هل السحر موجود؟

609 views مشاهدة
minou
أدب وعلوم اجتماعية
هل السحر موجود؟

(صدر في الملحق الأسبوعي للاتحاد الاشتراكي، ع: 85، السبت 23 يوليوز 1988)

إذا تصفحنا المقالات والدراسات التي تكتب اليوم في المغرب عن ظاهرة السحر، والخفي عموما، فإننا نجدها على قلتها لا تخرج – إلا في حالات ناذرة جدا- عن إيقاعين:
فحينما يكون المخاطب هو الآخر (الغرب) يتم اختزال السحر إلى مظاهره الغرائبية، ويتم التركيز على هذا الجانب إرضاء لرغبة هذا الآخر المفترض أنها كذلك، ويتجلى هذا الإيقاع بوضوح في الدراسات المكتوبة بلغة أجنبية كالفرنسية.
– أما حينما يكون المخاطب هو القارئ المغربي فإن اللهجة تتغير فتحكمها نزعة نضالوية يختزل السحر فيها إلى مجرد شعوذة وأحد مظاهر التخلف التي ينبغي التخلص منها في أسرع وقت ممكن هذا الموقف يلتقي في صياغته السلفيون وفئة واسعة من المثقفين التقدميين(1) وأحيانا حتى بعض وسائل الإعلام الرسمي كالإذاعة والتلفزة.
وتعتقد أن هذه الأحكام تستند إلى تمثل للغرب يرى في هذا الأخير نموذج احتذاء بوصفه قد تخلى عن الممارسات الخفية بصفة نهائية، بينما الواقع يخالف ذلك، ففي فرنسا وحدها، مثلا، بلغت الميزانية السنوية للسحر سنة 1957 إلى 3 مليار فرنك فرنسي(2). وستتضاعف هذه الميزانية بسرعة قصوى لتصل سنة 1976 إلى 70 مليار فرنك(3)، وفيما ينادي هنا – باسم العلم – بضرورة إحلال أدوات العلاج الغربية محل نظيرتها التقليدية يقر الغربيون أنفسهم بفعالية هذه الأخيرة ويدعون إلى الاستسعاف بها في مراجعة الأسس النظرية التي ترتكز عليها الأول . أخيرا هل من الضروري أن نكرر ما صاغه ليفي ستروس منذ سنة 1949 لحسم النقاش الدائر من قبل، في الموضوع، والذي كان يدور حول معرفة ما إذا كان السحر موجودا أم غير موجود وهل هو مجرد خرافة أم علم من نوع آخر؟ إن السحر موجود، بكل بساطة، لأنه يمارس ولو لم يوجد لما كان موضوع ممارسة، لو لم تكن ممارسات المطببين التقليدين ذات فعاليات مماثلة، وأحيانا مطابقة، لزملائهم الأطباء العصريين لما شهدت الانتشار الواسع على مستوى الزمن والفضاء (4).
إن المشكل هنا، كباقي مظاهر الثقافة التقليدية، هو مشكل قراءة أو ملاحظة أساسا، هذه الأخيرة تتم – والاستثناءات قليلة جدا – وفق خطاطة يضطلع فيها الباحث بدور العالم العارف أو الملاحظ الإيجابي وينيط بمن يلاحظهم دور الجهلة، والملاحظين السلبيين، وهذه الخطاطة، فضلا عن أنها تنخرط في حقبة من الملاحظة، متجاوزة في الإثنوغرافيا يمثلها مالينوفسكي وإيفانس بريتشارد أساسا، تقع في فخ اصطدام التمثلات التي تسود المجتمع المغربي اليوم (بحكم اجتيازه لفترة تحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث)، فيترتب عن ذلك ضمن ما يترتب انتزاع الباحث للكلام من الظواهر التي تؤديها، والدلالات التي تحملها، وتمثل تمثلاتها التي تقصي الباحث منها حواجز الثقافة العالمة.
إن الالتفات إلى بعد التفاعل خلال عملية الملاحظة، بين الباحث والجماعة المدروسة هو السبيل الأسلم لتحقيق فهم موضوعي للظواهر الثقافية، فكما أن الباحث يسعى لتحقيق معرفة بالجماعة المبحوثة فإن هذه الجماعة بدورها تكون معرفة عنه، بقدر ما يقرأ أو يلاحظ بشكل هو أيضا موضوع ملاحظة، وعليه تصبح مهمته كإثنوغرافي بالضبط هي محاولة التوفيق بين ما يظن أن الناس يعتقدونه وما يظن أنه كان سيعتقده، فعلا، لو كان واحدا منهم (5).
وسنتناول هنا مظهرا واحدا من مظاهر عملية التفاعل التي تمت بيننا وبين الجماعة المبحوثة خلال بحث ميداني يعود إلى سنة 1985 بمدينة الرباط. يتعلق الأمر بإلحاح المخبرين في طرح السؤال، «هل السحر موجود؟» كلما أعلن الباحث حاجته إلى جمع معلومات وأخبار تتعلق بالسحر، هذا الإلحاح يتم بكيفية جادة ومتواترة لدى أفراد عديدين لدرجة أننا سمعناه عشرات المرات، ولا يخفى أن السؤال هنا يقلب معادلة العمل الميداني بحيث يصبح الباحث (أو يراد له أن يصبح) مخبرا فيما يصبح هذا الأخير (أي مخبر الباحث) «باحثا». فما دلالة سؤال كهذا؟ أي سبيل لجمع معلومات من مخبرين فيما ينتظر منهم أن يخبروا يتحولون منذ أول وهلة إلى طالبي أخبار؟
من المعلوم أن المغرب الحالي يحمل «ذاكرة» ثقافية يعتبر السحر، والخفي عموما، أحد مكوناتها، فكتابات ابن خلدون وابن البناء المراكشي وابن إلحاح وخطير الدين العطار ومحمد الزناتي وغيرهم في مختلف العلوم الخفية لا تدع مجالا للشك في أن هذه العلوم كانت جزءا من المعرفة السائدة آنذاك وعلى مستوى الممارسة يتعاطى اليوم للخفي عدد كبير من «الفقيه» و الـ «الشوافات».
لكن صياغة السؤال بالكيفية المحددة أعلاه تحتمل – فيما تحتمل – الإجابة بالنفي، ما الذي جعل قابلية نفي هذه الممارسات ممكنة اليوم فيما كان الإيمان بها في الماضي من المسلمات؟
يمكن القول بأن عملية المثاقفة مع الغرب هي التي حققت شروط طرح هذا السؤال الذي لم يكن ليطرح – بنفس الحدة على الأقل- في الماضي، فإذا كان الكائن العربي قد تصدع بفعل المثاقفة، على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي، فإنه يمكن اعتبار إلحاح هذا السؤال أحد مظاهر هذا التصدع.
ويأخذ هذا التأويل دلالة كبرى إذا أخذنا بعين الاعتبار كلا من الطبيعة التركيبية للمجتمع المغربي الحالي وإمكان توسيع مفهوم المثاقفة، بالشكل الذي أنجزه «بايدزن» ليشمل حتى الاتصال داخل المجتمع الواحد:
«تحت اسم الاتصال الثقافي سأدرج (…) حالة الاتصال داخل الجماعة الواحدة بين فئات مختلفة من الأفراد، بين الجنسين، وبين الشباب والكهول، وبين الأرستقراطية والشعب، وبين القبائل… الخ (…) وسأذهب إلى أقصى حد في توسيع فكرة الاتصال لأدرج فيها حتى الصيرورات التي تشكل الطفل وتكونه حسب قواعد الثقافة التي ولد فيها»(6)
يترتب على كل اتصال بين جماعتين مختلفتين الثقافة أحد النتائج الثلاث:
– تحقق التحام كامل بين الجماعتين
– إقصاء إحداهما للأخرى أو إقصاؤهما معا.
– تعايش الجماعتين في توازن ديناميكي داخل جماعة أكبر (7)
ففي أي من هذه الأحوال يقع المغرب حينما يتعلق الأمر بالسحر؟
من الصعب المبادرة بصياغة جواب واحد، عن هذا السؤال، يستوعب كل من يزاولون أعمال السحر لأنه يمكننا أن نعثر داخلهم على فئات صغرى تنتمي كل واحدة منها إلى أحد من الأوضاع الثلاثة السابقة، وهو أمر يتيسر للملاحظة باعتماد تحليل الحالات المبحوثة، إلا أن المقام يضيق كثيرا عن إنجاز هذا العمل، ولذلك يمكن القول بصفة عامة، واستنادا إلى واقع استمرار مزاولة أعمال السحر في مغرب اليوم وانتشارها بكيفية واسعة، إن جماعات القائمين على السحر والعلاجات التقليدية ومريديهم يعيشون وضع الالتحام شبه الكامل، والنظر إلى هذه الجماعات من منظورات خمس (8) يسمح بفهم العوامل التي تحقق هذا الانسجام:
-1 مظهر بنيوي: حينما يتوفر سياق الشك في خيانة الزوج، مثلا، تكون استجابة أي امرأة من هذه الفئة هو الذهاب مباشرة إلى الـ «شوافة» للتأكد من ذلك، وهذه الاستجابة تتناسب، معرفيا، مع استجابات كل نساء الفئة من مواقف مماثلة باعتبار وجود منطق يحكم هذه الاستجابة، مشترك بين جميع أفراد هذه الفئة، ويمكن صياغة أحد أشكال هذا المنطق، من خلال المثال الذي بين أيدينا، على الشكل التالي:
القاعدة أ – :
«مهما يكن س زوج، س يتصف بالصفات (ي. ع. ز..) س لا يخون زوجته» بموجب هذه القاعدة حينما يتصف الزوج بالصفات (ي.ع.ز) القاعدة فإن الزوجة لا ترى أي مبرر في زيارة العرافة، لكن قد تأتي سياقات لتحدث استثناءات في هذه القاعدة وتلحق بها تعديلا لتصبح على الشكل التالي:
القاعدة ب – :
«مهما تقل القاعدة» مهما يكن (س) زوج س يتصف بالصفات (ي.ع.ز) (س) لا يخون زوجته)، فهناك على الأقل حالة واحدة حيث س يتصف بالصفات (ي.ع.ز) وس يخون زوجته» لعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا القاعدة (ب) هي قاعدة القواعد في الممارسات السحرية والخفية عموما، إنها مجال لتقاطع المعقول واللامعقول. المنطق واللامنطق، ما اصطلحنا على تسميته بالمعقول والواقعي يصبح داخلها لا معقولا ولا واقعيا والعكس كذلك، إن إيمان أفراد الجماعة بهذه القاعدة واستنادهم في ذلك إلى تمثل كامل للكون والانسان – لايتسع المجال لعرضه – هو الذي يجعل سلوكهم يبدو منطقيا.
-2 مظهر عاطفي: كل سلوكات الجماعة حينما ينظر إليها من هذا الجانب، تبدو محملة بشحنات عاطفية تجعل من السلوكات ميكانيزما مبرمجا وموجها نحو الإشباع العاطفي، هكذا فطقوس الرجم والرباط والعقد والجلب والتهييج إنما تشبع أساسا، وبصورة رمزية، عاطفتي الحب والكراهية، وكافة الطقوس السحرية الرائجة في المغرب اليوم، سواء الشفوية منها أو المرتكزة على الكتب السحرية العربية القديمة كمؤلفات البوني والغزالي وابن سينا وابن الحاج وغيرهم، يمكن نظمها في محورين أساسيين: محور هجومي وآخر دفاعي.
-3 وحدة اقتصادية: هذا المنظور يمكن من الوقوف على كون الممارسات السحرية هي ميكاميزم موجه لإنتاج المواد وإعادة توزيعها، فالـ «فقيه» والـ «شوافة» ينشطان دورة اقتصادية كاملة يستفيد منها، نقديا وبشكل ظاهر ومباشر، كل من الفقيه والشوافة والعشاب ومناطق جمع الأعشاب والعقاقير، كما يستفيد منها، بشكل غير مباشر، القنوات التي يصرف فيها هؤلاء نقودهم لتوفير مستلزمات الإقامة والعيش والكسوة والنقل..
-4 وحدة زمانية – مكانية: تتم نماذج سلوك الأفراد وفق خطاطة زمانية – مكانية: سنجد الفقيه مثلا ينقش وفقا في الساعة (س) ليلا وفي مكان خال من الناس لأن الموضوع يتعلق بجلب رجل إلى امرأة والوصفة التي يعتمدها تفرض ذلك، وسنجد المرأة مثلا تزور الفقيه في مكان إقامته في إحدى عشيات وسط الأسبوع لأنها تسحر خفية من زوجها ولأن هذا الأخير يكون في هذا الوقت خارج المنزل يشتغل..
-5 وحدة سوسيولوجية: في هذا المستوى يستمد سلوك الأفراد قيمته بالقياس إلى اندماجه داخل وحدة أكبر تمثلها الجماعة ككل. هكذا فاستسعاف الفتاة العانس بالفقيه أو الشوافة أو الولي قصد الزواج هو سلوك مستصاغ من طرف وسطها لأنه يهدف إلى إدماج هذه الفتاة داخل المجتمع وتحقيق تبادل في إطار أنظمة القرابة داخل وحدة المجتمع الكبرى.
إن أبسط طقس سحري هو مجال لتقاطع كل هذه المظاهر وهذا هو ما يضمن استمرارية الممارسات السحرية وتوازن الفئات المزاولة لها داخل بنية المجتمع ككل، وأي إجراء يستهدف القضاء على هذه الممارسات بالتركيز على أحد هذه المظاهر دون تحسب عواقب ذلك على الباقي (المهمة التي يمكن للأنثروبولوجيا التطبيقية أن تقدم فيها الكثير) سيؤدي دون شك إلى اضطرابات جدية داخل الفئات المزاولة للسحر.
بعد هذا الاستطراد الوجيز نعود إلى السؤال الذي نحن بصدده (هل السحر موجود؟) لنتقل إلى مستوى ثان في قراءته.
يبدو أن المخبرين بقلبهم لمعادلة البحث عن طريق الإلحاح على البحث بالسؤال، إنما يهدفون أساسا إلى تحديد موقع هذا الأخير ليأخذوا بعد ذلك الموقع المناسب تبعا لإجابة البحث، وواضح أن الأخبار التي سيحصل عليها في وضع مثل هذا ستكون كما وكيفا محكومة بلعبة تعدد المواقع بين الباحث والمخبرين. فالتزام الباحث بجواب واحد عن أسئلة كل سائليه سيقصيه دون شك من كثير من الآفاق الإخبارية، وفيما يلي عرض سريع لترتبات اختلاف المواقع على المادة الإثنوغرافية المجموعة – أو المراد جمعها – وذلك من خلال تجربة ميدانية أخذنا فيها على التوالي مواقع: الباحث، عديم «النية والتصديق» المريد، وأخير «الساحر».
-1 وضع الباحث: يقابل من طرف المخبرين المفترضين بالرفض التام تحت مبررات متعددة في هذا الرفض يلتقي كل أطراف السحر: الفقيه والشوافات ومريدوهما، والمتطببون الشعبيون:
في أحد الأحياء الشعبية بمدينة الرباط رفضت شوافة استقبالنا بدعوى أنها لا تستقبل الرجال، وتحت إلحاحنا وإخبارها أننا نريد معلومات قصد إدراجها في بحث في الموضوع صفعت الباب في وجهنا مرددة أن ليس لديها ما تقوله لنا.
وخلال لقاء بمنزلنا هذه المرة مع فقيه أحجم عن ذكر كل ما يتعلق بعلمه بدعوى أنه غير مسموح له (من قبل الجن) بذلك، ولما أخبرناه بأننا نتوفر على الكتب التي يستعملها هو نفسه في طقوسه وجه بلهجة واعظة ناصحة: «حذار ثم حذار أن تجازف، ولو على سبيل المزاح بممارسة أي طقس من هذه الكتب لأن العاقبة ستكون وخيمة، أنا نفسي المتضلع في المجال فبالأحرى أنت الذي لا تعرف فيه أي شيء يحدث لي أن ارتكب أحيانا بعض الأخطاء البسيطة سهوا، في رسم الجداول فأؤدي ثمن ذلك غاليا: في الليل تأتيني جيوشهم (الجن) القصار بطرابيش حمر فتذهب النوم عني ولا أتخلص من شرها إلا بتلاوة العزائم الطوال..
وحينما حاول صديق مقرب لأحد الفقهاء أن يربط الصلة بيننا وبين هذا الأخير محفزا إياه على اللقاء بنا لكوننا نتوفر على كتب عديدة في الموضوع كان رد الفقيه بعد استفسار طويل للصديق عن شخصنا: «اذهب إليه وقل له: يقول لك الفقيه: «لا تضيع وقتك في البحث في هذا الموضوع لأنك سترسب لا محالة في دراساتك، أقسم بالله العلي العظيم (ثلاث مرات) لو استمررت في هذا المجال فستصاب بالجنون أو لن تنجح على الإطلاق !».
وفي جوطية العكاري بالرباط لما طلبت رفقة صديق من أحد المتطببين الشعبيين، وهو وسط حلقته، أخذ صورة لمائدته، رحب بالفكرة ووظفها حالا في الدعاية لنفسه قائلا: «لستم أول من يأخذ لي صورة، فالأجانب من فرنسا وألمانيا ودول أخرى يلتقطون لي صورا» فأخذنا صورة لمائدته، لكن لما التقطنا له صورة ثانية وهو يكوي ذراع أحد المريدين وجه لنا في غضب وسخرية لاذعين وهو يقعي ويهم بنزع جلبابه: «إذا أردتم أن أكشف لكم عن مؤخرتي لكي تلتقطوا لها هي الأخرى صورة فأنا على أتم الاستعداد لذلك أيضا !»
لا يتسع المجال لعرض أمثلة عن ردود المريدين ولذلك نكتفي بالأمثلة السابقة.
إذا اختبرنا المحصل عليه، في هذا الوضع على ما أريد الحصول عليه وهو: من يسحر من؟ كيف؟ بماذا يبرر الساحر سحره؟ كيف يعرف المسحور أنه كذلك؟ ما هو الخطاب الذي يكونه المسحور عن أزمته؟ وما هو المسار الذي يتبعه للتخلص من سحره؟ فإننا لا نجد شيئا عدا معلومات أخرى، ذات أهمية قصوى مع ذلك، تتعلق بالتصور المقام عن الباحث والاستراتيجيات التي ينطلق منها المبحوثون في أجوبتهم: ففي المثالين الأول والأخير تم تلقي سؤال الباحث باعتباره استفزازا وبذلك تمت مماهاته مع رجل أمن أو استعلامات فأقصي حالا، وفي المثال الثاني والثالث تمت مماهات الباحث مع ساحر مبتدئ من شأنه أن يتحول في المستقبل إلى منافس مزاحم في المهنة ولذلك تم إقصاؤه مبدئيا أيضا.
-2 وضع عديم النية: حينما يتلقى المخبرون المفترضون الإجابة بالنفي من قبل الباحث (السحر لا يوجد)، فإنهم يختزلون البحث إلى جملة محكيات حينما يكون حاكوها شبابا يطلبون من الباحث تفسيرها إما على سبيل تعجيزه وردعه حتى يضطر للاعتقاد بوجود السحر، وفي هذه الحالة يكون السؤال الذي طرح على الباحث (هل السحر موجود؟) مجرد ذريعة لموقعة الباحث لأنه (السؤال) يضمر اعتقادا في السحر. أو قصد تبني رأي الباحث في الموضوع، وفي هذه الحالة يكون السؤال بريئا، أما حينما يكون حاكو الحكايات من المتقدمين في السن شديدي الاعتقاد فإن القصد يكون هو الطلب من الباحث أن يسلم بها.
يصعب إنكار أهمية هذه المحكيات في فهم جوانب هامة من ظاهرة السحر، ذلك أن هذه المحكيات تبرز التقاطع الشديد بين السحر وظواهر مجاورة كالمس بالجن والصرع والعلاج بالموسيقى. بل وحتى بعض الممارسات الخفية الوافدة حديثا من أوربا كالروحية من خلال إدراج المخبرين إياها في خانة السحر، لكن هذه المحكيات وحدها لا تكفي باعتبارها تغيب عنصر التجربة؛ لا أحد يقول سَحرت أو سُحرت، ومقابل ذلك هناك عدد لا نهائي من حُكي أنه …
-3 وضع المريد: يتطلب إمكانيات مادية هامة للاستجابة لمتطلبات الفقيه والشوافات لإنجاز الطقوس والتردد عليهم بانتظام، وبذلك فإن الوضع المادي للباحث يلعب دورا حاسما في كم وكيف المادة الخبرية الممكن الحصول عليها في هذا الوضع. في الحالات التي زرت شخصيا شوافات وفقهاء، بصفة مريد كان الثمن باستمرار غال والمقابل أحجبة ونبوءات ومعاينة فضاءات ممارسة العرافة والسحر لا غير.
-4 وضع الساحر: يخلق هذا الوضع – بالمقارنة مع ما سبق – تقدما هاما في البحث الميداني لأن حصول الباحث على وضع الساحر يمكنه في آن واحد من فهم المسار الذي يجعل من هذا الأخير كذلك ومن الحصول على أسرار المريدين أنه يصبح شخصا يطمأن إليه ويجب إخباره بكل شيء لضمان فعالية طقوسه، إلا أن الحصول على هذا الوضع لا يأتي بسهولة. فهناك عاملان، على الأقل، يتدخلان بشكل حاسم في إعطائه: إقامة تعاقد بين الساحر (الجديد) والجماعة، وانخراط هذا الساحر في علاقة مقايضة مع مريديه.
لعل تعاقد الساحر المقبل مع الجماعة المحيطة به هو ما كان يقصده مارسيل موس حينما عرف الساحر بأنه: «الكائن الذي ظن نفسه ساحرا في نفس الوقت الذي تم تصديقه والجعل منه ساحرا». هذا التعاقد تتدخل في حسمه، هو الآخر عوامل متعددة أهمها: غربة المعني، دعاية الوسط لفعالية مفترضة لدى المعني، وأحيانا المستوى الدراسي أو المهني نظرا لظهور فئة جديدة من السحرة أصحابها موظفون أو طلبة.

الاخبار العاجلة