الشعر والغواية

803 views مشاهدة
minou
أدب وعلوم اجتماعية
<![CDATA[]]>

(مداخلة ألقيت في الملتقى الوطني الأول للشعراء الشباب (جمعية الشعلة – فرع سلا)، ونشرت في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد: 403، 31 ماي 1992.) بدلا من مقاربة المتن الشعري المغربي الراهن مباشرة، سأقترح في هذه المداخلة الرجوع إلى الوضع الإشكالي للكلمة الشعرية أساسا في الإسلام. فقد عين هذا الأخير وضعا دقيقا للشعر سيكون معه من باب المجازفة الزعم بأن النص الشعري العربي المعاصر لا يستحضره. وعوض تناول أشكال هذا الاستحضار، الشعورية واللاشعورية، ودلالتها، سأكتفي بعرض جزء من الأساس الذي يمكن أن تنطلق منه مساءلات النص الشعري المغربي الحالي من هذه الزاوية مرجئا التعرض إلى هذه الأسئلة في مرحلة لاحقة من البحث. عموما يمكن إجمال موقف الإسلام من الشعر في حكمين: فالشعر المتماهي مع القرآن والسنة مباح، والقصائد الخارجة عنهما محظورة. وباصطلاح الفقهاء على تسمية هذا الخروج «غواية»، فإنهم يكونوا قد أدرجوه ضمن «اختصاصات» الشيطان لأن (والكلام لابن قيم الجوزية) «كل حال خرج صاحبه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول فهو شيطاني كائنا ما كان». فكيف يمكن أن يكون الشعر غواية؟ ما معنى أن يكون غواية؟ لماذا اعتبره الإسلام كذلك؟ وما معنى أن يعتبره غواية؟ 1. في معنى الغواية يعرف صاحب اللسان هذه الكلمة بـ «الانهماك في الغي»، أي في «الضلال والخيبة والفساد». وإذا كان هذا التعريف يعين المصطلح في العمق باعتباره مرادفا للضلال، فإن ابن كثير لا يحد الغواية إلا بجعلها أحد قطبي ثنائية إذ يميز بين الغاوي والضال، فيعرف الأول بـ «العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره»، والثاني بـ «الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم». ومن هذا المثال وغيره يتضح أن الفقهاء كانوا، لحد المصطلح المعني، يعمدون في أغلب الأحيان إلى مقابلته بنقيضه، غير أن العملية كانت تفضي بدورها إلى انشطار في المصطلح الرئيسي، أي الغواية، بكيفية تجعله يتصف في العمق بسمة «طباق المعاني» كما تطرق إليها فرويد اعتمادا على المعطيات اللسانية التي جمعها الفيلولوجي كارل آبيل: فالغواية باعتبارها ضلالا وعقلا وهوى… هي فعل إرادي ينتمي إلى مجال الشعور والعقل، لكن باعتبارها ضلالا وغيا وهوى وشهوة…، فهي فعل غير إرادي ينحدر من اللاشعور والرغبة. وإذا كان وضع الغواية في إطار «طباق المعاني» يعفي من الانخراط في الجدل الميتافيزيقي حول الحرية والجبرية، فإنه ينسجم أيضا مع الأطروحة المركزية التي صاغها فرويد في «الطوطم والحرام» ومفادها أن التعارض الوجداني تجاه القانون سمة جوهرية للنفسية البشرية. بهذا المعنى، سيعكس مضمون الغواية المزدوج تعارضا وجدانيا تجاه المحرم أو ممنوع الإسلام، وهو هنا الشعر، أي الخوف من انتهاكه والرغبة في خرقه. ثم إذا كانت الغواية تجليا شيطانيا، فإننا نستعمل هذا الأخير بالمعنى الفرويدي الذي يرى في الشياطين «رغبات شريرة مستهجنة تنبع من دوافع مكبوتة». من الثابت أن «الأدب [وضمنه الشعر] في أول مراحله كان (…) نشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية يتغنى بها الكهنة عادة وتنقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة». فكيف تبرأ الدين من الشعراء ومن جزء من الشعر على الأقل؟ ماذا يمثل هذا الشعر من وجهة نظر الدين؟ ما معنى هذا التبرؤ؟ أسئلة تأخذ أهمية قصوى في السياق الإسلامي بالنظر إلى أن بعض الكتب المقدسة كاليوبانشاد، من المجال الهندي، قد صيغت تعاليمها شعرا. 2. في إبليس والغواية تروي مجموعة من المقاطع القرآنية (2: 34-39 و7: 11-24 و15: 28-40) حكاية واحدة بتنويعات مختلفة – لا يسمح المقام بدراسة دلالة رواياتها وتكراراتها – يمكن اختصار أفعالها الأساسية في ما يلي: أ – خلق الله كائنا جديد، هو آدم، ورفض إبليس من دون الملائكة السجود له ب – طرد الله إبليس من الجنة وتوعد هذا الأخير بالانتقام لنفسه من آدم وذريته ج – إيقاع إبليس بآدم وحواء ومعاقبة الله الجميع بإنزالهم إلى الأرض. ما دلالة الأفعال التي قام بها إبليس وآدم وحواء، فاقتضت سقوطهم بإخراجهم من الجنة؟ ما معنى هذا السقوط نفسه؟ ما الوضع الاعتباري للشعر بالقياس إليه؟ لقد استحدث إبليس الرفض والعقلنة وحكم القيمة في سياق كان يتصف فيه سلوك الكائنات بالامتثالية الفورية لأوامر الله، فاستوجبت هذه المستحدثات عقلنة وحجة وحكم قيمة مضادا من جانب الله. وتأمل الخلاف بين إبليس والله يظهر تناقضا عميقا بين نظامي تفكيرهما، حيث ما هو «معقول ومنطقي» من وجهة نظر أحدهما هو «لا معقول ولا منطقي من وجهة نظر الآخر، تناقضا حسمه الله بقدرته على الفعل / العمل، فذهب إبليس ضحية سوء تقديره وعدم كفاءته في استعمال ما يبدو أنه ظن خطأ أنه قد ابتدعه. بهذا المعنى، نفهم لماذا اعتبر الفقهاء المسلمون إبليس، «أول الحكماء المجانين»، ويتضح أن الإسلام يربط ربطا قويا بين الجنون والشعر. آدم وحواء، بأكلهما من شجرة الخلد، وَلجَا بدورهما نظامَ القيم فاستحييا من الله بحجب عورتيهما. وهذا العمل الذي يكشف أيضا عن ولوجهما لبعد البصر ودخولهما مرحلة اكتشاف اختلاف الجنسين المدشنة للأوديب، هو كذلك شأنه شأن عمل إبليس، انتقال من الطبيعة إلى الثقافة. لقد اقتضى هذا الانتقال عقابا، من جانب الله، لم يرد على شكل رد ردع أو نكوص إلى المرحلة السابقة، بل أتى على شكل دفع الفعل المعاقب عليه إلى حدوده القصوى: فقد تم نقل آدم وحواء وإبليس إلى مكان «بديل» للجنة كي يمارسوا ما عوقبوا عليه، لكن هذه المرة وفق قواعد محددة جدا. في هذا المستوى، يبدو أن المعنى العميق للسقوط هو المرور من الطبيعة إلى الثقافة، من اللاشعور إلى الشعور، من اللذة إلى الواقع. في المستوى نفسه، يمكن اعتبار حكاية إبليس والغواية والسقوط أسطورة تروي أصل الثقافة رادة إياه إلى الفعل: في البدء كانت كل الموجودات وأنماط الوجود متساوية، لكن الفعل تدخل فشطرها إلى ثنائيات مانحا السيادة لقسم على آخر: الله على إبليس، الشعور على اللاشعور، العقل على اللاعقل، الثقافة على الطبيعة. بهذا المعنى نفهم حول أطروحة فرويد حول أسبقية الفكر واللغة، وندرك لماذا وصف الإسلام الشعر سلبيا بكونه يقول ما لا يفعل. مما سبق يتضح أن الإسلام قد جعل من الشعر جزءا لا يتجزأ من نظريته الكوزموغونية بشقيها الفيزيقي والميتافيزيقي وجعله ضاربا في الأرض وممتدا في السماء في آن واحد، يمس الجزء المرئي في الإنسان كما يمس جزءه غير المرئي. 3. الغواية والشعـر إذا كان انبثاق الثقافة قد أحدث قطيعة نهائية بينها وبين الطبيعة على مستوى الزمن والمكان، فإن الرهان في الأرض / الثقافة سيركز كليا على نمط من التداخل يجب أن يتم دائما بين الإثنين. هكذا سيطالب الإنسان بالقيام بمجموعة أعمال غايتها النهائية هي العودة إلى المكان الذي أقصي منه، وسيحظر عليه أداء أفعال أخرى إن هو قام بها فسوف لن يُحرم من تلك العودة الأبدية فحسب، بل وسيتلقى أيضا مكافأة سلبية هي الدخول إلى النار / الإقامة في اللامكان. بتعبير آخر، لما نزل الإنسان إلى الأرض صار ذا بُعدين إلى على مستوى كائنه ككل أو على مستوى كل جزء من الأقسام المشكلة لهذه الكينونة، وأمرته الشريعة بألا يستهلك بُعديه معا هنا في الأرض، بأن يضع نصب عينيه أن له قسمة منه، أو أنا أخرى مودَعة بداخله، لا يجب عليه أن يمسها أو يُشغلها إلا عند حلول أوان ذلك [الدخول إلى الجنة]. هذه الأنا الأخرى هي بمثابة منطقة يجب أن تظل بيضاء هنا في الأرض لتملأ في الجنة بمعظم المحظورات الدنيوية، كممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج وشرب الخمر والتلذذ بالنعيم، الخ. وهذه الأنا الغيرية كان لها بدورها، قبل السقوط، أنا غيرية هي أنانا الحالية. بتعبير آخر، فكما أن الحياة هناك، في الجنة، هي إخراج mise en scène للأنا الأخرى بداخلنا الآن، فإن الحياة هنا، في الأرض، هي إخراج للأنا الغيرية التي كانت كامنة بداخلنا لما كنا هناك، في الجنة، قبل السقوط. فأي وضع يأخذه الشعر في هذا الانشطار للإنسان إلى بُعدين أحدهما أرضي والآخر سماوي؟ نقترح فيما يلي مجموعة تأملات لا تعدو في حالتها الراهنة مجرد فرضيات عمل تقتصر على خمس نقط هي على التوالي: – الشعـر والكـلام – مدخل الشيطان ومدخل الشعر – الشعـر والسحـر واللعـب – الشعـر وحَـدّا الغوايــة – الشعـر والذكـر 3. 1 . الشعـر والكـلام يقتضي التأمل في الشعر باعتباره كلاما «موزونا ومقفى»، كان يقول قدامة بن جعفر، أن نستحضر فورا جملة معطيات إسلامية مرتبطة باللغة: فقد ورد في القرآن أن الله يخلق بالكلمة، وجاء فيه أيضا أن الله علم آدم الأسماء كلها، وقام إعجاز الرسول (ص) على اللغة أساسا، وذهب بعض المتصوفة إلى اعتبار الموجودات هي عين كلام الله… ما دلالة ربط القانون الإلهي باللغة؟ وماذا يمكن للإبداع عموما، والشعر بوجه خاص، أن يمثل في هذا الضرب من السياقات؟ لقد خلص إيريك فروم من تحليله لأسطورة الخلق البابلية، حيث ورد لأول مرة إدراك قدرة الخلق المودعة في الكلمة، إلى أن هذه الحكاية إنما هي صياغة على مستوى الخرافة للانتقال من الذي عرفته البشرية من النظام الأمومي، حيث كانت السلطة بيد المرأة وكانت الآلهة إناثا إلى المجتمع الأبوي حيث سينتقل الزمام إلى الرجل وتصير الآلهة ذكورا. بهذا المعنى، لا يمكن أن يكون الشعر سوى منافس لسلطة الأب أو عودة للنظام الأمومي مقنعة بقناع اللغة. وفي المنحى التطرفي نفسه يصير الله هو المتكلم بامتياز ولا يصبح أي كلام يصدر عن العبد إلا تشويشا لكلام الله. من هذه الزاوية تساءل الفقهاء: أيجب على الإنسان أن يصمت أم يجب عليه أن يتكلم؟ فاعتقد بعضهم بضرورة الصمت وخلفا أدبا امتداحيا لهذه الخصلة بناء على الكثير مما ورد في السنة والمأثور كقول الرسول: «الصمت أرفع العبادة»، وما جاء عن عيسى عليه السلام أنه سئل: «دلنا عن عمل ندخل به الجنة، فقال: لا تنطقوا أبدا»، وما روي عن بعض الصحابة من أن «كلفة بناء الجنة ذكر الله». لقد وصف المارودي الكلام بأنه «لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على رد شوارده، فحق على العاقل أن يحترز من زلـله بالإمساك عنه أو الإقلال منه»، لكن أليس الصمت في حد ذاته غواية؟ «فالغواية والصمت متآلفان منذ أصلهما الأسطوري». ولربما كان ترديد الأصمعي لرأيه أن «الشعر مات منذ هرمة» تعبيرا رمزيا، في المجال النقدي، عن لاجدوى كلام المخلوق أمام كلام الخالق، كلام الفرع أمام كلام الأصل. 3. 2. مدخل الشيطان ومدخل الشعر يعرف ابن عربي الخاطر الشيطاني، بعد حده الخاطرَ بأنه سفير الله إلى قلب عبده !، بما مضمونه أنه شيطان معنوي يقود الإنسان، إن هو اتبعه، إلى الفطنة (ولنتذكر أن هذه هي إحدى معاني الشعر)، إلى أشياء تفضي به إلى البدعة واتباع الشبهات، وبالتالي إلى الخروج عن الدين من حيث يعتقد أنه يتمسك به ويحسن إليه. مدخل الشيطان هذا يُكثر الفقهاء القدماء والمعاصرون على حد سواء من الاستشهاد عليه بحكاية برصيصا العابد الإسرائيلي. وما ينطبق على الخاطر الشيطاني يصدق أيضا على الشعر. فالشاعر مهما حسنت نواياه، فإنه لا يضمن دائما المخرج الذي سينتهي به شعره إليه. وبهذا الصدد، خصص ابن رشيق في عمدته مجمعة أبواب أسماها: «في من رفعه الشعر»، «فيمن أضر به الشعر»، «فوائد الشعر»، «أضرار الشعر»، الخ. وبقراءتها يبدو أن الشعر، شأنه شأن إيحاءات الشيطان، يمكن أن يكون هبة كما يمكن أن يكون تهلكة. وبهذا المعنى نفهم قولة الماوردي سابقة الذكر: «الكلام لا يمكن استرجاع بوادره ولا يقدر على رد شوارده…». في هذا المستوى يمكن أيضا القول أن للشعر سلطة علوية ما ورائية تتجاوز الشاعر وإن الشعر بحر لا يملك داخله زمام الخروج منه، مما يستوجب التفكير في هذه النقطة، أي مقارنة الشعر بالشيطان، كون الشاعر متى قُتل أو عوقب فإن ذلك كان يتم بالتأكيد بسبب قوله. فماذا كان يمثل هذا الضرب من الشعر الذي يقتضي عقاب صاحبه؟ لماذا لم يكن يُعمَد، بدلا من قتل الشاعر، إلى إخلاء سبيله بعدم الاعتراف بما قاله، مثلا، أو بمطالبته بأن يتبرأ مما قاله؟ لنشر، قبل محاولة الإجابة، إلى أن الماوردي نصح لتجنب سوء عاقبة الكلام قائلا ما مضمونه: «افعل ما لا تقول ولا تقل ما لا تفعل». 3. 3. الشعر والسحر واللعب يبدو أن معاقبة الشاعر على شعره كانت تقوم على اعتقاد ضمني في استقلال الشعر عن صاحبه؛ فقولة الشاعر التي يُغضَبُ منها دون أن يُغضَبَ عليها، متى صَدَرَت نزلت كقدر لا مفر منه. إن كانت خيرة جميلة فلا مرد لشرها. وهي تستمد سلطتها العلوية من تركيبها وجمالها وقافيتها ووزنها، هذه الأمور التي لا تتيسر لأي كان بحيث كان بعضهم يستهون أن يُقلع منه ضرْسٌ ولا يستهون قو لبيت شعري واحد. من هذه الزاوية يكون عقاب الشاعر قائما على المعتقد نفسه الذي يقوم عليه عقاب الساحر في السياق الإسلامي: فالسحر قوة علوية محايدة نوعا ما، تحرك للخير كما تحرك للشر مشتغلة في استقلال عن الساحر، وهي تنبع في نهاية المطاف من قدرة الله. وعليه، فالعقاب لا يجوز، بل لا يمكن أن ينصبَّ على السحر. يجب أن يحل بالساحر. وعليه، فمعنى المعاقبة الجسدية لهذا الأخير هو تأديبه لكونه تجرأ فحرك السحر / قدرة الله في عمل شرير. والأمر نفسه ينطبق على الشعر: فالشعر لا يمكن «اغتياله»، كما لا يمكن منعه كجنس خطابي، وكل ما يمكن القيام به هو تحييد مفعوله، وذلك بعمد الشاعر «الضنين» نفسه أو شاعر آخر إلى نظم قصيدة تبطل مفعول القصيدة المغضوب منها وتخرط في دورة الرواية الشفهية كمعادل لها. بهذا المعنى، يكون هذا الضرب من الشعر (المهاجاة والنقائض) متصفا بكافة مقومات اللعب كما تناولها هويزينغا في كتابه «الإنسان اللاعب»، لكن بين عمليتي الأخذ والرد وقعت خسائر وسقط ضحايا فأخزيت أقوام بأبيات شعر عجزت عن تحييد خزيها، وقتل شعراء دون أن تترك لهم فرصة إبطال مفعول ما قالوه، كما سُجن آخرون. فما الذي كان يحول هذا اللعب المقدس إلى جد في لحظات معينة؟ قد يقتضي الجواب دراسة مسألة التلقي في الشعر القديم والمقارنة بين الشعر الذي قُبِل تحييده والشعر الذي لم يُقبَل إبطاله أو لم يُفكّر حتى فيه. 3. 4. الشعر وسط حداه غوايـة لقد أرسل الإسلام إلى الإنسان علامة دالها الشريعة / النص ومدلولها الكون. ودال الإسلام يُعلن نفسه «جنسا خطابيا» متعاليا، آية في الإحكام إن على مستوى الصياغة الجمالية أو على مستوى المضامين الفكرية والقيمية. إنه جنس لم يقلّد ولن يقلّد، ولذلك يستحيل على الإنسان تقليده أو مضاهاته. إّذا كان الأمر كذلك فماذا يتبقى للإنسان أن يقول؟ ما مجال القول الذي يجب على الشعر أن يحدده لنفسه؟ وما درجة الجمالية التي يجب عليه ألا يتجاوزها؟ على الشعر في الواقع أن يلعب داخل مساحة ذات حدين، مقدس ومدنس، كلاهما غواية: فإن هو اقترب من النص القرآني أكثر مما يجب وقع في الغواية، وإن هو ابتعد عن الكتاب أكثر مما ينبغي سقط أيضا في الضلال. ومضامين الشعرين الصوفي من جهة، والخمري والمجوني من جهة ثانية تثبت هذه الأطروحة: فمن فرط التماهي مع المقدس انتهى ابن عربي، وابن الفارض في رأي خصومهما، إلى الكفر، حيث زعما أن الله إنسان وأنه امرأة، وأن يوم الحساب لا وجود له، الخ. ومن فرط تكريس الشعر للغزل والخمرة وقع شعراء الاتجاه الثاني في ما أسميناه أعلاه بالعودة العجولة إلى الجنة واقتحام المساحة البيضاء في الإنسان. باختصار، إذن، لقد حدد الإسلام للشعر نقطة توازن بين المقدس والمدنس عليه أن لا يميل بها يمينا ولا شمالا لأنه متى فعل اصطدم حتما بالمحظور ببعديه الإلهي والشيطاني. لكنه (الإسلام) طالبَ الشعرَ في الآن نفسه بالتماهي مع الكتاب، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ 3. 5. الشعـر والذكـر يستطيع الشعر فعلَ ذلك بقوله ما يقوله القرآن والسنة دون أن يصيرَ إياهما، أي عليه أن يقول ما يقولانه مع بقائه آخر أو بحيث يشكل آخَرَهُما. ووضعُ الآخر هذا يتحقق للشعر مبدئيا من خلال ارتباطه باسم صاحبه: ففيما يتعدد هذا لا يتعدى منتجا الكتاب والسنة اثنين هما الله والرسول، كما يتحقق له من خلال تقيده بقواعد خطابية محددة، هي بنية الخطاب الشعري، فيما يتعالى القرآن والحديث عن هذه المعايير، ويتحقق له أخيرا من خلال إعادة إنتاجه القيم الدينية دون أن يمتزج بصوت النص الديني امتزاجا يؤدي إلى صيرورة القرآن شعرا والشعر قرآنا. وهناك أكثر من داع لهذا الاحتراز؛ فكما أن للقرآن حفاظا فللشعر رواة، وكما أن القرآن لا تجوز قراءته بدون طهارة فالشعر كان يسبق إنشاده بالوضوء في بعض الأحيان، وكما أن كل سورة قرآنية – عدا واحدة – تستهل بصيغة «باسم الله الرحمن الرحيم» ارتأى الكثيرون ضرورة استهلال القصيدة المكتوبة بالعبارة نفسها. إن الدو رالأمثل الذي يجب على الشعر أن يضطلع به، من المنظور الإسلامي، هو الذكر، هو أن يتخذ من موضوعاته مطية أو خطوة ضمن استراتيجية أكبر تسخر لإثبات وجود الله والدعوة إلى عبادته. ونقتصر في التمثيل لهذه الأطروحة على مثالي شعر الوصف وشعر الغزل؛ فالأول لا يجب قراءته باعتباره تعرية mise à nu للأفعال والكائنات، بل يجب رؤيته باعتباره حجبا لها. فإذا تعلق الأمر بوصف مشهد طبيعي، مثلا، وجب على الشاعر المسلم أن يتصرف بحيث يتم كل شيء وكأنه يقول بشعره: «انظروا، إن الطبيعة رائعة»، حتى إذا اطمأن إلى استجابة متلقيه، عاد وقال: «ما قلت لكَ انظرها في ذاتها، بل أمرتك بذلك لكي تعرف أن لها خالقا…». وهنا نقف على أحد جوانب «الضغط المزدوج» أو الوضع الإشكالي للشعر في الإسلام؛ فلكي يكون يجب أن يصف الأشياء، لكنه متى فعل اقترب من الانقلاب إلى ضده، من الغواية. بهذا المعنى لا يمكن أن يكون الشعر إلا دينيا. ولربما كان في احتكار إبداعه من قبل الفقهاء على امتداد تاريخ المغرب دلالة رمزية: فبمقدار ابتعاده جغرافيا عن المركز / الشرق / الأب صار تعبيرا عن الحنين إليه من خلال التماهي القوي معه. وباختصار، لا يمكن لشعر الوصف أن يصف إلا بعدم الوصف. والأمر نفسه ينطبق على الشعر الثاني، الغزلي. فالمرأة خلقت كي لكي تحجب، ومجرد وجودها هنا، في الأرض، يضع في أزمة المرأةَ الأخرى الموجودة هناك، في الجنة، فبالأحرى اتخاذها غاية نهائية على مستوى الاستمتاع الجسدي أو القول الشعري؛ فقد قال الإمام الغزالي في إحيائه: «من تعوّدَ على أفخاذ النساء لم يجئ منه شيء»، لو جعل منها كذلك لأصبحت المرأة الحورية خالية من كل معنى، ثمة كثافة هذه الحجب الهندسية والجسدية واللغوية الموضوعة على الأنثى في المجتمعات الإسلامية، وهذه الطبيعة الاستيهامية للجنس في نفس الثقافة. في هذا المستوى، يمكن اعتبار البذخ الجمالي والجنسي الذي يميز كتابات الفقهاء الذين وصفوا الجنة بمثابة درع واق، على صعيد المتخيل الديني، يضاعف ويعضد الدرع الاجتماعي والسياسي كما يقابل خطر الشعر في هذا الباب. وهذه الكتابات بالقدر الذي تحارب به الشعر فهي ربما تقترح نفسها لا شعوريا كبديل له. وكونها كذلك يجعلها في نهاية المطاف تصريفا أو تلطيفا لسلطة الشعر واستحالة التخلي عنه.]]>

الاخبار العاجلة