تربية تسهر على احترام شخصية النوعية وتتمحور حول الديانة الإسلامية والأصالة المغربية والقيم الروحية والأخلاقية. وسيزود هذا التكوين المواطن المغربي بقدر كاف من المعارف العلمية والرياضية والتقنية العصرية واللغات الأجنبية التي ستتيح له أن ينفتح على العالم الخارجي ويساهم في تنمية البلاد.

ولتحقيق هذه الأهداف، من الملائم مواصلة التعريب الذي تمت مباشرته منذ 1978-1979 لكي تصير اللغة العربية لغة تعليم لجميع المواد بالأقسام الابتدائية والثانوية، الأمر الذي سيساهم في رفع المستوى وتعميم التعليم.

غير أنه من الضروري احترام التدرج وإعداد الوسائل البشرية والمادية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف في احسن الظروف. ولا يمكن أن تعفينا نتيجة التعريب من تعلم اللغات الأجنبية ابتداء من القسم الثالث من المرحلة الابتدائية. ومن الملائم أيضا تحسين مناهج تعلم هذه اللغات ليتمكن المواطن المغربي من إتقانها كتابيا وشفهيا واستعمالها كوسيلة للانفتاح على مختلف الحضارات الإنسانية والثقافات الأجنبية، هذا الانفتاح على العالم الخارجي الذي أصبح ضروريا (…)

ومن الضروري التذكير بالحاجة إلى تقوية اللغات الأجنبية وتنويع واستعمال الوسائل العصرية في تعليمها ليكون كل تلميذ، إذا عند الاقتضاء، قادرا على متابعة دراساته العليا باللغة الأجنبية التي سيختارها.

-مقدمة لقضايا التعليم، «أيام دراسية عقدتها وزارة التربية الوطنية بإفران –الرباط، غشت 1980»، منشورات وزارة التربية الوطنية.-

دون أن نزعم الشمولية، وفي إطار انشغالنا بإعطاء نظرة دقيقة بما فيه الكفاية حول المسألة اللغوية في علاقتها بالتربية والتعليم، فإننا ننقل في الصفحات الآتية بعض الآراء التي تسير في اتجاه التعليمات ومخططات التنمية المذكورة أعلاه. ويتعلق الأمر بالأطروحات التي عبرت عنها الأحزاب السياسية المعارضة، والتي بقراءتها نتبين بسهولة أن هناك إجماع واسع حول ما هو أساسي.

مقتطفات من تصورات وتقارير أحزاب سياسية من المعارضة

هذه المقترحات تهم بصفة خاصة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية.

الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (إ.ش.ق.ش) التعريب

إن التعريب يتناول من خلال لغة التدريس مضمون البرامج والغاية التي ترجى من التعليم.

ولهذا السبب، هناك مفهومان للتعريب: مفهوم رجعي منسجم مع الرؤى الاجتماعية والثقافية للطبقات المسيطرة، ومفهوم تقدمي متجاوب مع المطامح الاجتماعية والثقافية للجماهير الشعبية.

ولهذا السبب أيضا تعرض مبدأ التعريب أكثر من غيره من المبادئ التي تم حولها الإجماع الوطني إلى التشويه من طرف الرجعية التي تحاول تحريفه عن مقاصده الشعبية والتقدمية، وأصبح يشكل محورا رئيسيا للصراع الطبقي الذي يجري على مسرح التعليم.

أسس التعليم الاستعماري والتصور الرجعي للتعريب:

إن السياسات التعليمية التي اتبعت منذ الاستقلال، وكذلك المشاريع الإصلاحية التي لوح بها التحالف الحكومي الحالي، لم تخرج عن نطاق تكريس الأسس التعليمية الموروثة عن الاستعمار والماثلة في:

-ازدواج بين تعليم للعموم وآخر للخواص.

-ازدواج بين تعليم عصري وتعليم تقليدي.

يتجلى الازدواج الأول في :

-الإبقاء على مدارس البعثات، التي ليست سوى امتدادا للتعليم الأوروبي، خارج نطاق التعريب.

-تزكية التعليم الخصوصي وتشجيعه.

ويتجلى الازدواج الثاني في:

-تعليم تقليدي، يستقي برامجه –بدعوى الحفاظ على الأصالة- من ثقافة موروثة عن عهد الجمود والانحطاط تلقن كمواد خاصة بكل سلبياتها وفي أشكال جاتهزة ومتحجرة.

-تعليم عصري، مواده الأدبية والإنسانية يجري إفراغها حاليا من كل محتوى عقلاني وتقدمي من أجل ربطها بالمضامين السلبية للتعليم التقليدي. ومواده الأخرى منقولة من برامج غربية بعيدة عن معطيات واقعنا الاجتماعي.

والتعريب «الموعود» إذ يعتم مبدأ التوحيد، يتنكر بالتالي لمبدأ التعميم ذاته. وهو، إذ يبقى على نفس الطابع الطبقي والنخبوي الذي كان يميز تعليم الحماية وعلى المضمون الإيديولوجي لنفس البرامج التي خططها الاستعمار، إنما يقوم على أساس الحفاظ على البنيات الأساسية للتعليم الموروثة عن الاستعمار واتجاهه. وهذا ما يجعله بالضرورة مغلقا في الأفق الطبقي للبرجوازية التابعة وغير قادر بالتالي على النفاذ لعمق أسباب الاستلاب الفكري والتبعية الثقافية.

مسلسل التعريب وشروطه الموضوعية

(…) إن الرجعية بكل نزعاتها تريد أن تستعمل التعريب كأداة لضمان إعادة إنتاج نفس البنيات الاقتصادية السائدة، والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها.

ونحن نرى أن رواسب هذه البنيات الموروثة عن المجتمع الإقطاعي القديم وعن الاستعمار والتسلط الإمبريالي هي المسؤولة أساس عن الاستيلاب الفكري والحضاري، وهو ما نريد محاربته بالتعريب. لذا، فإن التعريب لن يؤدي مهمته التحريرية إلا إذا استهدف في إطار مسلسل يشمل تغييرا جذريا للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية الحالية (…)

إن نوعية الثقافة المرتبطة بعملية التعريب، في رأينا =، لا ينبغي أن ترتكز على مجرد استهلاك الثقافة القديمة الخاصة ولا على استهلاك الثقافة المعاصرة الجاهزة والمجردة من مضامينها العلمية والمنهجية، بل ينبغي لها أن تظل في ارتباط مع المضمون التقدمي لتراثنا الوطني الشعبي، لا الأرستقراطي فقط، وتهضم مكاسب الفكر العلمي (…)

إن التعريب مسلسل شمولي يستهدف استرجاع الشعب لحقه في ماضيه وفي حق اختيار مستقبله، وهذا هو المدلول الحقيقي للتعريب الذي رفعت شعاره الجماهير الشعبية في معركتها ضد الاستعمار (…)

إن النضال من أجل التعريب يدخل في سياق النضال العام من أجل خلق الشروط السياسية والهياكل الاقتصادية والثقافية لتتمكن الجماهير من توجيه الإنتاج الاقتصادي توجيها يلبي حاجياتها ويخدم مصالحها، ومن المشاركة في إنتاج ثقافي يعكس حقيقة مشاكلها ومطامحها (..)

إن إقرار اللغة القومية، مجردة من مثبطات الفكر الرجعي كلغة للتخاطب والتعامل في جميع الميادين، يشكل شرطا ضروريا لتمكين التواصل بين الأفراد والجماعات ولتثبيت أواصر التضامن الجماعي وجمع كلمة الأمة وبلورة إرادتها الحقيقية، وهذا يتنافى مع عوامل التفرقة والتشتيت الملازمة لأوضاع الطبقية الحالية والتي بدونها لا يمكن إخضاع الشعب لمختلف أشكال الاستغلال.

لذلك، فإن التعريب (ولو في صيغته المقلصة) لا تعترض إنجازه الإشكاليات التقنية وقلة الوسائل التطبيقية التي لابد من العمل على توفيرها بقدر ما تعترضه المضاعفات السياسية (…)

1-أن التعريب لا يتنافى مع تعلم اللغات الأجنبية بالحصص الكافية وبواسطة الأساليب المستحدثة التي وصلت إليها الطرق البيداغوجية الحديثة، بل إن تعلم هذه اللغات يعتبر شرطا ضروريا لاستمرار المراجع الأجنبية، ويتماشى مع منظورنا للتعريب الذي يفترض الانفتاح على التراث الفكري العام والتقدم العلمي الإنساني.

2-أن العريب يستلزم اتباع سياسة حازمة في ميدان البحث العلمي والبيداغوجي وتعبئة جميع الإمكانيات قصد إيجاد المراجع باللغة العربية (…)

إن أي تكوين حقيقي –خصوصا إذا تم بواسطة اللغة التي يفهمها الشعب- يهدد بانتشار المعرفة والوعي على أوسع نطاق بين صفوف الجماهير الشيء الذي يتعارض مع الرؤى والمصالح الطبقية السائدة التي تقيم سيطرتها أيضا على أسا التجهيل والتضليل الثقافي.

إن التكوين الحقيقي بواسطة مدرسة وطنية عقلانية موحدة ومعربة ومعممة لا يمكن أن يتم إلا في اتجاه التحرير والديموقراطية والاشتراكية.

-مقتطفات من تقرير لجنة التعليم بالمؤتمر الوطني الثالث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المنعقد بالدار البيضاء-

حزب التقدم والاشتراكية

أزمة التعليم، حصيلة وآفاق

لقد اعتبر شعبنا، منذ ما قبل الاستقلال، وخصوصا في مرحلة الكفاح من أجل تحرره الوطني، التعليم واحدا من مشاكله الأكثر أهمية.

إن خلق مدارس حرة خلال فترة الحماية، والحماس الذي أظهرته الجماهير الشعبية تلقائيا في أغلب الأحيان خلال تأسيس مدارس غذاة الاستقلال، وأحداث مارس 1965، وصدى الكفاحات الطلابية خلال الأعوام الأخيرة، كل ذلك يشهد على وعي شعبنا وعلى الأهمية التي يوليها للتعليم باعتباره ضمانة رقيه ومستقبله.

وأهمية التعليم بالنسبة لشعبنا تفرض على جميع المواطنين المسؤولين أن يحللوا الوضع الواقعي ويقترحوا على جماهيرنا شعارات صحيحة من أجل تنوير كفاحها»(…)

التعريب

تتميز سياسة التعريب منذ الاستقلال بالارتجال في أغلب الأحيان وبديماغوجيتها. وهي لا تسير دون أن تؤدي إلى فقدان الثقة «بالعربية» كلغة للتعليم.

لا يمكن إجراء تعريب للتعليم، وهو ضرورة وطنية وحيوية، إلا:

1-ببرمجة تكوين الأطر

2-بإعداد كتب مدرسية متكيفة مع المتطلبات العصرية

3-بالتعريب التدريجي لجميع قطاعات الحياة الاجتماعية (إدارة، اقتصاد، الخ.) قصد المطابقة بين السوق والتعليم.

4-بمراجعة اللغة العربية بوصفها لغة لنقل المعارف، كما تم في بلدان أخرى.

بالإضافة إلى ذلك، يجب تصور التعريب ككل، والمضي به حتى النهاية.

ماذا عن ذلك في الوقت الراهن؟

لقد كان تعليم اللغة الفرنسية إلى حدود السنة يبدأ منذ السنة الثالثة من التعليم الابتدائي. وكان التلاميذ يدرسون في السنة الثانية 8 ساعات و45 دقيقة باللغة الفرنسية من مجموع الـ 30 ساعة التي يقضونها أسبوعيا في الفصل. لكن في السنة المقبلة سيلج التلاميذ قسم ملاحظة تشكل فيها الدروس الملقاة بالفرنسية 20 ساعة من مجموع الـ 32 ساعة من الدروس أسبوعيا. فالقطيعة بين الدرجتين قطيعة كاملة. وفي الثانوي سيدرسون بلغة أجنبية –وبين عشية وضحاها- المواد التي ألفوا تلقيها باللغة العربية: علوم، تاريخ، جغرافيا، والرياضيات بالخصوص (في هذه السنة ستتم القطيعة بالنسبة لهذه المادة في الابتدائي، وفي السنوات المقبلة سينضاف إلى جدة الحساب في الدرس الإعدادي صعوبة تعلمه بلغة أجنبية).

وفوق ذلك، يقول تخطيط 1968-1972، إن التعريب لم يتم في القاعدة، لكنه يهمل الحديث عما يجري خلال التمدرس والتحولات التي يتحملها من عام لآخر (كما بالنسبة لأكتوبر 1970، فهو يعفي من جديد تدريس الرياضيات بالفرنسية منذ الابتدائي). إلى متى؟ إن الانتقالات المتوالية من الفرنسية إلى العربية، والعكس، بالعكس، في تدريس هذه المادة أو تلك، تساهم في اضطراب التلاميذ كما أنها تعد مسؤولة في قسم كبير عن انخفاض المستوى وعدم تكيف تعليمنا مع المقتضيات العصرية. فإذا كان عدد قليل من التلاميذ –إلى أيامنا هذه- هم الذين يتوجهون إلى ما يسمى بالعلوم المحضة، فذلك يرجع إلى سياسة الارتجال اللاتربوية (الرياضيات تدرس بالعربية في الابتدائي ثم تدرس بالفرنسية في الثانوي). والقرار الحديث الذي ينص على إعادة فرنسة الرياضيات منذ أقسام الابتدائي لا يحل المشكلة بالنسبة لخمسة أفواج أو ستة على الأقل، كما أنه يطرح من جديد المشكل العام للتعريب ومكانة اللغات الأجنبية.

التعريب، إذن، هو أيضا بعيد عن أن يكون قد تحقق. بالإضافة إلى ذلك، فالترددات المتعلقة به تسيء لسمعته على مستوى التعليم وتبرهن مرة أخرى على ارتجال سياسة التعليم وتعارض هذه السياسة مع التطلعات الوطنية.

لكي ينجح التعريب يجب الاقتناع بأن اللغة العربية ليست عاجزة عن نقل المعارف الأكثر عصرية. حقا. إن بنيتها ومفرداتها، و –أحيانا- شكلها الخطي الذي تغيب فيه الحروف الصائتة، كل ذلك يطرح مشاكل. لكن هذه الأخيرة يمكن حلها كما كان الأمر بالنسبة للغات أخرى.

غير أن الترتيب تعليمنا إذا كان ضرورة تخطيطا متقدما من جهة، وتكوينا لأطر ذوي المستوى العالي من جهة أخرى، فإنه (التعريب) لا يعني إطلاقا الانغلاق على النفس. إن تعليم لغات أجنبية أمر ضروري في القرن العشرين، إلا أن هذا التعليم لا يجب أن يتم بأي حال من الأحوال على حساب اللغة القومية.

بالإضافة إلى ذلك، ولكي يتاح للغة العربية أن تلعب الدور الذي يجب أن تضطلع به، من الضروري وضع حد للازدواجية الموجودة في بلادنا حيث اللغة الرسمية هي العربية ولغة العمل على الصعيد الاقتصادي كما في مجال الإداري هي الفرنسية.

«تعميم التعليم، رفع المستوى، التعريب، المغربة، تعليم متكيف مع ضرورات القرن والكفاح الوطني، تلك هي المبادئ التي تفرض نفسها وستفرض نفسها في الكفاح الثقافي الذي يخوضه شعبنا».

-مقتطفات من نص حزب التقدم والاشتراكية الخاص بالتعليم (دجنبر 1970).-

«تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية أصيلة وتقدمية»

«فيما يخص التعريب، لقد تلت فترات الحمى فترات كان يؤجل فيها التعريب إلى زمن لا وجود له. وكانت النتيجة سلوكا ارتجاليا، عودة إلى الفرنسية في بعض المواد أو الأقسام (الابتدائية)، ارتجالات مفاجئة، وكل ذلك دون ربط تعريب المدرسة بتعريب الحياة الاقتصادية والوطنية (…)».

«في هذه السياسة يطالب حزب التقدم والاشتراكية (…)

2-بتعريب التعليم، وبالموازاة تعريب منافذ المدرسة حسب مخطط عقلاني تقدمي لتكوين الأساتذة المغاربة في جميع الشعب باتخاذ الإجراءات التكميلية الضرورية لتقويم مستوى الطلبة.

3-ببرامج دراسية مستمدة من مصادر تراثنا الوطني ومتلفتة بعزم المستقبل، ومتفتحة على إسهام الحضارة الكونية الهائل، على علوم وعلى مناهج التحليل والتفكير المعاصرة. وفي هذا المجال سيبقى التعليم الفعال للغة أجنبية واحدة أو اثنتين مصدرا للإغناء ونافذة مفتوحة لكل واحد على العالم (…)».

-من نص البرنامج الذي تبناه المؤتمر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية أيام 21، 22، و23 فبراير 1975-

3-من أجل كفاءة عبر ثقافية ومتعددة اللغات:

بما أن النظام التعليمي يعتبر مفهوما استقباليا أكثر منه واقعا راهنا (بوكزطار، 1989)[13]، فإن كل برمجة بيداغوجية –وخاصة في مجال تعليم اللغات- لا يمكن أن تكون هي الأخرى إلا تخطيطا استقباليا (ب.أ، جوليان، 1974). وهذا هو السبب في كون تحديد غايات النظام التربوي يظل أمرا جوهريا. فهذه الغايات هي التي تحرك النظام التربوي في عملية تربية وتكوين إدرادوية موجهة نحو تحقيق مشروع مجتمعي (ل. دهنيات، 1985)[14].وفيما يخص المغرب، نعتقد أننا قد أظهرنا أن هذه الغايات هي مبنية بوضوح. أفضل من ذلك، أيضا، فالإجماع قائم حول الفائدة الإستراتيجية لهذه الغايات في تحقيق مشروع مجتمع يتعين عليه أن يستوعب التقدم دون أصالته.

هكذا، فالخيار العام في مجال السياسة اللغوية بالمغرب خيار واضح جدا: اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وامتلاك اللغات الأجنبية أمر ضروري لأنه يتيح لنا أن نفتح على العالم الخارجي. ويقصد باللغة الأجنبية أولا اللغة الفرنسية («اللغة الأجنبية المفضلة»، «اللغة الأجنبية الأولى»)، ثم الإنجليزية (ثاني لغة أجنبية مدرسة في نظامنا التعليمي)، واللغة الإسبانية (لغة تواصل كبرى، يتكلمها حوالي ثلاثة مليون مغربي)، وأخيرا اللغة الألمانية التي يتصور نظامنا التعليمي إدخال برنامج تكويني مسبق فيها، هي والإنجليزية، يبدأ منذ السنة الثانية ثانوي. وفي ما يخص إعداد المدرسين في هذا التخصص، فإن جميع النسب محفوظة.

ويبدو من الآن، بوضوح، أن التعدد اللغوي يشكل المبدأ المميز للمشهد اللغوي بالمغرب. فإذا علمنا أن الساكنة المغربية ساكنة شابة بالأساس، وأن نسبة التمدرس تعرف تزايدا مطردا تصورنا بوضوح ما سيكون عليه المشهد اللغوي في المستقبل: إنه مشهد متعدد اللغات بالخصوص.

قابلية طبيعية وثقافية وسياسية

-التذكير بهذه الحقيقة أمر لا يخلو من أهمية

إن أهم العواصم الأوروبية لا تبعد عن العاصمة المغربية إلا ببضع ساعات من السفر جوا.

وفي عصر أصبح يشكل فيه تنقل الناس والأفكار شرطا لازما لابتكار فرص شتى للتطور والتقدم في مختلف الميادين، تفرض قابلية التواصل نفسها باعتبارها ضرورة ملحة. وهذا يصدق على جميع قطاعات الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

ويعتبر الموقع الجغرافي في حد ذاته مدعاة لقيام تواصل متعدد اللغات. فقد كان التواصل متعدد اللغات على الدوام، كما أنه لا زال كذلك. وفي المغرب تتكلم لغتا تواصل كبيرتين هما الفرنسية والإسبانية[15]. وبما أن هاتين الأخيرتين هما أيضا لغتا تقارب جغرافي وتاريخي بالنسبة للمغرب، فإن التمكن من امتلاكهما يعتبر أيضا أمر جد محفز. واللغة الإنجليزية التي تعد أيضا لغة تقارب وتواصل كبير هي ثالث لغة متكلمة في المغرب. والجميع متفق اليوم على أن إتقان هذه اللغة هو الشرط الوحيد للقدرة على مواكبة تطور البحث، خاصة إذا علمنا أن المعرفة البشرية تتضاعف مرتين في كل ثلاث سنوات وأن هذه المعرفة تصاغ عموما باللغة الإنجليزية (80% من المبتكرات تتحقق في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها).

ومن جهة أخرى، فقد تم منذ سنة 1971 تسجيل اختيار التعدد اللغوي، هذا في برنامج مجلس أوروبا باعتباره «مفتاحا لكل تعاون أوروبي»[16]. وفي السنوات الأخيرة تم، في إطار التهيئ لحلول عام 1993، وضع برامج إدماج لغوي هامة (مثل الـ ERASMUS، والـCOMET، والـ LINGUA) لكي تتيح للمواطنين الأوروبيين أن يمارسوا كفاءاتهم المهنية في بلدان (أوروبية) أخرى غير بلدان انتمائهم، وذلك بالضيط من خلال جعلهم قادرين على التحدث بلغة البلد المضيف وفهم مؤسساته والتطبع بثقافته المحلية، و-باختصار- جعلهم قادرين على الإدماج في نمط حياته دون معاناة كبير مشقة.

يهدف التعدد اللغوي في أوروبا أيضا إلى تقليص تأثير اللغة الإنجليزية عن طريق ترقية لغات أوروبية أخرى. نحن لسنا ضد الإنجليزية، لكننا ضد «هيمنة الإنجليزية بمفردها»[17]. وضمن هذا المنظور تدخل حركة الفرنكوفونية، لكن مع فارق واحد يتمثل في مون المحادث في تلك الحالة (حالة الفرنكوفونية) هو هذا السوق الرحب الذي يمثله العالم الثالث.

إن خطاب التعدد في المغرب العربي لا يستهدف اللغة الفرنسية في حد ذاتها بقدر ما يستهدف هيمنتها. ومن المهم أن نذكر بهذه الحقيقة حتى نرفع كل لبس بهذا الشأن.

ففي الواقع، يجب أن بميز جيدا بين اللغة الفرنسية وبين الـ «فرنكوفونية». فالأولى ترتبط بثقافة وحضارة وعبقرية وحساسية إبداع أدبي وفني ذي قيمة لا يمكن إنكارها. فهي لغة ساهمت بسخاء كبير في إغناء التراث الثقافي الإنساني. أما الـ «فرنكفونية»، فتميل إلى الإبقاء على ازدواجية لغوية ظرفية، بالإضافة إلى كونها لا يمكن أن تنيط باللغات القومية سوى وظيفة صغرى في وقت يعتبر فيه استعمال اللغات القوية سوى وظيفة صغرى في وقت يعتبر فيه استعمال اللغات ذات التواصل الكبير –وليس ذات التواصل الوحيد- هو الشرط الأول للنهوض باللغة القومية نفسها، وذلك لأكثر من سبب:

-كفاءة ثقافية أولية

حينما نتحدث عن كفاءة ثقافية ومتعددة اللغات، فإننا نقصد بذلك عددا من المتطلبات المسبقة التي بدونها لا يمكن أن تتحقق هذه الكفاءة.

وأول هذه المتطلبات على الإطلاق هو امتلاك كفاءة تواصل (وظيفية تفاعلية، الخ) باللغة العربية. ونحن هنا لا نتبنى تعابير الجدل الثقافي الأخاذ والمشوب بالعاطفة الذي بدأ منذ استقلال هذه البلدان ولازال متواصلا إلى أيامنا هذه[18].

سنكتفي بالتذكير بالمبدأ الأساسي في هذا الجدل: لا يمكن للمغاربي أن يحقق ذاته (هوية وأصالة وتقدما) إلا داخل اللغة العربية وبها[19].

في هذه الحالة لا يجب أن يكبح التعدد اللغوي اللغة العربية، بل على العكس من ذلك فتعلم بعض اللغات الأجنبية وإتقان أخرى سيتم انطلاقا من (trans à partir de, au délà ) امتلاك اللغة العربية وإتقانها[20].

-تعدد لغوي أولي من ازدواجية لغوية

في هذا المنظور، نحن نتحدث عن تعدد لغوي ولا نتحدث بتاتا عن ازدواجية لغوية. والأمر هنا لا يتعلق إطلاقا بإقامة رباعية لغوية (Tétraglossie) أو بتنضيد عدة لغات، بقدر ما يتعلق بإعداد استراتيجية من أجل ترقية لغات أجنبية بالترابط مع غايات تقدم المغرب العربي، استراتيجية تحدد أدوار كل لغة ووظائفها آخذة بعين الاعتبار المكتسبات التي تم تحقيقها *وهي هامة في الفرنسية والإسبانية- وتحسينها حيث يجب تحسينها، ومنظمة لبنيات تعلم ما قبل- مدرسية أفضل ومتواصلة، ووظيفية مباشرة فيما يخص اللغة الإنجليزية بوجه خاص.

على سبيل المثال، نعرف أن الكفاءة المهنية في مدارس التكوين التقني تتم باللغة الفرنسية في الوقت الراهن. وسيكون من المناسب إدخال الخطاب الديداكتيكي في هذا التكوين العلمي والتكنولوجي. ونظرا لأنه يبدو أن هذه البيداغوجيا هي التي تدير التكنولوجيا المدمجة، كما أنها تبتكر أيضا موقفا جمعويا (Attitude sociétale) نفعيا، فيجب أن يكون هذا مدعاة لحث المغرب العربي على جمع المكونات الملائمة لتشكيل هذه البيداغوجية (بحث-فعل) وتطبيقها (منهجيات ولوجيستيكيات) وما يتبعها من تكوين مستمر في الإدارات والمقاولات، وتقويم النتائج، الخ.

-مكسب هام

من المعلوم أن عملية التعريب في المغرب قد اجتازت إلى اليوم مراحل هامة، طبعا مع معرفة المشاكل الموضوعية التي لا يمكن أن تخلو منها كل عملية في مثل هذه الأهمية. لقد بدأت هذه العملية سنة 1965 بتعريب الابتدائي، وهي تغطي في الوقت الراهن مجموع التعليم الأساسي والثانوي. وهو أمر هام. وبما أن الاكتفاء الذاتي غير موجود في حقل التربية، فإنه من المناسب إضافة أن وضع مسار العملية نصب العين يبقى أمرا من الواجب إنجازه.

ومنذ الأيام الدراسية حول تحسين مستوى اللغات (4،5 و6 يناير 1989) والأيام الدراسية حول إدماج الجامعة في محيطها الاجتماعي، تم اتخاذ إجراءات هامة من أجل مقاربة جديدة ليس في مادة السياسة فحسب (يراجع بهذا الصدد جميع التعديلات التي تم إحداثها على مستوى برامج وساعات تعليم اللغات) لكن أيضا في مجال إضفاء الطابع الوظيفي على المحتويات والتكوينات الجامعية. والتأمل المتعلق بهذا المجال متواصل، لكنه لا يخلو هو الآخر من مشاكل بنيوية جدية مترتبة أساسا عن صعوبة التحلل بسهولة من إرث (يعود إلى حقب ما قبل الاستقلال) موغل في الأكاديمية والتنظير فضلا عن كونه مكلف جدا وضعيف المردودية[21].

تتصل كل سياسة لغوية بأي أمة من الأمم بـ «حقل تاريخية (Historicité) » هذه الأمة، وبشكل مباشر (أ.توران). كما تتفرع عن مجموعة من القيم من الأصناف: أخلاقية، دينية، الخ). وتوجه طوعا نحو تحقيق أهداف التقدم. ولذلك، فإن وضع تلك السياسة لا يتطلب عددا من الحلول ذات طبيعية تقنية، وإنما يقتضي –أكثر من ذلك- إقامة إطار سوسيو-اقتصادي يضفي قيمة على كل من الإبداعية والتعبير الديموقراطي والتكافل الوطني.

وفي المغرب لا تحتاج الإرادة السياسية والحوار والمشاركة الحرة والديمقراطية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية في جميع الميادين لا يحتاج كل ذلك إلى برهنة. فقد صار واقعا يوميا، الأمر الذي جعل –ولازال يجعل- التصديقية تعود في بعض اللحظات الحرجة من التاريخ الحديث ليس للمغرب فحسب، وإنما للمغرب العربي وللعالم العربي لأن المغرب يشكل جزءا منه.

ودون أن ندعي وضع قائمة لشروط تحقيق هذه الكفاءة عبر الثقافية ومتعددة اللغات، فإننا نقترح فيما يلي بعض الأفكار التي تبقى بلا شك في حاجة إلى تأسيس وتطوير أو تهذيب على مستوى بلدان المغرب العربي مع مراعاة خصوصية كل بلد وحالة تقدم هذا التأمل فيه:

-ضرورة تأسيس تعاون مبنين متميز بين بلدان المغرب العربي بقصد إعداد سياسة لغوية إرادية وموجهة. وبهذا الصدد، فإن تجربة المجلس الوطني للشباب والمستقبل –رغم كون هذا المجلس يظل من طبيعة مختلفة –تعتبر تجربة بناءة فيما يخص المجلس نمط في التفكير والتواصل والتبادل المثمر بين القوى الحية بمختلف هذه الدول.

-ضرورة تأسيس محيط مؤسساتي ومادي ملائم للبحث في هذا المجال على مستوى النظام التربوي وشروط تحقيق غاياته.

-ضرورة إقامة نظام للتواصل وتنقل الخبرات باعتباره أداة وظيفية لاتخاذ القرارات في مختلف القطاعات وليس باعتباره مجرد مناوبة عن بعد من نقطة عقدية خارجية تخضع هذا الخبر للاستهلاك فقط. إذن، يجب تأسيس مكان لإدارة الخبر من أجل تملكه: فمن شأن الترجمة لفائدة إغناء اللغة العربية أن تكون مثالا لهذه الإدارة الوظيفية والمدمجة. وربما استطاع هذا النظام أن يشمل إدارات التعريب ومراكز ومؤسسات إعداد البرامج والتعليمات الرسمية والكتب المدرسية علاوة على الديداكتيكيات المتعلقة بالقطاع الخاص، الخ. أخيرا يجب على التحديد أن يكون مبعثا في المعيش اليومي.

خلاصة

إن وعينا الحاد بأهمية هذه المسألة وبوقعها الاستراتيجي في إشكالية التقدم هو عذرنا الوحيد في محاولتنا إجراء مقاربة إجمالية مرتبطة بالنسق في كليته، ومن ثمة إجراء مقاربة استقبالية لواقع نحس أننا معنيين به يوميا. لا يمكننا ادعاء اتصاف دراستنا بالموضوعية الكاملة. لكن هل توجد هذه الموضوعية فعلا خارج المختبرات، بل حتى من جانب هذه المختبرات؟

نتيجة لما سبق، فطرحنا لا يعدو مجرد إثارة عدد من التساؤلات حول الأفكار التي نقترحها، وذلك من أجل تقديم النفعية لهذا المشكل.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

هوامـــش

[1] -فيما يخص الإشارات والإحصائية، لقد استقينا معلوماتنا من مجموعة من المقالات التي ظهرت حول المسألة في الصحف وكذلك –

بل وأساسا- من دراسة المهدي المنجرة: القمة الفرنكوفونية الأولى: أداة للعلاقات الدولية؟

Le premier sommet de francophonie : instrument de relation internationales ?

(79-29. صص) سليمان الشيخي، المهدي المنجرة بكار توزاني، المغرب العربي والفرنكوفونية، باريس، 1988، 86 ص(بالفرنسية).

[2] -الـ (U.A.M): الاتحاد الإفريقي والملغاشي (1961).

الـ (O.C.A.M): المنظمة المشتركة الإفريقية الملغاشية (1965).

الـ (A.C.C.T): وكالة التعاون الثقافي والتقني (1970).

[3] -المرجع السابق، ص. 30.

[4] -ليست الإحصائيات في هذه الدراسة غاية في حد ذاتها بقدر ما هي وسيلة لصياغة مجموعة من الفرضيات المؤشرة على الطرق الواجب استشرافها على مستوى تعليم اللغات الأجنبية في المغرب، وذلك في سبيل مردودية أفضل للنام التعليمي، لاسيما وأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تتحقق إلا بسياسة غانية وملائمة.

[5] -Xavier DENIAN, La Francophonie, Collection « Que sais –je ? », Paris, P.U.F., 1983, p.19.

[6] -Slimane CHIKH , «L”Algérie face à la Francophonie », in Maghreb et francophonie, ouvrage collection , Collection Coopération Economica, Paris, 1988.

[7] -Mahdi EL MANJRA, « Le premier sommet francophone : instrument de relation internationales ? ». Ibid., p. 29.

[8] -SLIMANE CHIKHH, id, Ibid.

[9] -الاتباع أو التتبيع: جعل بلد تابعا لبلد آخر (المترجم).

[10] -ومن العجيب أن العقلية المنحدرة منه تذكر بالعقلية التي أقرها الظهير البربري على الرغم من أن الخطاب الذي تركن إليه هو خطاب مختلف طبعا.

[11] -على سبيل المثال ستريح مكاتب التبادلات اللغوية والتربوية للمصلحة الثقافية للسفارة الفرنسية بكثرة وبفعالية لو أعدت تصورا لمقررات التعليم والتكوين البيلغوي (عربية

[12] -بخصوص الجزائر انظر 12 .p. en texte Officiels..Comité central”” انظر أيضا نصوص إصلاح التعليم الذي جرى سنة 1971، والذي أوصى بالتعريب التدريجي لشعب العلوم الاجتماعية. كذلك، في سنة 1976 تم تشكيل لجنة وطنية للتعريب (صص. 11 –15 من م.س) وانظر أيضا القرارات التي اتخذتها الحكومة الجزائرية لفائدة استعمال مكثف ومعمم للغة العربية، وهي قرارات تعرضت –مع ذلك- لانتقادات قوية من طرف أنصار الازدواجية اللغوية في بلدان المغرب العربي.

[13] -Jerry POCSTAR, Analyse systémique de l’éducation, Collection S.E. ? paris, les éditions E.S.F., 1989, 205p.

[14] -Louis D’HAINANT, Des Fins aux objectifs, Bruselles, Labor Nathan, 1985.

[15] -حوالي عام 2030 ستحل اللغة الإسبانية محل اللغة الإنجليزية في أمريكا ما دام أن أكثر من نصف الخمسين دولة التي تشكل أمريكا اللاتينية تتبنى في الوقت الراهن اللغة الإسبانية لغة رسمية (انظر المهدي المنجرة، جريدة الاتحاد الاشتراكي ليوم 19 فبراير 1989).

[16] -Denis GIRAND, « L”Europe dans toutes les langues », in le plurilinguisme, Collection le Français dans le monde, Hachette, Fev. Mars 1991, p. 63.

[17] -Daniet COSTE, Jean HERBARD et al, Vers le plurilinguisme, OP. Cité., p. 11.

[18] -EL Mostapha El GHERBI, Aménagement linguistique et Enseignement du Français au Maroc. Enjeux Culturels, Linguistiques et Didactiques, Meknès, la Vois de Meknès, 1993.

[19] -لا ينبغي الخلط بين التنمية والعصرية.

[20] -انظر بهذا الصد جميع الأدبيات الديداكتيكية حول إدماج بيداغوجيات اللغة الأم واللغة الأم واللغات الثانوية منذ بالي إلى الكتابات الحديثة لخبرات مجلس أوروبا.

[21] -المصطفى الغربي، تعليم الفرنسية والإنجليزية في المغرب، 1990، دراسة أنجزت لفائدة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. (انظر ترجمتها في ضمن الكتاب الحالي).

الاخبار العاجلة