محمد أسليـم: النهاية (رواية) / الفصل الرابع

1٬450 views مشاهدة
minou
سرد وتأمل
محمد أسليـم: النهاية (رواية) / الفصل الرابع

بالموازاة مع تنظيم الحشود لنفسها يوميا، ذاتيا وتلقائيا، وتجميع الأدلة الدامغة التي تدين رؤساء العالم وحكوماته، كان هؤلاء يكثفون اتصالاتهم سعيا لتهدئة الخواطر، وإقناع الناس بألا شيء من المزاعم السابقة صحيح على الإطلاق، وهي عملية كانت تبدو شبه مستحيلة:

– فوكالة النازا قدمت معلومات عن الكويكب في غاية الدقة، وقناة «كويكبات ونيازك» عرضت من الأشرطة الوثائقية والمعلومات ما جعل الإنسان العادي يعلم عن هذه الأجسام السماوية ما يعرفه عنها سائر علماء الفيزياء الفلكية، وجعل بالتالي من المتعدر إطلاق خبر جديد، يفند السابق، أو يزعم إمكانية اعتراض الجسم القادم من السماء أو تفجيره في الفضاء، ولو بالترسانة النووية لدول العالم مجتمعة؛ فهو كبير جدا، ومن النوع الخفيف الكتلة، بحيثُ تخترقه الصواريخُ ولا ينفجر… بل ثمة، من قطع كل أمل في الإفلات إذ زعم أن الأمر لا يتعلق بكويكب، بل بكوكب في حجم المشتري، مشابه تماما لنظير له سبق وأن ارتطم سابقا بالأرض، فنتج عن تجمُّع حُطام الكُتلتين كوكبُ القمر الحالي، وأنَّ الاصطدام المقبل سيؤدي إلى ظهور قمر جديد، فتلحق الأرض، بعد اختفائنا منها، بفئة الكواكب التي يدور حولها قمران، حتى إذا انصرمت ملايين السنين جاء زائرٌ آخر يحمل معه قمرا ثالثا، وهكذا…

– وزُعماء العصيان يُخرجون الحشود إلى الشوارع بكلمة واحدة، ما يُفيدُ أنه يكفي العثور على كلمة واحدة لإقناعهم بالعودة إلى المنازل واستئناف حياتهم العادية السوية، فتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي. ولكن أي كلمة يُمكنُ أن تقنعهم بالإنصات أصلا ما داموا صموا آذانهم عن كل ما يأتي من الرؤساء والحكومات وكبار أثرياء العالم؟ صارت البشرية كخلية نحل أو نمل عملاقة فقدت ملكتها…

– ثم إنَّ الشكوك استحوذت على عقول الناس جميعا، فلم يعودوا يثقون في أي زعيم، ما جعل من المستحيل العثور على رجل أو امرأة يمكن اعتمادهما مُخاطبين أو مُحاورين ليبلغا الحشودَ فكرة أخرى غير فكرة العصيان؛ صارت البشرية كلها تعاني من عُظام رهيب، كما صارت الصدفة وحدها تُعطي لهذا الشخص أو ذاك فرصة أخذ الكلمة والخطبة في أي احتشاد أو برنامج تلفزي، وبذلك تعاقبَ على قيادة ملايين المتظاهرين امرأة طاعنة في السن، وعالم في الفيزياء الفلكية، وساحر، وراهبٌ، ولصٌّ، وماسحُ أحذية، ومهندس معماريٌ، وطفلة، وأستاذ، ونجار، وحدَّادٌ…

في غضون ذلك، انقطع السحرة ورجال الدين والكهنة، بتكليف من رؤساء الدول والحكومات، بالابتهال إلى الآلهة، بالصلوات والأمداح والأذكار والأدعية، وإنجاز طقوس سحرية في غاية الغرابة، لكي لا تخطر على الحشود فكرة مهاجمة ثكنات الجيش والسطو على الأسلحة، أو حتى اقتحام المواقع النووية، بغاية تفجيرها، ومن يدري؟ فقد وجه أحدهم، من منصة وقفة مليونية، تهديدا مباشرا لساسة العالم ورأسمالييه:
– لن نسمح لكم بمغادرة كوكب الأرض، لن يُغادر أحد منكم الأرض. لن تقلع مركبة فضائية واحدة إلى السماء. نحنُ جميعا في مركب واحد، فإما نغرق جميعا أو نسلم جميعا… إن أصررتم وحاولتُم اعتقلنا العلماء والرؤساء واحتللنا المعامل !

وما أن أنهى هذه الجمل حتى صرخت الحشود بأصوات مُزلزلة:
– لن يطير منها أحدٌ!
– لن يخرج منها أحدٌ!
– لن يُغادرها أحدٌ!

كان الأئمة والسحرة والكهنة يؤدون المهمة التي كلفها بهم الرؤساء والحكومات في منتهى السرية، لكي لا تفتك بهم الحشود، ذلك أنَّ خبرا سرى مفادُهُ أن أصحاب رؤوس الأموال والساسة ورؤوس الجيش قد اشتروا رجال الدين والسحرة والكهنة، فانضموا للجوقة، مقابل أن يضمنوا السفر في مركبة عجيبة قيلَ إن تصنيع أجزائها كان على وشك الاكتمال، في مناطق سرية عديدة، موزعة في أرجاء العالم، لم يفتضح أمر سوى واحدة منها، هي المنطقة 51 بولاية كاليفورنيا الأمريكية…

فيما بعدُ، اتضحَ أنَّ  الحشود بقدر ما كانت تنفضُّ من حول الساسة والحكومات نهارا كانت تجتمع ليلا في مشاهدة عدد من القنوات التلفزية، في مقدمتها، قناتي: «كويكبات ونيازك»، و«بصيصٌ من الأمل»، وتتردد على محلات انتشرت مثل الفطر، تخصص بعضُها في تقديم خدمات استئصال فكرة الموت من أذهان الناس، وبعضُها في تلقين دروس الاستعداد للموت، وبعضُها في تسويق منتجات تفننَّ المهندسون في ابتكارها لتمكين الناس من التعايش مع الوضع الجديد. من ذلك أنَّ أحدهم حملَ فيتيشا هو عبارة عن قناع رأس نملة اصطناعي، ثم قال لآلاف المستمعين:
– ما يحملُ المرء هذا الجهاز حتى يتغير إدراكه للعالم ونمط وجوده فيه، فيعود لا يتكلم ولا يسمع ولا يُبصر، وبذلك تمحى من عقله ذكرى هذا الكويكب أصلا؛ فالنمل يتواصل بإشارات وروائح كيميائية لا تتدخل في شؤون ما يجري في السماء… أهم من ذلك، فمعدل عمر النمل هو 4 أسابيع. فمن يتحول إلى نملة يعش الأشهر المتبقاة على سقوط الكويكب بإحساس الخلود!! بإحساس الإنسان وقد وجد معدل عمره ينتقل فجأة مما بين 60 و80 عاما إلى 10000 سنة!

اعترض بعضهم:
– ولكن النمل يعيشُ في خلايا تترأسها ملكة. من يضمن لنا أنهم لن يرشوا ملكتنا فتسهل عليهم المأمورية؟!
– الملكة عند النمل رمزٌ لا غير، تعيشُ محاطة بحشود الحراس الذين يتكفلون بإطعامها وتخصيبها ونقلها، ولا تملك أي قرار!

سأل آخر:
– ولكن ذكر النمل يموتُ بمجرد ما يُضاجعُ أنثى النمل؟ أحيا سيكون أحدُنا أم ميتا بعد أن يُضاجع الملكة؟
– ليحلَّ في هيأة أخرى، في فراشة أو ذبابة أو بعوضة أو نحلة…

وبذلك، خلعت الناسُ هيأة الإنسان، فلم يلازمها إلا الفقراء والمعدمون والساسة وكبار أثرياء العالم الذين امتنعت متاجر الهيآت الجديدة عن بيعهم أي واحدة منها، بما في ذلك رُموز الفيل والدلفين والحوت والسلحفاة العملاقة… وبمقدار ثراء الناس، صغرت أجسامهم وأشكالهم في مخيلاتهم، فوجد بعضهم نفسَه بكتيريا لا تعيش سوى بضع ساعات، فزعم أنه ولجَ الخلود، وتوهَّمَ آخر أقل ثراء من السابق أنه حشرة تعيش يوما واحدا أو بضعة أسابيع، وقال ثالثُ أقل غنى من سابقيه إنه يرى العالم بعين حيوان آخر يعيش بضعة أشهر، وهكذا… إلى أن غصَّت الشوارعُ بأناس يحملونَ رُموزَ فراشات وبعوض ونمل ونحل وقمل وكلاب وقطط، فتحولت المجتمعات البشرية إلى قبائل بدائية طوطمية حقيقية، وخرجت من بطون كتب الإيثولوجيا (فرع من البيولوجيا يدرس علم سلوك الحيوانات) كنوز المعارف التي تجمعت في هذا الحقل المعرفي، منذ تأسيسه في عام 1854 على يد عالم الطبيعة إيزودور جيوفروي سانت هيلير Isidore Geoffroy Saint-Hilaire إلى اليوم، وعرفتْ صالات الترويض على تقمص أشكال الحيوانات والهوام والحشرات وأنماط تفكيرها وأحاسيسها رواجا منقطع النظير، واتضح صوابُ الانتقادات اللاذعة التي وجهها البعضُ إلى الشيخ الإفريقي، خلال مؤتمر الأمم المتحدة الطارئ، تعقيبا على قول العجوز: «بذرنا النوع؛ نزلنا من الأشجار، وصنعنا الأداة وتكلمنا، وتجشمنا عناء التنقل بين القارات، منذ ملايين السنين، وسلمناكم المشعل، لكنكم انشغلتم بالحروب والدواب والحشرات والهوام، فبقيتم في العصر «البُرازي-البولي»…

خاطب بعضُهمُ الناسَ في أحد برنامج قناة «بصيص من الأمل»، قال:
– لا تفسدوا حياتكم بالتفكير في الموت، فتعيشوا أمواتا وأنتم أحياء ترزقون. ففي ذلك منتهى العذاب. اعملوا بقول الفيلسوف الإغريقي القديم، إذ قال: «لا تخافوا الموت، فما ذهب أحد إليه ثم عاد»، وما دام الأمر كذلك، فأين المشكلة؟ ! ثم ألا ترون أن المرءَ يُلقي بنفسه أمام قطار قادم بمنتهى السرعة، فتحيله عجلات القطار في رمشة عين إلى رميم وينتهي كل شيء؟! ذاك هو ما سيحصل مع سقوط الكويكب. أكثر من ذلك، فهذا الجرم السماوي قادم بسرعة 000 200 كلم في الساعة، لن تشعروا بارتطامه، ستسبقه ريحٌ تحول البنايات والمنازل، في عُشر عُشر عُشر ثانية، إلى أشلاء متطايرة في مئات الكيلومترات، وتحيلكم إلى ذرات…

اعترض أحدهم، قال:
– هذا مفهوم للحياة في غاية الاختزال، إذ ثبت علميا أنَّ الشعر يواصل نموه في جثة الميت، بعد دفنه، وكذلك الأظافر، ما يُفيد أن الحياة فينا أدقَّ وأرق من أن تُختزل إلى هذا الجسد المرئي الملموس المحسوس الذي نحدد أنفسنا به.

صرختْ منشطة البرنامج بفرحة هستيرية:
– وجدنا الحل، وجدنا الحل؛ ما دامت ملايير الذرات والجزيئات والخلايا التي يتألف جسم كل واحد منا لا تُدرك وُجودَنا، فلنعتبر أنفسنا خلايا وجُزيئات داخل جسد أكبر، فيَصيرُ المعني بحكاية الكويكب والموت والفناء هو ذلك الجسد الذي يكبرنا فيما نصير نحنُ غير معنيين به بتاتا.

قاطعها أحد أنبياء الثورة الرقمية:
– إن ذلك، يا سيدتي، هو ما نعمل على تحقيقه، منذ عقود، تحت اسم «الذكاء الجمعي»، نحن نسعى إلى جعل الشبكة دماغا كبيرا يكونُ كل فرد متصل بالشبكة مجرد خلية عصبية فيه، كان ذلك العقل الكبير سيكونُ مثلَ دماغنا الذي يتألف من مائة مليار خلية عصبية يتوقف اشتغال الدماغ على وجودها وعملها مجتمعة دونَ أن تُدرك أي خلية عصبية منفردة وجودَه…
– إيه، نعم، نعم، أخذ الكلمة أحد كبار علماء الجينوم، هذا بالضبط هو ما نسعى إليه منذ مدة. كان النوع البشري في الأصل كائنا أحادي الخلية، وبمضي مئات ملايين السنين انضم أفراد ذلك المخلوق الأولي بعضهم إلى البعض، وتكتلوا، ليشكِّلوا أعضاءً محدَّدة الشكل والوظيفة، هي أعضاؤنا الحالية: فالكبد يتألف من ملايين الخلايا والذرات والجزئيات المنفردة، وكذلك الرئتين والعينين والطحال والمعدة، الخ. ونحن نسعى إلى بناء جسم بيولوجي أضخم يكون كل فرد فيه مجرد خلية، أو ذرة أو جزئية، فيُدركُ ذلك الكائنُ الأكبر الوجودَ ويعيش فيه ويتصرف على نحو أعلى وأذكى من إدراكنا ونمط عيشنا وتصرفنا الحالية… مخلوق يتألف دماغه، على سبيل المثال، من سبعة مليار من الأدمغة الحالية، لأن دماغ كل فرد سيتحول إلى مجرد خلية عصبية في عقل المخلوق الأكبر الذي نعمل على صنعه… أتظنون أنَّ كائنا، مثل هذا، سيعجز عن وضع مُحرِّك للكرة الأرضية، فيُقلعُ بها نحو المجرات والنجوم كما نسافر بطائراتنا الحالية؟

انقض باقي المشاركين في الندوة على الرجلين، وهما يصرخون:
– عميلان، مندسَّان، إكستروبيان Extropiens، ما بعد إنسانيان Transhumanistes، بيوتكنولوجيان !Biotechnologistes

وما مضت بضع دقائق حتى هرعت أمواج بشرية إلى القناة، فاقتحمتها، وكسرت أجهزة البث، لتضع حدا لبرامج تلك القناة التي كانت تحوم حولها الكثيرُ من الشبهات. ألقت الحشود الغاضبة القبض على العالمين ومنشطة البرنامج، وحكمت على الثلاثة، في ساحة عمومية، بالإعدام، وهو أن يُلازموا هيأة الإنسان. وملازمة هيأة الإنسان هي العقوبة القصوى التي نصت عليها القوانين العرفية التي تشكلت تلقائيا، بعد تقمص هيأة السلحفاة العملاقة التي تعيشُ 250 عاما، وسمك الحوت الذي يمتد به العمرُ إلى 245 سنة، وزاحف السفينودون الذي يعيش 200 عام…

وكان بإمكان منشطة البرنامج أن تنجو من المحاكمة، وتنعم بالعيش بهيأة بكتيريا أو ناموسة، كما رددت غير ما مرة، لو لم تعمد إلى ارتداء ملابس شهوية لا تتناسب وهول المقام… ما قادَ كل التحليلات اللاحقة التي أجراها علماء دين وسيميائيون، على شريط الحلقة المسجَّل، إلى استنتاج أنَّ الأمر كان وراءه ما وراءه…

————————-
محمد أسليـم: النهاية (رواية) / الفصل الرابع (يُتبعُ)

الاخبار العاجلة