الشَّامَانية عندَ هُنود الشَّاكو الأكبـر[1]

2٬037 views مشاهدة
الشَّامَانية عندَ هُنود الشَّاكو الأكبـر[1]
  • ألفـرد ميتـرو

غالبا ما تكون شهرة الشامان نتيجة نداء فوق طبيعي يتجلى عبر لقاء مع أحد الأرواح. وبحسب قول أحد المخبرين الذين التقيت بهم في منطقة الطوبا Toba، فإن الشخص الذي يتجول في الدغل يمكن أن يجد نفسه فجأة وجها لوجه أمام جني مجهول، يكون في الواقع روحا، يسلمه عصا وريشا وهو يقول له: «يمكنك الآن أن تغني. بمجرد ما تعود إلى بيتك غنِّ من أجلي».

كما يمكن للوحي الماورائي أيضا أن يُترجم بارتعاش مزمن يستحوذ على المرشح عندما يكون وحيدا في الغابة. وتلك علامة على كون أحد الأرواح يوجد بداخله. تحت تأثير هذا المس يأخذ الشخص – الذي سيصير شامانا فيما بعد – في تسلق الأشجار وتناول لحوم الطير أو الكلاب طازجة. كما أكد لي المخبر الطوبي نفسه، رغم أني أشك في صدقه، أنه هو نفسه تستحوذ عليه هذه الارتعاشات. وأضاف أن جميع الأشخـاص الذين تستحوذ عليهم الارتعاشات لا يصيرون بالضرورة شامانا، وهو ما يبدو لي أكثر صحة.

من المحتمل أن تكون إوالية النداء الباطني الماورائي واحدة عنـد هنـود

الماطاكو Mataco، رغم غياب الدقة في المعلومات التي تلقيتها بهذا الصدد. فهي معلومات تقتصر على النساء اللواتي لا يصرن شامانا إلا في حالات قليلة جدا. واللواتي يعينهن أحد الأرواح للقيام بهذه المهنة يُعرَفن من خلال تصرفاتهن. فهن يمكثن ساعات كاملة مُقعيات فوق الأرض، يتأرجحن دون توقف. وأخيرا فهن يحاولن الهروب في الدغل بقوة تكون من الشدة بحيث يعسر على جماعة كبيرة من الرجال أن يمسكوهن. فهن يمزقن ثيابهن ويتسلقن الأشجار حيث يمكثن أياما عديدة وهن يغنين ويتأرجحن.

إذا صدقنا الأشخـاص الذين أخبروني من قبائـل الطوبـا والماطاكـو، فإن ما من شخص رغب في الانخراط في مهنة الشامان إلا وأمكنه التهيؤ لذلك عبر اختلاء في الغابة حيث يتيه في مغامرة متعاطيا فيها للـزهد الموصوف أعلاه. بمعنى أنه يتعين على الشامان المرشح أن يتسكع عاريا، ويتأرجح فوق الأشجار ويأكل اللحوم النيئة والكريهة مثل آذان الكلاب، والثعابين والضفادع. يجب عليه أن يخضع لضروب من تقتيل الجَسَد بالتعذيب الذاتي أو بكبح الشهوات إلى أن يحصل على نشيد سحري. وقد زوَّدني شيخ قبيلة الماطاكا المسمى بيدرو، والذي تم اغتياله فيما بعد، حول مسارة[2] الشامان معلومات إن لم تترجم حقيقة الممارسات التي يحترمها ويزاولها الأهالي فهي تترجم على الأقل وصفات مثالية من أجل الحصول على أغاني سحرية. وها هي تلك المعلومات: يجب على الشامان المبتدئ أو المتعلم أن يقتل طيورا بواسطة أغنية شجية، أن يحول الطيور إلى فحم وأن يبتلع مسحوق الفحم هذا ممزوجا بالدم المستخرج من يده. خلال تدريبه داخل الدغل، يؤمَرُ بقرع الطبل وإطلاق ساقيه للـريح. والويل كله لمن يستيقظ قبل أن يُتمَّ الطائرُ نشيده، لأنه إن فعل استحال عليه أن يتذكر النشيد الذي استمع إليه. وأحيانا تلتحق بالغابة جماعات من الشبان كي يحصلوا على نشيد سحري. وفي اليوم الموالي ينشدون بالتناوب الأغنية التي تلقوها أثناء نومهم. وهكذا فهم يرددونها باستمرار على امتداد أيام عديدة خشية نسيانها. ولا أحد يستطيع أن ينشد أغنية تنتسب إلى غيره. وأضاف شيخ القبيلة بيدرو: «إن الطيور التي يراها المرء في الحلم ليست طيورا عادية، بل هي كائنات فوق طبيعية». بعض الأحلام تكون شؤما وتحطم تأثيرات الأحلام سعيدة الطالع. فمثلا، من المشؤوم أن يشاهد المرء في الحلم إغوانة[3]، لأن في ذلك علامة على أنه لن يصير أبدا مغنيا جيدا – أي شامانا جيدا.

وتلتقي أقوال بيدرو مع المعلومات التي جمعها المبشر و. باربروك غروب W. Barbrooke Grubb لدى هنود اللينغوا Lingua. فقد أكدوا له أن الشامان المبتدئ كان يتغذى بالطيور التي نُتِفَ ريشها وهي حية، وذلك لكي يَبتَلع قدراتها الموسيقية.

في جميـع هذه الحكايات، لا يتعلق الأمر بمدرِّب رغم ما ينتابنـا من إحسـاس بأن المرء لا يمكن أن ينال الفن السحري دون توجيه معلم. وقد وصف لي أحد الأشخاص من قبائل الطوبا مشهدا – أكد لي أنه كان شاهدا فيه – يوحي بتدخل معلم صاحب حنكة وتجربة. وقد كان الحفل الذي وصفه لي يهدف إلى تكريس مجموعة من المبتدئين باعتبارهم شامانا. فبعد أن انتهى شامان – يحظى بشهرة – من الرقص والغناء دسَّ في صدر كل مرشح عصا «كانت تغيب في اللحم دون أن تترك أي أثر». وكان المعلم يكرر العملية نفسها بعصا مماثلة لا يعلم أحد من أين كانت تجيء. وقد فُسِّرَ لي أنَّ «تلكَ العصا كانت تَمنَحُ القوة، وأنها تحتوي على الدم لأنَّ المرءَ متَّى عضَّها سال منها دم. وهذه العصا نفسها هي ما يستخلصه الشامان من جسد المرضى الذين يعالجهم». وليس هناك أدنى شك في أن هذه العصا السحرية هي المعادل لبذور الكوارتز، وهي شبه مسامير أو أشواك ينحشي بها شامانُ قبائل الغويا والأمازون ومريدُوهم. وما أن يصير هؤلاء شامانا بقوة القانون، حتى يستعملون هذه الـشظيات التي يحملونها بدواخلهم لتسليط المرض والموت على أعدائهـم.

لا شك أنَّ مرحلة المسارَّة[4] هي الفترة التي يقيم الشامان خلالها علاقة مشاركة روحية مع شجرة غريبة تنبت في جزيرة تتوسط بحيرة عاجَّة بالقواطير[5] والضارات[6]. وقد تحدث لي أشخاص كثيرون من الماكاطا، بمن فيهم شيخ القبيلة بيدرو، عن هذه الشجرة بكلمات غامضة جدا. غير أنهم يتفقون، مع ذلك، في النقط التالية: تأتي الأرواح وتحط كالطيور فوق أغصان هذه الشجرة التي تُخَضُّ خضّاً مستمرا ينشأ عنه وضع خطيرُُ، هو: ويلُُ للروح الذي يسقط في البحيرة، إذ فور سقوطه يتعرضُ للالتهام في رمشة عين. يجتاز الشامان هذا الامتحان بالتحول إلى عظاية[7] أو حيوانات أخرى تسكن الأشجار. وبهذه الهيأة ينجحون في الالتصاق بالشجرة وتجنب السقوط القاتل. وطبيعة العلاقة بين الشجرة والشامان ليست واضحة تماما، غير أني سمعت في مناسبات عديدة أن الشامان ليس له ما يخشاه طالما ظلت هذه الشجرة – أو أحد أغصانها – خضراء. وعندما يرى الشامان في الحلم هذه الشجرة قد تصلبتْ وجفَّتْ، فإنه يَعلم أن أجله قد حـان.

لنقارن الآن هذه المعطيات بالمعلومات التي نتوفر عليها حول التَّرَهـبُن الشاماني في قبائل أخرى من منطقة الشاكو. فعند هنود الكاسكيها Kaskihل (أو الغوانا Guana) الذين يقطنون منطقة الشاكو الواقعة في الباراغواي، يصوم الشامان المبتدئ ما يناهز ثلاثة أشهر. وهذا الاختبار يُقسم إلى فترات متعاقبة من الصوم الكامل تتخللها فترات قصيرة يباح فيها للمرشَّح أن يشرب الماء ويأكل بطاطة حلوة (هاسرل، 1894: 356-367).

لقد ترك لنا رحالة سويسري جدولا أكثر شمولية بصدد مُسَارَّة الشامان الكاسكيها، لكن، للأسف، لا يمكن التحقق من دقته. قد تكون مهنة الشامان وراثية في هذه القبيلة. عندما يصل ابن شامان ما إلى سن تعاطي المهنة العائلية، يبني أبوه كوخا صغيرا، ثمَّ يضع في كل ركن من أركانه أوعية تحتوي على بخور سحرية تتنوع طبيعتها بحسب جهاتها الأصلية. خلال خمسة أيام يكون الكوخ محرما على الجميع، باستثناء الشامان. وفي اليوم الخامس يُساق الشامان المبتدئ إلى داخل الكوخ في غمرة صراخ النساء وزعيقهنَّ. يجد في الوسط وعاءً احتفاليا سبق وأن تعرَّض للتعديل حسب قواعد صارمة جدا. يملؤه الأب بمحتوى الأوعية الأخرى مبتدئا بالوعاء الموجود في الركن المتجه نحو الغرب، وآنذاك يشرب المبتدئ هذه العصيدة المقرفة. وعندما ينتهي، يكسِّرُ أبوه الوعاء فوق رأسه. يمكث المسارُّ عدة أيام معتزلا داخل الكوخ وهو موصدُُ عليه، ويصوم فيه صياما قاسيا. وتكمن قدرة الشامان بالخصوص في لعابه الذي سبق إشباعه بالقوة السحرية للمشروب الذي تناوله خلال مُسارَّتِه. والشامان الذين يسعون إلى التخصص في علاج لسعات الأفاعي يتعين عليهم أن يمتصوا أفاعي ويأكلوا لحومها.

يبدأ تعلم الشامان من أهالي الطيرينو Tereno منذ الطفولة. خلال السنة الأخيرة من خُلوته، يجب عليه أن يمتنع عن أكل اللحم، والشحم، والملح، والمنهيوت[8] والفواكه. وفي يوم معين، ينتزع الأستاذُ من فم الشامان المبتدئ ضفدعة، وثعبانا صغيرا، ورُثيلاء[9] ويقدمها له كي يأكلها. أخيرا يجب على المبتدئ أن يغني ليلة بكاملها إلى أن ينكشف له روح شامان ميت (هـ. أ. راتراي، 1928: 126-127).

نفتقر إلى تفاصيل حول خُلوة الشامـان مبايا Mbayل. إلا أننـا نعـرف،

بفضل سانشر لابرادور (1910-1917، مج. II: 33)، الحفل الذي يطبع نهاية مسارته. عندما كان يُقبَل شامان ما لمزاولة فنه كان جميع زملائه الذين سيصيرون بدورهم شامانا في المستقبل يجتمعون في كوخه حيثُ يقضون الليلة بكاملها وهم يغنون أغنيات خاصة بهذه المناسبة. واليوم الموالي كان يُخَصَّصُ لمباهج وتسليات على نفقة المرشح. وبينما يكون الشامان الآخرون بصدد شرب النبيذ، لا يكف هو عن الغناء بصوت خشخيشته (maraca)[10] ليظهر عِلمَه. ويستمر على هذا النحو إلى صبيحة الغد، مبرهنا على يقظته وعلى جَلَدِه بالخصوص.

[I] نســاءٌ شامــان

نادرا ما صادفتُ نساء شاما خلال رحلاتي في الشاكو الأكبر. حقا لاحظتُ امرأة تقوم بتمريرات سحرية على جسد طفل لدغه ثعبانٌ، لكن العلاج بمعنى الكلمة لم تقم به هي وإنما قام به شامان محترفُُ. وفي كل مرَّة كنتُ أغادر قرية البيلاغا Pilaga للـنزهة، كانت عجوزتان تأتيان للرقص والغناء من حوالي لضمان سعادة حظي. وتشير حالات التجلي فوق الطبيعي التي تعرفها بعض نساء قبيلة الماطاكو إلى أنهن يمكن أن يُدعين لكي يصرن شامانا. غير أنني لم أعرف أبدا نساء ماطاكيات يمارسن الطبّ أو وظيفة أخرى خاصة بالشامان.  غير أن حضارة هؤلاء الهنود توجد في حالة من التقهقر بحيث قد يكون من باب المخاطرة تفسير الماضي بالحاضر.

يحدثنا دوبريوهوفر Dobrizhoffer في مناسبات عديدة عن نساء شامان لدى قدماء الأبيبون Abipon ويصفهن لنا وهنَّ يعملنَ. لكني أعتقدُ أنَّ الأب اليسوعي قد غالى في موضوع الساحرة، لأن اللواتي يعتبرهُنَّ ساحرات يُحتَمَل جدا أن يكنَّ عجائز كان لإنشادهن ورقصهن بالتأكيد أثرٌ علاجي على غرار الممارسات المماثلة التي كانت تتعاطى لها النساء البيلاغيات. وتلك الوظائف لا تعني أن «الساحرات» المزعومات كنَّ شامانا بنفس صفة الرجال. بحسب الشهادة الشفهية لسانشس لابرادور (م. س، مج. II: 32)، فإن الشامانية عند سكان قبائل المايا Maya كان يمارسُها الرجال والنساءُ على حدٍّ سواء. يتحدث هاي (م. س.: 127) عن شامان من الجنسين لدى سكان طورينو Toreno.

[II] مصادر قـدرة الشـامـان

ليُنجز الشامان الماطاكو المهام التي تُطَلبُ منه، فهو يغرقُ في حال عصبي من الـفُتُور أو فرط تناول المنشطات باستخدام مسحوق «الهاطاكس»، وهو عبارة عن سُعُوطٍ تُستَحْضَرُ من مسحوق بذور السَّبخة. طالما يكون فيه تحت تأثير المخدِّرات، يُصْدِرُ أصواتا حادة من صفارة مصنوعة من ساق طائر اليولو عموما. وهو بهذه العملية لا يفصل روحه عن الجسد فحسب، بل ويحولها كذلك إلى طائر يحلق نحو بلاد الأرواح أو نحوالشَّمس.

ويخدُم شامانَ الطوبا رُوحٌ مُساعِدٌ، رغم أنهم قادرون بدورهم على إرسال أرواحهم في مهمة فوق طبيعية. وفي الحقيقة، يكون أحيانا من غير السهل التمييز بين الروح المتحررة من الشامان التي تنجزُ إرادَته والرّوح الخادم الذي يفعل الشيء نفسه، لكنه ينتمي إلى فئة أرواح مختلفة.

أما شامان اللينغوا Lengua، فيأخذون وضعا غير مريح مُثَبِّتِين البصر ساعاتٍ في شيء بعيد، وينتهون بإثارة حالة مغناطيسية يفسرونها باعتبارها تسكعا لأرواحهم.

وليثير الشامان من أهالي الطيرينو أرواحهم المساعدة والتي غالبا ما تتجلى على شكل طيور، فهم يصرفون ليلة بكاملها في صبغ خشخيشاتهم يساعدهم في ذلك آباؤهم.

فـي الشاكـو، كما في مجموع أمريكا الجنوبية الاستوائية تقريبا، تعتـبر

الخشخيشةُ أداةَ الشامان الأولى، وهي مجرد كرنيبة يشكل ساقُها كُمَّها  ويُدخِل فيها الهنود  بذورا تتمتع بخاصيات فوق طبيعية. وتمنحُ الخيُوطُ الحديدية التي تولَجَ بين الجوانب الداخلية من الكرنيبة، هذه الخيوط التي عوضت أشواك الصبار، للصَّوتِ جودة معدنية. يرتدي شامان الماطاكو نوعا من الصَّدرية أو سترة صغيرة مفتوحة من الصوف الأحمر ويضعون فوق رؤوسهم عمامة حمراء  مُزيَّنةٍ بريشٍ من اللون نفسه، والذي يقولون إنه يروق الأرواح ويساعد على جذبها.

[III] وظائــف الشامــان

هُنا أيضا يعدّ التطبيب وظيفة الشامان الأساسية. وعلاج الأمراض هو أساسا كفاحٌ ضد الأرواح التي تبيدُ البشر باختلاس أرواحهم أو حشو أجسادهم بحشرات أو أفاعي أوعسالج[11] من الخشب. ويبدو أن هذه الأشياء المسبِّبَة للمرض ترتكز على تصور يضفي طابعا ماديا على الروح الشرير، وذلك رغم شدة غموض تصورات الهنود بخصوص هذه النقطة. فقد أكَّد لي هنود الماطاكو والطوبا في مناسبات عديدة، أنَّه متى لدَغ ثعبانٌ شخصا مَّا، ولجَتْ روحُ الثعبان جسد الضحية وتحولت بداخله إلى ثعبان، وأنه يتعين على الشامان، كي يشفي مريضه، أن يستخلص بالمصِّ عظامَ الثعبان وأحشاءه.

وبذلك تتعايشُ نظريتا المرض الموجودة في أساس الممارسات الأكثر شيوعا لدى الشامانية الأمريكية الجنوبية. تتعايشُ في الشاكو، كما في عدد من القبائل الأمريكية الجنوبية. وتناقضهما لا يشعر به بتاتا الهنود الذين يزاوجون في الحصة العلاجية الواحدة بينَ ملاحقة الروح المفقودة واستخلاص الشظايا السحرية التي أصابت المريض. والعلاجاتُ السحرية لدى الماطاكو  بالخصوص مُعقَّدَة، رغم صعوبة الحسم في ما إذا كان الأمر يتعلق بِطَيرةٍ خاصَّة بهـذه القبيلـة أم أنَّ غياب الملاحظة المفصَّلة في جماعات أخرى يخلـق

وهم الاعتقاد ببساطة طقوسية كبيرة جدا.

يمكن للمريض من الماطاكو أن يتلقى علاجا على التوالي من قبل شامان عديدين أو من قبل شامان واحد تساعده جماعة من الأعوان. وكل الذين يشاركون في الحفل الطقوسي، بما فيهم المريض، يعصبون رؤوسهم بوضع عُصابات على الجبين حمراء اللون مُزركشة بأسطوانات مَحارية، ويرتدون صدريات من البونشو[12] حمراء أو ذات لون آخر ساطع. وهذه الحلة الجميلة تروق روح المرض، ويمكن أن تجعله أكثر تساهلا. ويربط مساعدو الشَّامان أنفسهم بالحزام وبأوتاد الخشخيشات التي صارت اليوم معدنية وبالأمس كانت تصنع من حوافر الأيليات والتابير[13]. يكون المريض في أغلب الأحيان جالسا أو نائما تحت خيمة قرب سارية تزينها أحزمـة وتعتليها راية. كل هذه الممتلكـات الثمينة جدا تُنشر فوق الأرض رفقـة الطعام في الغالب. وأحيانا يحيط حاجزٌ بالمكان الذي يجري فيه الطقس العلاجي.

يتمثَّلُ العلاج بمعنى الكلمة في رقصة يقوم بها كل من الشامان ومساعدوه والمريض إذا سمحت له حالته الصحية بالمشاركة في الرقص. والضجيج الذي يحدثونه يكتسي أهمية قصوى في العلاج. بل إن المريض نفسه غالبا ما يزوَّدُ بناقوسٍ يحَثُّ على استعماله. أحيانا، يدنو الشامان منه ويـصبغ خشخيشاته على امتداد جسده. وبحسب ما قاله لي الهنود، فإنَّ الرقصَ يُرغم روحَ المرض على الالتحاق بالراقصين ومشاركتهم رقصهم، فيفعلُ فينهكه عنفُ هذا التمرين وينتهي بطلب العفو.

ثمة طقوس أخرى لا تُفَسَّر إلا باعتبارها عمليات تطهير للمريض من الجراثيم. يُجَرَّد من ملابسه التي تنقَلُ إلى مكان بعيد، فتُنفَض وبالتالي يسقط منها المبدأ المؤذي العالق بها. وفي بعض الحالات، يُغسَلُ المريضُ بماء فاتر. وفي لحظة معينة من العلاج، تقع عموما في النهاية، ينفث شَامَانٌ في مريضه جُهْدَ ما استطاع. وفي نهاية الحصة العلاجية، يُطهِّرُ الأشياءَ المنشورة في الهواء الطلق. ولهذه الغاية يندسّ تحت الغطاء وينفث في هذه الأسقاط. وتعتبر هذه الـتزيينات، وأشياء أخرى ثمينة، هدايا مُقَدَّمة للمَرَض مُجاملة له بقدر ما تعَدُّ موجهة لروح الشر كي يكتفي بظل الأشياء. (ص. 111-112). يكفي أن يُشتِّت نَفَسُ الشامان الفوَحانات[14] النحيسة المحيطة بالأشياء فيصيرُ باستطاعة مالك هذه الأشياء أن يستعملها من جديد. أما الأطعمة التي تدخل ضمن «الهدايا»، فيستمتع بها الشامان وخُدَّامه بعد أن يطهروها من نَفَسِهم.

يَسود الإيمانُ بفعالية هذه الظواهر الأرواحية أيضا بين أهالي الطوبا. فخلال جلسةٍ لعلاج طفل لسعه ثعبان حضَرتُها، وَضعَ أحد الحاضرين عقداً على المريض إرضاء لروح الثعبان الذي اعتُقِدَ أنه قد استحوذ على روح الطفل. كان الشامان ينشد عزائم على مسمع المريض حثا للروح على الخروج. وكان يتوقف عن الغناء كي ينفث في يديه وبُوَيقٍ صغير، ومن حين لآخر كان يمص بقوة عنيفة مختلفَ أجزاء جسم الطفل المريض. كان يبحث بيديه عن أجزاء المخاط التي يزعم أنها كانت شذرات من الثعبان.

عندما ينتهى شامان من قبيلة اللينغوا امتصاصاته ونفثه، يُعلنُ طردَ الروح الشـريـر مغنيـا، ثم يـدعـو روح المريـض للعـودة إلى جسدهـا، مَازجا بذلك عـلاج التدخُّل بفقدان الروح.

إذا كان هروبُ الروح يعدُّ، حسب تشخيص الشامان، سببَ المرض الذي يتعين عليه علاجه، فإن الشامان يُرْسِلُ روحه بحثا عن روح المريض ويحاول اكتشاف المكان الذي أخفاها فيه الروحُ المُغتَصِب. يخلصها، ثم يعيدها إلى غشائها الجسدي.

يعالـج شامـان قبيلـة المبايـا المرضى داخل تحويطة مصنوعة من حصـر

نسيج قَصبي، لا يستطيع أي شخص ولوجها خشية أن يفقد بصره، بل وأن يتعرض حتى للموت. هناك يمكث الشامان قرب مريضه وينشد بدون توقف مرفوقا بدقات خشخيشته. خلال فترات الصمت تذهب روحه إلى المقابر كي تعيد منها الروح المتسكعة. ومهما تكن نتيجة عمليات البحث هذه، فإنها لا تكفي – فيما يبدو – لضمان شفاء المريض، ذلك أنه يتعين على الشامان، إضافـة إلـى ما سبـق، أن يدلك جسـد المريض بـ أصابعه ويمصه ليقتلع من بدنه مواد ممرضة مختلفة ثم يدفنها بسرعة.

لدى أهالي التوميريها Tumerehم، يعالج الشامانُ المريضَ بأنْ يَبصق في يديه ويمسدَ أعضاءه المريضة. على غرار علاجات أهالي الماكاطو Macato يرافق العلاجات التوميريهية رقصٌ وغناءٌ يقلد سلوك حيوانات أو يقلد الشياطين الحيوانية بكيفية أدق (بالدوس، هــ.، 1931: 80).

[VI] وظائـف أخـرى يؤديهـا الشـامــان

رغم أنَّ ممارسة الطب تشكل الوظيفة العامة التي يؤديها الشامان، فهي مع ذلك لا تشكل نشاطه الوحيد، إذ يمكنه أن يبعد كل شر يتربص بعشيرته. وعندما تشعر جماعة من الهنود بالقلق، فإن الشامان ينشغل لذلك كثيرا، فيسعى لطمأنة ذويه، ويقضي الليلة بكاملها وهو يصبغ خشخيشته ويغني عزائم طاردة للأرواح الشريرة. وقد لاحظتُ كثيرا هذه الطقوس الليلية خلال الوباء الكبير للجدري الذي اجتاح أهالي البيلاغا Pilaga في عامي 1932-1933. ويصف لنا مارتان دوبريزهوفر Dobrizhofer مشاهد مماثلة لدى قدماء أهالي الأبيبون Abipon. فعندما كان يلم بالجماعة مُصابٌ، كانت النساء الشامان تجتمعن داخل كوخ حيث يمكثن الليلة بكاملها وهن يقرعن الطبول وينشدن عزائم مرفوقة بإحدى الرَّقصات.

كـل شامـان الشاكو يقومون بطقـوس الاستسقاء. وعند قدماء المبايا واللـول Lule، كما عند الماطاكو، كان الشامان يرسلون أرواحهم بحثا عن المطر. ولم يكونوا يترددون في تحدي العاصفة، كما يشهد بذلك شامان المالايا الذين كانوا يلجؤون لدق خشخيشاتهم وإرسال صفير في اتجاه السحب كي يتبدَّد الإعصار..

يُسْدِي الشامان خدمات لعشيرتهم بالتنبؤ بالمستقبل. وتتأتى له هذه المعرفة بالغيب عبر إرسال روحه إلى الشمس التي تعرف وترى كل شيء. والرحلة لا تخلو من مخاطر، ذلك أن الشمس كانيبالية[15] كبيرة تكره الإزعاج. وهي تنصب حواجز وعراقيل في الطريق المؤدي إليها. وبذلك يتعين على روح الساحر أن تقوَى على الحفاظ على توازنها في مساحة لزِجَة، وتمرَّ بين عارضتين متلاطمتين، وتنفذ من حاجز شائك قبل أن تتمكن من الدنو من الشمس. إذا كان الشامان ماهرا، تحوَّلَ على التوالي إلى قطعة شمع كي يجتاز المساحة اللزجة، وإلى طائر كي يحلق بين العارضتين، ثم إلى قارِضٍ كي يشق لنفسه طريقا تحت حاجز الأشواك. وقليلون هم أولئك الذين يجتازون جميع هذه الامتحانات، وفخاخ الشمس تسقط في كل يوم ضحايـا يتعرّضـون للالتهام. لكن متى تغلب الشامان على جميع هذه الصعـاب صارَ بوسعه ألا يخشى أي شيء من الشمس.

يلجأ الشامان أيضا إلى الطريقة العتيقة جدا وهي طريقة إجراء حوار مع الروح المسؤول عن المرض، فيندسون تحت الغطاء، و يخضون خشخيشاتهم، وينشدون إلى أن يستحوذ عليهم الروح. وتسمع جماعة الحاضرين، من مسافة محتَرَمة، المحادثة الجارية بين شامانهم والروح الذي يتميز صوته برنة حادة.

كان الشامان في القديم يقدمون مساعداتهم للغزوات العسكرية، لكن هذه الوظيفة تلاشت اليوم مع حروب القبائل فيما بينها. عند قدماء المبايا والأبيبون، وهما العشيرتان الأكثر حُبَّا للحرب في الشاكو، كان حضور الشامان يُعَدُّ أساسيا للانتصار في معركة ما. إذ كانوا يصنعون عدة حجب وطلاسم موجهة لتجسيد الخصم وتحطيم قوَّته.

كانت حظوة الشامان – ولازالت – ملحوظة. يُخشى منهم لأنهم – فيما يُعرَف – قادرون على تسليط المرض والموت. ليس من النادر أن يتحول شامان ذو تأثير ونفوذ إلى رئيس جماعته، على غرار ما لاحظتُ لدى أهالي البيلاغا حيثُ كان بنجامين يُعَدُّ أقوى شخص بعد شيخ القبيلة لاغاديك Lagadic، وكان بنجامين هذا شامانا يحظى بشهرة كبيرة. وبعد مقتل لاغاديك على يد أعوانه، تقلد [بنجاميين] رئاسة قبيلته. كان مُهاب الجانب ولا يحبه الناس إلا قليلا. وكان يبرر سلطته مؤكدا للناس أن صلواته – أي أعماله السحـرية – ضرورية لإسعادهم، وأن خلاصهم يتوقف على قدرته السِّحرية.

لا يتردد بعض الشامان في التعاطي لسائر ضروب الحيل لمضاعفة حظوتهم. ويقدم لنا غروب (1913: 156) بعض الأمثلة عن شعوذتهم. فقد كان أحد الشامان من قبيلة اللينغوا يؤكد أنه قادر على أكل حُديبة[16] تُسَبِّبُ مرض السُّلّ دون أن يتعرض لعواقب وخيمة من جراء ذلك. وكان شامان آخر يوهم الهنود بأن بذور القرع الكبير التي يلقيها فوق الأرض تتحول في رمشة عين إلى فواكه طيبة ناضجة. وكان الشامان من أهالي الطيرينو يوهِمون بأنهم ينتزعون ريشا من أنوفهم، ويبتلعون رماحا ويبترون أعضاءهم بمحض إرادتهم ثم يعيدونها إلى ما كانت عليه. ويمشي شامان الماطاكو فوق جمر مشتعل، في ما يبدو، دون أن يعانوا من الحروق.

[V] مكافآت الشـَّامَـان

هنا، كما في أماكن أخرى، تُدرّ المهنة على الشامان أرباحا طائلة لأنَّ العلاجات ليست مجانية. يبرر شامان الطوبا إلحاحهم على نيل مقابل بذريعة أنهم لو أبدَوا زُهدا لألحقت الأرواحُ عقابا بهم وبمرضاهم على السواء. ويقال إن شامان الأبيبون كانوا في قبيلتهم أغنى من مَلك الخيول وممتلكاتٍ أخرى.

[VI] السحـر الأســود

يمكن للساحر نفسه الذي يُدعَى لعلاج مريضٍ مَّا أن يتحول إلى كائن مخيف وشرير. وليحطم الشامان ضحاياهم، فهم يسلطون عليهم سهاما سحرية يوجهونها بواسطة طلسم. كما يختلون في جمعياتهم التي يتعاطون فيها ممارسات سحر المحاكاة والسحر المعدي من النوع الشائع.

لازال أهالي الطوبا يعتقدون أن الشامان منهم يملكون قدرة التحول إلى فهود. هكذا فمنذ وقت ليس بطويل، كان هندي من بعثة الـ Sombrero Negro يُغَذِّي اعتراضا خطيرا ضد أحد القواد، كان يصبغ جسده بخطوط سوداء، ويردد داخل كوخه وهو يقفز: «إنَّني فهدٌ». ومثل هذه المشاهد كانت شائعة بين قدماء  هنود الأبيبون، كما وصفها لنا بدقة كبيرة دوبريزهوفر (1822، مج. II: 7).

خـلاصــات

تقدم لنا الظواهر التي لخصناها هنا، وهي ظواهر بعضها مستمد من ملاحظات شخصية وبعضها الآخر مستمد من أدبيات الموضوع، تقدم لنا صورة للشامان في قبائل الشاكو لا تختلف إلا قليلا عن نظيرتها في المناطق الاستوائية من القارة. ونداؤه ذو صبغة فوق طبيعية، لكنه يمكن أن يثيره بزهده. وتكمن قدرة الشامان في امتلاكه نشيدا، يوحي به إليه روحٌ، هو ثمرة للعلاقة التي يقيمها مع الأرواح. وظيفته الأساسية هي علاج المرضى، ويؤدِّيها بالنفث في المريض ومص جسده. وللعلاج عند هنود الماطاكو طبيعة احتفالية، يشارك فيه عددٌ غفيرٌ من الشامان، ويُرفَقُ بالرقص والطقوس التطهيرية. ويلج شامان قبيلتي الماكاطو واللول حالات ذهولية انتشائية خفيفة عن طريق استنشاق سعوط مسحوق بذور السَّبخَة. وبما أن المرض ينجم عن فقدان الروح، فإن الشامان يسافر بحثا عنها ثم يعيدها إلى جسد المريض.

كما يسهر الشامان على صحة الجماعة، ويصرفون عنها الشرور والحوادث المتربصة بها، ويضمنون النصر في الحروب. بالإضافة إلى ذلك، فهم يملكون القدرة على علم الغيب، إما باستشارة الشمس أو باستدعاء روحهم المألوف. وباختصار، لقد كان الشامان، باعتباره طبيبا مستشارا ومرشدا، الشخصية الأكثر تأثيرا في جماعته ومن شأن اختفائه أن يعجل بانهيار جماعتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامـش والمــراجـع

Grubb, W. Barbrooke.

                   1913, An unknoun people in an unknown land…, Londres.

Baldus, Herbert,

                   1931, Indianerstudien im nordِstlichen Chaco, Leipzig.

Hassler, Emil.

                   1894, Die Bewohner des Gran Chaco, Paraguay, Memoirs of the International Congress of anthropology, Chicago.

Hay, Alexander Rattray,

                   1928, The Indians of South America and the Gospel, New York.

Sanchezi Labrador, José,

                   1910-1917, El Paraguay calَlico, (3 vol.),  vol. II, Buenos Aires.

Dobrizhoffer, Martin,

1822, An account of the Abipones, an equestrian peopole of Paraguay, Londres.

[1] الشاكو: مساحة شاسعة جدا من أمريكا الجنوبية (علما بأن في أنغولا هي الأخرى منطقة تدعى الشاكو)، تتقاسمها دول بوليفيا، والأرجنتين، والباراغواي، ثم المسكيك. وجميع أسماء الأماكن الواردة في الدراسة تنتمي إلى هذا المجال الجغرافي؛ الطيرينو والتونيريها والماكاطو توجد في البرازيل، والطوبا والبيغالا في الأرجنيتن، والمايا في المسكيك. أما الأبيبون والكاسكيلا (أو الغوانا) فلم نتمكن من تحديد موقعيهما اعتمادا على الخرائط التي تتضمنها موسوعة: Atlas Mondial Encarta 97، ط. 1995-1996.

[2] initiation: سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة جان بران «الرمز والسحر»، المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

[3] عظاية أمريكية عاشبـة. (م).

[4] سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة «الرمز والسحر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي». (م).

[5] جمع قاطور: تمساح أمريكا. (م).

[6] ج. ضارٍ: سمك ضار صغير بجنوبي أمريكا. (م).

[7] جنس حيوانات زحَّافة من فصيلة السَّقَّايات. (م).

[8] المنهيوت: جنس جنيبات يستخرج من جذورها دقيق نشوي (كما سبق شرحها في الهامش 1 من دراسة السحر-الأنثروبوفاجيا…» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

[9] الرثيلاء: جنس عناكب سامة. (م).

[10] سبق شرحها في الهامش رقم 5 في دراسة ساغي وبيولت، «الاعترافات الشيطانية»، المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

[11] جمع عسلوج: غصن دقيق أملس ينتهي غالبا ببرعم ثمري. (م).

[12] البونشو: معطف في أمريكا الجنوبية مصنوع من غطاء مثقوب الوسط لإخراج الرأس. (م).

[13] التابيـر: حيوان أمريكي استوائي شبيه بالخنزير. (م).

[14] ج. فوحان: تبخر غير مرئي وبخاصة رائحة كريهة. (م).

[15] كانيبالية (أو أنثروبوفاجية): آكلة للحوم البشر. (م).

[16] درنة صغيرة قد تحمل جراثيم السل وسواها. (م)

الاخبار العاجلة