أوليڤييه دوڤيل: ما يسمَّى بالطفل الساحر باعتباره وجها للحداثة في إفريقيا / ترجمة: م. أسليـم

1٬118 views مشاهدة
minou
ترجمات
أوليڤييه دوڤيل: ما يسمَّى بالطفل الساحر باعتباره وجها للحداثة في إفريقيا / ترجمة: م. أسليـم

يتناول هذا المقال المشاكل المجتمعية التي يطرحها في شوارع كبريات مدن إفريقيا وجودُ عدد كبير من الأطفال والمراهقين الذين يوصفون بأنهم «سحرة». مصادر عملي هي أولاً ما لاحظته خلال المهمات التي كلفتني بها جمعية سامو[1] الاجتماعية العالمية في اتجاه الشباب المشردين في شوارع باماكو (مالي) أو مدينة پوانت نوار (الكونݣو)، ثم تبادلي المنتظم مع الدكتور أديلين نسيتو A. N’situ، وهو طبيب نفسي للأطفال في كينشاسا (جمهورية الكونݣو الديمقراطية)، وعالم الأنثروپولوجيا جاك لوروا J. le Roy.
أبدأ في المغامرة في شوارع پوانت نوار المحمومة، عند المغيب، يأتي المراهقون، ونادراً الأطفال، بعد مرور الأيام الأولى التي يتم فيها تبادل أولى كلمات الترحيب والاستقبال، ليسرُّون إلي بأنهم أثرياء أو بشكل أدق بأنهم يمتلكون قدرات استثنائية. يقولون، في إثارة جماعية، إنهم قادرون على الطيران ليلا، والذهاب إلى المقابر لإيقاظ الموتى والتهام أرواحهم والاستحواذ عليها، وأنهم قادرون على التحول إلى حيوانات غير محددة، وإلى أجساد هجينة، مصنوعة من قطع وبقايا أجساد بشرية وحيوانية، تنبعث منها رائحة جثة تخيف أولئك الذين يلمسونهم بأجنحتهم الكئيبة (Douville, 2014; N’Situ, Le Roy, 2015). يُفهم هنا ابتكار حديث لثقافة الشوارع، وطرق في القول والتحدث، تقول، بطريقة لا تخلو من مزايدة، جانبها العكسي، وهو: تفكك الديون وأنظمة تسجيل الشباب في الأنساب العرفية.
والحربُ الأهلية التي تجعل من غير الواضح التمييز بين الآخر الخيّر والآخر المعادي، الحليف والعدو، لا تزالُ تسمم الحياة الاجتماعية في مدينتي پوانت نوار وكينشاسا. لا أحد متيقن حتى الآن من قدرة الجار – أو حتى بعض أفراد الأسرة – على التفاوض أو ارتكاب جريمة أثناء الحرب. عاد السلام، يسود انعدام الثقة. والأطفال والمراهقون الذين يظهرون، والذين ربما تم تجنيدهم، حسب البعض، في نزاعات مسلحة، يمثلون من خلال جانبهم الحقيقي كل ما تُركَ جانبا لكي يشتغل ما يشبه الرابط الاجتماعي أو الأسري (Cohn et coll., 1994; Degorge, Douville, 2012; Douville, 2014). إنهم التذكير الحي بالعنف والخيانة والموت الوحشي، وهو تذكير لا يُطاق.

كيف وجد هؤلاء الشباب أنفسهم يوصفون على هذا النحو؟
تفرض الإجابة على مثل هذا السؤال توضيح ثلاث حقائق:
أولا، تجدر الإشارة إلى أن تفكك ما يسمى بأشكال التضامن التقليدية يؤدي إلى اضطراب عام في أنظمة الهبة والديون والتبادلات والمعاملة بالمثل.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نكتفي بمثل هذا التفسير. فبلدا الكونݣو معا، شأنهما شأن معظم البلدان، عالقان في آثار العولمة وتوسع السوق، وقدرة السلطة على أن تحوز لنفسها بالنيابة ما يتم اعتبارهُ غالبا مثالا أعلى يعدل بشكل كبير كل ما يتعلق بالسحر وبعلاجه التقليدي. السحر وشفاؤه التقليدي. ولنذكر هنا الأعمال الأخيرة التي قام بها تشارلز هنري پراديل دي لاتور (2014) P. de Latour. Ch. H. ففي دراسته الموثقة التي أجريت منطقيا حول السحر في البيئة الباميليكية[2]، أكد بوضوح حقيقة أن شفاءَ الشخص الذي يُشار إليه بأنه ساحر يتم بتغيير في الخطاب وإعادة إدماج «المريض» في خطاب الدَّيْن. لا يمكن أن تحدث هذه الآلية العبقرية لتناوب الخطاب إلا في عالم يتسم بالعقلانية التقليدية، وليس في عالم تصيبه تأثيرات عولمة الآليات النيوليبرالية. فلننظر إذن في هاتين الحركتين الضخمتين ليس فقط باعتبارهما عالمين تتفكك فيهما التقاليد القديمة الجيدة التي كانت سائدة بالأمس، ولكن باعتبارهما عالما يبتكر ثقافة جديدة، عنيفة بالتأكيد في العديد من الجوانب، من أجل دمج ضرورات السوق.
وأخيرًا، فإن هذه المدن عبارة عن مسارح حضرية ضخمة يلعب فيها الأطفال والمراهقون دورا رائدا هو أبعد ما يكون عما عليه الأمر في الأدغال أو في الشجيرات أو القرى (de Boeck, 2000 ; N’Situ, Le Roy, 2015). والشباب فاعلون اجتماعيون غير مسبوقين. لا يمكن اختصار استكشاف شوارع كينشاسا أو پوانت نوار إلى نزهة في سرير احتضار الرابط الاجتماعي. هناك ثقافة شوارع آخذة في الظهور يلفت انتباهنا منها بالخصوص الشباب الذين يُوصفون بالسحرة. يمكن تأريخ ظهور الطفل أو المراهق «غير المؤهل بشكل تقليدي» في المدينة، وتحديدا في كينشاسا. فهي بالفعل غنية بهذا الانطباع بالظهور الفاضح الذي يتزامن مع الملحمة الناشئة. ففي عام 1997، استولى كابيلا على الحكم، مع جنوده ومرتزقته وأتباعه. ومن بينهم عدد لا يحصى من الأطفال (بعضهم تحت سن 10) والمراهقين، مسلحين، محتفلين، وقحين وخطيرين. وكان بعضهم عائدين من لواندا، ومن أنݣولا حيث نهبوا وقَتلوا ومات العديد منهم جراء المرض أو الإصابة بجروح. وسرعان ما انتشرت شائعة كبرى في الشارع جعلت من هؤلاء الشباب يوصفون بأنهم «Bana-Luanda» (أطفال لواندا). وفي وقت لاحق، سيُطلق اسم السحرة على بعضهم الذين ظلوا تائهين وضائعين في المدينة، وهو مصطلح مخيف سيتخذونه لأنفسهم، قالبين وصمة العار إلى شعار. هؤلاء المقاتلون الشباب والضائعون، ماذا وجدوا في لواندا؟ ما الكنز الذي احتفظوا به من حربهم؟ قطع ماس، ودولارات أمريكية، ليس بكمية كبيرة بالتأكيد، لكن الصورة كانت قوية. قيم جديدة تفرض نفسها في المدينة، وهي قيم لم تعد تنتج عن «العمل»، بل عن طريق النهب. إذا كان منتوج العمل الزائد في العالم التقليدي يُخزَّنُ باعتباره احتياطيا أو من أجل التضحية به، ففي هذا العالم الثاني من الحداثة العنيفة الذي ينتشر بسرعة عالية في هذه المناطق الإفريقية، يتم الحفاظ على المنتج الزائد باعتباره علامة على تمتع ذاتٍ يضفي عليها شرعية. يتم اختزال الأنا الأعلى هنا إلى لبِّها الذي يأمر بالتمتع بالبضائع إلى حد التفاخر باستهلاكها. بينما في عالم ينظمه توازن أجهزة الدَّيْن، يتجاوزُ ما في القيمة استخدامَه ويقتضي فصل إمكانياته في التبادل عن الشخص الذي أنتجه أو استولى عليه. ومن هنا كانت الحقيقة المعروفة، وهي أن مصير أجمل الفواكه أو الخضروات لأفضل المحاصيل، في ظل الوفرة الـغزيرة، يكونُ هو التحلل، في أغلب الأحيان في تل قروي بارز. لقد أظهرت عوالم المحاربين الأفارقة المعاصرين جيلا جديدا مُصرّا وإشكاليا، هو جيل هؤلاء الشباب الذين لا يخضعون لواجبات العُرف بعد اغتنائهم خارج كل ما كان أسلافهم، وآباؤهم أو إخوانهم الذين ظلوا في العائلة، يتوقعون جنيه من خلال مزاولة عمل ما.
وإنتاج هذه المتعة لا يعود بمفعول رجعي على الجيل: فالأبناء لا يعطون نصيبا من هذا الفائض لأسلافهم. لذا، فهي متعة لم تعد تدفع إلى الكلام. لا يتم التعامل معها بالكلام، بل بأنقاض الكلام، وهي الانكشاف ووصمة العار المترسخة. لقد جُعل من هؤلاء الشباب المحاربينَ سحرة. تمت المبالغة في أعمالهم السيئة ومكاسبهم. نُسيتْ وقائع الحرب وحلها بإطلاق تهمة السحر. لقد وقع الحدث، وروَّجت الحرب لهؤلاء الشباب، وكانت سمعة السحر هي التي وفرت سبيل الوصول إلى حداثة الاكتساب بالذات ومن أجل الذات، دون تحويل هذا الامتلاك إلى الديون العرفية.

حداثة السحر
لذلك، فمن غير المتصور أن تستطيع مقاربة عالمٍ أنثروپولوجي اختزال السحر الحالي إلى المقاربات السابقة، إلى مقاربات الماضي، التي كان علماء أنثروپولوجيا آنذاك يصفون فيها بدقة متناهية عوالم قديمة يفترض أنها سليمة وثابتة.
في كينشاسا، يحدد لوروا التغييرات في مبدأ الأجداد. وفي مدينة پوانت نوار، أدركتُ أن العديد من الأطفال والمراهقين الذين يتجولون في الشوارع لم يجدوا صعوبة في إخفاء وضعيتهم المسماة بـ «الأطفال السحرة». وقيل إنهم كانوا يتباهون بالأمر، ولكن من أفواههم تمكن جاك لوروا وڤيرجينيا دُݣورج V. Degorge أو أنا نفسي من جمع جزء كبير من القصص التي تساعد على فهم أفضل للكيفية التي نشأت بها هذه التسمية. نحن بعيدون عن أي مشهد من المشاهد التقليدية. وعلى نحو صريح، يمكن بالكاد معالجة فئة «الطفل الساحر» باعتبارها تمثلا إضافيا للطفل الإفريقي على نحو ما كانت تضع نماذجه وتأهيلاته[3] التصنيفات التقليدية المحلية.
وبالتالي، فتهمة الأدمة (أو أكل اللحم البشري) التي كثيرا ما تطغى عليهم، وهي الأكثر شراسة على الإطلاق، يمكن أن تصيب المرءَ بعد الوفاة. هذه التهمة فظيعة ومروعة. لماذا إذن نشهد اليوم مثل هذا التنوع المرَضِي لموضوعات الانشطار، ومس الجن (أو الملك) وحول الأطفال؟ تقود أبحاث الأنثروپولوجيا السياسية إلى التفكير في أن ما يمثله الطفل، باعتباره أمرا جديدا، وتذكيرا بما يتم قمعه في كل نسب، يمكن أن يُلحَّ بكيفية مختلفة تبعا لما إذا كانت العائلات والجماعات تتعايش باعتبارها منظمة ومرتاحة بسبب استقرار مبرمج على التقاليد أم لا. من ناحية أخرى، يجب أن نعتبر من العرضي ليس فقط حقيقة وجود سلف في الطفل، ولكن أيضًا مرة أخرى وجود الساحر وأن هذا التعايش غير المسبوق هو علامة على هلع الأشخاص تجاه ما كان ينظم العلاقة بين الولادة والموت.
ولكن، بالطبع، يجب أن نتذكر أنه بمجرد أن يلتقي العمل التعليمي أو السريري بالطفل، فإنه لا يمكنه أن يختزل هذا الطفل إلى أدنى تسمية عالمة أو عُرفية من التسميات التي يقدم بها نفسَه للعالم أو التي يُعرض بها في العالم.

أجهزة «مضادة للسحر»
من خلال الانضمام هنا إلى مؤلفين مثل بيكر Becker (1997)، ودوݣلاس Douglas (1987) أو حتى جشييرGeschiere (1995) وميير Meyer (1999)، نؤكد أن هذا السحر الذي يتم استدعاؤه لم يعد مطابقا لأجهزة السحر القديمة، وبالمثل، وهنا الأهم من ذلك، فأجهزة مكافحة السحر لم تعد تتوافق مع الممارسات القديمة للسحر أو لطرد الأرواح الشريرة وأجهزة مكافحة السحر.
فهذه الأخيرة تتسم بضراوة هائلة، وهنا تجد أشكال العنف المضادة للسحر شرعيتها. تتكاثر الكنائس الشافية. كل واحدة منها تبدو منتصبة مثل جبال هملايا توفيقية بين المعتقدات (N’Situ, Le Roy, 2015). لا يُحتفل فيها بأي جد عُرفي، ولكن يُحتفل بأبطال مقاومة الاستعمار الذين خَلقوا أيضًا، بالنسبة لبلَدي الكونݣو [جمهورية الكونݣو، وجمهورية الكونݣو الديمقراطية]، دخولهم في التاريخ المعاصر، أي إلى الحداثة. في تلك المعتقدات، يجد سيمون كيمبانݣو (1887-1951) Simon Kimbangu (1887-1951)، وهو في الوقت نفسه واعظ ورؤياوي ومقاوم مسيحي، وهي غاية سياسية علاوة على ذلك، يجد نفسه في صف الآلهة الوصية مع بعض بقايا آلهة الغابات وبعض الشخصيات البارزة من مجمَّع الآلهة المسيحي المستورد حديثا. وفي مكان آخر، تحتوي الكنائس الخمسينية[4] على هيكل محصور في المسيح الفادي، ولكن المحتفلين بالقداس، في غمرة انتشائهم يحيون الصلة قليلا مع الأداء الإيمائي التقليدي. ويجد الطفل المتهم بالسحر نفسه مقتنعا بأنه ساحر. ويمكن أن يكون العلاج فعالا بشكل رهيب: يُوضع الشاب في الدير، فلا يعود مجددا إلى الشوارع. ويبدو أن هذا الأمر جيد بالنسبة له. ومع ذلك، فهو حل يؤدي إلى عنف أقل من الغارات وعمليات الإعدام الممنهجة التي تقتل الشباب. وهنا أيضا، فالعنف ضد الذي يثير، بغرابته المتطرفة، ذكرى جرائم قتل الآخرين التي ميزت تاريخ البلاد الحديث، هو عنفٌ لا رحمة فيه ولا هوادة.
لا توجد مدينة أكثر استعدادا للمذبحة من بعض المدن الضخمة في الكونݣو وجمهورية الكونݣو الديمقراطية. وبسبب مرونة مصطلح السحر، فقد حافظت بعض المعتقدات على نفسها (التحول إلى حيوان، الأدَمة السحرية)، وعرفت في الآن نفسه تحولا وتعديلات عنيفة في السياقات المعاصرة. فأطفال الشوارع، هذا الشعب شديد الذكاء والمتقلب، الذين يشتهرون بأنهم سحرة أو فخورون بأن يُشار إليهم بهذا النعت، وكذلك بأنهم أطفال الحرب الذين يستدعون بعض القوى السحرية، كلهم مدركون تماما علاقات القوى وتداول سعر السوق داخل المدينة، وقادرون على استعادة جزء من المتعة التي فقدها المجتمع في خضوعه لأنا أعلى يأمر بفقدان ذاكرة ممارسات العنف والمنافسة بين الأنداد.
لذا، فالاجتماعي في حاجة لهذا الأمر، ولا يستطيع تحمله. بالتالي، فهؤلاء الذين يُسمَّون سحرة يجمعون جنبا إلى جنبٍ قدماء محاربي الشباب المستبعدين، واليتامى المتخلى عنهم (هناك أيضا ضربتِ الحربُ)، والأطفال الذين يعانون من سوء الولادة (معاقون أو مصابون بالبرص)، ثم عددا قليلا من الأطفال المصابين بالذُهان الذين يعززون الصفوف بطريقة سريعة الزوال على كل حال لأن باقي القاصرين من أطفال الشوارع لا يتحملونهم.

الطفل السَّلَف / الطفل السَّاحر
لذلك، سواء في الكونݣو أو جمهورية الكونݣو الديمقراطية أو في أي مكان آخر حيث كان عنف الحرب الأهلية في ذروته، يمكننا في أيامنا هذه أن نعتبر من الأعراض ليس فقط حقيقة وجود سَلف في الطفل، ولكن أيضًا وجود الساحر فيه، وأن هذا التعايش غير المسبوق هو علامة على هلع الأشخاص إزاء ما كان ينظم العلاقة بالولادة والموت. والواقع أن للأجداد وظيفة مستمرة. فهم يصبحون أسلافا بعد وفاتهم ويؤدون وظيفة في عالم يشكل انعكاسا لعالم البشر، وذلك على العكس من السحرة الذين يؤدون دورا متقطعا، إذ يحدثون فجوة ويفرطون في إضفاء طابع الفردية على ما يحملهم إلى المخاطرة بالإصابة بالجنون.
وتتضح المقارنة المحتملة بين «الطفل السلف» و«الطفل الساحر» مقنعة ما دام «الطفل السلف»، شأنه في هذا شأن «الطفل الجدّ»[5]، هو موضوع ازدواجية معينة (Douville, 2005). فقط، هو أكثر من ذلك بما أنه حامل للجزء المتمرد والمتوحش في الأجداد، وهو الجزء الذي يهدد بتدمير التنظيمات الرمزية للتسمية والديون، والتمايز التي يحافظ على تعاقب الأجيال. أيضا، المشكلة الأولى والرئيسية التي يمكن أن نواجهها في إفريقيا، بخصوص الأطفال الموصومين بالعار، هي التطور الصَّعب الاحتمال لفئة الطفل السلف نحو فئة الطفل الساحر. يعطي الطفل السلف اتساقا لثلاثة أجيال على الأقل، طالما أن ما يريده الجد مسموعٌ وله قيمة اجتماعية يمكن أن تقويها بعض التضحيات التكفيرية. في جهاز الطفل الساحر، لم تعد الأجيال موجودة في تعاقبها الدَّالّ. كل منها يشطب على الآخر، وهي ترتبط بعدم وجود لا يندرج في سياقه إلا في أكثر الجوانب حداثة وأكثر جوانب السحر جنائزية.
وهذه الخسارة تفرض ثباتا جوهريا لتطور الفكر الجماعي اللاحق والمتخيل الاجتماعي. لم تعد الأسطورة تظهر إلا ككتلة عائمة على خلفية من النسيان، تُكررُ مرارا في الخوف والوسواس. لكن ما هي الأسطورة؟ كيف يمكن فهم تشييئها إلى آلة للوصم بالعار؟ بالنظر إلى الأسطورة باعتبارها فقط حكاية، فنحن ننسى الدرس البنيوي الذي يعلمنا، مع كلود ليڤي ستروس، أنها تعمل في المقام الأول باعتبارها نموذجا منطقيا لحل التناقض. ومنطق بناء الأساطير هو كما يلي: تنطلق كل أسطورة من خلال إدراج عبارات وسائل بين عبارات شروط متعارضة تماما. تعرض الأسطورة الحدود المتداخلة بين العالمين الذكوري والأنثوي، بين الأحياء والأموات، بين البشر والأرواح العظيمة ولكن من أجل أن تتألف التناقضات جيدا في النهاية. يُروى كلُّ مرور لشخص حي بأماكن متناقضة، وقبل كل شيء يُروى مرورُ الولادة التي تنقل من داخل جسم الأم إلى خارجه، يُروى بتضامن بين الأساطير والطقوس؛ وبالتالي لا وجود لطقس ميلاد لا يقترن باحتفال سردي بأسطورة الأصل أو رقص لهذه الأسطورة، وبالتالي الانفصال.
فلننتقل الآن إلى الحاضر. الموتى والأحياء في حالة من عدم الاستقرار وعدوى بالكاد. هذا ما يمكن للمرء أن يشعر به عندما يخامره إحساس بأن حياته لا قيمة لها لأن من يستطيع أن يقتله بدون سبب ظاهر يمكنه أن يقوم بذلك دون أن يطاله عقاب. في كثير من الأحيان، نكون هنا أبعد بكثير من مجرد البُعد المتعلق بالولادة. فالمناطق الاجتماعية أو الثقافية التي تتعرض لعنف الحرب الأهلية، والتهديد بالإبادة الجماعية، تعرف – لتصوير هذه الصدمة المتمثلة في اختفاء آثار إنسانية الإنسان – إغراء النبش بالسحر والجنائزي في هذه الأشكال التي يمزج فيها الموت والحياة مياههما في العناق الساحر. والممارسات السحرية العنيفة أشبه بسعي يائس وممتع في بعض الأحيان إلى الاستيلاء على سلطة الموت، أي تشخيص عمل الموت في أكثر جوانبه واقعية، وهو الجانب الذي يجعل الموت ليس أفقا أو بعدا أو ما وراء، بل شيئا وقوة عدوى. وهذا السقوط لحق الرمزي يحظر أي توقع وأي عمل يقوم به أي جيل لدرجة أنه يعوق فكرة الغياب باعتبارها سلعة رمزية. بهذا المعنى، تصبح الأجيال وكأنها منسحبة عن بعضها البعض. فالخلط بين الحي والميت واستحالة عد ثلاثة أجيال يتماشيان. كما أن هذه العدوى بين الحياة والموت تجعل بعض المصطلحات التي تنظم الفضاءات التقليدية، والسلف والساحر، تندمج في تركيب يربك الطفل، فيصير الطفل من سلف إلى ساحر. ولهذا الانزلاق أهميته، لأن السلف يُسمَّى، السلف يمكن أن يمثل مقطعا من تاريخ الأنساب. يمكن استحضاره وإجراء حوار معه، ووساطات. مع الساحر، لا. إنه الجزء الذي لا يمكن تصوره، الجزء الملعون، واليائس الذي يلتصق بمصائب الأنساب. وخلط اصطلاحَي الأطفال والسحرة هو نتيجة كارثة في صنع الأساطير ونقلها الرمزي، لأن أكثر ما تستبعده، أي الفرق بين الموتى والأحياء، هو فرق مدعوم بالفرق الذي يعارض «عادة» بين الساحر والطفل. ومن ثم، فإن منطق الامتداد الذي يربط البشر بالجن يجد نفسه تحت تلسكوب منطق الامتداد الذي يربط البشر والأسلاف. إن العائلات المجردة من السلاح، والمنافسات التي لا تتدخل فيها وساطات، هي عوامل تنطوي على «انهيار» في الانتقال الثقافي. بالإضافة إلى ذلك، فالأقسام القديمة المناسبة لحكم أسس المكان والزمان وتعزيزهما، تمَّحي، فلم تعد المجموعة الأسرية أو المجتمعية الأسرة ترى نفسها في انعكاس العالم. يبرز الجيل القدم باعتباره خصما.

أجيال معادية
لذا، فالطفل يمتلك جزئيا القدرة على خلق الأب أو إلغائه. وآنذاك فهو في وضعية متناقضة من اضطراب الديون.
وإذا ما لاحظنا الحفاظ في المفردات الرائجة على التسمية والتسمية الذاتية لمصطلحات «الأب» أو «الجد» أو «الطفل»، فإن طبيعة الرابط الذي تتمفصل فيه هذه الدوال هي ما يطرح مشكلة. في الواقع، إذا كان دالُّ الأب يمثل رمزيا الذات فيما يتعلق بوضعها الاعتباري وما لها وما عليها، فإنه يمثله أيضًا بالنسبة لدوال أخرى للبنوة والتحالف. إذا كانت سلاسل التضامن الرمزية بين البنوة والتحالف غير منتظمة أو مكسورة، فإن كل واحدة منها يتم بعثرتها، فتعلق في تركيز متخيل، ولا يحدث هذا دون إثارة الاكتئاب والقلق الاضطهادي. إننا نشتغل جيدا على موضوع التأثيرات الذاتية الناجمة عن كسر منطق البنوة، وهو موضوع بارز في الأنثروپولوجيا السريرية التي لا معنى لدراستها ما لم تفض إلى توصيات حول أنظمة الاستقبال والاستماع، والرعاية. بناء عليه، فإن «الطفل الساحر» يظهر في زمن تحول في وضع الطفل عندما يتسبب التحضر واضطراب السوق في اهتزاز المعايير القديمة، ويكون هذا الاضطراب كارثيا بسبب الحرب وبسبب جميع أشكال الإنكار التي تواكب سلاما هشا محفوفا بالمخاطر، قلما ينجح على الصعيدين السياسي والرمزي، سلام يفرض نفسه بالصمت القسري للصراعات والعنف والمذابح. و«الطفل الساحر» هو أسير أثر قطيعة التاريخ على تفكك أواصر التضامن بين الأجيال. وهذا الانقطاع لا يسمح بصياغة الازدواجية الضرورية بين الأجيال. فهو يدين العديد من شباب الجيل الذي يأتي ليعزلهم في غيرية راديكالية تجعلهم منذورين لأن يُضحّى بهم.

الطفل الجندي / الطفل الساحر
تخلق حالات العنف الشديد، بما في ذلك الحروب، صحراء أنساب وتشل عمل «التفريق» السياسي والثقافي والنفسي الذي كان يقوم به الأجداد والآباء. وبالتالي فإن ما يتم استبعاده من رمزيته الجماعية (أي من الخطاب الطقوسي والمرجعي) يعود إلى واقع هؤلاء الأطفال المتقلبين في البقاء، وفي معظم الحالات، في خطر في شوارع المدن الكبرى. فالأطفال، هؤلاء الشباب الذين يُخيفون ويَخافون، لهم، في نظر الكثيرين، سمعة ثقيلة العواقب، وهي أنهم أسلاف خبيثون، أو حتى سحرة في منتهى الخطورة. فيما يتصل بموضوع القاصرين أثناء الحرب، من الجدير بالملاحظة وجود تقارب بين طقوس التجنيد (قتل أحد الأقارب، محاكاة – أو عدم محاكاة – أكل لحوم البشر) وبين ما يقال عن ممارسات السحر. ونتمسك بتمييز ما يكون على المحك في عنف التأهيل وإجراءات تجنيد الأطفال (Scheper-Hughes, 1995). في الحالة الأولى، تكوَّنَ التأهيل من مواجهة مع قيمة الكلام المزدوجة، ومواجهة مع الموت الرمزي للشاب الذي سينفصل عما يبقى طفوليا في جسده، والذي «يمر» من آخر أمومي وعائلي إلى آخر اجتماعي وغامض في آن واحد. في التجنيد، لا شيء من ذلك: فالشاب ليس ملزما بالتفكير فيما يصنع قانون الإنسان، وما يشكل البطانة المقدسة للكلمة الإنسانية، على العكس من ذلك يهدف تدريبه إلى جعله يسكب في حالة كئيبة وبالغة سائر المحرمات الأنثروپولوجية للمجتمع، بما في ذلك احترام الموتى والدفن. وإذا ما قاوم، فيتم التضحية به. أيضا السلف المبهم والقاسي الذي يتم إقناع طفله المجند في بعض الأحيان بأن يكون ممثلَه على الأرض وخادمَه المسلح هو وجه حقيقي ومتخيل للسلف لا علاقة له بالسلف المانح للاسم وللسردية الرمزية التي تنكشف للشاب المؤهل أثناء اجتياز طقوس التأهيل في حد ذاتها. يمدِّد التأهيلُ فوائدَ طقوس الولادة التي يخضع لها الطفل إلى الاستيلاء الذاتي للشخص البالغ. يحطم التجنيد كل أنسنة شكَّلها السابقون. وبالتالي، فهو، بعيدا عن أن يكون تأهيلا عنيفا، هو في واقع الأمر تدمير عنيف لكل إمكانية للتأهيل. إنه عكسه وخرابه. يبدو أن قانون الخضوع للكلمة الإنسانية قد تجاوز رؤوس هؤلاء المراهقين، مما يفسر خطورتهم ويأسهم. وحيث إنهم يشكلون شخصية بارزة وملعونة أو يخشاها جيل الأحفاد الباقين على قيد الحياة، فإن وجودهم ذاته يسلط الضوء على حقيقة أن هذا الجيل من الأحفاد هو جيلُ خلطٍ، وارتباكٍ لجميع الأصول العائلية فيما يتعلق بالأحداث الصادمة التي وضعت التاريخيات في مأزق استمرارية التَّورَخَة.

كيف نرحب بما يسمى بالطفل «الساحر»؟
السؤال كبير جدا. بالنسبة للأخصائي العيادي، يتعلق الأمر بتحديات عديدة، بما في ذلك – وقد رأينا هذا – تحدي الرجوع انطلاقا من هذه الحالة غير المشروطة للطفل الساحر إلى العناصر التي تتعلق ليس بالسحر، ولكن بمختلف تصدعات الحكايات والسرديات (التي تمس تاريخ الأسرة والحي). وهنا يعود الأمر إلى بُعد ذات التلفظ العالقة في الروابط الأسرية والمجتمعية المحتملة التي يتعين بناؤها، وذلك حتى عندما يكون هذا البُعد قد أضعِفَ للغاية عندما يُسندُ الاسم الذي يشير إلى هذا الشخص إلى مكان تبعثر فيه نظام تمثلات الأنساب. لقد تمَّ جعله مضغوطا. وهذا المرور يصف جيدا سيرا نحو التقسيم الذاتي وتمايز الأماكن. لذا، لا يمكننا أن نبقى مفتونين بالخفي، ولا أن نخلط بين ساحر القاصرين الكئيب، هذا، وبين إرث تقليدي لا ينبغي لنا أن نفك رموزه أو نفككه.
ولنكن واضحين في هذا الصدد: لا يوجد ساحر في هؤلاء الأطفال. سيكون الطب النفسي الإثنولوجي مخطئًا في جعل الطفل الساحر مقولة سريرية كما فعل بقليل من المبالاة مع الطفل السلف. ومن المرجح أن الشباب أنفسهم يشكلون طريقتهم في تقديم أنفسهم وفقا لما يعرفونه عن الخطاب الحالي الذي يدور حول الطفل الساحر، وبالنسبة للبعض منهم، وفقًا لماضيهم مفرط القسوة عندما كانوا يشاركون في الحرب. والحالة هذه، فإن نظام التكفل بالأطفال كله هو الذي يثير التساؤلات، في الوقت الذي تزدهر في جمهورية الكونݣو الديمقراطية كنائس العلاج التي تنظم الاتهامات بالسحر من أجل بيع أجهزتها الخاصة بطرد الأرواح؛ تجاهها ومن الجهة المعاكسة، بشكل متواضع أيضا، هناك صحوة الطب النفسي المجتمعي الذي يحاول التحرك نحو كلام كل شخص وتشجيعه (Le Roy et al. 2015).
وهذا هو ما على المحك؛ توفير بعض الفرص ليقيم مجتمع بأكمله حوارا محتملا مع ماضيه الحديث ومع شبابه. وهذه القضية جديرة أيضا بأن تحظى باهتمام المحللين النفسانيين والأطباء النفسيين وعلماء الأنثروپولوجيا الأوروپيين (Douville, 2014).

ترجمة: محمد أسليـم. النص الأصلي: Olivier Douville, L’enfant dit sorcier en tant que figure de la modernité en Afrique

ببليوغرافيا

BECKER, G. 1997. Disrupted Lives. How People Create Meaning in a Chaotic World, Berkeley, University of California Press.
DE BOECK, F. 1998. «Beyond the grave : history, memory and death in postcolonial Congo/Zaïre », dans R. Werbner (sous la direction de), Memory and the Post-colony. African Anthropology and the Critique of Power, Londres, Zed Books, p. 21-57.
DE BOECK, F. 2000. « Le deuxième monde et les enfants sorciers en République Populaire du Congo », Politique Africaine, n° 80, «Enfants, jeunes et politique», p. 32-57.
COHN, I.; GOODWIN-GILL, G.S. 1994. Child Soldiers. The Role of Children in Armed Conflicts, Oxford, Clarendon Press.
DEGORGE, V.; DOUVILLE, O. 2012. «Les enfants-sorciers ou les rejetons de la guerre en Afrique Équatoriale. Un défi pour l’anthropologie clinique», Figures de la psychanalyse, n° 24, « L’enfant et les psychanalystes », p. 233-251.
DOUGLAS, M. 1999. «Sorcery accusations unleashed: the Lele revisited, 1987», Africa, n° 69 (2).
DOUVILLE, O. 2012. «Pour une anthropologie clinique contemporaine», Psychologie Clinique nouvelle série, n° 33, 2012/1, p. 201-226.
DOUVILLE, O. 2015. Les figures de l’autre, Paris, Dunod.
GESCHIÈRE, P. 1995. Sorcellerie et politique en Afrique. La viande des autres, Paris, Karthala.
MEYER, J.B. 1999. Translating the Devil. Religion and Modernity among the Ewe in Ghana, Edinburg, Edinburgh University Press.
PRADELLES DE LATOUR, C.-H. 2014. La dette symbolique, Thérapies traditionnelles et psychanalyse, Paris, EPEL, coll. « essais ».
N’SITU, A. ; LE ROY, J. 2015. «Crise dans les liens familiaux et prise en charge psycho-sociale, le cas des “enfants-sorciers”», Psychologie Clinique, nouvelle série, n°39, 2015/1, p. 86-112.
SCHEPER-HUGHES, N.; SARGENT, C. (sous la direction de), 1998. Small Wars. The Cultural Politics of Childhood, Berkeley, University of California Press.

———————————

هـوامـش:
[1] Samu: اختصار لـ Service d’aide médicale urgente / مصلحة المساعدة الطبية المستعجلة. (المترجم).
[2] الباميليكي bamiléké: هي أكبر مجموعة عرقية في الكاميرون، تتشكل من سكان مناطق الكاميرون الغربية والشمالية الغربية، وتعتبر جزءًا من المجموعة العرقية لشبه البانتو. عن موسوعة ويكيبيديا، النسخة الفرنسية، (م).
[3] ج. تأهيل (initiation): يترجمها البعض بـ «التدرب» أو «المسارَّة» (راجع ترجمة حسن قبيسي لكتاب ك. ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص. 192 وما بعدها، وكذلك ترجمته لكتاب جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1996، ص. 374). والكلمة تطلق على «الطقوس والاختبارات الموجهة لإلحاق مرشحين إلى جماعات مغلقة كالجمعيات السرية، والطوائف، وما إلى ذلك. (…). وتشكل هذه الشعائر عموما مناسبات لإقامة حفلات كبرى يشارك فيها جميع أعضاء المجتمع الكبير، لكن يلعب فيها المسارون أو المسارون الجدد دورا أهم…». عن Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, Paris, Payot, 1973. (م).
[4] الخمسينية pentecôtisme: هي «حركة دينية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتتميز هذه الحركة بالإيمان بأن جميع المسيحيين بحاجة لأن يعيشوا اختبارا فريدا لكي يكونوا مسيحيين فعلا، ويسمى هذا الاختبار بمعمودية الروح القدس». موسوعة ويكيبيديا، النسخة العربية، مادة (خمسينية). (المترجم).
[5] S. Freud, Totem et tabou (1912-1913).
(مترجم إلى اللغة العربية: سيغموند فرويد، الطوطم والحـرام، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر (د.ت.).(م)).

الاخبار العاجلة