ساشر مازوش: فينوس ذات الحلل الفروية / ترجمة: م. أسليـم

1٬276 views مشاهدة
minou
سرد وتأمل
ساشر مازوش: فينوس ذات الحلل الفروية / ترجمة: م. أسليـم

مدخل:
إذا كانت أعمال الماركيز دوساد (1814-1740) قد ارتبطت بكانط وسبينوزا لتستمد فرادتها من التركيز على مشاهد التعذيب والرعب المقترنين بالحب بوصفهما مصدر لذة وامتاع للجلاد – الرجل فإن أعمال ساشر مازوش (1895-1835) قد استلهمت مثالية أفلاطون وجدل هيغل وأبحاث الإثنولوجي باشفن المتعلقة بالنظام الأمومي لتؤسس تميزها في طرف معاكس ربما لساد، نقول ربما لأنه فيما اعتمد العالم النفساني كرافت اربينغ أعمال الرجلين واسميهما لينعت المرضين النفسيين المعروفين بالسادية (التلذذ بتعذيب الآخر) والمازوشية (تلذذ الذات بكونها موضوع تعذيب من طرف الآخر) خلص جيل دولوز من التقديم المطول الذي خصصه لـ «فينوس ذات الحلل الفروية» إلى أن المازوشية ليست نقيضا للسادية ولا مكملة لها وإنما هي عالم آخر له تقنياته الخاصة وآثاره المطلقة –الورقة البيضاء – صائدة الأرواح، الخ.، تدور حول موضوع واحد تقريبا: يدفع المرأة رجل وديع إلى حد التأنث، إلى منح عاشقها لذة صوفية عبر الانخراط في طقوس تلعب فيه الأنثى دور الجلاد القاسي فيما يمثل محبوبها دور العبد المهان المتلهف على ضرب السياط وسوء المعاملة.
لقد أحرز مازوش على شهرة واسعة بعد نشر روايته «فينوس ذات الحلل الفروية» إلا أن استعارة اسمه لنعت المرض المشار إليه أعلاه ستجلب له متاعب كبرى: فقد أحدثت تلك التسمية ضجيجا من كونه قد يكون هو نفسه مازوشيا، فاحتج على ذلك متأسفا على عدم أخذ موافقته في الأمر، وقضى ما تبقى من حياته محاولا إقناع أهل الاختصاص باستبدال مصطلح مازوشية بكلمة أخرى، وبعد موته ذهبت كل محاولات ابنه لتغيير هذا المصطلح عبثا، والتسمية أصبحت اليوم شائعة جدا. [م]
* * *
لقضاء فصل الشتاء اكتشفت واكترت وانضة فيللا صغيرة رائعة تقع في رابية جميلة بالضفة اليسرى لأرنو، قبالة الكاشين، داخل بستان ذي خميلة زكية، ومرجات ومسلك خلاب من أزهار الكامليا، وهي ذات طابق واحد مبنية بالأسلوب الإيطالي على شكل مربع يحيط بإحدى واجهاتها رواق، هو نوع من مقصورة صغيرة بلا أعمدة ذات قولبات جبسية من التماثيل القديمة: للوصول إلى البستان يجب على المرء أن يجتاز بعض الدواسات الحجرية، الرواق يفضي إلى حمام تتوسطه نافورة رخامية زاهية، ومن هناك يقود درج دائر إلى غرفة نوم سيدتي.
تسكن وانضة الطابق الأول بمفردها
سلمت لي غرفة في الطابق السفلي. غرفة جميلة جدا بها حتى مدفأة.
عبرت البستان، في جميع الاتجاهات فاكتشفت فوق تل معبدا صغيرا كانت بابه موصدة، لكن بذلك الباب كان يوجد شق، وبوضع عيني عليه، رأيت إلهة الجمال جالسة على قاعدة تمثال أبيض.
احتوتني رعشة خفيفة، بدت الإلهة وكأنها تبتسم وتريد أن تقول لي: «أأنت هناك؟ لقد انتظرتك»
حل المساء، أبلغتني خادمة صغيرة أمر الالتحاق بسيدتي. صعدت الدرج الرخامي الواسع، اجتزت المدخل، صالونا كبيرا مؤثثا ببذخ مسرف، ثم طرقت باب غرفة النوم، طرقت بنظافة لأنني تضايقت من قبل ما رأيته من ترف منشور في كل مكان، لم تسمع طرقاتي فمكثت أمام الباب لبضع الوقت، انتبابني إحساس أنني أمام غرفة نوم كاترين الكبرى، كأنها ستظهر مرتدية مفضلا قرويا أخضر، فوق صدرها العاري وشاح رتبتها الأحمر، مقرطة بقرطيها الصغيرين الأبيضين المرشوشين.
طرقت من جديد، دفعت وانضة مصراع الباب بتلهف ثم سألت: «لماذا تأخرت إلى هذا الحد؟». أجبتها بخجل:
– كنت خلف الباب ولم تسمعينني وأنا أطرق
أوصدت الباب، تلتصق بي وتقودني حتى المتكأ الدمقسي الذي كانت ممددة عليه، الغرفة بكاملها موشاة بالحمرة: الزربية، والستائر والطنافس، والقبة. أما السقف فمزدان برسم رائع يمثل صامصون ودليلة.
استقبلتني وانضة بمفضل فاتن: التصق فستانها الساتاني الأبيض بجسدها الرشيق فشكل ثنيات لطيفة تاركا الذراعين والصدر عاريين جاثمين بهدوء وسط جاكيتة القطيفة الخضراء المكففة بالفرو، شعرها الأشقر مسدل على كتفيها، نصف ممسوك بخيط لآلئ سوداء، تدلى إلى ركبتيها.
قلتُ بصوت خفيض جدا: «فينوس ذات الحلل الفروية» فيما جذبتني إلى صدرها وهددت بأن تخنقني بقبلاتها، لم أقل أية كلمة، بل وكففت حتى عن التفكير، مغمورا بفيض من السعادة.
تحررت وانضة، أخيرا، من جسدي بلطافة وتأملتني وهي متكئة على ذراعها، ارتميت على رجليها، جذبتني إليها وأخذت في اللعب بشعري. سألتني وعاطفة هادئة تحجب نظرتها:
«أمازلت تحبني؟»
– تسألينني عن ذلك !
واصلت بابتسامة فاتنة:
– أما زلت تذكر عهدك؟ بما أن كل شيء مرتب الآن وجاهز فإنني أسألك مرة أخرى:
أحقا أنت جاد، أتريد حقا أن تصير عبدا لي؟
– قلت مندهشا: ألست إذن مستعدا لذلك؟
– أنت لم توقع الوثيقتين بعد
– الوثيقتين؟ أي وثيقتين؟
قالت: آه ! أراك لم تعد تفكر في ذلك، إذن فلنترك هذا الموضوع.
قلتُ: لكن، وانضة أنت تعلمين أنني لا أعرف سعادة أكبر من سعادة خدمتك، لا أعرف سعادة أكبر من سعادة أن أكون عبدا لك، وأنه بودي بذل كل شيء لأنال إحساس أنني واقع كليا في قبضتك، أنني قد وضعت حدا حتى لحياتي بين يديك.
تمتمتْ:
– كم أنت جميل عندما تكون بهذا الشكل، عندما تتكلم بهذا الوله، آه ! كم قلبي متعلق بك أكثر من أي وقت مضى، وقد يقتضي الأمر من أن أكون سيئة، وعنيفة، وقاسية معك، وأخشى أن أكون عاجزة عن ذلك.
قلتُ مبتسما:
– لست خائفا من ذلك، أين الوثيقتان؟
– هنا،
أخرجتهما من صدارها مرتبكة شيئا ما، ثم مدتهما إلي، وأ ضافت:
– لتنال إحساس أنك وقعت كليا في قبضتي، فقد أعددت تصريحا آخر تلتزم بمقتضاه بالانسحاب من الحياة، بذلك سيكون باستطاعتي حتى قتلك إن وجدت في ذلك ما يمنحنى لذة وسرورا.
– هات الوثيقتين.
فيما استغرقت في النظر فيهما وشرعتُ في قراءتهما ذهبت وانضة للبحث عن مداد وريشة، ثم جلست بجانبي وأحاطت عنقي بذراعها ثم نظرت إلى الورقتين من أعلى كتفي.
في الورقة الأولى يمكن قراءة:
«عقد بين السيدة وانضة فون دوناجوف والسيد سفران فون كوزبيمسكي».
«يكف السيد سيفران فون كوزبيمسكي، منذ اليوم، عن أن يكون خطيبا للسيدة وانضة فون دوناجوف ويتنازل عن جميع الحقوق التي كانت تخول له صفة عاشق، وعوضا عن ذلك يلتزم، بكلمته باعتباره رجلا ورجلا ظريفا، بأن يكون من الآن فصاعدا عبدا لهذه السيدة، وذلك طوال مالم تحرره.
«بصفته عبدا للسيدة دوناجوف سيكون عليه أن يحمل اسم غريغوار وأن يلبي جميع رغبات هذه المرأة، وأن يمتثل لكل أمر من أوامرها، وأن يطيع سيدته ويعتبر أٌقل علامة مراعة تصدر منها بمثابة نعمة خارقة تسبغها عليه.
لايمكن للسيدة دوناجوف أن تعاقب عبدها، لأقل تقصير أو أقل خطأ، حسب هواها فحسب، بل لها أيضا الحق في إساءة معاملته بالوجه الذي سترضيه، حسب مزاجها أو حتى لمجرد أن تتسلى، لها حتى حق قتله متى ظهر لها ذلك سائغا وممتعا. وباختصار، فإنه يصير ملكا لها بالكامل.
«وإذا ما حررت السيدة فون دوناجوف عبدها فسيكون على السيد فون كوزييمسكي أن ينسى كل ما عاشه أو كابده بصفته عبدا، وألا يفكر أبدا، بأي ذريعة وبأي حال من الأحوال، في الانتقام أو الثأر.
«وبالمقابل تتعهد السيدة فون دوناجوف، بصفتها سيدته، أن تظهر أكثر ما يمكن وهي ترتدي فروا، خاصة عندما تكون قاسية مع عبدها».
كان تاريخ اليوم محددا في أسفل العقد.
لم تكن الوثيقة الثانية تتضمن سوى كلمات.
«لأنني سئمت منذ سنوات، من الوجود وما يصحبه من خيبات أمل، فقد وضعت بمحض إرادتي حدا لحياتي عديمة الجدوى».
ما أنهيت قراءة تلك الأسطر حتى استولى علي هلع عميق، لم يكن الأوان قد فات بعد، وكان باستطاعتي أن أتراجع، لكن جنون العاطفة ورؤية تلك المخلوقة الجميلة وهي متكئة علي باسترخاء، استحوذا علي.
قالت وانضة وهي تشير إلى الوثيقة الثانية:
«عليك أولا أن تنقل الورقة الثانية يا سيفران، يجب أن تكون مكتوبة كاملة بخط يدك، أما العقد فلا حاجة طبعا لإعادة كتابته
نقلت بحماس البضعة أسطر التي كانت تجعل مني منتحرا، ثم سلمتها لوانضة. قرأتها ووضعتها على المائدة وهي تتمتم سائلة إياي، مميلة رأسها بابتسامة جميلة:
«هيا أتملك الجرأة على التوقيع؟..
أمسكتُ الريشة، قالت وانضة:
«اتركني قبل …، فيدك ترتعش، أتخيفك سعادتك إلى هذا الحد؟
أخذتُ العقد والريشة، رفعت عيني لحظة بتردد، وآنذاك اتضح لي أن المشهد المرسوم في سقف الغرفة كان – شأنه شأن العديد من رسوم المدرسة الإيطالية أو الهولاندية- خاليا من أي صبغة تاريخية مما يضفي عليه صبغة جنس غريب، بل وحتى مقلق في رأيي. كانت دليلة، وهي مخلوقة ثرية ذات شعر أحمر براق، كانت ممددة على متكأ أحمرن نصف نصف يلفها معطف الفرو الداكن. كانت تنحني مبتسمة نحو صامصون الذي كان الفيليستيون قد ألقوا به على رجليها وقيدوه لضحكها الساخر المغناج، هنا قساوة جحيمية حقا، عيناها نصف المغمضتين تستقران في عيني صامصون وهو معلق عينيه على النهد، مفعم بحب مجنون إلى آخر رمق من حياته، فقد سبق أحد أعدائه إلى وضع ركبته فوق صدره وتهيأ ليغرزه بخنجر أحمي حتى ابيض.
صرخت وانضة:
«طيب، لكن يبدو أنك قد ضعت الآن كليا، ما بك؟ إن شيئا لم يتغير: وحتى ولو وقعت، ألا تعرف قلبي الصغير؟»
ألقيت نظرة خاطفة على العقد. كان اسمها مكتوبا فيه بخط جسور، لمحت مرة أخرى عينيها المشعتين بقوة ساحرة، ثم أخذتُ الريشة ووقعتُ بسرعة خاطفة.
قالت بهدوء:
– لقد ارتعدت، قالت بهدوء. أأدل ريشتك؟.
كانت قد سبقت إلى الاستيلاء على يدي، وكان اسمي يكتب في أسفل الورقة الثانية، نظرت وانضة مرة أخرى إلى الورقتين ثم وضعتهما في جرار المائدة التي كانت توجد على رأس المتكأ.
– طيب، سلمني الآن جواز سفرك ونقودك
أخرجت حافظة أوراقي وناولتها إياها، رأت ما كانت تحتويه، أرسلت إشارة برأسها ثم وضعتها مع الوثيقتين فيما ركعتُ لها بنشوة سكرانة وضعتُ رأسي على صدرها.
لكنها دفعتني فجأة برجلها، وقفزت، وضغطت على زر جرس، فور دقه ظهرت ثلاث بنات زنجيات متجاريات، لُحْن وكأنهن نحتن من خشب الآبنوس، يرتدين جميعا ساتانا أبيض، وتمسك كل واحدة منهن حبلا في اليد.
دفعة واحدة، أعرف الآن أين أنا، أردتُ الوقوف، لكن وانضة، شامخة، بوجهها الجميل البارد ذي الحاجبين الداكنين والعينين الساخرتين الملتفتتين نحوي، مكثت هناك سيدة مسيطرة، ترسل إشارة باليد والركبتين، وقبل أن أتمكن من فهم ما يقع لي طرحتني الزنجيات الثلاث على الأرض ثم أوثقن يدي ورجلي، وشددن كفي وراء ظهري، كما يوثق المرء قبيل إعدامه، بكفية جعلتني لا أتحرك إلا بمشقة. أمرتْ وانضة بهدوء مقلق:
– هاتيني السوط ياهايدي.
سلمت الزنجية السوط وهي راكعة أمام سيدتها. واصلت وانضة:
– واخلعي عني فروي الثقيل، ، فإنه يزعجني.
امتثلت الزنجية للأمر. أمرتْ وانضة مرة ثانية:
– هات تلك الجاكيتة.
جاءتها هايدي، في حيوية، بالكازابايكا المكففة بفرو القاقم، التي كانت موضوعة فوق السرير، ارتدتها وانضة بحركة ذات نعمة لاتقلد، ثم أمرت البنات:
– اشددنه إلى هذا العمود.
رفعتني الزنجيات، وضعن حبلا غليظا حول جسدي، ثم شددنني واقفا إلى أحد الأعمدة الضخمة التي تسند قبة السرير الواسع على الطريقة الإيطالية.
ثم اختفين فجأة وكأن الأرض قد ابتلعتهن، تقدمت وانضة بسرعة ولباسها الساتاني الأحمر ينساب وراءها كرفل طويل مفضض، كنور بدر، وشعرها يبدو وكأنه يرسل شعلات فوق الجاكيتة البيضاء، ها هي الآن أمامي، يسراها فوق خاصرتها ويمناها على السوط، تطلق قهقهة قصيرة. قالت ببرودة:
– انتهى لعبنا الآن، الأمر الآن جدي مهما كنت مجنونا! أنا أهزأ ممن قاده جنونه الأعمى ليصير لعبة في يد امرأة متكبرة ومتقلبة المزاج، أحتقره، أنت لم تعد عشيقي، صرتَ عبدا لي مستسلما لشهوتي إلى الأبد، ولسوف تعرف من أنا! قبل كل شيء، ستذوق هذه المرة السوط دون أن تكون أهلا له لتفهم ما ينتظرك إذا تبديت أخرق، أو عاصيا، أو متمردا.
في هذا الشأن شمرت بنعمة مؤثرة كمي جاكيتتها المكففين بفرو فاقم، ثم هوت على عنقي بضربة سوط، رجفتُ، حز السوط لحمي كشفرة حادة . صرختْ:
– ما رأيك؟ صه!
أضافتْ مهددة:
– انتظر قليلا، يجب أن تترنح تحت سوطي مثل كلب
ثم أخذت في جلدي، هوت الضرباتُ على ظهري وذراعي ورقبتي سريعة قاسية، بسرعة مرعبة، شددتُ أسناني كي لا أصرخ. أصابتني، صرختْ:
– الآن فقط أفهمك إنها حقا لنعمة أن تملك المرأة هكذا كائنا تحت سلطتها، وهو بالإضافة إلى ذلك رجل يحبها، الآن أتحبني؟ لا؟ لأمزقنك، إن اللذة لتكبر بداخلي مع كل ضربة أهوى بها عليك، هيا، تلوى ألما، اصرخ، انبح، لن تثير في أي شفقة!.
أخيرا، بدا أنها تعبت! رمت السوط، تمددت فوق المتكأ، وضغطت على زر الجرس، دخلت الزنجيات، أمرتهن:
– فكوه.
حللن الحبل، سقط على الأرض كقطعة خشب، ضحكت المخلوقات السوداء وهن يظهرن أسنانهن البيضاء.
– افككن حبل رجليه.
حللنه، استطعتُ الوقوف. أمرتني:
– تعال لتراني ياغريغوار.
اقتربت من المرأة الجميلة التي بدت لي في تلك اللحظة بقساوتها وتهكماتها أكثر جمالا وفتنة من أي وقت مضى. أمرتني وانضة:
– اخط خطوة أخرى، اجث وقبل رجلي.
مدت رجلها تحت الحاشية الساتانية البيضاء، ضغطت بشفتي عليها وأنا مجنون خارق الإحساس. قالت بلهجة جادة:
– الآن سوف لن تراني طوال شهر كامل ياغريغوار، يجب أن أصير غريبة عنك حتى يسهل عليك تحمل وضعك الجديد معي. خلال هذه المدة سوف تشتغل في البستان وتنتظر أوامري، والآن انصرف أيها العبد!.
انصرم الشهر في انتظام عمل رتيب شاق، في انتظار سوداوي، في الرغبة المضطرمة لرؤيتها هي، وهي أصل كل تلك المعاناة. أنا تحت أوامر البستاني، أساعده في تشذيب الأشجار والأغصان الشائكة، في تشتيل الزهور، في قلب المساكب، في جرف المسالك الحصباء، أقاسمه طعامه البسيط ورقاده على اليابسة، أستيقظ عند استيقاظ الدجاج وأنام عند نومه. من حين لآخر يتناهى إلي أن سيدتي تتسلى، أنها محاطة بعشاق لها. وذات مرة سمعت شخصيا ضحكها الفاره من البستان.
أجدني غبيا! هل أصبحت هكذا منذ أن دخلت في هذه العيشة أم أني كنت دائما هكذا ؟ بعد غد سيكتمل الشهر… ماذا ستصنع بي الآن، ربما نسيتني، هل سأظل أشذب أغصانا شائكة وأحضر باقات زهور حتى نهايتي السعيدة؟
وصلني أمر مكتوب:
«بهذا الأمر يلحق غريغوار بخدمتي الشخصية»«وانضة دوناجوف»
في الصباح الموالي أزحت الستائر المدمسقة وقلبي يخفق، ثم ولجت غرفة نوم إلهتي وهي مازالت وسط نصف عتمة هادئة. سألتني:«أأنت غريغوار؟» فيما جثوتُ أمام المدفأة أوقد النار.
ارتعشتُ لصوت معشوقتي،لم أقو على النظر إليها، وهي ممددة متمددة وراء ستائر السرير ذي القبة. قلتُ:
– نعم سيدتي
– كم الساعة الآن؟
– التاسعة
– هات الفطور
هرعتُ باحثا عن الفطور، ثم جثوتُ أمام السرير وأنا أحمل طبق القهوة.
– ها هو الفطور ياسيدتي
أزالت وانضة الستائر، وفي اللحظة التي رأيتُ فيها أذنيها البيضاوين وتطاير شعرها المحلول بدت لي بغرابة، كما لو كانت غريبة عني تماما: امرأة جميلة، وكفى. ليست القسمات هي تلك القسمات المعشوقة، والوجه قاس يعبر عن تعب وإرهاق بكيفية مقلقة، أهي التي تبدلت أم أنني أنا الذي لم أفطن لذلك من قبل؟
حدقت في بعينيها الخضراوتين تحديقا فضوليا أكثر منه حنونا، ثم وضعت بسرعة، فوق كتفيها العاريين، الفرو الداكن الذي كانت راقدة فوقه. في تلك اللحظة وجدتها فاتنة جدا، أثارتني إلى أن أحسست أن الدم يصعد إلى رأسي وقلبي فشرع الطبق في الارتعاد بين يدي، لاحظت ذلك السوط من فوق منضدة الزينة. قالت مقطبة حاجبيها:
– أنت أخرق يا عبد!
طأطأت رأسي وشددتُ على الطبق بحزم وصلابة قدرما استطعت، أخذت فطورها، تتثاءبت ومطت أعضاءها الشهوية في الفرو العجيب. دقت الجرس، دخلتُ. أمرتني:
– سلم هذه الرسالة إلى الأمير كورسيني
جريتُ في المدينة، سلمت الرسالة للأمير، هو شاب جميل ذو عينين سوداوين متوقدتين، سلمته الرسالة والغيرة تفترسني، ثم عدتُ بالجواب إلى سيدتي. قالت وهي ترقبني بتكتم:
– ما بك؟ أنت شاحب تماما.
– لاشيء، يا سيدتي. كل ما في الأمر هو أنني أسرعتُ شيئا ما في جريي
حان وقت الغذاء. جلس الأمير بجانبها فيما حُكمَ علي بخدمتهما، يمزحان ويتفكهان وأنا لا وجود لي إطلاقا عندهما.
لم أفطن لحظة إلا وبجانب عيني ثقب أسود، أثناء سكب بوردو في كأس الأمير قلبتُ الكوب فوق بساط المائدة فتبلل فستان سيدتي بالخمر. صرخت وانضة:
– أي أخرق أنت !
ثم لطمتني بصفعة، ضحك الأمير، صفعتني صفعة أخرى، احمر وجهي.
بعد الغد ذهبت إلى الكاشين، تسوق بنفسها العربة الصغيرة التي جرها كميتان رشيقان إنجليزيان، وأنا جالس وراءها أنظر إليها تغنج وتشكر بابتسامٍ السادة المتميزين الذين كانوا يحيونها. ولحظة مساعدتي إياها على النزول من العربة اتكأت على ذراعي برفق، ارتجفتُ لهذا التماس بين جسدينا كما ينتفض المرء لتفريغ كهربائي. واحسرتاه! كم عجيبة هي هذه المرأة وأنا أعشقها أكثر من أي وقت مضى.
دقت الساعة السادسة، اجتمع نفر من الرجال والنساء للعشاء، قدمتُ الأطعمة والأشربة، وهذه المرة لم أقلب خمرا على البساط، إن صفعة واحدة لأفيد من عشرين درسا بكثير، يفهم المرء بسرعة كبيرة خاصة إذا كانت اللطمة صادرة من يد امرأة صغيرة ممتلئة.
بعد العشاء ذهبت الى البركولا. كانت فاتنة حقا وهي تنزل الدرج في فستانها الفروي الأسود ذي الياقة القاقمية الواسعة، وبشعرها إكليل من الورود البيضاء. فتحتُ البوابة وساعدتها على امتطاء العربة. وصلت إلى واجهة المسرح، قفزتُ من فوق العربة، اتكأت قليلا على ذراعي وهي تنزل، فارتعشتُ تحت ذاك الحمل اللطيف. فتحتُ لها الباب وأدخلتها إلى المسرح، ثم جلستُ أنتظرها في الرواق، استغرق العرض أربع ساعات، أربع ساعات تلقت خلالها زيارة فرسانها الخدم بينما شددتُ أنا على أسناني غضبا.
تجاوز الوقت منتصف الليل بكثير، دقت سيدتي للمرة الأخيرة. أمرتْ بإيجاز:
– النار!
وعندما طقطقت الشعلات في المدفأة، أمرني:
– شايا !
عدتُ بالسامور، وجدتها قد خلعت ملابسها، بمساعدة من الزنجية، ثم ارتدت بذلتها البيضاء. انصرفت هايدي. قالت وانضة وهي تمدد أطرافها الجميلة بفتور:
– ناولني فروي
أخذتُ الفرو من الفوتوي ومددته لها فيما ارتدته ببطء كسول، ثم ارتمت فوق المتكأ المزين بالمخدات.
– اخلع حذائي وألبسني بابوجي الفروي
جثوتُ وجررتُ الحذاء الصغير لكنه قاومني. صرخت وانضة:
– بسرعة، بسرعة! إنك تؤلمني! انتظر قليلا، سأروضك
ثم هوت علي بضربة سوط، أفلحتُ أخيرا. قالت:
– والآن انصرف
ركلة أخرى ولي الحق في الانصراف كي أستريح.
رافقتها اليوم إلى أمسية. عند المدخل أمرتني أن أمسك فروها ثم دخلت إلى القاعة ساطعة الأنوار مرسلة ابتسامة متغطرسة، واثقة من نصرها، طوال ساعات وساعات استطعت من جديد أن أحرك أفكارا رمادية سوداوية، وحينما كان الباب يظل من حين لآخر منفرجا للحظة، كانت أصوات الموسيقى تصل إلى حيث كنت جالسا، حاول بعض الغلمان أن يفتتحوا محادثة معي لكنهم سرعان ما عزفوا عن ذلك لأنني لا أعرف من الإيطالية سوى بضع كلمات.
أخيرا نمتُ، في الحلم شاهدتُ نفسي أقتلُ وانضة في سورة من الغضب والغيرة، وإنه قد حكم علي بالإعدام، رأيتني في المقصلة، تسقط الشفرة، أحس بها تصل إلى عنقي، لكنني لم أمت، عندها ضربني الجلاد في صفحة وجهي.
… لا ليس الجلاد، بل وانضة هي التي كانت واقفة أمامي غاضبة تطلب فروها، عدتُ فورا إلى رشدي وساعدتها على ارتداء الفرو.
حقا، ما ألذ أن يناول المر فروه لمخلوقة جميلة موسرة، أن يرى رقبتها ويديها البهيتين ويشعر بهما تندسان في الفرو الثمين الناعم، ما ألذ أن يرفع القرطين المتموجين ويضعهما فوق عنقها، ويالها من لذة حينما تطرحهما بعد ذلك فيبقى عطر خفيف وحرارة لطيفة، من جسدها، عالقين بشعر الفرو المذهب، إن المرء ليفقد عقله!
أخيرا حل يوم بلا ضيوف، بلا مسرح ولا نفر. تنفستُ الصعداء. وانضة جالسة في الشرفة وهي تقرأ، لا يبدو أن لها عملا تكلفني به، انقشع ضباب الماء المفضض مع الغسق، خدمتها في العشاء، تناولت وجبتها وحيدة دون أن تنظر إلي أو تكلمني، لم ترسل
إلي ولو حتى صفعة أو إهانة! آه كم أسقمتني دفعة واحدة! فاضت عيناي بالدموع، وأحسستُ كم أذلتني بعمق لدرجة أنها أصبحت تترفع حتى عن تعذيبي وإساءة معاملتي.
قبل أن تنصرف لتنام، دقت الجرس، قالت:
– ستنام بجانبي هذه الليلية لقد رأيت ليلة أمس أحلاما مرعبة، وأنا خائفة من النعاس وحيدة، خذ مخدات من فوق المتكأ وتعال تمدد قرب رجلي فوق جلد الدب.
أطفأت وانضة الأنوار بحيث لم يبق إلا مصباح صغير في السقف، ثم صعدت إلى سريرها. أمرتني:
– لا تتحرك تجنبا لإيقاظي
فعلتُ كما أمرت، لكنني لم أستطع النوم قبل انصرام وقت طويل، تأملتُ تلك المرأة الجميلة، جميلة كإلهة يداها فوق رقبتها، غارقة في شعرها الأشقر. سمعتُ تنفسها المنتظم يرفع صدرها الخلاب كلما تحركت قليلا، استيقظتُ ومكثتُ راصدا تحسبا لأن تحتاجني.
لكنها لم يكن لديها حاجة بي، لم يكن لي واجب آخر أؤديه عدا واجب أن أوجد هناك، لم يعد معناي عندها يعدو أني مجرد سراج ليل أو سلاح يضعه المرء بجانب سريره.
أأنا مجنون أم هي؟ هل تفجر كل ذلك من ابتكار طيش امرأة متعجرف خصيب قصد تجاوز تخيلاتي فوق الحسية أم أن تلك المرأة تملك حقا إحدى تلك الطبائع النيرونية التي تجد لذة شيطانية في سحق رجل مثلها، يفكر ويحس ويتحرك، بالقدم كما يسحق المرء دويدة؟! ياما عشت! وبما أنني كنت بصدد الجثو أمام سريرها، حاملا طبق القهوة، فقد وضعت يدها فجأة على كتفي وأغرقت عينيها في عيني. قالت بلطافة:
– كم عيناك جميلتان! سيما الآن وأنت تتألم، أفي عافية أنت أيها الشقي؟
قبلتُ رأسَها وصمت. صرختْ فجأة بشغف:
– ألا زلت تحبني يا سيفران؟ أيمكنك أن تبقى على حبي؟
ثم جذبتني إليها بعنف قوي بحيث انقلب الطبق وتدحرجت الطسوس على الأرض وانتشرت القهوة فوق صفحة البساط. صرختُ وأنا أضمها الى جسدي بحرارة وأغمر فمها ووجهها وصدها بقبلاتي:
– وانضة، وانضتي، هي ذي تعاستي كلها، بقدر ما يزيد سوء معاملتك لي وتكثر خيانتك لي يزداد عشقي لك. آه سأموت كمدا وحبا وغيرة!
ردت وانضة مبتسمة:
– لكني لم أخنك ياسيفران.
– لم تخونيني؟ وانضة، لوجه الله، لا تتهكمي علي بكل هذه الشراسة (صمت) ألم أبلغ نفسي الرسالة إلى الأمير؟
– أكيد، لكنها لم تكن سوى دعوة غذاء.
– منذ أن أتينا إلى فلورانسا وأنت…
قاطعتني بسرعة:
– لقد بقيت وفية كليا لك، أقسم بكل مقدس عندي إنني لم أفعل كل ذلك إلا لكي أفعم خيالاتك، كي أبدو مقبولة ولطيفة. لكن الآن سأجد لنفسي عاشقا وإلا لن يكون قد أنجز من الأشياء إلا نصفها وستنتهي بلومي أيضا لكوني لم أكن قاسية معك، عزيزي العبد الجميل! مع ذلك فأنت اليوم سيفران من جديد، ما أنت إلا معشوقي، إني ما زلت محتفظة بملابسك، ستجدها في هذا الصندوق، ارتد ثيابك كما كنت لابسا من قبل في محطة الكارباط تلك، حيث تحاببنا بحرارة، انس كل ما جرى، آه بين ذراعي ستنساه بسرعة، وبقبلاتي سأطرد كل همومك.
أخذت تداعبني كطفل. قبلتني ولامستني، أخيرا قالت لي باتسامة لطيفة:
– اذهب الآن لترتدي ثيابك، تريد أيضا أن تتزين، أيجب أن ألبس جاكيتتي الفروية؟… نعم نعم، أعرف ذلك جيدا. انصرف بسرعة!
لما عدت كانت قد ارتدت فستانها الساتاني الأبيض والكازابيكا الحمراء المكففة بفرو قاقم، شعرها مرشوش بالأبيض، وعلى جبينها تاج من الماس، كانت واقفة وسط الغرفة هكذا. جعلتني لحظة أفكر بكيفية مقلقة في كاترين الثانية، لكنها لم تترك لي وقتا للتفكير، جذبتني إليها وأجلستني فوق المتكأ حيث قضينا ساعتين عجيبتين، لم تكن السيدة الفظة والمتقلبة المزاج، بل كانت السيدة الرشيقة المحبوبة الممتلئة حنانا. أرتني صورا شمسية، وكتبا كانت قد صدرت حديثا، وحدثتني عنها طويلا بوضوح وحسن ذوق لدرجة أنني حملت يدها إلى شفتي أكثر من مرة مبتهجا بكلامها، أنشدت على مسمعي أشعارا لليرمونطوف، وعندما تأججت كليا وضعت يدها الصغيرة على يدي بحنان وسألتني وقسماتها ناعمة رقيقة ونظرتها الوديعة غارقة في لذة عذبة:
– أأنت سعيد الآن؟
– لا، لم أحس بالسعادة بعد.
تمددت حينئذ على الأرائك وفتحت كازابايكتها بلطافة:
لكني غطيتُ بنشاط صدرَها نصف العاري بفرو قاقم، تمتمتُ:
– أنت تجنينني!
– وإذن فتعال
كنت قد سبقت إلى صدها، وكانت هي قد سبقت إلى لثمي كثعبان، همست ثانية:
– أأنت سعيد؟
صحتُ:
– للغاية.
قهقهت حينئذ، وكان ذلك الضحك يرن بخبث، شعرت من جرائه بالبرد في ظهري:
– فيما مضى كنتَ تحلم بأن تكون عبدا ولعبة في يد امرأة جميلة، والآن تتوهم أنك رجل حر، يخيل إليك أنك معشوقي، يالك من مجنون! يكفيني أن أرسل إشارة فتصير عبدا لي، اجث!
ارتميتُ على رجليها كانت نظرتي التي ظلت مترددة، معلقة على النهد. قالت وهي تنظر إلي ويداها مكتوفتان فوق الصدر:
– لا يمكنك أن تصدق ذلك، إني أشعر بالملل وأنت باعث بما فيه كفاية جيدة على تسليتي لبضع ساعات، لا تنظر إلي بهذه الطريقة! ركلتني ركلة، ثم أضافت:
– أنت ما أريد، رجلا، شيئا، بهيمة
دقت الجرس، دخلت الزنجيات، أمرتهن:
– اربطن يديه
مكثت جاثيا وتركتهن يشددن يدي، بعد ذلك قدنني من أسفل البستان حتى الكرم المحيط به من الجهة الجنوبية، كانت المعابر مزروعة بالذرة الصفراء، هنا وهناك كان بالإمكان أيضا مشاهدة بعض أرجلها اليابسة، وبالجانب الآخر كانت توجد عربة.
ربطتني الزنجيات إلى آخية وتسلين بوخزي بقراملهن المذهبة، غير أن ذلك لم يدم طويلا لأن وانضة وصلت، على رأسها قبعتها القاقمية ويداها داخل جيبي جاكتتها. فكتني وربطت يدي وراء ظهري، ثم وضعت لي نيرا على الرقبة وشدتني إلى العربة.
دفعتني الجنيات السوداء في الحقل، كانت إحداهن تقود العربة، والثانية تقودني ماسكة إياي قسرا من الزمام، والثانية تسعرني بالسوط، وفينوس ذات الحلل الفروية بجانبي تتأمل المشهد.

تنويه:

(صدر في جزئين بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، الأول: ع. 360، الأحد 4 غشت 1991، والثاني: ع. 361، الأحد 11 غشت 1991، وأعيد نشره كاملا في نص واحد بموقع محمد أسليـم)

الاخبار العاجلة