م. أسليم: معاشرة الجن للإنس مثل الدين لا تقبل جدلا ولا تحليلا عقلانيا / حوار: صحيفة المساء

588 views مشاهدة
minou
في السحر
م. أسليم: معاشرة الجن للإنس مثل الدين لا تقبل جدلا ولا تحليلا عقلانيا / حوار: صحيفة المساء

الكاتب والباحث المغربي قال إن هذا المعتقد كوني ويشكل أحد أركان الممارسات السحرية
المساءنشر في المساء يوم 19 – 09 – 2011
يوضح الكاتب والباحث المغربي محمد أسليم أن معاشرة الجن للإنس معتقد كوني لا يستثنى أي بلد، مضيفا في هذا الحوار أن طبيعة هذه الظاهرة لا تفرض الإقناع أو الجدل
ولا التحليل العقلاني، وإنما القبول أو الرفض، مشيرا إلى أنه لا يمكن لمنكرها إقناع مصدقها أو العكس. كما تعرض محمد أسليم إلى طبيعة الإقصاء الذي يمارسه الخطاب العقلاني على هذه الظاهرة، التي يختزلها في معتقدات ومظاهر للتخلف والجهل المترتبين عموما عن سياسات الإقصاء والتهميش الاقتصادي والتعليمي. ويرجع أسليم هذا الاختزال إلى سعي الخطاب العقلاني إلى تغليب أساطير على أخرى في إطار علاقة للهيمنة.
– اشتغلت كثيرا على موضوعة السحر من منظور أنثربولوجي. كيف تفسر شيوع ظاهرة معاشرة الجن للإنس في المعتقد المغربي وأيضا العربي بما أن لها ارتباطا معينا بمجال السحر؟
يمكن التحفظ على فكرة شيوع هذه الظاهرة في المعتقد المغربي والعربي من جانبين: الأول كونُ الحكم بالشيوع يقتضي الارتكاز على إحصائيات تحدد نسبة انتشار هذا المعتقد ضمن مجموع سكان المغرب وباقي البلدان العربية، وهذا ما لا نتوفر عليه في الوقت الراهن بسبب غياب أرقام تستمد من البحث الميداني المعتمد تقنية الاستمارة. أما الجانب الثاني فهو أن القول بانتشار هذا المعتقد في جغرافيا وثقافة محددتين قد يوحي بفكرة أن المعتقد نفسه يغيب كليا – أو على الأقل نادر جدا – في مجتمعات أخرى، سيفهم منها أنها المجتمعات الغربية بالخصوص. وهذا ليس صحيحا لأننا هنا إزاء معتقد كوني يشكل أحد أركان الممارسات السحرية التي لا يخلو منها أي بلد، بما في ذلك الدول الأكثر تقدما نفسُها، بما فيها أمريكا واليابان وروسيا، وبنسبة تفوقنا أكثر مما نتخيل- من بلدان الأرض- تلك الممارسات لا تتم مزاولتها بدون معتقدات وأساطير، ومعاشرة الساحر أو الممسوس (أو المملوك) أحدُ هذه الأركان.
– تثير هذه الظاهرة حيرة لدى العديدين، إذ تبدو موضوعا شائكا وعصيا على التحليل لطبيعة الغموض الذي يكتنفها ووجود طرفين نقيضين (الجن والإنس) في علاقة تفترض الانسجام والتآلف. لذا هناك من يقول بوجودها وواقعيتها وهناك من ينفي ذلك ويقول إنها مجرد وهم. لماذا تثير هذه الظاهرة كل هذه الحيرة والتنافر في الآراء؟
إذا أخذنا الرأيين مجتمعين انطبقت الصفة على الكائن البشري بمجمله، وجاز القول بأن الإنسان لم يتوصل، حتى وقتنا الراهن، إلى إدراك واحد للكون وللعالم المحيط به ولوجوده هو نفسه ولا إلى التواصل مع أنداده بلغة واحدة واضحة ومفهومة من لدن الجميع، ولا إلى العيش بنمط وجودي واحد. إذا تموقعنا في خندق من يؤمنون بهذه التجارب أو يعيشونها وصدقنا أقوالهم وحكاياتهم أمكن اعتبار منكريها قاصرين عن فهم ما يقالُ لهم ويُمارسون إقصاء لا مبرر له. أما إذا تموضعنا في خانة المنكرين وافترضنا أن الصواب بجانبهم سيصير الأوائل أناسا يعانون عجزا ذهنيا أو مجانين يختلقون ما اتفق. ويبقى في النهاية أن هذه الظواهر تشبه الدين من حيث إنها لا تقبل جدلا ولا برهنة أو تحليلا عقلانيا؛ فهي تقتضي إما الأخذ أو الرفض. وليس بإمكان مصدقها إقناع منكرها، كما ليس بوسع هذا إقناع ذاك، لأن الإقناع والاستدلال والبرهنة عمليات ترتكز على قواعد لاستعمال العقل تختلف عن نظيرتها المستخدمة في الخفي والغيب، ويبقى وحدَه المسحور أو المملوك بالجن يُدرك واقع ما يعيشه ويعانيه ويفهمه أو يبحث عن ملاذ لفهمه ووضع حد له.
– نلاحظ أيضا وجود سجال بين العديد من فقهاء الدين وبين الرقاة أو المعالجين بالقرآن حول معاشرة الجن والإنس، رغم أن الطرفين يمتحان من نفس المصدر والخطاب، أي الدين.ما علاقة هذه الظاهرة بالدين؟
فيما وراء التنافر الظاهري بين الدين والسحر، والمجسد بالخصوص في تحريم مجموعة من الشرائع للسحر، من بينها الإسلام، بين الظاهرتين صلات قوية. الدين يُدمج معتقدات وحتى ممارسات سحرية، والسحر يسخر مجموعة من العناصر الدينية في نموذجه التفسيري وطقوسه، بل يحصل أحيانا أن يزاول الساحر وظيفته تحت غطاء الدين، كما هو الشأن في المغرب، حيث مُزاول السحر هو الفقيه (بمعناه الشعبي)، الذي يدشن تكوينه بحفظ القرآن الكريم قبل أن يجتاز إعدادا فيما يسمى ب«العلوم الروحانية» ليصير بعد ذلك «ساحرا» يمارس وظيفته في المجتمع بصفة دينية لا«سحرية»، كأن يسمى ب«الفقيه» أو ينعت عمله ب«الرقية الشرعية» أو «الصَّرع» أو «السّبوب» أو «الكْتَابة»، إلخ.
قد يجد هذا التداخل تفسيره في عدم اكتمال انتقال البشرية من مرحلة هيمنة الفكر السحري إلى حقبة الفكر الديني، وإن كان هذا الاكتمال سيتحقق في يوم من الأيام (مع أنَّ فكرا ثالثا قد بدأ انتشاره حديثا، منذ خمسة قرون)، اعتبارا لاستمرار وجود معتقدات وممارسات وثنية وتسربها هي الأخرى إلى الدين والسحر معا على نحو ما نجد في الطقوس العلاجية لفرق مثل كناوة، التي تأخذ شكل مزيج من عناصر إسلامية وسحرية ووثنية إفريقية، علما بأنَّ التحولات الثقافية والدينية لا تتم بين عشية وضحاها.
– يقوم الخطاب العقلاني بإقصاء مثل هذه المعتقدات أو شجبها باعتبارها معتقدات خرافية تتحكم في الذات المغربية؟ كيف نفسر هذا الاختزال أو التعامل المبتسر مع ظاهرة موغلة في الوجدان الشعبي المغربي؟
ليس الخطاب العقلاني وحده، بل كذلك الخطاب السياسي التقدمي، الذي يعتبر مثل هذه المعتقدات والممارسات مظاهر للتخلف والجهل المترتبين عموما عن سياسات الإقصاء والتهميش الاقتصادي والتعليمي…، وقد يعود هذا الاختزال إلى السعي إلى تغليب أساطير على أخرى في إطار علاقة للهيمنة. فللعلم بدوره أساطيره ما لم يكن هو الآخر أسطورة حديثة. وقد انطلقت منذ بداية القرن السابق عملية إزاحة فكرة قدرة العلم على فهم كل مكونات العالم المادي والبيولوجي وتفسيرها وضمان التقدم للإنسان وإيجاد حلول لسائر المشاكل بعدما تبين عدم وجاهة مجموعة من أسسه التي وضعها ديكارت وفرنسيس بيكون بالخصوص، منها أنه ليس موضوعا للعلم ما هو غير مادي وغير قابل للملاحظة، والفصل بين الذات والموضوع، والموضوعية، والحتمية، والتجريب… إلخ. فاستتبع ذلك إبعاد الغيبيات واللاعقلانيات من البحث العلمي. من هنا، يمكن اعتبار هذا الإقصاء طبيعيا بسبب البطء، الذي يتم به استبدال المنظومات العلمية السائدة بأخرى جديدة وانتشارها بين الناس، على أنه منتظر من العلماء خوض هذه المجالات، التي ظلت مقصية من دائرة اهتمامهم على امتداد القرون الخمسة الماضية، والتي عادوا يقولون بإمكانية دراستها علميا، لاسيما أن المراجعات العلمية الآنفة كلها تلتقي في نقط مثل الاعتراف بوجود أشياء في الكون – وضمنه الأرض- غير قابلة للملاحظة كمجال اللامتناهي الصغر والمادة السوداء والطاقة السوداء، وهي قطاعات يخوض فيها العلمُ الآن بالمعادلات الرياضية وليس بالملاحظة لتعذرها في ظل التقنيات المتوفرة اليوم. والملفت للنظر أن اللاجئين إلى التفسير السحري وطقوسه يتخذون منهم ملاذا أخيرا لوضع حد لمآس ومعاناة يعجز العقل عن تفسيرها والعلم الحديث، ممثَّلا بالطب الجسدي و/ أو النفسي، عن شفائها.
– عادة ما يلتجئ علماء النفس إلى ميكانيزمات وأدوات علاج غربية لتفسير هذه الظاهرة، إذ يعتبرون أن من يعتقد بها مريض نفسيا. هل يمكن اعتبار كل من يعتقد بمثل هذه المعتقدات شخصا غير سوي ويحتاج إلى علاج نفسي؟
من المفيد التمييز في الحقل النفسي بين ثلاثة قطاعات: التحليل النفسي psychanalyse والطب العقلي psychiatrie ثم الطب العقلي الإثنولوجي ethnopsychiatrie.
للمحلل النفساني قرابة أكيدة بالمطبب التقليدي (الفقيه، العرافة، وفرقة العلاج بالموسيقى) على نحو ما أظهر ذلك ليفي ستروس في دراسته الشهيرة «الفعالية الرمزية»، حيث خلص إلى أن نجاح تدخل هذين الفاعلين يتم وفق خطاطة شبه متطابقة، فنجد في الحالتين معا الثلاثي: الاختصاصي ومستشيره والأسطورة، مع فارق أنه في التدخل السحري يكون المطبب أو الساحر هو راوي هذه الأسطورة، في حين يكون المريض هو متلقيها، بينما في التدخل التحليلنفسي يكون المُعَاني هو راويها والمحلل النفساني هو مُستقبلها. في هذا المستوى قد تفقد صفة «غير السوي» وجاهتها.
أما الطبيب العقلي فيعتبر هذا النوع من الأشخاص مرضى ويعالجهم بمستويات مختلفة -حسب الحالة- تتدرج من العزل في مستشفى للأمراض العقلية إلى وصف عقاقير صيدلية تتناول في المنزل. إذ يفسر الآلام والتصرفات التي تعزى إلى السحر أو إلى اللقاء بالجن باعتبارها نتيجة لحدوث خلل عضوي في الدماغ أو نفسي-جسدي psychosomatique، علما بأن الدكتور عبد الله زيوزيو أجرى في منتصف الثمانينيات تجربة، من منظور «المقاربة البديلة»، تمثلت في تنسيقه مع المعالجين التقليديين (العرافة، الفقيه، الموسيقى العلاجية) لإعادة إدماج مرضاه في الأسرة والمجتمع. وتتقاطع تلك التجربة مع القطاع الثالث، وهو طب الأمراض العقلية الإثنولوجي، الذي لا يعتبر التدخلات العلاجية التقليدية ممارسات متخلفة، بل يراها علاجات ندية للطب العقلي العصري ما دامت تتجذر في آلاف السنين.إذ منذ أن وُجد الإنسانُ وُجد الجنون (إذا صح أن ندرج هذه الظواهر ضمن الجنون)، وحيثما وُجد وُجدَتْ محاولات لعلاجه، ولولا لم تكن ناجعة لتمَّ التخلي عنها، ومن ثمة لا داعي لاستبدالها كليا بطرق علاج الطب العقلي، التي لا تكون فعالة دائما بسبب عدم تأصلها في الثقافات غير الغربية، فهو نشأ حديثا في القرن التاسع عشر بأوروبا تحديدا
وقد حققت علوم أعصاب. الدماغ neurosciences اليوم معرفة أفضل بالخلايا العصبية neurones ومشابكات الدماغ synapses والمَحَاور axonnes والاستطالات العصبية dentrides وغيرها من مكونات الدماغ، مفسرا ما يُسمى عادة بالأمراض العقلية والنفسية، وضمنها الظاهرة موضوع حديثنا، بحصول خلل في تواصل تلك المكونات. وقد يؤدي تضافر هذه الإنجازات مع تلك التي تحققها حقول أخرى، مثل علوم النانو والعلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المعلوماتية، إلى نهاية السلوكات والآلام والمعاناة التي تفسَّّّّّّرُ بالمعتقدات السحرية والخفية ويُسعى إلى حلها بمجموعة من الطقوس، بعيدا عن المقاربات الحالية، وفي مقدمتها التحليل النفسي. يتوقَّعُ أن يحصل ذلك في أمد لا يتجاوز عقدين على أكثر تقدير.
– ما مساهمة الحكايات الشعبية المتداولة حول الجن والإنس في بروز هذه الظاهرة في المجتمعين المغربي والمشرقي؟
هي رافد بالتأكيد لتغذية هذه المعتقدات، لكنها ليست المصدر الوحيد؛ فإلى جانبها هناك الخطاب الديني (الشعبي بالخصوص)، والأغنية الشعبية، وشهادات وقصص أبطال هذا النوع من التجارب بشقيهم: مملوكو الجن ومطبِّبوهم (العرافات والفقهاء السحرة، وفرق التطبيب الشعبي بالموسيقى، مثل كناوة وغيرها)، حيث يقصُّ الأوائل تجاربَهم الشخصية ومعاناتهم فيما يقدم الأواخر نماذج تفسيرية.
المصدر
]]>

الاخبار العاجلة